بلغتنا الجميلة.. ينهض الوطن
تاريخ النشر: 2nd, November 2025 GMT
خالد بن سالم الغساني
أثناء بحثي عن بداية مناسبة للكتابة عن اللغة باعتبارها الرافعة الأساسية للتنمية، تذكرت أنني توقفت مرة أمام حديث رائع عن ماهية اللغة، للمُفكرة، الوزيرة والأديبة السياسية السورية، وأول امرأة عربية تتبوأ منصب نائب رئيس دولة، وزيرة الثقافة سابقًا، السيدة نجاح العطار، حيث كتبت تقول: "اللغة ليست وسيلة تواصل فقط؛ بل هي الأداة التي يتعلّم ويفكّر بها الإنسان، وهي مصدر ثرائه اللغوي والثقافي".
لكنني سأضيف على نهاية الفقرة المُقتبَسة، كلمة "والتنموي"، لقناعة مني بأن التنمية الحقيقية والشاملة، لا يمكن أن تتم بشكل يقترب من الكمال- والكمال لله وحده- إلا بأبناء الوطن ذاته، الذين يتحدثون بلسانه، ويفكرون بلغته ويخططون وينفذون بها.
فاللغة كما أتفق في معظم تعريفاتها، هي وعاء الفكر، ومِرآة الوعي، ومفتاح الفعل الحضاري، وشمولية البناء والازدهار؛ وكل مشروع تنموي وفقًا لذلك، لا يستند إلى اللغة الأم، يظل في رأيي، كياناً يفتقد إلى روحه، وهو هيكل بلا هوية. فحين تُهمَّش اللغة الوطنية، لعدم إدراك أهميتها في كل مفاصل جوانب النهوض بالحياة، من منطلق التسليم بأن العلم والمعرفة، وبالتالي التنمية، لا تؤطرهما لغة بعينها، وهي ممكنة بأي عقول مهما كان لسانها، ببساطة هكذا ودون مراعاة لجوانب كثيرة لا يمكن أن تقوم بها سوى اللغة الأم، تُصاب التنمية بالشلل في أحد أو بعض أطرافها، وتفقد توازنها بين التقدم المادي والرقي الإنساني. لأن اللغة الأم هي أحد أهم أعمدة التنمية الشاملة إن لم تكن العمود الذي لا يستقيم أي بناء بدونه، تتكامل فيها المعرفة والاقتصاد والثقافة والتعليم، في منظومة واحدة تسعى لبناء الإنسان قبل العمران.
اللغة هي التي تمنح التعليم معناه الحقيقي، على أنني هنا لا أنكر، أو أحاول أن أنفي حقيقة أهمية معرفة ودراسة اللغات الأخرى، واستقاء المعارف والمعلومات من خلالها، فمعرفة وتعلّم اللغات الأخرى، أمر مهم ومطلوب بلا شك، لكن البناء الشامل والمتكامل يتم فقط من خلال لغة الوطن التي لا يمكن أن يجيدها ويتقنها سوى أبنائه.
لقد أدركت أمم كبرى هذه الحقيقة مبكرًا، فاليابان بعد الحرب العالمية الثانية لم تنهض بالإنجليزية؛ بل باللغة اليابانية التي طوّعت بها العلم الحديث، وكوريا الجنوبية حين أرادت بناء نهضتها التكنولوجية، جعلت الكورية لغة الجامعات والمختبرات، فاستطاعت أن تنتج المعرفة بدلًا من استهلاكها، وكذلك ألبانيا التي خاضت تجربة فريدة في القرن العشرين، إذ جعلت من اللغة الألبانية أساس التعليم والإدارة والإعلام، فنجحت في ترسيخ هوية وطنية قوية مكّنتها من تجاوز قرونٍ من الانقسام الثقافي، وأسهمت في بناء مؤسسات حديثة تعبّر عن المجتمع بلغته لا بلغة المستعمرين السابقين. والأمر ذاته ينطبق على سورية التي تمسكت منذ بدايات القرن العشرين بالعربية لغةً للتعليم والإدارة والثقافة، فتمكّنت من الحفاظ على تماسكها الثقافي والمعرفي رغم التحديات، وقدّمت نموذجًا عربيًا واضحًا في توطين العلوم وتعريب المناهج الجامعية، ما أتاح لجيلٍ واسعٍ من أبنائها أن يبدع ويفكر وينتج بلغته.
