أحمد عثمان جبريل

لا تُولد الحروب من رحم البنادق فقط، بل من غياب الرؤية. ولا تنتهي بإرادة من أشعلها فحسب، بل حين تُقرر مصالح أكبر أن وقتها قد انتهى. السودان اليوم لا يعيش فقط حربًا داخلية بين الجيش والدعم السريع، بل يتموضع وسط خرائط متشابكة من المصالح الإقليمية والدولية، جعلت من قرار وقف إطلاق النار شأنًا دوليًا، ومن التسوية السياسية مشروعًا لا تملكه أطراف القتال بقدر ما تتحكم فيه قوى خارجية ترسم حدود ما هو مسموح وممنوع في مستقبل البلاد.

عندما تتحول الحروب إلى أدوات تفاوض خارجية، تفقد الشعوب حقها في تقرير المصير

عبد الرحمن منيف

 

(1)

في ظاهر الأمر، يدور الصراع في السودان بين قوتين مسلحتين تتنازعان السيطرة على الأرض، لكن في عمقه، ما يجري هو اختبار لإعادة تشكيل السودان وفق معادلات لا تصنعها الخرطوم وحدها. فالمشهد تحول إلى ساحة تجاذب بين مصالح الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، ومصر) ومخاوفها من تمدد النزاع أو خروجه عن السيطرة نحو سيناريوهات أكثر تعقيدًا.

(2)

الاجتماع المرتقب للآلية الرباعية في واشنطن خلال هذا الشهر، والذي تُهيّأ له الأرضية السياسية عبر زيارات مكوكية، ليس لقاءً تقنيًا لإدارة الأزمة، بل خطوة باتجاه فرض تسوية يراد لها أن تكون مفصلية.. في هذه التسوية، لا يُبحث فقط عن إيقاف إطلاق النار، بل عن صياغة شكل الحكم القادم، ومن سيكون فيه، ومن يُمنع منه.

(3)

الرباعية لا تتحرك في فراغ.. هناك مصالح استراتيجية واضحة: تأمين البحر الأحمر، منع انزلاق السودان إلى فوضى شبيهة بليبيا، تجنب تفككه إلى دويلات على أسس عرقية أو قبلية، وكبح أي نفوذ محتمل لقوى دولية منافسة، سواء كانت روسيا أو إيران أو غيرها.. ولذلك، فإن استقرار السودان ليس هدفًا محليًا فقط، بل ضرورة لحفظ توازن إقليمي هشّ، ومنع نشوب صراعات بالوكالة تُستثمر فيها أرض السودان دون إذنه.

(4)

في هذا السياق، لم تعد التسوية أمرًا تفاوضيًا بين طرفين محليين فحسب، بل مشروعًا استراتيجيًا للقوى الدولية، تُحدد فيه الخطوط الحمراء سلفًا. ومن أبرز هذه الخطوط – وإن لم يُعلن صراحة – هو “إبعاد الإسلاميين من المشهد السياسي”. فالرباعية، وفي مقدمتها واشنطن وأبوظبي، لا ترى في هذا التيار شريكًا مقبولًا في المرحلة المقبلة، بل تعتبره تهديدًا لبناء نظام جديد مستقر، شبيهًا بما حدث مع حركة حماس في غزة، حين استُبعدت من المسار السياسي رغم مشروعيتها الانتخابية والشعبية.

(5)

هذا التوجه يُقابل داخل التيار الإسلامي السوداني بانقسام حاد.. فهناك من يحاول اللحاق بركب التسوية، والتماهي مع شروطها، في محاولة للعودة إلى الواجهة من باب الواقعية السياسية، بينما يصرّ تيار آخر على رفض أي حل لا يقوم على الحسم العسكري، ويُعلن رفضه الكامل لأي “إملاءات خارجية” أو تسويات لا تضمن له موطئ قدم.. غير أن الطرفين يغفلان واقعًا صلبًا “أن القرار لم يعد في الداخل”.

