المسلة:
2025-12-02@00:50:16 GMT

أمسية البنفسج

تاريخ النشر: 31st, August 2025 GMT

أمسية البنفسج

31 غشت، 2025

بغداد/المسلة:

د. ريم عبدالغني

استقرّت عيناي عند اسمها في نهاية الرسالة، وازداد إعجابي القديم بها حينوجدتُ الشيخة د.سعاد الصباح تدعوني إلى المساهمة في الكتابة عن الدكتورعبد الحسين شعبان، لتكريمه من قبل مؤسستها في برنامجها المُعَدّ لتكريم كبارالمثقفين العرب في حياتهم، كما فعلت مع نزار قباني وثروت عكاشة وغسانتويني وغيرهم من الأدباء والمفكّرين.

وجدتُ في اختياري لهذه المهمة تقديراً، وقررتُ أن أكتب. صحيح أني لم أتعرّفشخصياً على د.شعبان، إلّا في السنوات الأخيرة، لكن هل تُقاس المعرفةبالزمن؟ هناك من لا تحرك سنوات معهم أقلامَنا، بينما تُشرق شموس أرواحنالمن يلهموننا في وهلة وحي أرواحهم المتوهجة، فتجرّنا بعض تفاصيلهم إلىالدَّرْك، فيما يُحلّق بنا بعضها إلى أقصى «درب التبّانة».. وأحسبُ الدكتور عبدالحسين من هؤلاء.

مذ خطَونا -زوجي وأنا- داخل تلك الشقة الدافئة في منطقة الجناح في بيروت،تلبيةً لدعوة كريمة من الدكتور شعبان، تذكرت مقولة مارغريت ثاتشر، رئيسةوزراء بريطانيا: «أفكارك تشكّل واقعك ومستقبلك وقدرك»، أو بحسب نظريةكتاب «السر»، نحن نشكّل ما يحيط بنا بما تبثّه عقولنا. وعلى الرغم من أنّالدكتور عبد الحسين استثنائي في نواحٍ كثيرة، ولكنه ليس استثناءً لتلكالقاعدة، فعالمه أيضاً يشبهه.. على الأقل بيته.

لوحات متنوعة تملأ الجدران، بعضها لرسامين معروفين، وبعضها لأصدقاءأهدوه رسومهم تعبيراً عن المحبة أو العرفان، كالسيدة جواد التي تعيش اليومفي إسبانيا، والتي رسمت له لوحة تجريدية جميلة، ولوحة عبد الإله لعيبي، بابالذهب لمرقد الإمام علي.

«هناك تحت الباب نفسه مرقد جدي»، أخبرني حين وجدني أتأمل هذا الباببدهشة وإعجاب. «فقد كان لعشيرة آل شعبان رئاسة الخدمة في حضرة الإمامعلي (رضي الله عنه) منذ قرون. وعائلتي يعود أصلها إلى (جبل النبي شعيب) في اليمن».

من اليمن! لا عجب إذن أن نلتقي. فقد آمنتُ منذ زمن بأنّ قدري يختبئ بينحروفها. تأملتُ رسم لوحة شجرة العائلة بإعجاب. عشرات الأجيال تعود إلىعدة قرون، لكنها جميعاً أسماء ذكور.

مهلاً، ما هذه الإضافة باللون الأزرق في أعلى يسار الشجرة؟ يد رسمت فرعاًإضافياً انبثق من اسم عبد الحسين، ليتفرع إلى اتجاهين، كُتب على أحدهماسنا، وعلى الآخر سوسن، وفهمت أنّ ابنتيه أضافتا اسميهما باليد. هذاإنصاف، لماذا تنقطع شجرتنا ويقف امتدادنا إذا لم نُنجب ذكوراً؟ سلالة سيدالخلق وآل البيت جميعاً، أليسوا من فاطمة رضي الله عنها ابنة الرسول الذي لميعش له أبناء ذكور؟

