ميجان ك. ستاك

في يوم صيفي غائم، وجدتُ نفسيَ داخل الجمعية التشريعية لأيرلندا الشمالية، أتابع نقاشًا محتدمًا حول أعمال الشغب المعادية للمهاجرين، حيث تنافس النواب في رفع نبرة صوت الغضب في خطاباتهم. لكن ما لفت انتباهي لم يكن النقاش نفسه، بل المشهد الذي بدا أقرب إلى المعجزة، وهو وجود وجوه من إيديولوجيات متصارعة تجلس معًا تحت سقف واحد.

هناك كانت ميشيل أونيل، ابنة أحد أعضاء الجيش الجمهوري الأيرلندي، وأول امرأة كاثوليكية تتولى منصب رئيسة وزراء لأيرلندا الشمالية؛ تلك المنطقة التي اقتُطعت قبل قرن لتكون حصنًا للهيمنة البروتستانتية. وإلى جوارها إيما ليتل-بينجيلي، نائبة رئيسة الوزراء، وهي ابنة أحد مهربي السلاح التابعين لميليشيا بروتستانتية. أما في الصفوف الخلفية فقد رأيت جيري كيلي، الذي كان يومًا ما أحد منفذي تفجير محكمة «أولد بيلي» في لندن باسم الجيش الجمهوري الأيرلندي، وقد ارتدى اليوم بذلة أنيقة ليجلس نائبًا منتخبًا عن شمال بلفاست، عاصمة أيرلندا الشمالية.

هؤلاء الساسة نشأوا في مجتمعات انخرطت في صراع دموي استمر نحو ثلاثين عامًا قبل أن تنتهي إلى اتفاق سلام عام 1998. ذلك الصراع، الذي يُشار إليه بتلطيف باسم (ذَ تربّلس) أي «المشكلات» لا يزال حيًّا لكنه تحت السطح، وهو ما ظهر خلال النقاش حين اتهم النائب المحافظ المتشدد تيموثي جاستون، السيدة أونيل بالنفاق في إداناتها للعنف ضد المهاجرين، متسائلًا: ألم تكن هي نفسها ممن اعتبروا أن الانتفاضة المسلحة كانت الخيار الوحيد خلال «المشكلات»؟ وأضاف بلهجة تهديدية: «أسمع دومًا من يقول إن العنف أثبت نجاحه في أيرلندا الشمالية».

ورغم حدة النقاش، شعرت بنوع من الإلهام وأنا أتابع هذا الجدل داخل القاعة الكئيبة لمبنى «ستورمونت» الضخم، الذي شُيّد ليكون مقرًا لـ«برلمان بروتستانتي ودولة بروتستانتية». ذلك الصرح الذي كان يومًا رمزًا للتفوق الطائفي، أصبح اليوم مقرًا لحكومة تقوم على تقاسم السلطة بين الخصوم القدامى.

إن مدينة بلفاست التي استقرت نسبيًا تمثل مشهدًا مغايرًا للمجازر المستمرة في غزة، حيث سبق لي أن عملت مراسلة هناك، في أيرلندا الشمالية، وُلد سلام هش من رحم حرب قذرة قامت على الهوية، فتحولت البنادق إلى مقاعد تفاوض. أما في الشرق الأوسط، حيث الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة والتطهير العرقي في الضفة الغربية، والعمليّة العسكريّة التي نفذتها حماس ضد الإسرائيليين في السابع من أكتوبر، فيبدو مجرد الحديث عن السلام وكأنه وهم.

والأدهى أن خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صيغت بأيدي أقوى أطراف الصراع، وطرحت على الفلسطينيين كأمر واقع، متجاهلة آمالهم السياسية. إنها، ببساطة، النقيض تمامًا لما جعل السلام ممكنًا في أيرلندا الشمالية.

لا وجود لتطابق كامل بين صراع أيرلندا الشمالية والمأساة الفلسطينية، لكن من المفيد التذكير بأن صراع أيرلندا الشمالية وُصف بدوره بأنه عصيّ على الحل، وأنه معقد أكثر من اللازم، ومتشابك بالدين، وحساس لعلاقات مع حليف استراتيجي مهم. ومع ذلك، كان الطريق إلى اتفاق «الجمعة العظيمة» (اتفاق سلام تاريخي وُقّع عام 1998 لإنهاء عقود من العنف الطائفي في أيرلندا الشمالية) مليئًا بالإحباطات والنكسات والمغامرات السياسية المحفوفة بالمخاطر.