(6)

الجيش نفسه، ورغم تقدمه الميداني في بعض الجبهات، يدرك أن الرهان على الحسم الكامل صار مكلفًا، سياسيًا وإنسانيًا، وأن الضغط الدولي يتصاعد لتوقيع اتفاق يعيد بناء الدولة على أسس جديدة. لكن هذا الإدراك لم يتحول بعد إلى رؤية سياسية متكاملة. وحتى اللحظة، لا تزال الخرطوم غائبة عن صياغة مشروع وطني يُفاوض باسم السودان، لا باسم طرف من أطرافه.

(7)

الرباعية، بدورها، لا تنتظر كثيرًا.. فكما أن لها مصلحة في استقرار السودان، فإنها ترى أن تأخير التسوية يزيد مخاطر التدويل أو التقسيم أو تفشي الجماعات المتطرفة. ولهذا، فإنها تضع تصورات جاهزة لشكل الدولة القادمة، وتُوزع الأدوار سلفًا، ومن لا يجد له مكانًا في هذه الخارطة الجديدة، فذلك – في نظرها – خياره لا خطأها.

(8)

المفارقة أن كل هذه التحركات تُجرى، بينما يعيش الداخل السوداني على وقع المعاناة اليومية: النزوح، انقطاع الخدمات، الانهيار الاقتصادي، وغياب الأفق.. هؤلاء – ضحايا الحرب الحقيقيين – لا يُمثلهم أحد في غرف التفاوض، ولا تُصاغ التسويات بمقاسات أحلامهم. وبينما تتصارع النخب على موضع قدم في المشهد القادم، يغيب صوت الشعب عن المشهد بالكامل.

(9)

وبينما تتحرك الرباعية بتكتيك مدروس، يظل الداخل السوداني في موقع المتلقي، غير القادر على فرض شروطه، أو حتى الدفاع عن خياراته.. والتسوية القادمة – إذا تمت – ستُفرض كما تُفرض المعادلات في نهاية كل نزاع طويل، حين يتعب الداخل، وتنتصر لغة الخارج.

بقي أن نقول “حين يُختزل مستقبل السودان في خرائط تُرسم بالخارج، لا يعود وقف الحرب قرارًا سياديًا، ولا تُصبح التسوية نتاجًا طبيعيًا لتعب الأطراف، بل نتيجة حتمية لمعادلات أكبر من الجميع”.. وربما يكون الإسلاميون أول من يدفع ثمن هذه المعادلة، لكنهم لن يكونوا الأخيرين. فالحرب التي لم تُحسم بالبندقية، قد يُحسم مصيرها بأوراق الضغط السياسي، وحينها لن يملك الداخل إلا خيارين “أن يُسهم في صياغة مصيره، أو أن يكتفي بدور المراقب، في مشهد يُدار بالنيابة عنه”.

إنا لله ياخ.. الله غالب

الوسومأحمد عثمان جبريل

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

إقرأ أيضاً:

«عقار» يجدد دعوة الاستنفار ويؤكد عدم رغبة الجيش في السلطة

مالك عقار قال إنه من حق السودان دراسة المبادرات المطروحة من جهات عديدة ومعرفة ما إذا كانت تتماشى مع الأمن القومي، والرد عليها.

بورتسودان: التغيير

جدد نائب رئيس مجلس السيادة السوداني مالك عقار، دعوة كل القادرين على حمل السلاح للاستنفار “والدفاع عن الوطن”، ونادى بمساهمة الجميع في كل المجالات في الدفاع وصون البلاد، فيما أكد عدم رغبة الجيش في السلطة.

وكان رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وقادة الدولة والجيش أطلقوا دعوات متواترة للسودانيين خاصة الشباب للانخراط في صفوف المستنفرين لمواجهة قوات الدعم السريع التي تخوض حربا ضد الجيش لقرابة الثلاث سنوات.

لا رغبة في السلطة

وقال عقار في حوار مع تلفزيون السودان، إن القوات المسلحة ستنتصر، وأن الجيش لن يُهزم، ولفت إلى أما أسماه “وقوف الشعب مع القوات المسلحة ومع قيادته”.