جُلتُ بالبصر بين ضيوفه، فكرت أنهم يشبهونه أيضاً. رجال ونساء من مختلفالأعمار والمشارب، من دول متعددة يجمعهم هواه الأساسي، الشعر والأدبوالفن في جوٍّ من الأُلفة والحميمية، أتابع مضيفنا يحتفي بالجميع، بتواضع فيهرقيّ، قلما يتكلم، يمنحه صمته هالة إضافية من غموض، كذلك مسحة الحزنالمتواري في عينيه.. هل هي سلسلة المعارك والعواصف التي خاضتها سفينتهمستكشفةً طريقها الأسلم بين الصخور إلى «مُبتغى» وعاه مبكراً؟.. أم أنّهبعض إرثه العراقي منذ جلجامش ومحاولة الخلود، أو ربما هو «وعي المثقفالشقي» كما أسماه في أحد كتبه؟ ذاك الذي «يشقى في النعيم بعقله»؟

الإعلامي اللبناني الشاب في الكرسي المجاور يقرأ في عينيَّ فضولي. «أعرفد.شعبان منذ أكثر من عقدين». قال بإعجاب: «إنّ هذا الرجل السهل الممتنعبئر عميقة لأسراره وأسرار معارفه الكثر في كل مكان. ساعدني كثيراً، فهوجاهز دوماً لمدّ يد العون، وخصوصاً للشباب، لأنه يؤمن بهم. رجل يتدفق بالمحبة،ويفتح ذراعيه دائماً للآخر، حتى نال وسام الصداقة العربية – الكردية».

أعجبتني عبارة: «ويفتح ذراعيه دائماً للآخر». تذكّرتُ قول مولانا جلال الدينالرومي: «أولئك الذين يملكون قلوباً مليئة بالمحبّة.. تكون أياديهم دائماًممدودة»..

ألمحُ في الرُّكن مكتبة ضخمة وغنية أهداها كاملة إلى الجامعة، جامعة اللّاعنف(أونور) AUNOHR التي ينوب رئاستها. فكرت بإعجاب في الكمّ الذي قرأهوالكمِّ الذي كتبه، فهو أكاديميّ وباحث ومفكّر وكاتب، ألَّف عشرات الكتب فيالقانون والسياسة والفلسفة والتاريخ والاقتصاد والفكر الديني، في إطارالتجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد، وانشغل منذ وقت مبكّر بقضاياالمجتمع المدنيّ والأديان، والفهم المتجدّد لقضايا حقوق الإنسان.

بالنسبة إليَّ، فأنا أحترم د.عبد الحسين. يُثير إعجابي تنوعُ ثقافته ومشاربه. خليط مثير للاهتمام، ابن النجف الذي نشأ على صوت القرآن في بيت طفولته،ممّا شكَّل أحد الروافد الروحية الأساسية في تكوينه وفي منظومة قيمه، ثم نمامعتاداً على التنوع الفكريّ في بيت أسرته التقدمية المفتوح للضيوف علىاختلافاتهم، ثم تبنّى فكراً متسامحاً لانتماء يساري، بناه بألوان قوس قزح.

فتح عقله المجبول بالحضارات ليتقبل النور الإلهي.. ويمسح الغبار الذي رُميعلى الأديان، فهو باعتراف النقاد لا «يعصرن» القرآن، بل يأخذ نفسَهُ بما فيهامن حداثة إليه، وكذلك درس الإنجيل، فوصف النصارى بـ»ملح العرب». تحدثعن النصرانية وتسامحها وتاريخها، و«كأنّ مسيحياً كان واقفاً وراءه ليعرفعدله»، على حدّ تعبير النقاد وفي مقدّمتهم المطران جورج خضر. ثم درسالبوذيّة وتعاليمها. فهمه العميق هذا، صبّه لاحقاً في كتب كـ»الإسلام وحقوقالإنسان: المشترك الإنساني للثقافات والحضارات المختلفة»، وكتاب «دينالعقل وفقه الواقع»، وكتاب «فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي».

كانت السهرة واحة حرية ومحبة، توالت الأصوات تُدلي فيها بما تحبه في عالمالشعر، شعر قديم أو حديث أو بالبدوية. فكّرت بمتعة كم افتقدتُ هذه الأوقاتفي قطاري السريع بين محطات لا تشبهني، الليلة أنا في محيطي.