لقد سبقت الاتفاق عقود من المفاوضات السرية العقيمة، وكان العمل أصعب بعد التوقيع، حين كان على أعداء الأمس أن يديروا شؤون الحكم معًا، فيما المتمردون ما زالوا متمسكين بأسلحتهم في الخفاء. وكان نزع سلاح الميليشيات شبه العسكرية آخر تنازل صعب انتُزع بالثقة، ولم يكن الخطوة الأولى كما هو اقتراح ترامب في غزة. (أتذكر ذلك كلما سمعت من يطالب حماس بالتخلي عن سلاحها فورًا).

الدروس المستخلصة واضحة، وهي تكرار المحاولة، ومحاورة الخصوم مهما بلغ الاحتقان، وممارسة ضغوط دولية، وخاصة من الولايات المتحدة، وعدم الإصرار على حل عسكري قبل الوصول إلى تسوية سياسية، إذ يمكن تأجيل ملف إلقاء السلاح.

كان على الناس في أيرلندا الشمالية أن يتعاملوا مع من يرونهم قتلة أو إرهابيين أو متعصبين، وأن يقبلوا تسوية لم ترضِ أي طرف بالكامل. فالسياسة في زمن السلم معقدة، والمصالحة لم تكتمل. لكن كل من التقيتهم هناك، مهما اختلفت أيديولوجياتهم، يشتركون في قناعة راسخة، وهي أن لا عودة إلى الماضي.

لقد تفجّر الغضب المكتوم والتمييز ضد الكاثوليك في أواخر الستينييات، حين خرجوا إلى الشوارع مطالبين بحقوق تصويت عادلة وفرص متكافئة في السكن والعمل، مستلهمين من حركات الحقوق المدنية الأمريكية. ردّت الشرطة بقمع وحشي، وتغاضت عن حشود طائفية أحرقت منازل الكاثوليك، ثم أعادت العمل بالاعتقال الإداري، فسُجن الآلاف وعُذبوا بلا محاكمة.

تدفقت أعداد كبيرة من الشباب الغاضب إلى صفوف (الجيش الجمهوري الآيرلندي)، بعد أن رأوا أن أحدًا لم يدافع عن أحيائهم، فتحول إلى قوة مسلحة تسعى لطرد البريطانيين بهجمات استهدفت قوات الأمن والمدنيين على السواء. دخلت القوات البريطانية لتفرض النظام، لكنها سرعان ما غرقت في حملة مضادة غير ناجحة، تداخلت مع حرب استخبارات قذرة. في المقابل، قامت ميليشيات بروتستانتية موالية لبريطانيا، غالبًا بالتواطؤ مع قوات الأمن، باغتيال مقاتلي الجيش الجمهوري وزعماء سياسيين ومجتمعيين، بل وشكلت فرق موت لمطاردة الكاثوليك العاديين.

أما السياسة التي وقفت خلف القتال فكانت تخوض معادلة تحدٍ، فالقوميون أو الجمهوريون، ومعظمهم من الكاثوليك، طالبوا بأيرلندا موحدة محررة من الحكم البريطاني. أما الاتحاديون أو الموالون، وغالبيتهم من البروتستانت، فقد ربطوا هويتهم بانتمائهم البريطاني، وكانوا يخشون التحول إلى أقلية محاصرة إذا توحدت أيرلندا. وبذلك كان حلم كل طرف كابوسًا للطرف الآخر.

ومع ذلك، منذ السنوات الأولى للصراع، كان هناك من يبحث في الخفاء عن مخرج. ففي عام 1972، وهو العام الأكثر دموية، نُقل جيري آدامز، الذي أصبح لاحقًا زعيم حزب شين فين (الذراع السياسي للجيش الجمهوري الآيرلندي)، إلى لندن مع وفد من الجيش الجمهوري لإجراء محادثات سرية مع مسؤولين بريطانيين.

