المنصب يدور ولا يدوم
تاريخ النشر: 12th, November 2025 GMT
سلطان بن محمد القاسمي
أحيانًا، لا تأتي الدروس الكبرى في الحياة من الكتب ولا من التجارب الشخصية؛ بل من مشاهد عابرة تمر أمامنا كهمسة خافتة، لكنها تترك في القلب صدى طويلا. مشهد بسيط، جملة قصيرة، أو حتى خبر عادي، كفيل بأن يعيد ترتيب أفكارنا عن الحياة، والعمل، والوجود، وما الذي يستحق حقا أن نمنحه عمرنا.
رأيت يوما تغريدة كانت أشبه بمرآة للعمر. لم تكن فخمة الألفاظ، ولا مزينة بالبلاغة، لكنها حملت من الصدق ما يكفي ليوقظ ضميرا غافلا. كانت تحكي عن موظف رحل (توفى)، لم تمض أيام حتى بدأت الموارد البشرية في تجهيز إعلان "الوظيفة الشاغرة"، بينما عائلته لا تزال تبكيه، وتبحث في تفاصيله الصغيرة عن بقايا حياة لن تعود.
كم بدت الصورة مؤلمة وبسيطة في آن واحد! مؤلمة لأنها تذكرنا بأن الحياة لا تتوقف على أحد، وبسيطة لأنها الحقيقة التي نتجاهلها كل يوم ونحن نقنع أنفسنا أن العمل أهم من الراحة، وأن السعي الدائم نوع من البطولة، وأننا غير قابلين للاستبدال. والحقيقة أن كل كرسي يملأ بغيرنا في لحظة، وكل مهمة ينجزها شخص آخر، بينما لا أحد يمكنه أن يملأ مكاننا في قلوب من نحب.
هنا، يتوقف الزمن قليلا ليفتح أمامنا سؤالًا صادقًا: كم خسرنا من أعمارنا ونحن نلهث لنرضي الآخرين، ونسينا أن نرضي أنفسنا؟ كم مرة عدنا إلى بيوتنا بأجساد مرهقة وأرواح خاوية، نخفي تعبنا بابتسامة باهتة ونقول لأنفسنا: "سأرتاح لاحقا"؟ كم مرة أجلنا لقاء عائليا، أو جلسة هادئة مع من نحب، بحجة أن الوقت لا يسمح؟
لقد أصبحنا نقدس الانشغال كأنه وسام شرف، ونتعامل مع الراحة كأنها ترف لا يليق بالمجتهدين. بينما في الحقيقة، التوازن هو قمة الوعي، والاعتدال هو أكمل صور النجاح. فالحياة لا تقاس بعدد المشاريع المنجزة؛ بل بقدرتك على أن تظل إنسانا وسط كل هذا الضجيج.
أتذكرُ رجلًا عرفته ذات يوم، كان مثالا للجد والاجتهاد. لم يكن يتأخر يوما، وكان يحمل في قلبه شغفا لا يخمد. كل من حوله كان يصفه بأنه لا يتعب. لكن الحقيقة أن التعب كان يسكنه بصمت، إلى أن جاء اليوم الذي لم يستطع فيه النهوض من فراشه. قال حينها بصدق موجع: "كنت أظن أن العمل لا يسير بدوني، فاكتشفت أنني أنا الذي لم أسر بدوني."
ذلك الاعتراف كان أصدق ما سمعته في حياتي. لأننا حين ننسى أنفسنا في زحام الإنجاز، نفقد بوصلة الوعي، ونمنح الآخرين أفضل ما لدينا، ونبقي لأنفسنا البقايا. حينها، يصبح النجاح بلا طعم، والحياة بلا لون، لأن ما يبهجنا فيها ليس ما ننجزه فقط؛ بل من ننجز من أجلهم، وكيف نعيش معهم في سكينة وامتلاء.
وقد وضع الإسلام هذا التوازن قاعدة لا غنى عنها، حين قال الله تعالى: "ولا تنس نصيبك من الدنيا"، في تذكير رباني بأن السعي لا يجب أن يسرقنا من أنفسنا، وأن الحياة ليست عبادة العمل فقط؛ بل عبادة الوعي والتوازن. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"إن لبدنك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا"، يكتمل المعنى بوضوح، فالنفس ليست آلة تعمل بلا توقف؛ بل أمانة تستحق الرعاية والرفق.
إن الراحة ليست ضعفا، والتوقف ليس كسلا؛ بل وعي بحدود الطاقة الإنسانية. فكما تحتاج الأرض إلى موسم راحة لتثمر من جديد، تحتاج الروح إلى لحظة هدوء كي تستعيد قدرتها على العطاء. إنك حين تمنح نفسك وقتا للسكينة، لا تقلل من إنتاجك؛ بل تضاعف من قيمته وجودته.
فلا تجعل العالم يقنعك أن الاستمرار في الركض هو النجاح. فبعض التوقفات تنقذ حياتك، وبعض الصمت يعيدك إلى نفسك. تذكر دائما أن العمل سيعوض، أما وجودك فلن يعوض أبدا. لا تؤجل نفسك إلى حين، ولا تنتظر الإنهاك لتقول:"كفى".
اغلق الحاسوب إن شعرت بالتعب، قل "لا" لمهمة يمكن أن تنتظر، واجلس مع من تحب دون جدول زمني. ابتسم لصغارك، أو امش وحيدا مع فكرة جميلة، أو اقرأ شيئا ينعش قلبك. لأن اللحظات الصغيرة التي تؤجلها، هي في الحقيقة ما يصنع عمرك.
