تعيد الذكرى الوطنية العظيمة لعيد الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر إحياء واحدة من أهم لحظات التاريخ اليمني الحديث، اليوم الذي رحل فيه آخر جندي بريطاني عن أرض اليمن عام 1967 بعد عقود من الاحتلال والمعاناة والكفاح المسلح الذي خاضه اليمنيون من أجل الحرية والسيادة والكرامة. وفي كل عام تتحول هذه المناسبة إلى محطة تأكيد جديدة بأن روح التحرر التي صنعت النصر بالأمس ما تزال نابضة في وجدان هذا الشعب، وأن الاستقلال لن يتحول يوماً إلى صفحة من الماضي، بل هو مسار مستمر يتجدد بتجدد التحديات ومحاولات الهيمنة على اليمن وأرضه وثرواته.

الفعاليات الشعبية التي شهدتها العاصمة صنعاء وعدد من المحافظات الحرة تعبير واضح عن هذا المعنى، فقد توحدت الجموع من ميدان السبعين الى حارس البحر الأحمر وتعز وإب وذمار وحجة وصعدة والضالع وغيرها من الساحات تحت راية الوطن، وارتفع الصوت عالياً بأن اليمن سيظل شامخاً، وبأن مشروع التبعية والوصاية لن يجد له موطئ قدم في أرض اعتادت أن تكون مقبرة للغزاة والطامعين. وتأتي الهتافات التي ترددت بشعار «التحرير خيارنا… والمحتل إلى زوال» كمقياس حي لإرادة لا تكل ولا تقبل بأنصاف الحلول، إرادة تعتبر الحرية جزءاً أصيلاً من طبيعة اليمني وهويته وشخصيته التاريخية.

إن الربط بين ذكرى طرد الاستعمار البريطاني وبين ما يواجهه اليمن اليوم يعكس وعياً جماعياً عميقاً بأن الظلم الاستعماري مهما تغيّرت وجوهه وأعلامه يبقى في جوهره واحداً. فكما رفض اليمنيون حكم الإمبراطورية البريطانية، يرفضون اليوم كل تدخل أجنبي يسعى للهيمنة عبر الحصار أو العدوان أو محاولة السيطرة على القرار السياسي والاقتصادي. وتظل الذاكرة النضالية للشعب اليمني سلاحاً معنوياً مؤثراً، تذكّر الأجيال بأن لا قوة على وجه الأرض تستطيع انتزاع سيادة وطن مستعدٍ للدفاع عن نفسه.

اللافت في المشهد أن القضية الفلسطينية حضرت بقوة في المناسبة، إذ ارتفعت الأعلام الفلسطينية إلى جانب العلم اليمني، في تأكيد على أن اليمن يعتبر نفسه جزءاً من معركة الأمة ضد الاحتلال والظلم في أي مكان من العالم. هذه المواقف الشعبية العفوية ليست شعارات للاستهلاك، بل هي تعبير عن انتماء حضاري عميق يرى في تحرير اليمن جزءاً من تحرير أوسع للأرض والإنسان من الاستعمار ومخلّفاته.

وفي سياق المناسبة، برز موقف دبلوماسي لافت تمثل في رسالة تهنئة نشرتها السفارة البريطانية في اليمن، تحدثت بعبارات ودية عن «العلاقات بين اليمن والمملكة المتحدة» و«إرادة اليمنيين»، متجاهلة حقيقة أن هذه المناسبة ليست احتفالاً بالعلاقات الدبلوماسية بل ذكرى طرد الاحتلال البريطاني نفسه. هنا تفرض الذاكرة الوطنية دورها كمرآة تكشف محاولات القفز على التاريخ وتقديم صورة مغايرة لما حدث، فاليمن لا ينسى أن الاستعمار الذي يحاول اليوم أن يظهر بمظهر «الشريك الداعم» هو ذاته الذي ارتكب فظائع بحق المدنيين والثوار، وخرج مذعوراً أمام تضحيات الأحرار من أبناء هذا الوطن.