لكن اللقاء فشل لأن البريطانيين أرادوا وقفًا طويل الأمد لإطلاق النار. أما الجيش الجمهوري فطالب بانسحاب كامل لبريطانيا. انهارت المحادثات، وظل كل طرف متمسكًا بموقفه حتى النهاية، وإن بدا خطابهم أكثر واقعية مع استمرار نزيف الدم.

احتاج الأمر عقودًا من العنف حتى أدرك الطرفان الرئيسيان أن لا نصرًا عسكريًا حاسمًا في الأفق، ولا عودة ممكنة إلى ما قبل الحرب. كان لا بد من مواجهة المظالم والتطلعات المتناقضة التي أشعلت القتال من الأساس.

على مدى السنوات، انهارت محادثات سرية رتّبها رجال دين وزعماء عمال وغيرهم. ولم تصمد الهدنات القصيرة التي أعلنها الجيش الجمهوري الأيرلندي في السبعينيات. لكن بدلا من الإعلان عن فشل المحادثات، واصل الوسطاء المحاولة من جديد مرارًا. لم يكن ذلك الوقت ضائعًا أو مهدرا؛ فحتى المفاوضات الفاشلة ساعدت في تمهيد الطريق للجولة التالية.

أغلب خصوم الجيش الجمهوري الأيرلندي، من الحكومتين البريطانية والأيرلندية، ومنافسين قوميين، سعوا لتحقيق الوحدة من دون عنف، وصولًا إلى أكثر الوحدويين تشددًا (الوحدويين: الداعين إلى الوحدة مع بريطانيا). لقد خاضوا محادثات سرية مع حزب «شين فين». لكن في العلن، كان مسؤولو الحزب يُعاملون كمنبوذين، ومجرد رسل للإرهابيين. فقد حظر القانون البريطاني بث أصوات قادة «شين فين»، مما أوجد مشهدًا كاريكاتوريًا مضحكا لغاري آدامز وهو يتحدث على التلفاز بينما يكرر ممثل صوتي كلماته.

أصر مقاتلو الجيش الجمهوري على أنهم ليسوا مجرمين ولا إرهابيين، بل جنود في قضية عادلة. ومع مرور الزمن، اعترف الوسطاء ضمنيًا بهذا التصور، خصوصًا بعد أن نفّذ سجناء الجيش الجمهوري إضرابات قاسية لإثبات وجهة نظرهم. ففي إضراب عام 1981 عن الطعام، مات بوبي ساندز وتسعة سجناء جمهوريين آخرين جوعًا وهم يطالبون بالاعتراف بهم كسجناء سياسيين. رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر لم تتزحزح عن موقفها، وأعلنت ببرود ووضوح: «الجريمة هي الجريمة»، تاركة المضربين يواجهون مصيرهم.

ورغم تصلّب تاتشر، أدرك المسؤولون البريطانيون في النهاية أن التعامل فقط مع شخصيات تنبذ العنف لم يكن مجديًا؛ فالمسالمون لا يمكنهم فرض وقف إطلاق النار ببساطة لأنهم لا يملكون تأثيرًا على المسلحين، شئنا أم أبينا، وكثيرون كرهوا ذلك، لكن التقدم في المحادثات كان يتطلب إشراك الجيش الجمهوري وقيادة «شين فين».

وقد استلزم الأمر ضغوطًا دولية هائلة لإجبار المسلحين على الجلوس إلى الطاولة. ففي عام 1994، منح الرئيس الأمريكي الطَّموح بيل كلينتون تأشيرة دخول لغاري آدامز، متحديًا اعتراض وزرائه ومثيرًا غضب الحكومة البريطانية. كان ذلك عملًا دبلوماسيًا بالغ المخاطرة غيّر قواعد اللعبة ومسير المفاوضات.

فتح كلينتون الباب أمام «شين فين»، فأدرك البريطانيون أن البيت الأبيض لم يعد تابعًا تلقائيًا لرغباتهم. أما بالنسبة للوحدويين المؤيدين للانضمام لبريطانيا، فقد كان مشهد آدامز، الذي كانوا يمقتونه، وهو يتنقّل بحرية في الولايات المتحدة بمثابة رسالة صارخة أن حركته المتمردة لا يمكن سحقها، بل يجب التعامل معها.

