كان سجناء سابقون ضيوفا مميّزين للطلبة في فعالية أقامتها مؤخرا جامعة أتينيو. هؤلاء أعضاء في برنامج تشرف عليه «خدمة السجون اليسوعية الفلبينية» (PJPS)، حيث يصنعون القهوة ويبيعونها سبيلا للعودة إلى المجتمع بعد سنوات خلف القضبان.
يحمل البرنامج اسما طريفا عميق الدلالة «Ex-Preso»، لعب على كلمتَي «سجين سابق» «Ex-» prisoner» و«إسبرِسّو»؛ ماض يلتقي بفنجان قهوة يقدّمونه اليوم.
تكاد لا توجد في البلاد برامج حقيقية لإعادة الإدماج. لذلك تعمل PJPS منذ عقود على مساعدة من يخرجون من السجن، وهم غالبا ما يعودون إلى عالم تغيّر كثيرا ولا يرحم.
و«Ex-Preso» ليس برنامج كسب معيشة يُقاس بالربح فقط؛ إنه يساند رحلة التكوين من جديد. تصبح القهوة استعارة بليغة: فبطءُ التخمير «نقع مقصود للهوية والثقة والاندماج»، كما يرد في موقع PJPS.
لا يتعلّم السجناء السابقون صنع القهوة وحسب، بل أيضا الالتفات إلى الداخل للتأمل، وإلى الخارج للحوار. يتيح لهم البرنامج أن يستعيدوا زمام حياتهم؛ أن يروا أمكنة طالما حلموا بزيارتها مع ترحال شاحنة «Ex-Preso» بين موقع وآخر؛ وأن يرووا حكاياتهم لمن يختار الإصغاء لا الإدانة.
في تلك الفعالية لم يُتح للطلبة أن يسمعوا شهادات السجناء السابقين فحسب، بل أن يتفكّروا بعمق في معنى الحرية. بالنسبة إلى أعضاء «Ex-Preso»، لم تُكتسب الحرية بمجرد تبديل المكان؛ إنها تُبنى كلَّ يوم بجهد متواصل، وهم يُعيدون اكتشاف ذواتهم. ويشتدّ هذا المعنى حين يُطلب منهم الاندماج في مجتمع يرى الجريمة أحيانا وصمة دائمة؛ وفي عائلات سبق أن صوّتت لرئيس إثر الإدانة على السعي إلى الإصلاح؛ وفي عالم تفوق فيه وصمة الخطيئة قدرة مجتمع يُسمّى كاثوليكيا على الغفران.
كان بعض طلابي السابقين حاضرين الجلسة، وكتبوا بمحبة عن لقاءاتهم. دوائر النقاش الصغيرة قرّبت بين الطلبة وأعضاء «Ex-Preso»، حتى غدت الفوارق بين مَن عاشوا عقودا معزولين عن العالم وبين أقرانهم قليلةً إلى حد لافت.
كما قال أحد السجناء السابقين: «Lahat naman tayo may kasalanan, kami lang ‘yung nahuli.» أي: «كلّنا خطّاؤون؛ نحن فقط من جرى القبض عليهم».
كان الأحد الماضي «أحد التوعية بالسجون»، وجاء تذكيرا في أوانه بطبيعة السجن كما نتصوّرها غالبا: نخلط بين السجن والحبس بوصفه مطرقة عدالة تُهوِي لإقصاء «وحش» عن العالم؛ وحكما يُنزِل الإنسان منزلة حيوان متعطّش للدم لا بدّ من تقييده؛ وغضب مجتمع ينظر إلى السجناء بخوف وإلى المفرَج عنهم باحتقار.
السجن، مع ذلك، يتكلّم أيضا عن القضبان التي نبنيها حول أنفسنا، وتلك التي نرثها. منذ سنوات يستخدمه الفلاسفة وعلماء الاجتماع استعارة: «البانوبتيكون» عند جيرِمي بنثام يمثّل المراقبة والتنازل عن الحريات المدنية. و«القفص الحديدي» عند ماكس فيبر يصف مجتمعا صناعيا بلغ فيه التخصّص حدّه الأقصى وتشعّبت فيه البيروقراطية باسم الكفاءة، حتى انتُزعت منا الإبداع والحرية.
بوسع معلّم التعليم المسيحي أو عالم النفس أن يتحدّث بلا نهاية عن سجن الرذائل والجشع والرغبة. وقد يصف ملحد الإيمان الديني بأنه سجن للعقل. هناك الكثير ممّا يُقال عن القضبان، والقليل جدا ممّا يُقال باسم التعاطف مع أولئك الذين خلّفوها وراءهم.
في السنوات الأخيرة، رأينا مجتمعا ينمو على الإنترنت دفع بسردية «المدمن اليائس الخارج عن السيطرة» الذي تحوّل، في المخيال العام، إلى وحش أبدي المسؤول عن كل علل المجتمع، آفة ينبغي استئصالها.