وتذكر، لن يتذكرك الناس بعدد ساعات عملك؛ بل بطيب أثرك، ودفء حضورك، وصدق إنسانيتك. العمل سيبقى، والمناصب ستتبدل، لكنك أنت لن تتكرر.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بطيء وزهيد: لماذا عليك خوض رحلة بالحافلات والقطارات عبر إسكندينافيا هذا الشتاء
تعدّ إسكندنافيا من أغلى وجهات أوروبا، لكن اختيار وسيلة النقل المناسبة يمكن أن يحقق وفورات مالية كبيرة في الميزانية للمسافرين.
تعد إسكندنافيا وجهة شتوية محبوبة على الدوام، فهي تغري الزوار بمناظرها المكسوة بالجليد، وأنشطتها التقليدية مثل الزلاجات التي تجرها الكلاب، وبثقافة "هيغه" بوصفها ذروة ثقافة الدفء والأنس.
وفوق ذلك، وعلى الرغم من أن إسكندنافيا تعد مكانا موثوقا لرؤية الشفق القطبي، فإن هذه الظاهرة السماوية ستكون شديدة الكثافة بشكل خاص هذا الشتاء في ظل ذروة في النشاط الشمسي.
وفق موقع حجز وسائل النقل Omio، ارتفعت عمليات البحث على محرك "غوغل" عن "عطلة شتوية" بنسبة 145 في المئة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وقفزت عمليات البحث عن "عطلات ستوكهولم" بنسبة 322 في المئة، و"عطلات كوبنهاغن" بنسبة 27 في المئة.
وتعد إسكندنافيا من أغلى الوجهات في أوروبا، غير أن اختيار وسيلة النقل المناسبة قد يعني وفورات كبيرة.
وقد أجرى "Omio" الحسابات وتبين أن بإمكانك التجوال في المنطقة بأقل من 200 يورو إذا التزمت بالقطارات والحافلات، وذلك لما فيه فائدة لجيبك وللكوكب.
رحلة بالقطار من كوبنهاغن إلى غوتنبرغتعد كوبنهاغن نقطة انطلاق مثالية لرحلة عبر إسكندنافيا، إذ إنها الأسهل من حيث التواصل مع بقية أوروبا. وهي متاحة للوصول خلال يوم واحد من العديد من المدن الكبرى، بما فيها باريس وبروكسل وأمستردام.
اعتبارا من مايو 2026 ستربط خدمة نهارية جديدة براغ وبرلين بالعاصمة الدنماركية.
ومن المتوقع أن يبدأ قطار ليلي جديد تشغله السكك الحديدية الفدرالية السويسرية العمل في أبريل العام المقبل. سيربط بازل بمطار كوبنهاغن، ومن هناك يمكنك ركوب خدمة قطار حضري إلى المدينة.
قبل الانطلاق في مغامرتك على السكك الحديدية، أفسح بعض الوقت للتجول في شوارع كوبنهاغن الأنيقة، والتنقل بين الحانات ذات الطابع البديل في المدينة، والتسوق في المتاجر الإسكندنافية المستقلة، أو القيام بزيارة احتفالية إلى حدائق تيفولي، ثاني أقدم مدينة ملاهٍ في أوروبا.
من العاصمة الدنماركية، يمكنك ركوب قطار إلى مالمو مقابل 16 يورو فقط، وفق "Omio". وعلى الرغم من أنهما في بلدين مختلفين، فإن المدينتين متقاربتان جدا لا يفصل بينهما سوى جسر "أوريسوند" بطول 16 كيلومترا.
مالمو تضم مركزا صغيرا يسهل التجول فيه سيرا على الأقدام، يجمع بين بلدة قديمة مرصوفة بالحجارة ومنشآت مستقبلية مثل "Turning Torso"، أطول مبنى في إسكندنافيا.
بعد قضاء يوم أو يومين في هذه المدينة الساحلية السويدية، استقل رحلة قصيرة بالقطار إلى غوتنبرغ مقابل 27 يورو فقط.
وتقدم ثاني أكبر مدن السويد الكثير مما يمكن رؤيته وفعله، من التنزه في حي "هاغا" حيث بيوت خشبية محفوظة تعود إلى القرن التاسع عشر، إلى تذوق المأكولات البحرية الطازجة في سوق "Feskekörka" للسمك الذي يبدو ككاتدرائية.
استقل الحافلة من غوتنبرغ إلى ستوكهولممن غوتنبرغ، توجه بالحافلة إلى أوسلو في النروج؛ تستغرق الرحلة أقل من أربع ساعات وتبدأ التذاكر من 18 يورو.
تضم أوسلو عدة متاحف مرموقة، بينها "MUNCH" المكرس للفنان النروجي إدفارد مونك، وشوارع من مباني "آرت نوفو" الأنيقة.
كما أنها بوابة إلى طبيعة النروج البكر. جرّب التنقل بين الجزر في "أوسلوفورد" لاكتشاف جزر خضراء وقرى صيد وشلالات.
من أوسلو، يمكنك بدء رحلة العودة، مع التوقف هذه المرة في ستوكهولم. يمكن الوصول إلى العاصمة السويدية بالحافلة بأسعار تبدأ من 37 يورو. تستغرق الرحلة أكثر من سبع ساعات، لكن يمكنك الاستمتاع بالمشاهد البرية خارج النوافذ طوال الطريق.
خصص وقتا في ستوكهولم لممارسة طقس "فيكا"، أي لحظة استراحة مع قهوة وحلوى، ولإطلاق العنان لصوتك في المتحف التفاعلي لفرقة ABBA.
ثم العودة بالحافلة إلى كوبنهاغن، في رحلة تستغرق عشر ساعات لكنها قد تكلف 36 يورو فقط.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة كوبنهاغن النقل بالسكك الحديدية قطارات أوسلو
Loader Search
ابحث مفاتيح اليوم