شدَّني فجأة إلقاءُ شعبان -استجابةً لطلب بعض الحاضرين- بعض أبياتالجواهري بإحساس جليٍّ وصوت رخيم مميّز. طبيعي أن يتلو شعبان شعر ابنمدينته اليساري، الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، بعد أن قضى ردحاًمن عمره يوثق بدقة وعلمية أجمل قصائد الجواهري، التي تجسد برأيه «جدلالشعر والحياة»، وجمعها في كتاب أسماه «جواهر الجواهري» بلغة بسيطةوسلسة لا يستعرض فيها ثقافته الواسعة وعلمه الغزير، وليس الجواهريفحسب، بل اهتم بتوثيق عطاءات نخبة من المبدعين، كمظفر النواب وأمينالريحاني وعبدالرحمن النعيمي وعامر عبدالله وسعد صالح وغيرهم.

عرفتُ من سيرته الحافلة التي سمّتها الحركة الثقافية في إنطلياس يوم كرّمتهكأحد الأعلام الثقافية العربية الكبيرة (بيروت 2017) «سيرة تمرد»، أنه خبيرفي مجال حقوق الإنسان، واستشاري وعضو في عدد من المنظمات العربيةوالدولية، وفي هذه السيرة تلخيص لمسيرة د.شعبان وجزء من قصة حياته منذأن تخرّج في كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة (جامعة بغداد)، ونال درجتيالماجستير، وحصل على درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم القانونيّة منتشيكوسلوفاكيا.

تروي السيرة والمسيرة قصة مناضل من هذا الوطن، تمرّد على بيئته المتدينة،وآمن باليسار. حقوقي تمرّد على الخوف، وامتهن الدفاع عن حقوق الإنسان،تمرّد على التعصب، عروبي وقومي وإنساني تمرّد على التحيّز والتخلفوالطائفية، وتمرد على العنصرية. يؤمن د.شعبان بعمل الفريق، لذلك نجدهمساهماً في العديد من الكتب والمقالات المشتركة. ويؤمن أيضاً بأهمية التعريبوالترجمة انطلاقاً من مبدأ تبادل الثقافات وتفاعلها، كما أن حضوره فعّال فيالملتقيات الفكرية والمنتديات الثقافية والمؤتمرات الحقوقية العربية والدولية.

أقترب من الخزانة الزجاجية في الركن.. أتملى في شارات وأوسمة عالمية حازهافي مسيرة نضاله، توقفت أمام جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالمالعربيّ، اقتربت أدقق النظر في التفاصيل.. من خلفي سمعت صوت الشاعرةالسورية اللطيفة التي ألقت قبل قليل بعض شعرها: «شعبان هو مناضلإنساني وقومي وعراقي مغرم بالعراق»، ألم تري تلك؟ وتتبعتُ اتجاه إشارةيدها إلى حيث نُقشت بعض أبيات شعر الجواهري بأناقة أعلى الأبوابالخشبية الداكنة:

أنا العِراقُ لساني قلبهُ ودمي

فراتُهُ وكياني منهُ أشطارُ

أضافت: عراقي دفعه العشق لكتابة كتب وأبحاث حول بلاده التي أسماها«بلاد الشمس» بروح وطنية وقّادة لا تساوم في الثوابت، وهو يقول: «مُوالٍ أومعارض، لا يهمّ. فالموقف المعارض لا يكون على حساب الوطني والثابتوالاستراتيجي، الوطن هو القضية الأكبر والأهم».

يتنقّل للاهتمام بضيوفه حول مائدة فيها أيضاً من تنوعه وتسامحه، أطباقفلسطينية، وأخرى عراقية وسورية، ولبنانيّة. ألتقط رقاقة من طبق المسخنالفلسطيني، وأستمتع برائحة السُّماق، طبق فلسطيني على مائدة شعبان؟بالتأكيد ليس مصادفة. فقد عُرف عن مضيفنا على الدوام أنه كان من بينالمحامين التقدّميين، وأنه مساند لقضايا التحرر وكفاح الشعوب. وعُرف مدافعاًبشكل خاص عن القضية الفلسطينية، فكتب في مختلف شؤونها: القدس،الانتفاضة، الحرب على غزة، والعنصرية الصهيونيّة، حتى مُنح العضويةالفخرية لاتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، ولأنّ عقله الشمولي متسامحومرن، فقد ميّز بين اليهودي والصهيوني، وأشار إلى مساهمة يهود عراقيينتقدميين معادين للصهيونية في تاريخ الكفاح الوطني العراقي، تحت لواءالحزب الشيوعي العراقي آنذاك.