ومن الصعب تخيل أي رئيس أميركي بعد أحداث 11 سبتمبر يغامر بمثل هذه الخطوة لصالح متمردين اعتادوا تفجير حليف لواشنطن وقنص جنوده. لكن في النهاية، كان من وُصفوا بالإرهابيين هم من أقنعوا أتباعهم، من الجانبين، بتجربة طريق السلام.

وحين عاد آدامز إلى بلفاست وقد تعززت سمعته بفضل رحلته القصيرة، أبلغه كلينتون ورئيس الوزراء الأيرلندي ألبرت رينولدز، الذي اجتهد للحصول على التأشيرة، بأنهم يتوقعون منه الآن انتزاع وقف لإطلاق النار من الجيش الجمهوري.

لاختبار مدى جدية كلينتون، رد آدامز بأنه بحاجة إلى تأشيرة لجو كاهيل، أحد أبرز قادة الجيش الجمهوري ومهرّب السلاح الذي سبق أن رُحّل من الولايات المتحدة. فوجئ كلينتون، لكنه كان يدرك أن إقناع المجلس العسكري للجيش الجمهوري بالهدنة مهمة شائكة، وأن أي انقسام داخلي سيكون مدمّرًا. لذلك، وافق على التأشيرة.

قال لي آدامز العام الماضي في بلفاست: «أصعب المفاوضات هي مع أبناء تيارك نفسه. لقد أمضينا وقتًا طويلًا جدًا، وهذا ما كنا نراه صحيحًا، ونحن نتحدث مع أتباعنا».

لم يكتفِ كلينتون بالتواصل مع المسلحين، بل فعل ذلك بطريقة عززت مكانة آدامز بين المقاتلين. فمع مرور السنوات، تسللت براغماتية، تكاد تلامس السخرية، إلى عملية السلام. كان لا بد أن يحظى القادة بتأييد حواضنهم الشعبية وقبول تابعيهم، وإلا فلا جدوى من التفاوض معهم.

قد تكون للتداعيات جوانب سلبيّة غير مقبولة. فعلى سبيل المثال، بعد أن فجّر الجيش الجمهوري الأيرلندي متجرًا لبيع الأسماك في قلب منطقة البروتستانت في شارع شانكيل، شارك غاري آدامز في تشييع أحد منفذي التفجير وحمل نعشه. رئيس الوزراء البريطاني جون ميجور، الذي كان يخطو بتردد نحو اتفاق بريطاني-أيرلندي استند جزئيًا إلى نقاط صاغها آدامز، شعر بالاشمئزاز، لكن نظيره الأيرلندي ألبيرت رينولدز حثّه على عدم الانفعال.

قال رينولدز لميجور في حوار وثّقه الرجلان في فيلم وثائقي لهيئة الإذاعة البريطانية عام 2001: «لو لم يحمل هذا الرجل النعش، لما استطاع أن يقود حركته. لن ينفعك ولن ينفعني إذا لم يفعل ذلك».

وبالفعل، أوفى آدامز بما وعد، ففي 31 أغسطس 1994، وبعد أيام قليلة من حصول جو كاهيل على تأشيرته، أعلن الجيش الجمهوري الأيرلندي وقف إطلاق النار. وما لبثت الجماعات المسلحة الوحدوية أن أعلنت بدورها هدنة مماثلة.

عمّت شوارع بلفاست أصوات أبواق السيارات ورقص الناس فرحًا. لكن سرعان ما تبيّن أن الاحتفال كان مبكرًا. فبعد أن خاطر آدامز بالكثير لإقناع الجيش الجمهوري بوقف إطلاق النار، توقّع أن تبدأ مفاوضات شاملة على الفور، إذ كان بحاجة ماسة لإقناع المقاتلين المتشككين بأن الهدنة ستفضي إلى مكاسب سياسية ملموسة. لكن المسؤولين البريطانيين والوحدويين طالبوا الجيش الجمهوري بتسليم سلاحه فورًا قبل الشروع في أي محادثات، ما دفع آدامز الغاضب إلى اتهام البريطانيين بتغيير قواعد الاتفاق.