لم تكن هناك محاكمة عادلة للفقراء، ولا مساءلة للهياكل الاجتماعية المكسورة التي قادت فعليا إلى التعاطي، وقليل جدا من الشك في الإحصاءات التي زعمت أننا نغرق في المخدرات بحيث لا مفرّ إلا «التطهير».
مات الفقراء في الشوارع، وفرّ الأشرار المترفون إلى قصورهم. خلّف المتّهمون عائلات ثكلى، بينما دلّل الأشرار الأحياء عائلاتِهم بالترف.
وحين أحيل المُحرِّض إلى المحكمة الجنائية الدولية للمحاكمة، ارتفع فجأة صخب يطالب بالعدالة والفهم والتعاطف والإجراءات الأصولية، وكلّها لم تُمنَح للأصوات التي أُسكتت إلى الأبد، وكلّها تُمنح الآن فعليا في قاعة مكيّفة في بلد آخر، حيث يُعامل السجناء بإنسانية.
الصخب عال على الشبكات، واحتجاجات الواقع تبدو مثيرة للسخرية إذا ما قورنت بالاحتجاجات على الفساد. في نداء للحرية لشخص واحد لم يُبدِ رحمة بمن حُرِموا منها، يصنع المتظاهرون قضبانهم الحديدية بأنفسهم: يتشبّثون بعقائدهم بإفراط، ويتجاهلون كل الأدلة التي تُدين أصنامهم بالشر، ويُدينون من يقولون الحقيقة اليوم.
أعضاء ـ «Ex-Preso» كما قال أحدهم ـ «كلّنا خطّاؤون، نحن فقط من تمّ القبض عليهم»، وها هم اليوم يَغْلون القهوة بحرية. أمّا أولئك الغُلاة، فما زالوا يعيشون في سجن بنوه حول أنفسهم.
إينيز بونس دي ليون أكاديمية وكاتبة عمود فلبينية، أستاذ مشارك في قسم الاتصالات بجامعة أتينيو دي مانيلا بالفلبين.
عن صحيفة الباحث الفلبينية
تمت الترجمة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الفتى الذي غير التاريخ.. القصة الحقيقية لاكتشاف مقبرة توت عنخ آمون
قبل أكثر من قرن، وتحديدًا في الرابع من نوفمبر عام 1922، طن العالم أن عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر هو مكتشف مقبرة الفرعون الذهبي توت عنخ آمون، لكن خلف هذا الاسم الشهير، تقف حكاية فتى مصري من النوبة، لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، اسمه حسين عبد الرسول، كان يعمل ضمن فريق الحفريات في وادي الملوك بالأقصر.
كان حسين عبد الرسول، يعمل كسقّاء مسؤول عن تزويد العمال بالمياه أثناء الحفر في صحراء الأقصر القاحلة، وفي صباح أحد الأيام، وبينما كان يضع جرته جانبًا ليستريح قليلًا، لاحظ وجود حجر صغير يبرز من الرمال، حاول أن يزيله بيديه الصغيرتين وهنا ظهرت أمامه أول درجة من سلم حجري غريب.
جرى حسين على المشرفين ليخبرهم بما رآه، فتوقف العمل في الموقع، واستدعى هوارد كارتر الذي بدأ على الفور إزالة الرمال بحذر، ليظهر أمامه درج يؤدي إلى باب مغلق، كان عليه ختم ملكي لم يُر مثله من قبل، وبعد أيام من العمل المتواصل، فتح الباب، لتكشف واحدة من أعظم المقابر الملكية في التاريخ، وتعلن للعالم ميلاد أهم اكتشاف أثري في القرن العشرين: مقبرة توت عنخ آمون كاملة بمحتوياتها المذهلة.
ورغم أن اسم كارتر تصدر الصحف والمجلات حول العالم، إلا أن التاريخ المصري لم ينسَ الخطوة الأولى التي غيرت مجرى علم الآثار، وهي خطوة حسين عبد الرسول، الفتى الذي وضع قدمه على أول درجة للمقبرة، ففتح بذلك بابًا إلى كنز لا يُقدّر بثمن.
واليوم، وبعد مرور 103 أعوام على هذا الحدث التاريخي، ومع انتقال كنوز توت عنخ آمون إلى المتحف المصري الكبير في الجيزة، يستعيد المصريون فخرهم بهذا الشاب النوبي الذي كتب التاريخ دون أن يحمل لقبًا علميًا أو شهرة إعلامية.
لقد آن الأوان أن يذكر اسمه بين العظماء، وأن يعرف أن وراء كل اكتشاف مصري عظيم، هناك سواعد مصرية ووجوه نوبية شريفة، حفرت في الصخر لتعيد للعالم مجد أجدادها.