«لم تتناولي شيئاً»، عاتبني الدكتور بلطف. بالنسبة إليّ، كنتُ قد نسيتُالطعام، بل والمكان كلّه. كنتُ في إحدى لحظات التجلّي. كأنَّ الرجل العراقي قدفتح لي الستارة فجأة «فرأيتُ». كنتُ أراقبه.. يجامل ضيوفه ويضحك، تلتمععيناه لتعكِسا فيض انفعالاته. جليّ أنه قرّر أن لا يشيخ أبداً. الموت والحياةيكمنان في داخلنا، ففي بداية عقده الثامن مازال «شعبان» واحداً من أنشطمفكري الوطن العربي وألمعهم. يتابع بنفسه يوميّاً مجموعة هائلة من القضاياوالنشاطات. يقضي وقتاً كثيراً في السفر بين بلدان العالم لحضور المؤتمراتوالاجتماعات. إيمانه الحقيقي وشغفه بما يفعل وحماسته الهادرة لقضاياهالكبرى، سرّ نجاحه الكبير وشبابه الدائم.

أجل، استمتعتُ جداً بتلك الأمسية التي ذكّرتني بعنوان كتابه الذي أهداني إيّاهمؤخّراً: «رحلة البنفسج». صحيح لم يكن مظفر النواب الذي أضاء الكتاب علىرومانسيته المشفرة حاضراً، ولا شعره، لكنها كانت أمسية بنفسجية الرقة.

بعد أن غادرت، في هدوء ليل بيروت وظلام السيارة، بقي معي صوت قويّالنبرات ينضح بالكبرياء، وابتسامة مهذبة لا تغيب. وعينان تبثّان تأثيراً عجيباً.. تفيضان ذكاء.. وتغرقان حزناً. وجدتُني أدندن، ومازلت طربى بنغمات العود الذي زاد الأمسية جمالاً، بكلمات بيرم التونسي: «ليه يا بنفسج بتبهج وأنتزهر حزين؟».

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author زين

See author's posts

المصدر: المسلة

كلمات دلالية: عبد الحسین تمر د على د شعبان

إقرأ أيضاً:

الرجل الذي حطم بي بي سي

استقالات تهزّ الـBBC وتكشف عمق الأزمة

استقالة المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية تيم ديفي، ومديرة الأخبار ديبورا تورنِس؛ بسبب تعديل في برنامج بانوراما على خطاب للرئيس الأميركي دونالد ترامب يعود إلى عام 2021، أدخلت هيئة البث الوطنية في المملكة المتحدة في واحدة من أعمق الأزمات في تاريخها.

لكن الفضيحة لم تبدأ ببرنامج واحد أو بخطأ واحد في التقدير. فالقريب من مركز هذه الأزمة هو روبي غيب، الرجل الذي أمضى أكثر من عقد يشكّل تغطية BBC السياسية، متنقلا بين الهيئة وحكومة المحافظين، بينما يدفع بمشروعه الحزبي الخاص الذي شوّه صحافة المؤسسة في قضايا بريكست، وترامب، وفي نهاية المطاف غزة.

لقد كان روبي غيب شخصية مؤثرة تقف في ظلال الحياة العامة في المملكة المتحدة لوقت طويل، حتى إن مجرد تسميته اليوم علنا ومناقشته يبعث على الارتياح. فحتى فضيحة بانوراما والاستقالات التي فجّرتها، نادرا ما خضع للتدقيق خارج الدوائر السياسية والإعلامية. أما الآن فقد أصبح فجأة في صدارة العناوين وموضوعا لنقاش محتدم على وسائل التواصل الاجتماعي، بينما يحاول الناس فهم كيف تمكن شخص غير منتخب من امتلاك كل هذا النفوذ.

روبي غيب: نفوذ خفي يعيد تشكيل الإعلام والسياسة البريطانية

ومن الصعب العثور على شخص آخر مارس تأثيرا واسعا على الحياة العامة في بريطانيا دون أي مساءلة، ومن داخل مكتب رئيس الوزراء رقم 10 ومن داخل الـBBC. فقد كان غيب، على الأرجح، اليد الخفية الأكثر تأثيرا – وإن كانت مخفية- في سياسات البريكست، وحزب المحافظين، وإسرائيل، بينما كان يتنقل بين اثنتين من أهم مؤسسات البلاد: رئيس فريق Westminster فيBBC، ثم رئيس الإعلام في مكتب رئيس الوزراء، ثم أصبح عضوا محوريا في مجلس إدارة BBC يؤثر مباشرة في أخبارها.