ظل الجمود قائمًا لأشهر. حتى جون هيوم، السياسي القومي المسالم من مدينة ديري (مدينة في شمال أيرلندا عُرفت بأنها إحدى بؤر الصراع أثناء الاضطرابات)، والحائز لاحقًا على جائزة نوبل للسلام لدوره في اتفاق الجمعة العظيمة شعر بالخطر. وقف في مجلس العموم متهمًا الحكومة البريطانية بإضاعة 17 شهرًا من وقف إطلاق النار. ومع انفجار قاعة المجلس بالاعتراضات، رد هيوم بمرارة غير معهودة: «أنا أعيش هذه المعاناة، ولستم أنتم».

وكانت مخاوفه في محلها. فبعد أسابيع فقط، فجّر الجيش الجمهوري شاحنة محمّلة بالمتفجرات في منطقة دوكلاندز بلندن، ما أسفر عن مقتل شخصين وانهيار الهدنة. ثم استهدف ثكنة عسكرية بعبوة ناسفة، فقتل جنديًا بريطانيًا، ليتوجّه ميجور غاضبًا إلى آدامز بالقول: «لا تقل لي إن لا علاقة لك بالأمر. أنا لا أصدقك يا سيد آدامز».

استمرّت سنوات «الاضطرابات» القاتمة حتى عام 1997، حين وصل مبتدئ آخر في الدبلوماسية إلى السلطة. توني بلير، الذي تولى رئاسة الوزراء حديثًا، خاض المفاوضات متحديًا نصائح مستشاريه الذين رأوا أن أيرلندا الشمالية مستحيلة الحل. وفي غضون أشهر قليلة، تمكّن بلير والرئيس الأميركي بيل كلينتون من إقناع عدد كافٍ من الوحدويين بالتخلي عن مطلب نزع سلاح الجمهوريين فورًا، وأعادوا الجيش الجمهوري إلى وقف إطلاق النار، وأدخلوا «شين فين» في المحادثات. (بلير نفسه يلعب دورًا في خطة السلام التي يطرحها ترامب اليوم).

ورغم الدعوات والمطالب من بعض القادة والسياسيين الذين يؤيدون بقاء أيرلندا الشمالية ضمن المملكة المتحدة، بعدم المشاركة في المفاوضات ورفض الجلوس مع حزب شين فين، شارك ديفيد تريمبل، زعيم أكبر حزب وحدوي، في المفاوضات. (وحصل لاحقًا على جائزة نوبل للسلام إلى جانب هيوم). ورغم أنه وزملاؤه رفضوا التحدث مباشرة مع وفد «شين فين» وتجاهلوهم في الممرات، فإن تريمبل صمد أمام موجات من التشويه والتهديد من جانب معسكره.

وقال ديفيد آدامز، الزعيم السابق لإحدى الميليشيات الوحدوية الذي عمل مع تريمبل خلال مفاوضات اتفاق الجمعة العظيمة: «في رأيي، كان ديفيد تريمبل أشجع شخص في تلك المفاوضات. لقد واجه تهديدات، وتحمّل إساءات كثيرة، وحشودًا غاضبة أمام منزله. ومع ذلك، واصل المسير بثبات».

الزعيم السابق للأغلبية في مجلس الشيوخ الأميركي جورج ميتشل، الذي أرسله الرئيس بيل كلينتون مبعوثًا إلى أيرلندا الشمالية، حدد أخيرًا مهلة أسبوعين للتوصل إلى اتفاق. تشابكت المفاوضات لساعات ثم لأيام حول قضايا معقدة تتعلق بالسجناء والشرطة والتعاون بين الشمال والجنوب، لكن أسلحة الجيش الجمهوري الأيرلندي ظلّت تهدد بانهيار الاتفاق مجددًا، إذ واصل حزب «شين فين» رفضه تقديم جدول زمني واضح لنزع السلاح.

في اللحظة الأخيرة، كتب رئيس الوزراء توني بلير إلى ديفيد تريمبل مقترحًا على الوحدويين أن يوافقوا على الدخول في حكومة مشتركة مع «شين فين»، متعهدًا بأنه إذا لم يُحرز الجيش الجمهوري تقدمًا في نزع السلاح، فسيدعم إدخال تعديلات على الاتفاق. هذا الضمان كان كافيًا لتهدئة مخاوف الوحدويين الذين وافقوا بتردد على الاتفاق.