إنّ التنمية الحقيقية علاوة على أنها زيادة في الناتج المحلي وتشييد في البنى التحتية، هي أولًا وقبل أي أمر آخر، مشروع حضاري يقوم على وعي الإنسان بذاته وقدرته على المشاركة في صياغة مستقبله. ولا يمكن أن تتحقق هذه المشاركة إذا كانت لغة التخطيط والإدارة والإعلام بلغة غريبة عن وجدان الناس. فاللغة الأجنبية قد تفتح نافذة على العالم، لكنها لا يمكنها ان تفتح بابًا إلى ذات الأنسان؛ إلى روحه وعقله وطريقة تفكيره. وكم من دولة اعتمدت على اللغات الأجنبية في التعليم والإدارة، فوجدت نفسها أمام جيل منقطع عن تراثه، منفصل عن مجتمعه، يحسن تقليد الآخر ولا يحسن الإبداع من داخله. فبدلًا من أن تكون التنمية وسيلة للتحرر، تصبح أداة تبعية جديدة بأدوات أكثر أناقة. إنني وأنا أقول ذلك، أعي صعوبة شرح الخفايا غير المنظورة، والأدوات غير المحسوسة في باطن اللغة وتأثيرها في كل جوانب العملية التنموية، ولكنني مؤمن بتأثيرها اللامحدود وقدراتها الخلاقة على إحداث الفارق دائمًا وبوضوح.
إنها دعوة الى قليلٍ من التمعن والتفكر ومن ثم البحث فيما يمكن ان تستطيعه اللغة الأم أمام أي لغة أخرى.
حين تكون اللغة الأم هي اللسان الجامع، تتجذر التنمية في الأرض والوجدان معًا. فاللغة توحّد المجتمع حول قيم مشتركة، وتخلق جسرًا من الفهم بين المواطن ومؤسسات الدولة، فتتجلى المشاركة الحقيقية في القرار والإنتاج. إنّ العامل الذي يقرأ تعليمات السلامة بلغته، ويتلقى التوجيهات بلغته، والمزارع الذي يتلقى الإرشاد الزراعي بلسان يفهمه، والطالب الذي يتعلم العلوم بلغته، جميعهم يتحولون من متلقّين إلى متفاعلين ومن ثم فاعلين. وهنا فقط تتحقق التنمية الشاملة التي لا تقتصر على النخب، بل تمتد إلى كل فئات وشرائح المجتمع.
لقد جرّبت كثير من الدول العربية، أن تسلك طريق التنمية بغير لغتها الأم، فكانت النتيجة نموًا اقتصاديًا هشًا وثقافة منقوصة وهويةً مزدوجة. فاللغة المستعارة لا تزرع انتماءً، ولا تخلق هوية؛ بل تزرع تبعية فكرية تجعل النهوض تقليدًا ومؤقتًا ومُجزَّءًا. التنمية التي لا تتحدث بلسان الشعب تبقى متلعثمة، كسيحة، تمشي على قدم واحدة، وربما بقدمين وعكاز، تنهار مع أول اختبار حقيقي.