ولم يطرأ تغيير كبير على دوافعه أو أسلوب عمله بين هذه المناصب؛ إذ كان مدفوعا بقناعة راسخة مفادها أنه وحده القادر على الوقوف بوجه ما يراه “نخبوية مستيقظة” يسارية وليبرالية مهيمنة داخل BBC، وضمان الحياد. لكنه، وهو يحاول ذلك، دمّر أي مفهوم حقيقي للحياد، ما أدى إلى الأزمة الحالية في  BBC، والمعركة التي تبلغ قيمتها مليار دولار مع ترامب، والانهيار الحاد في مصداقية تغطيتها لغزة.

لا يعرف أحد سوى غِيب ما إذا كان قد تعمّد دفع الـBBC  إلى الوضع الذي تواجه فيه الآن دعوى قضائية قد تصل قيمتها إلى مليار دولار من رئيس أميركي حالي، لكن تأثيره وتحالفاته كانا في قلب سلسلة القرارات التي قادت إلى ذلك

تآكل الحياد داخل الـBBC وتداخل النفوذ الحزبي

بصفتي رئيس تحرير قناة Channel 4 News بين عامي 2012 و2022، كانت لي خبرة مع غيب منذ اللحظة التي عُيّن فيها سكرتيرا صحفيا في مقر رئاسة الوزراء رقم 10 عام 2017. فقد كان ميله لإدارة التغطية السياسية بطرق تخدم مشروعه السياسي الخاص واضحا منذ البداية. فمنذ اللحظة الأولى، قام بتقييد وصول Channel 4 News إلى وزراء الحكومة بشكل كبير، في حين ظل هذا الوصول متاحا بحرية للـBBC، وهو ما عكس العلاقات الوثيقة التي بناها خلال سنوات قضاها مشرفا على أجزاء من التغطية السياسية في القناة. كان غيب معروفا داخل الـBBC  بدعمه الممتد منذ سنوات طويلة للبريكست، وهي قضية دافع عنها منذ عمله في حزب المحافظين بين عامي 1997 و2002. ولم يكن سلوكه في مقر رئاسة الوزراء تجاه الـBBC  مختلفا كثيرا عن سلوكه خلال سنواته في القناة؛ فقد استبدل السيطرة المباشرة على المحتوى بالمساومة على الوصول، بما سمح له بالاستمرار في تشكيل السياسة البريطانية. وكان يمتلك أرقام كل العاملين في القسم السياسي في BBC على الاتصال السريع.

إعلان

وتدهورت العلاقات عام 2018 عندما أصبحت Channel 4 News أول محطة تبث تغطية لفضيحة “ويندراش”. فقد تبيّن أن مئات المواطنين البريطانيين السود، الذين وصل معظمهم من منطقة الكاريبي قبل أكثر من 50 عاما، قد جرى اعتقالهم خطأ، وترحيلهم، وحرمانهم من حقوقهم القانونية.

وكانت الفضيحة نتيجة سياسات نفذتها تيريزا ماي في دورها السابق كوزيرة للداخلية. ومع استمرارنا في تغطية الأعداد المتزايدة من الضحايا المسنين، كان ردّ غيب عنيفا. فقد منع Channel 4 News  من إجراء مقابلات مع رئيسة الوزراء وغيرها من الوزراء، وقيل إنه أخبر مساعديه بأننا “نثرثر بلا توقف حول شيء لا يهتم به أحد”.

ثم مدّد هذا الحظر ليشمل مؤتمر حزب المحافظين، مانعا إيانا من المشاركة في جولة المقابلات التقليدية مع رئيس الوزراء، وهي ممارسة استمرت لعقود. وقد وقّع كل المذيعين الآخرين، بما في ذلك  BBC، رسالة تحذّر من أن هذا الحظر يخلق سابقة خطيرة. وقد اقترب مني زميل سابق لغيب من الـBBC  خلال المؤتمر ليقول: “إنه يغلي غضبا، إنه في قمة استيائه”.

وقد أخبرني العديد من صحفيي BBC في ذلك الوقت بأن غيب كان لا يزال، عمليا، يوجّه أجزاء من التغطية السياسية للـBBC  من داخل مقر رئاسة الوزراء، مستخدما نفوذه وعلاقاته الممتدة منذ سنوات لتحديد ما يتم تغطيته، ومن يُسمح له بالحصول على الوصول.