وأضاف: “إن القوات المسلحة ليست راغبة في الاستمرار في السلطة وواجبها في الوقت الحالي هو انهاء هذه الحرب، وإدارة عملية سياسية تفضي إلى تسليم السلطة للشعب السوداني عبر الانتخابات”.

ونوه عقار إلى أن الحرب في السودان لا يتأثر بها وحده بل تؤثر في أفريقيا، وقال إن تلك الأطماع التي تستهدف السودان تطال بلاداً كثيرة، وأن ما يتأثر به السودان ستتأثر به أفريقيا.

وأشار إلى “أهمية التصدي لها للحفاظ على السودان والقرن الأفريقي”.

وجدد عقار القول بأن “القوات المسلحة ستنتصر وأن الإعمار سيعم البلاد وسيمثل ذلك فرصة لإنهاء الحرب وبناء الدولة وتحقيق العدالة”.

وقال عقار إنه “ليس هناك طرف نتفاوض معه في الوقت الحالي”، واعتبر أن “قيادة مليشيا الدعم السريع لا تتحكم في الحرب لوجود دول كثيرة ومجموعات مثل دولة الإمارات ومرتزقتها”.

دول داعمة للحرب

وبشأن المبادرات المطروحة من جهات عديدة كالإيغاد والاتحاد الأفريقي والمنابر المختلفة التي قدمت مبادرات لوقف الحرب، قال عقار: “من حقنا أن ندرس هذه المبادرات ونرد عليها، إذا كانت تلك المبادرة لا تتماشى مع أمننا القومي ووحدة السودان أرضا وشعبا”.

ولفت عقار إلى أن هناك دولاً متورطة بشكل مباشر في دعم قوات الدعم السريع، وهناك دول متورطة بطريقة أخرى، وهناك مؤسسات متورطة.

ونوه إلى دول يمر السلاح عبرها وكذلك المرتزقة وتستغل مطاراتها، ونبه إلى أهمية تحييد مثل هذه الدول وتنبيهها.

وأضاف أنّ السودان اتخذ إجراءات قانونية بحق دولة الإمارات نظراً لكونها من الدول التي تمارس دعماً معلناً، وأكد وجود دول أخرى ذات تأثير يجري العمل على تحييد مواقفها.

وأشار عقار إلى الخطوات التي اتخذها السودان في مخاطبته لكولومبيا بشأن ملف المرتزقة، كما لفت إلى اتصالاته مع كينيا، بما في ذلك مخاطبة الرئيس الكيني والبرلمان، في إطار الجهود لمعالجة هذه القضايا.

الوسومالإمارات الإيغاد الاتحاد الأفريقي الجيش السوداني السودان القوات المسلحة عبد الفتاح البرهان قوات الدعم السريع مالك عقار مجلس السيادة

مقالات مشابهة

  • تدخل ترامب في السودان سلاحٌ ذو حدّين
  • «عقار» يجدد دعوة الاستنفار ويؤكد عدم رغبة الجيش في السلطة
  • المبادرة المطلوبة من الرئيس ترامب لإنهاء حرب السودان
  • برنامج الأغذية العالمي يحذر من كارثة إنسانية غير مسبوقة في السودان
  • سفير السودان في الأردن “سوار الذهب” يحاضر عن الثقافة زمن الحرب في اتحاد الكتاب
  • مسعد بولس يطلق تصريحات جديدة ويطالب بمحاسبة طرفي الصراع في السودان.. ترامب جعل تحقيق السلام أولية
  • أكثر من 14 مليون شخص نازح ولاجئ .. السودان يغرق في أزمة إنسانية
  • مجلس التعاون الخليجي يدعو لوقف فوري للقتال في السودان
  • زيلينسكي: مفاوضون أوكرانيون توجهوا إلى الولايات المتحدة لبحث خطة لإنهاء الحرب
  • كيف استمر نهب الأراضي بعد إجهاض ثورة ديسمبر؟