هكذا وُلد «اتفاق الجمعة العظيمة»، الذي أرسى حكومة في أيرلندا الشمالية يتقاسم فيها الوحدويون والقوميون السلطة، ومنح السكان حق الاختيار في أن يكونوا بريطانيين أو أيرلنديين أو كليهما، وأتاح إمكانية رفض السيادة البريطانية وإعادة توحيد أيرلندا عبر استفتاء، كما وضع آليات لإصلاح الشرطة ونزع سلاح الميليشيات.

في 22 مايو 1998، صوّت الناخبون في أيرلندا الشمالية لصالح الاتفاق بنسبة 71%.، وفي نوفمبر 1999، اجتمع خليط من الخصوم التاريخيين في مبنى «ستورمونت» لتشكيل حكومة مشتركة. وقف جاري آدامز ليعلن ترشيح مارتن ماجينيس وزيرًا للتربية. دوّى صراخ الاستهجان، وصاح أحد نواب الوحدويين: «لا أستطيع أن أجلس وأتحمل هذه الفضيحة!».

كان ماجينيس كبير مفاوضي «شين فين» ومدافعًا بارزًا عن السلام، لكنه أيضًا كان قائدًا سابقًا في الجيش الجمهوري الأيرلندي تباهى ذات يوم بـ»حدة سيف» جيشه السري. ومع ذلك، حمل معه رؤى محددة في مجال التعليم؛ فقد رسب في امتحان «11 بلس» الذي يحدد مسار التعليم الأكاديمي، وانقطع عن الدراسة، وعانى من البطالة في شبابه ككاثوليكي. وبمجرد وصوله إلى الحكومة، أعلن إنهاء هذا الامتحان، وموّل مدارس تجمع بين الطلاب الكاثوليك والبروتستانت، وهو أمر نادر نسبيًا في أيرلندا الشمالية حتى اليوم.

إنها حقيقة غريبة لكن يصعب إنكارها، وهي أن بعض أكثر الشخصيات تشددًا خلال «الاضطرابات» تحولت إلى قادة بارزين في السلام والمجتمع. ربما كان ذلك انعكاسًا لوجه آخر من المثالية التي حملوها، أو لأن من خاضوا الحرب طويلاً أرادوا أن يبنوا شيئًا إيجابيًا في خريف أعمارهم.

في سنواته الأخيرة، نسج ماجينيس صداقة بالغة الغرابة مع القس إيان بايسلي، الذي مثّل كل ما كان ماجينيس يكرهه. فقد كان بايسلي قسًا متشددًا من الكنيسة المشيخية (وهي طائفة بروتستانتية كبرى)، اشتهر بمواقفه الصارمة والمتعصبة، أشعل الحماس الطائفي، وقاد حشودًا معادية للكاثوليك في الشوارع، وحافظ على روابط مبطّنة مع الميليشيات البروتستانتية.

غير أن ماجينيس وآدامز أدركا أنهما بحاجة إلى بايسلي لإقناع الوحدويين المتشككين بالحكومة الجديدة، فعملا على توثيق الصلة به. لكن دوافع المصلحة السياسية لم تكن وحدها كافية لتفسير العلاقة التي نشأت بين الرجلين. فقد تولّيا معًا رئاسة حكومة أيرلندا الشمالية عامي 2007 و2008، وكانا يتبادلان النكات أمام الصحافيين إلى درجة أنهم أطلق عليهما لقب «الإخوة الضاحكون». وعندما توفي بايسلي، زار ماجينيس منزله ليلقي نظرة الوداع على جثمانه، وظلّ على تواصل مع أرملته حتى وافته المنية هو الآخر.

لم يُنهِ اتفاق الجمعة العظيمة مسألة الانقسام أو يوحّد أيرلندا، ولم يفرض اتحادًا دائمًا مع بريطانيا. كل ما حققه هو إطلاق عملية سياسية، وخطوات متتابعة تتيح للناس أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم وبصورة عادلة.