وقال كثيرون إنهم واجهوا صعوبة في التمييز بين غيب في BBC وغيب في مقر رئاسة الوزراء؛ لأنه واصل التأثير على القرارات الجوهرية. وكانت إحدى أهم ميزات وجوده في مقر رئاسة الوزراء، هي تأثيره على تغطية الـBBC  لفترة ما بعد البريكست.

فقد اختارت BBC ألّا تنظر إلى الوراء ولا تحقق فيما حدث خلال الاستفتاء، على عكس Channel 4 News  التي طاردت تحقيقات “Vote Leave” و”Cambridge Analytica”. وأخبرني عدد من زملاء BBC لاحقا بأن هذا التردد في التدقيق في الاستفتاء لم يكن جديدا، بل كان يعكس الطريقة التي كان غيب يعمل بها في الزمن الحقيقي عندما أشرف على المحتوى السياسي للـBBC  أثناء الحملة نفسها.

في عام 2019، حصلنا على رسائل بريد إلكتروني بين آرون بانكس، المموّل الأكبر لحملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وبين غيب، أُرسلت قبيل الاستفتاء. أظهرت الرسائل أن بانكس اشتكى لغيب من تحقيق تُجريه الـBBC  حول محاولات الاتحاد الأوروبي بناء دعم داخل المجتمعات اليمينية المتطرفة على الإنترنت، وطلب من غيب التدخل. وبعد أن أثار بانكس مخاوفه لدى غيب، تم إسقاط التحقيق. وقالت الـBBC  إن القصة لم تستوفِ المعايير التحريرية، لكن بعد أسابيع، نُشر التحقيق نفسه في صحيفة صنداي تايمز.

كما أخبر آرون بانكس في ذلك الوقت غيبَ بأن نايجل فاراج لا يظهر بما يكفي على الـBBC. وفي الأشهر التي سبقت الاستفتاء، بدأ فاراج يظهر مرارا وتكرارا عبر مختلف منصات البث في المؤسسة.

في عام 2019، وبعد مغادرة غيب مكتب رئيس الوزراء رقم 10 مع تيريزا ماي، عيّنه بوريس جونسون عضوا في مجلس إدارة الـBBC، وهو منصب مؤثر لا يُفترض به التدخل في القرارات التحريرية اليومية. ومع ذلك، ظهرت ادعاءات عديدة بأنه استمر في فعل ذلك، بما في ذلك محاولات عرقلة التعيينات، وزياراته المتكررة لغرف الأخبار، وتدخله المستمر في الشؤون التحريرية.

إعلان

وفي عام 2020، استحوذ على حصة مسيطرة في صحيفة  "جويش كورينكل"- أقدم صحيفة يهودية في العالم، والتي لطالما عُدَّت صوت الجالية اليهودية في بريطانيا-وذلك نيابة عن ممولين لم يُكشف عن هويتهم، ثم انحازت الصحيفة بشكل حاد نحو اليمين. وقد استقال عدد من أبرز صحفييها وسط مزاعم بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان يؤثر في تغطيتها.

حدث كل ذلك بينما كان غيب، بصفته صاحب الخبرة التحريرية الكبرى في مجلس إدارة الـBBC، يمارس- وفقا للادعاءات – نفوذا متزايدا وهيمنة واضحة، على الرغم من القواعد التي تحظر على أعضاء المجلس التدخل المباشر في التحرير. وفي حالة غيب، يبدو واضحا أن العادات القديمة لا تموت بسهولة.

الأزمة تتفاقم: من البريكست إلى غزة وبانوراما وترامب

بعد الهجوم الذي شنّته حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والهجوم الإسرائيلي المستمر على غزة لمدة عامين، والذي دمّر معظم القطاع الفلسطيني وقتل أكثر من 70 ألف شخص، بينهم 20 ألف طفل، أخبرني عدد من المصادر بأن غيب، بصفته الصوت التحريري الأقوى داخل مجلس إدارة الـBBC، كان يمارس ضغوطا على قسم الأخبار في الهيئة بشأن تغطيتها لإسرائيل منذ اليوم الأول.

