كيف حولت الأنظمة العربية حرب غزة رافعة لعلاقاتها مع واشنطن وتل أبيب؟؟
تاريخ النشر: 17th, August 2025 GMT
على عكس البروباجندا التي لا تكف وسائل إعلام عربية وبيانات رسمية عن الادعاء بأن العلاقات العربية - الإسرائيلية، والعلاقات العربية - الأمريكية قد تدهورت بسبب مقتلة ومجاعة عزة غير المسبوقة في التاريخ المعاصر؛ فإن هذا المقال يجادل بأنها توثقت، وشهدت تحسنا وتطورا غير مسبوق. بل لقد استخدمها عدد وازن من الأنظمة العربية كرافعة لإثبات التزامها المطلق بالبقاء ضمن الخندق الأمريكي، وعدم الخروج عن توجيهات واشنطن بالسلام مع إسرائيل، وإدماجها في البنية العسكرية والاقتصادية للمنطقة.
معظم الأنظمة العربية لم تخذل غزة، وتتركها للإبادة الجماعية بالقتل أو بالجوع فحسب، بل حولت هذه الحرب إلى مناسبة لتأكيد أن علاقتها بإسرائيل هي علاقة استراتيجية لن تتأثر بأي حروب تخوضها إسرائيل مع الفلسطينيين، أو مع أي طرف عربي ينتهج خط المقاومة.
بعبارة أوضح؛ فإن هذه الحرب استخدمت من قبل كثير من الأنظمة العربية لوضع فكرة الناتو العربي - الإسرائيلي الذي تقوده واشنطن موضع التطبيق الفعلي كما ظهر في التصدي للصواريخ الإيرانية واليمنية على إسرائيل، أو تسهيل مهمة الطائرات الإسرائيلية للتزود بالوقود في رحلتها العدوانية على إيران في أجواء عربية باتت مفتوحة ومتورطة بعد ديسمبر ٢٠٢٤.
تصرفت هذه الأنظمة في اتجاهين هما: التغلب على التهديدات التي خلقتها الأزمة، وتحويل الأزمة من تحدي إلى فرصة لمزيد من تثبيت نفسها كأنظمة حاكمة، وإضعاف المعارضة الداخلية وتهميشها.
واجهت هذه النظم تهديدين: الأول هو ما خلقته حرب غزة من ضغوط عليها للتحول عن مسار الخضوع الاستراتيجي للولايات المتحدة، والخروج من البنية الإقليمية الأمنية للمصالح الأمريكية في المنطقة التي تقوم على عمودين: أولهما هو استمرار حالة السلام مع إسرائيل والتطبيع معها .والثاني هو مواصلة عملية إدماج إسرائيل مع العرب في نظام للأمن الإقليمي معاد لإيران، وكابح لأي نفوذ جيو-سياسي صيني على الشرق الأوسط.
لم تلتفت هذه الحكومات إلى خطر التوحش الإسرائيلي على الأمن القومي العربي ولم ترد فكرة الدفاع عن أمن جماعي عربي على بال واحدة منها، بل إنها بمعيار المصلحة الوطنية لم تلتفت حتى إلى الخطر الذي يهدد أمنها وسيادتها كدولة وكشعب على المدى المتوسط أو الطويل من حيث إنه أصبح واضحا لكل عين أنها أصبحت موضوعة على لائحة الأهداف الإسرائيلية، وأنها قد تكون الضحية التالية في مخطط التوسع الإسرائيلي.
ما حرك هذه الأنظمة فقط ـ منفصلة عن شقيقاتها العرب أي كل على حدة ـ هو مصلحة واحدة هي مصلحة بقاء النظام السياسي القائم نفسه. وتحدد الهدف فقط في أن جعل كل نظام منهم همه هو التأكد من أن التهديدات الجيو-سياسية التي طرحتها الحرب لن تقوض استقرار النظام، أو تعرض استمرار نخبه السياسية في الحكم ونخبه الاقتصادية في نزح الثروة لأي تحدّ خطير.