شعر كثير من الناس على الجانبين، وما زال بعضهم يشعر، بأنهم تعرضوا للخيانة. فالاتفاق فتح الطريق أمام الحلم القومي بأيرلندا موحدة، لكنه جعل ذلك مرهونًا باستفتاء تديره بريطانيا. بعض الجمهوريين رفضوا وقف القتال طالما بقي البريطانيون في الشمال. وقد انقسم الجيش الجمهوري الأيرلندي بالفعل، كما كان بيل كلينتون يخشى، لكن المعارضين المتشددين ظلوا قلة محدودة. ورغم أعمال العنف المتفرقة من بعض المنشقين، فإن جاري آدامز ومارتن ماجينيس تمكنا من جر معظم الحركة إلى عالم السياسة.

قبل أسابيع قليلة، استمعتُ لآدامز وهو يخاطب جمهورًا في مدينة بلفاست. أكد أن الاستفتاء على وحدة أيرلندا قادم «في زمننا»، وحثّ الناس على التعاون مع الأحزاب المنافسة لتحقيق هذا الهدف، مذكّرًا جمهوره بضرورة احتضان الوحدويين لأنهم «جزء منا، بكل عيوبنا وعيوبهم».

آدامز يبلغ اليوم من العمر 76 عامًا، وغالبًا ما يرتدي الكوفية تضامنًا مع الفلسطينيين. وعندما حاورته، حذر من أن «عملية السلام في أيرلندا كثيرًا ما خضعت لقراءات سطحية لا تنفذ إلى عمق التجربة». قبل أن يسترجع صعوبة إدخال «شين فين» في المفاوضات المتعددة الأطراف. قال: «اضطررنا للقتال طويلًا وبشدة، فيما كان الناس يُقتلون ويُسجنون ويُساء معاملتهم». لقد قاد جيشًا كان فاقد الثقة في جدوى العمليّة السياسية إلى طاولة الدبلوماسية، واعدًا بمنحهم ما أرادوه أكثر من أي شيء، وهو توحيد أيرلندا، وهو الهدف الذي لم يتحقق بعد. رغبته في دفع الأمور نحو النهاية واضحة؛ فالوصول إلى وحدة أيرلندا سيكون الدليل التاريخي على صحة خياره. وعندما سألته كيف يريد أن يُذكر، أجاب بلا مبالاة: «لن يهمني، سأكون قد متّ».

أما الوحدويون، فقد حصلوا على ما أرادوه في المدى القصير وهو بقاء أيرلندا الشمالية بريطانية. لكنهم اضطروا للتخلي عن سيادتهم المطلقة لصالح شراكة في الحكم، والسير في طريق قد يقودهم إلى ما كانوا يخشونه دومًا وهو الخروج من بريطانيا. اليوم، بات الكاثوليك أكثر عددًا من البروتستانت في أيرلندا الشمالية، والقوميون يهيّئون الرأي العام لاستفتاء محتمل حول الوحدة.

الحقيقة أن السياسة التي تعقد المشهد في أماكن مثل بلفاست والقدس، تنفذ إلى أعماق الناس، إلى قلوبهم وأحشائهم، وإلى دينهم وجروحهم الموروثة، وإلى ما يلقنونه لأطفالهم وطريقتهم في تصور العالم والذات. مواجهة كل هذا أمر عسير للغاية، وأحيانًا يكون الاستمرار في القتال أسهل. ولمن يملكون الأفضلية ويخشون الخسارة إذا انكشفت الحقائق السياسية، قد يبدو إطالة أمد الحرب خيارًا أكثر أمانًا من التفاوض على السلام.

لكن لا أحد يستطيع القتال إلى الأبد. وأنا مقتنعة بأن أي حملة عسكرية لن تضمن لإسرائيل الأمن أبداً. كما في أيرلندا الشمالية، الحل سيكون سياسيًا، يتوصل إليه الذين سيعيشون نتائجه، على أساس حقوق كاملة لكل إنسان في الأرض، وإلا ستستمر الحرب، تتوقف أحيانًا، لكنها حتمًا ستعود.