إنّ الأمم التي تُعلي من شأن لغتها إنما تُعلي في الوقت ذاته من شأن ذاتها. وحين نحافظ على لغتنا، فإننا نحافظ على تراثنا وتاريخنا وهويتنا، قدرتنا على التفكير والإبداع؛ فاللغة ليست ماضيًا جامدًا، إنها حاضرٌ ينمو ويتجدّد، وأداة لبناء المستقبل. ولا يمكن أن نُنتج معرفة حقيقية بلغة نترجم عنها أفكار الآخرين؛ بل حين نجعل لغتنا قادرة على احتضان العلم والتكنولوجيا والفكر الحديث، نصنع استقلالنا الحضاري ونرسم ملامح نهضتنا الخاصة.
لذلك.. فإن التنمية الشاملة لا تتحقق إلّا إذا استندت إلى اللغة الأم، لغة التعليم والإعلام والإدارة والثقافة. وحين يفكر المواطن بلغته، ويبدع بلغته، ويتواصل مع مجتمعه بلسانه، تصبح التنمية عملًا جماعيًا نابضًا بالحياة، لا مشروعًا مستوردًا بملامح غريبة. فاللغة ليست فقط ما نقوله، بل هي من نكون، ومن لا يملك لغته لا يملك مصيره. وهكذا، تبقى اللغة الأم الشرط الأول لأي نهضة حقيقية، والبوصلة التي توجه التنمية نحو الإنسان، لا نحو الأرقام.
هل تساءلنا يومًا: لو كانت العربية هي لغة التخاطب والكتابة والعمل، ولا يعتمد سواها في مؤسساتنا وشركاتنا، هل كان كثير من الوظائف سيظل بعيدًا عن أبناء الوطن؟ أو ليست اللغة الأجنبية التي تهيمن على قطاعات الخدمة والتقنية والإدارة قد أقصت آلاف الكفاءات المحلية التي تملك القدرة، لكنها لا تملك اللسان المطلوب؟ أليس من الممكن أن تُفتح آفاقًا جديدة للعمالة الوطنية لو جعلنا لغتنا الرسمية أداة التعامل الفعلي في الدوائر والمشروعات والمهن؟
إننا حين نعيد الاعتبار للغتنا في الحياة العملية، لا نحمي هويتنا الثقافية فحسب، بل نخلق فرصًا اقتصادية حقيقية، ونمنح أبناء الوطن حقهم الطبيعي في أن يكونوا شركاء في التنمية، لا غرباء في وطنهم.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
أحمد موسى يقترح تدريس اللغة المصرية القديمة في المدارس
أشاد الإعلامي أحمد موسى بحالة الفخر والسعادة التي يعيشها المصريون هذه الأيام، مؤكدًا أن الشعب المصري بطبعه جدع وقوي، ويشعر بعزة كبيرة بما تحققه مصر من إنجازات وحضور عالمي مميز.
الحالة الوطنية الجميلةوقال موسى، خلال تقديم برنامج على مسئوليتي والمذاع عبر قناة صدى البلد، إن "المصريين جدعان أوي، ودي حاجة قوية جدًا، وكل الناس فرحانة وبتتابع وبتتفرج على اللي بيحصل"، مشيرًا إلى أن هذه الحالة الوطنية الجميلة تنعكس حتى على الأجيال الصغيرة، وأضاف: "حفيدي عنده 8 سنين، وبيتكلّم عن المتحف والمدرسة والحضارة المصرية القديمة".
وفي هذا السياق، اقترح موسى على وزير التربية والتعليم أن تبدأ الدولة في التفكير الجاد في تدريس اللغة المصرية القديمة ضمن المناهج الدراسية، قائلا: "دا تاريخنا ومفيش حد ينسهولنا، وتدريس اللغة دي علم وتاريخ عظيم لازم أولادنا يعرفوه".
تدريس اللغة المصرية القديمةوأكد أن تدريس اللغة المصرية القديمة يجب أن يكون مادة أساسية في المدارس، قائلاً: "لو بدأنا نطبق الفكرة دي، نكون بنحافظ على حضارتنا اللي العالم كله بيحتفل بيها دلوقتي"، مشددًا على أن الحضارة المصرية القديمة هي أساس الهوية الوطنية ومصدر فخر لكل مصري.