نقطة البداية في التفكير الضيق في النظام وليس في الدولة، وفي الوقت الحالي وليس في مستقبل الأجيال القادمة هي الدفاع عن طبيعته كنظام سياسي نيو ليبرالي مربوط بخيط من الصلب المركز الرأسمالي العالمي ومؤسساته المالية في الاقتصاد بخيوط من الصلب بالولايات المتحدة في الاستراتيجية الدولية توابع وبيادق عسكرية وسياسية على رقعة الشطرنج العالمية. ولهذا كان الهم الأول هو طمأنة الولايات المتحدة أنه مهما حدث في غزة وفي الضفة فإن التحالف مع واشنطن ومع إسرائيل في مواجهة إيران ومحور المقاومة هو تحالف استراتيجي لن تهزه إبادة جماعية مهما بلغت بشاعتها وعدد ضحاياها. جاءت قرارات القمة المتأخرة ٣٥ يوما خالية من أي إجراء سياسي أو اقتصادي أو دبلوماسي لردع العدوان الإسرائيلي ملتزمة بالخطوط الحمر الأمريكية التي كان مضمونها الحقيقي «دعوا إسرائيل تكمل مهمتها العسكرية العدوانية في القضاء على المقاومة الفلسطينية واللبنانية وإضعاف إيران». أما الإدارة السياسية وقيادة المفاوضات حول الهدنة والرهائن فعلى العرب أن يدعموا أنها حصر لواشنطن ومن تراه من وسطاء في الإقليم، وعلى العرب ألا يفكروا مجرد تفكير في إدخال الصينيين أو الروس أو أي طرف دولي يحد من الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل.
الهم الثاني كان إبلاغ الإسرائيليين من دول اتفاقيات التسوية القديمة أو دول الاتفاقيات الإبراهيمية الحديثة أن ما يحدث بينهم وبين الفلسطينيين وما يصدر من بيانات تنديد وشجب عربي عن أفعال القتل والتجويع لن يؤثر على الاتفاقيات القائمة، ولا على العلاقات في مجالات التجارة والطاقة والتسليح والتكنولوجيا، وأن هذه الاتفاقات وجدت لتبقى بغض النظر عن مصير الأراضي الفلسطينية المحتلة وعن محو الاستيطان الإسرائيلي الفعلي لأي أمل في حل الدولتين.
استمرت الأنظمة العربية البعث برسالة طمأنة لإسرائيل حتى بعد أن أعلن نتنياهو عن خطته الدموية لاحتلال مدينة غزة، وعن نواياه في تنفيذ تدريجي لخطة اسرائيل الكبرى (تشمل احتلال أراضٍ في العراق وسوريا ولبنان والأردن والسعودية ومصر). وعلى الرغم من أن هذه الخطط تعني إعلان إسرائيل حرب التوسع على الجميع، وأنها تنظر لاتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة على أنها اتفاقيات مرحلية نجد البيانات الصادرة عن أنظمة عربية تكتفي بالإدانة الفارغة، وتتحدث عن التمسك بخيار السلام والاتفاقيات الموقعة باستمرار بحثها عن حلول سياسية!!
تكاثفت الأدلة الفعلية على أن هذه الأنظمة ركزت على حماية نفسها من الغضب الأمريكي لو مارست أي فعل يعرقل أو يردع إسرائيل، وأن هذه النظم استخدمت الخطاب الإعلامي المندد بإسرائيل «في حدود مهندسة بدقة»؛ لاحتواء الغضب الشعبي العربي العارم المعادي لجرائم إسرائيل في التطهير العرقي، والإبادة الجماعية، واستخدام سلاح التجويع في الحرب ضد أكثر من مليونين من أشقائهم الفلسطينيين.
من أهم هذه الأدلة ارتفاع إجمالي التبادل التجاري بين الدول العربية التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل بشكل واضح ليصل إلى 4 مليارات دولار خلال أشهر الحرب (أكتوبر 2023 - أغسطس 2024)، وهي زيادة من 3.6 مليار دولار في الفترة المقابلة من 2022-2023. وحصلت إحدى دول الاتفاقات الإبراهيمية لوحدها على ثلثي هذه التجارة.
المخيف في ارتفاع معدل التبادل التجاري ليس فقط في احتقار هذه الأنظمة لغضب شعوبها بزيادة التعاون مع إسرائيل بدلا من وقفها، ولكن أيضا أنه مثل فعليا دعما لإسرائيل في الحرب، وإنقاذا لها من صعوبات في سلاسل الإمداد كانت بالإمكان أن تردع نتنياهو عن الاستمرار في مقتله غزة.