لم تُسدِ الولايات المتحدة خدمة لإسرائيل على المدى البعيد بمنحها حصانة دبلوماسية وتدفقًا لا ينقطع من السلاح. الفلسطينيون يعيشون الآن مستوى من القتل الممنهج وتجريدهم من إنسانيتهم يفوق بكثير ما شهدته «الاضطرابات» في أيرلندا الشمالية. نعم. لقد تأخر طويلًا يوم الحساب السياسي، وحين يحين، سيتساءل الجميع لماذا استغرق كل هذا الوقت.

ميجان ك. ستاك كاتبة في قسم الرأي في صحيفة نيويورك تايمز، عملت مراسلة في الصين وروسيا ومصر وإسرائيل وأفغانستان وعلى الحدود الأميركية-المكسيكية. كتابها الأول، الذي يوثق حروب ما بعد 11 سبتمبر بأسلوب سردي، وصل إلى القائمة النهائية للجائزة الوطنية الأميركية للكتاب في فرع النون-فيكشن.

«خدمة نيويورك تايمز»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی أیرلندا الشمالیة الولایات المتحدة وقف إطلاق النار بیل کلینتون الذی کان شین فین ومع ذلک طویل ا بعد أن ة التی لم یکن فی غزة ما کان

إقرأ أيضاً:

الجيش الأوكراني: استهدفنا مواقع لإطلاق المسيرات الروسية في شبه جزيرة القرم

أعلن الجيش الأوكراني، منذ قليل، إننا استهدفنا مواقع لإطلاق المسيرات الروسية في شبه جزيرة القرم، وفقا للقاهرة الإخبارية.

ميلوني: يجب أن تتقارب وجهات النظر بشأن السلام العادل والدائم في أوكرانيا زيلينسكي: لا يجب منح روسيا أي مكافأة مقابل حربها في أوكرانيا


علق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على زيارة رأس النظام في كييف فلاديمير زيلينسكي إلى باريس، بجملة واحدة عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي اكس.
وكتب ماكرون، "يستمر العمل في سبيل السلام".
 وقام ماكرون بإرفاق صورة له مع زيلينسكي بالمنشور.
قبل الزيارة، صرح وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو أن زيارة زيلينسكي إلى باريس "ليست عرضية" وأن فرنسا تبذل كل جهد ممكن لضمان "أن يتم كل شيء لصالح السلام في أوكرانيا وأمن أوروبا".
في الأول من ديسمبر وصل فلاديمير زيلينسكي وزوجته يلينا، إلى عاصمة فرنسا للقاء ماكرون. وقبيل الزيارة ذكرت وسائل الإعلام أن زيلينسكي سيبحث مع ماكرون الوضع السائد حاليا حول النزاع الأوكراني وشروط تحقيق سلام دائم.
وبعد اللقاء، أكد قصر الإليزيه أن ماكرون وزيلينسكي، أجريا محادثات مع مبعوث الرئيس الأمريكي، ستيف ويتكوف وعدد من القادة الأوروبيين.
وكانت الخارجية الروسية قد أعلنت في وقت سابق، أن أوروبا منخرطة في "استعراض سياسي ودبلوماسي" حول أوكرانيا.

 

مقالات مشابهة

  • الجيش الأوكراني: استهدفنا مواقع لإطلاق المسيرات الروسية في شبه جزيرة القرم
  • تدخل ترامب في السودان سلاحٌ ذو حدّين
  • إسرائيل تتوغل في الجنوب السوري.. قائد القيادة الشمالية في الجيش: نعمل استباقياً ضد التهديدات
  • تفاهمات أميركية أوكرانية لبحث خطة السلام وإنهاء الحرب في أوكرانيا
  • خالد عمر يوسف: عورة معسكر الحرب بائنة لن تسترها البذاءات
  • «عقار» يجدد دعوة الاستنفار ويؤكد عدم رغبة الجيش في السلطة
  • مباحثات أميركية أوكرانية في فلوريدا لمناقشة إنهاء الحرب مع روسيا
  • معوض للبابا لاوون: أهلاً بكم في لبنان الذي يتوق إلى السلام
  • الاتحاد الأوروبي: روسيا ليس لديها رغبة حقيقية في التفاوض على السلام
  • الجيش الأوكراني: استهدفنا مصفاة أفيبسكي في إقليم كراسنودار الروسي