هذا التعاطي البريطاني مع ذكرى الاستقلال يكشف توجهاً يسعى لإعادة بناء النفوذ بطرق ناعمة تقوم على الخطاب السياسي والاقتصادي بدل المدفع والدبابة. غير أن اليمن الذي دفع ثمن السيادة دماً ومعاناة، لن يسمح بإعادة تعريف الماضي أو الحاضر وفق مصالح الآخرين، فالعلاقة مع العالم تبنى على الاحترام المتبادل، لا على طمس الحقائق أو تلميع تاريخ استعمار لا يمحى من ذاكرة الشعوب.

المعادلة التي جددها اليمنيون بهذه المناسبة واضحة: لا سلام دون سيادة، ولا استقرار دون رحيل أي وجود أجنبي عن كل شبر من الأرض اليمنية، ولا مستقبل دون استلهام قيم الحرية التي حملها الشهداء على أكتافهم حتى لحظة النصر. وهذا الحضور الشعبي الكبير يعيد تأكيد أن الشعب اليمني هو صاحب القرار الأول والأخير، وأن خياراته الوطنية ليست قابلة للمساومة مهما اشتدت الضغوط وتعاظمت المؤامرات.

إن البعد الوطني لهذه المناسبة يضع على عاتق القيادة الوطنية مسؤولية مضاعفة لترجمة هذا الوعي الشعبي إلى مواقف عملية تحافظ على السيادة وتعزز الصمود وتواصل مشروع التحرير حتى يتحقق كاملاً. ففي كل ذكرى للثلاثين من نوفمبر تتجدد العهود ويتجدد معها الإيمان بأن الحق لا يموت، وأن الاحتلال ـ كائنًا من كان ـ مصيره الزوال.

واهم من يظن أن 30 نوفمبر حدث مر وانقضى، فهو ميثاق وطني خالد يوقعه اليمنيون عاماً بعد عام ولسان حالهم يقول: سنحافظ على استقلالنا، وسنستكمل تحرير بلادنا، وسنظل أوفياء لتاريخنا وشهدائنا. واليمن سيبقى حراً… والمحتل إلى زوال.

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

الجيل الناهض .. قصة الصمود اليمني التي كتبت بالوعي والإيمان

لم يكن الصمود اليمني خلال سنوات العدوان، مجرد فعل مقاومة ظرفي، بل تحوّل إلى حالة صمود ووعي متنامي ومستمر، تشترك فيه جميع الفئات العمرية، ويشارك فيه المجتمع بكل ثقله، ومع مرور الوقت، برزت ملامح هذا الصمود في مشاهد كثيرة، كان أبرزها ذلك الحضور الكثيف للأطفال في الفعاليات الشعبية والوقفات الجماهيرية، حيث أصبحت الوجوه الصغيرة رمزاً لمرحلة جديدة من التماسك المجتمعي، ودلالة على أن الإرادة اليمنية لم تتراجع رغم التحديات.

يمانيون / خاص

 

حضور يتقدّم الصفوف ويرسم لوحة صمود فريدة

كانت الفعاليات الشعبية التي تقام في مختلف المحافظات الحرة تشهد مشاركة ملحوظة من الأطفال، جيل المسيرة القرآنية المباركة، وكان حضورهم في البداية يبدو تلقائياً، مرافقين لآبائهم وأمهاتهم، ثم ما لبث أن تحوّل إلى جزء أصيل من الصورة الجماهيرية.
أصبحوا يسيرون في مقدمة المسيرات، يلوّحون بالأعلام، ويرفعون لافتات بسيطة تعكس إيمانهم وتعكس ما يتلقونه من وعي وثقافة بأن الصمود فعل جماعي يتجاوز حدود العمر.

هذا الظهور المتكرر لم يكن مجرد عنصر جمالي في المشهد، بل كان إشارة واضحة على أن المجتمع اليمني يربّي جيلاً يعرف مبكراً معنى الولاء والانتماء وروح المسؤولية والهوية الإيمانية.
فحتى في المسيرات الكبرى التي تحشد الملايين، تبقى الوجوه الصغيرة الحاضرة في الصفوف الأولى علامة لافتة، تجسد انتقال الصمود من جيل لآخر بصورة تلقائية، غير مصطنعة.

 

الصمود .. ثقافة تنمو مع الأطفال

من أبرز العوامل التي أسهمت في نمو هذا الوعي لدى الأطفال، عودة النشاط الواسع للمراكز الصيفية التي شهدت إقبالاً كبيراً خلال السنوات الأخيرة، فقد تحولت هذه المراكز  إلى منظومات تربوية وثقافية تُعنى ببناء وعي الناشئة، وتعزيز ارتباطهم بالقيم الأخلاقية والإنسانية والهوية الإيمانية التي تشكّل جزءاً من النسيج الاجتماعي اليمني.