فقد جعل أنصار الله في اليمن ممر التجارة الرئيسي إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر مشلولة، لكن زيادة الصادرات العربية خاصة من الخليج أنقذت إسرائيل، بل خلقت خط إمداد بري لوجيستي بري يمثل البروفة الأولى لمشروع التطبيع الكبير الذي أعلن عنه بايدن تحت اسم (ممر بهارات) الذي يربط الخليج بالبحر المتوسط عن طريق إسرائيل في أكبر عملية دمج إقليمي للكيان الاحتلالي العنصري في بنية الشرق الأوسط وبدور قيادي أيضا متفوقا على باقي العرب.
وفي الوقت الذي اقترب فيه عدد الشهداء والمصابين الفلسطينيين من نحو ٢٠٠ ألف شخص وقعت دول الاتفاقات الإبراهيمية اتفاقيات شراء أسلحة إسرائيلية من التي تقتل إخوانهم الفلسطينيين وصلت إلى١٢٪ من مبيعات السلاح الإسرائيلية ومنها «مسيرات هيرميس 900» وأسلحة أخرى، كما رفعت هذه الدول من مستويات التعاون والتدريب الاستخباري مع إسرائيل في خضم طوفان الأقصى إلى معدلات مخيفة قد تهدد الأمن الإقليمي لجيرانها العرب!!
لإعطاء إسرائيل رسائل استراتيجية لا تقبل الشك في أن الاتفاقيات معها تعلو على أي تطور في القضية الفلسطينية. وقعت اتفاقيات في التجارة والطاقة من عدد من الدول العربية تمتد لعقود قادمة وهي لا تربط فقط أمن الطاقة بإمدادات تتحكم بها إسرائيل، ولكن تشي بوضوح أن احتمال حدوث مواجهة أو وقف للتطبيع؛ لسبب يتعلق بما تفعله إسرائيل في فلسطين أو لبنان أو سورية ليس واردا على الإطلاق. بعبارة أوضح أنه ما لم تشن إسرائيل حربا على هذه الدولة أو تلك أو تفرض عليها تهجيرا قسريا للفلسطينيين فإن على مخططي الاستراتيجية في واشنطن وتل أبيب أن يطمئنوا تماما لموقف الطبقات الحاكمة في معظم العالم العربي.
حسين عبد الغني كاتب وصحفي مصري.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأنظمة العربیة هذه الأنظمة مع إسرائیل إسرائیل فی أن هذه
إقرأ أيضاً:
الفساد والتهديدات تهز إسرائيل.. سفير مصر السابق لدى تل أبيب يكشف لـ صدى البلد ملفات نتنياهو الأكثر خطورة
تشهد إسرائيل في الوقت الراهن حالة من الارتباك السياسي والقضائي غير المسبوق، مع اتساع نطاق قضايا الفساد التي تطال مؤسسات الحكم العليا وتحديدا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بالإضافة إلى تصاعد صراعات داخل اليمين الحاكم ومحاولات إقصاء بعض الشخصيات من المشهد السياسي، الأمر الذي يعكس حالة تآكل داخلي تهدد شكل الحكومة واستقرارها المستقبلي.
و في قراءة دبلوماسية دقيقة للمشهد الإسرائيلي الراهن، يقدم السفير عاطف سالم، سفير مصر السابق لدى تل أبيب، سردية شاملة خلال تصريحات خاصة لموقع صدى البلد، تكشف فيها حجم الارتباك السياسي والتصدعات الداخلية التي تعصف بالمؤسسات الإسرائيلية، من ملفات الفساد وصولا إلى التوترات داخل الائتلاف الحاكم، مرور بالأزمات القانونية التي تطوق نتنياهو وتهدد استقرار الحكم بأكمله، إلى جانب تفاصيل واسعة تتعلق بملفات الاتهام الموجهة لنتنياهو وشبكات الفساد التي تمتد إلى وزراء ومسؤولين كبار، فضلًا عن محاولات تقويض بعض القيادات السياسية داخل المعسكر اليميني.
وأوضح السفير عاطف سالم أن القضايا الثلاث المعروفة إعلاميا بملفات 1000 و2000 و4000، والتي تتضمن اتهامات واضحة بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، هي جوهر المأزق السياسي والقانوني الذي يطارد نتنياهو منذ سنوات.
وأشار إلى أن محامي نتنياهو كان قد حاول سابقا إبرام تسوية مع المحكمة تقوم على أن يعترف نتنياهو بتهمة بسيطة مقابل بقائه في منصبه، إلا أن المحكمة رفضت ذلك تماما وأصرت على أن أي اعتراف يجب أن يكون اعترافا كاملا يتضمن مغادرة منصبه وتحمل المسؤولية القانونية.