وقد بلغت هذه الضغوط  ذروتها في فبراير/شباط، عندما بثّت الـBBC ، ثم سحبت، فيلم غزة: كيف تنجو من منطقة حرب. عقب ذلك، قامت الـBBC  بتأجيل تحقيقنا حول تدمير إسرائيل منظومة الرعاية الصحية في غزة، ومقتل أكثر من 1500 من العاملين الطبيين. وقدّمت الهيئة سلسلة من المبررات، قبل أن تعترف في النهاية بأنها لن تبث التحقيق، بينما تراجع الفيلم الآخر.

لقد كان قرارا استثنائيا وغير مسبوق، أدى فعليا إلى إسكات وتخفيف تغطيتهم للموضوع. وبعد أن كشفنا الأمر للعلن، جرى بث فيلم غزة: أطباء تحت الهجوم، ولكن ليس على الـBBC ، بل على قناة Channel 4 News.

قيل لي إن مجلس الإدارة، تحت تأثير غيب، دفع تيم ديفي وديبورا تيرنيس عمليا إلى إخفاء موقفهما من فيلمنا أولا، ثم مطالبتنا بإجراء تغييرات جوهرية عليه، قبل أن يبلّغانا في النهاية بأن الـBBC ستبث فقط ثلاثة مقاطع مدة كل منها دقيقة واحدة من تحقيقنا الذي تبلغ مدته 65 دقيقة، عبر منصاتها الإخبارية.

كان هذا الفيلم يتناول قصف المستشفيات وإخلاءها، واستهداف وقتل الأطباء والمسعفين وعائلاتهم، واعتقال وتعذيب المئات غيرهم. وقد سبق أن حصل على الموافقة التحريرية داخل الـBBC، ثم بُثّ لاحقا على Channel 4 News، وكذلك على منصة مهدي حسن الجديدة Zeteo من دون تسجيل أي شكاوى.

ومنذ ذلك الحين، رُشّح الفيلم للعديد من الجوائز، وبدأ الآن في الفوز بها بالفعل.

في النهاية، يبدو أنّ ديفي وتيرنيس لم يسقطا لا لأنهما وقفا في وجه غِيب، بل لأنهما تعاملا ببطء شديد مع الأزمة التي ساهم عالم غِيب في صنعها. فبعد سنوات من الضغط المتواصل بشأن تغطية غزة، وتزايد الشكاوى من التحيّز، جاء المونتاج المضلِّل لحلقة بانوراما عن خطاب ترامب، واستجابتهما المترددة للهجوم القانوني والسياسي الذي أعقبه، لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير.

ولا يعرف أحد سوى غِيب ما إذا كان قد تعمّد دفع الـBBC  إلى الوضع الذي تواجه فيه الآن دعوى قضائية قد تصل قيمتها إلى مليار دولار من رئيس أميركي حالي، لكن تأثيره وتحالفاته كانا في قلب سلسلة القرارات التي قادت إلى ذلك.

والآن، بينما يختبئ غِيب، يمكن أخيرا رؤية مهمته الممتدة لعقود لإعادة تشكيل هيئة الإذاعة الوطنية وفق أجندته السياسية الخاصة، متخفّية تحت شعار "الدفاع عن الحياد" كما هي حقا: كارثة مطلقة على الـBBC  وعلى الجمهور الذي وُجدت لخدمته.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الرجل الذي حطم بي بي سي
  • أستاذ بالأزهر يوضح أعظم الأحاديث التي بينت كيف يكون الإنسان راقيا
  • أمسية أدبية في إربد تسلط الضوء على ديوان “قوس قزح” للشاعر محمد خيرو الحيفاوي
  • مؤسسة زاهي حواس تنظم أمسية من قصر المنيل إلى قصر الزعفران
  • جمال شعبان يقدم الوصايا السبع لزيادة المناعة في الشتاء
  • استشاري قلب يكشف أسرار رفع المناعة ضد الأمراض الموسمية
  • معالي أبو الحسن… الإنسان الذي جعل منه قرب الهاشميين أخلاقًا تمشي على الأرض
  • مهرجان بورسعيد السينمائي الدولي يقدّم أمسية سينمائية خاصة بدار الأوبرا المصرية
  • هاني رمزي: محمد صبحي قدمني للمسرح.. ومني زكي ومصطفى شعبان شاركوني البداية
  • التعامل مع التراث.. أمسية ثقافية متخصصة بحضور أنييلو أرتيكو بقصر الأمير طاز الليلة