وأضاف السفير أن نتنياهو ظل يرفض الاعتراف بالذنب، وهو ما يعقد فرص أي تسوية قضائية بشأن هذه الملفات.
طلب العفو لا يملك أي سند قانوني
وعن خطوة نتنياهو الأخيرة بتقديم طلب عفو، قال السفير عاطف سالم إن هذا الطلب لا يملك أي سند قانوني لأن القانون الإسرائيلي يشترط أولا اعتراف المتهم بالذنب قبل طلب العفو، متسائلًا: كيف يمكن طلب العفو دون الاعتراف بالاتهامات؟
وأوضح أن طلبات العفو تُحال عادة من مكتب الرئيس إلى دائرة العفو في وزارة العدل، التي تستطلع بدورها آراء الإدارات القانونية قبل رفع توصياتها إلى المستشارة القانونية للحكومة ثم إلى الرئيس الذي يتخذ القرار النهائي.
ولفت إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يُثار فيها الجدل حول منع نتنياهو من تولي منصبه، إذ كانت عدة جهات قد طالبت عند عودته للحكم في ديسمبر 2022 بإحالته إلى المحكمة العليا لمنعه من تشكيل الحكومة بسبب القضايا المفتوحة ضده.
وفي سياق متصل، كشف السفير سالم عن صراعات داخلية حادة داخل اليمين الإسرائيلي، أبرزها المساعي الرامية لإقصاء رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت من المشاركة في الانتخابات المقبلة.
وأكد أن هناك أطرافا داخل الائتلاف الحاكم تدفع نحو إصدار قانون يمنع أي رئيس حزب عليه مديونيات مالية قديمة من خوض الانتخابات إلا بعد سدادها، موضحا أن هذا القانون يستهدف بينيت تحديدا، الذي كانت عليه مديونيات تصل إلى نحو عشرين مليون شيكل عندما كان يترأس حزب “يمينا”.
كما جرى طرح مقترح آخر يشترط أن يشغل رئيس الحزب منصبه لمدة سبع سنوات على الأقل قبل خوض الانتخابات، وهو شرط يُعتقد أنه صُنع خصيصا لمنع بينيت من العودة للمشهد السياسي.
أكبر قضايا الفساد في تاريخ إسرائيل
وأكد السفير عاطف سالم أن إسرائيل تشهد أيضا واحدة من أكبر قضايا الفساد في تاريخها، وهي قضية تضم ما يقرب من 350 مشتبها، بينهم سبعة أو ثمانية وزراء من الحكومة الحالية.
وقال إن هذه القضية كانت قد أُغلقت لمدة عامين قبل أن تتسرب عنها معلومات جديدة ثم تختفي مرة أخرى، ما يعكس حجم الغموض والتشابك الذي يحيط بها، مشيرا إلى أن هذه الشبكة الواسعة من الاتهامات تكشف عن فساد متجذر داخل بعض مؤسسات الحكم.
قضية رئيس الهستدروت
وأشار السفير كذلك إلى خطورة القضية المتعلقة برئيس الهستدروت، أكبر نقابة عمالية في إسرائيل، حيث تم القبض عليه على خلفية شبهات تتعلق بالفساد وغسل الأموال والتلاعب في التعويضات والممتلكات.
وأكد أن هذه القضية ربما تكون الأضخم على الإطلاق في تاريخ إسرائيل بالنظر إلى النفوذ الواسع للهستدروت داخل الاقتصاد الإسرائيلي، لافتا إلى أن أسماء عدد من الوزراء والمسؤولين وردت ضمن التحقيقات المرتبطة بهذا الملف.
مستقبل الحكم في تل أبيب
وفي ختام حديثه لـصدى البلد، شدد السفير عاطف سالم على أن إسرائيل تعيش أزمة سياسية وقضائية مركبة، تتداخل فيها قضايا الفساد مع الصراعات السياسية الداخلية، الأمر الذي يهدد استقرار الحكومة ويطرح تساؤلات كبيرة حول مستقبل الحكم في تل أبيب.
وأكد أن هذه المرحلة قد تعيد تشكيل الخريطة السياسية الإسرائيلية بالكامل خلال السنوات المقبلة، في ظل انعدام الثقة بين مؤسسات الدولة وتصاعد الضغوط على قيادة نتنياهو.