تقدم هذه المراكز برامج في العلوم الشرعية والأخلاقية، إضافة إلى الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية، مما جعلها بيئة جاذبة للأطفال والشباب.
وقد بدت الفعاليات الختامية للمراكز الصيفية في الأعوام الأخيرة بمثابة مؤشر مجتمعي يُظهر حجم المشاركة، حيث يكتسي المشهد بنبرة التفاؤل بجيلٍ جديد يحمل المعرفة والثقة والوعي.

 

جيل يتسلّح بالوعي والثقافة القرآنية ..  ودلالات التحول المجتمعي

ساهمت هذه المراكز في بناء شخصية متوازنة لدى جيل المسيرة القرآنية المباركة، تتسلح بالمعرفة وتنفتح على الفكر، مما جعل الجيل الناشئ أكثر قدرة على استيعاب الأحداث من حوله، وفي الوقت ذاته، عززت هذه التجارب روح الانتماء لدى الناشئة، إذ تتلاقى فيها التربية مع الهوية، والثقافة مع الوعي.

ولم يكن غريباً أن ينعكس هذا الزخم على الخطاب العام، إذ خصّ السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي يحفظه الله ،هذا الجيل بتوصيف لافت في أحد خطاباته الهامة، معبراً عن تأثره بحجم الإقبال على المراكز الصيفية ومشاركة الأطفال في الفعاليات الشعبية، فأشار إلى أن هذا الجيل الآخذ في النهوض يمتلك من الوعي والثبات ما يجعله قادراً على مواجهة التحديات، مستخدماً عبارته الشهيرة ذات الدلالة الرمزية، ’’الويل لكم من هذا الجيل الناهض’’.

وفي مدلولها الاجتماعي يُقرأ هذا التوصيف باعتباره إقراراً بوجود تحوّلٍ حقيقي في بنية الوعي لدى الجيل الجديد، جيل القرآن، جيلٍ لا يقف عند حدود المتابعة، بل يشارك، يتعلم، ويعيد صياغة حضوره في المجتمع.

 

الفعاليات الشعبية .. مسرح يتجلّى فيه الصمود الجماعي

لقد أصبحت الساحات العامة في كل المدن اليمنية الحرة مسرحاً اجتماعياً تلتقي فيه الحشود من مختلف الأعمار، لكن حضور النشء فيها يضفي طابعاً إنسانياً يعكس جمال الصورة التي ملأت الساحات .
فالابتسامات التي يتبادلونها، والمواقف العفوية التي يظهرون بها، تمنح الفعاليات قدراً كبيراً من الحيوية والأمل، وتكشف في الوقت ذاته عن عمق الروابط المجتمعية التي لا تزال متماسكة رغم الظروف.

حتى كبار السن المشاركين في هذه الفعاليات بدوا وكأنهم يستمدون قوتهم من الأطفال أنفسهم، فوجود الجيل الناشئ في مقدمة المسيرات يجعل الجميع يشعر أن الصمود ليس مجرد رد فعل مؤقت، بل هو بناء طويل المدى يرتكز على تواصل الأجيال.

 

المراكز الصيفية والفعاليات .. خطان متوازيان في بناء الهوية

حين يتأمل المتابع الخارجي مشهد الفعاليات إلى جانب المراكز الصيفية، يدرك أن اليمن يعيش حالة من التحول الإيجابي في البناء الثقافي والتوعوي للجيل الجديد، فالمراكز تقدّم التعليم والوعي القرآني، بينما تقدّم الفعاليات الخبرة الاجتماعية المباشرة وترسيخ القيم، ومن مجموع هذين المسارين يولد جيلٌ أكثر تماسكا ووعياً.

وقد لاحظ كثير من المهتمين بالشأن الاجتماعي أن الأطفال الذين يشاركون في الفعاليات هم أنفسهم الذين يزداد حضورهم في المراكز الصيفية، وهذا الترابط يعكس أن الصمود اليمني لا يعيش على الاندفاع العاطفي، بل يتغذى على وعي يترسخ داخل الأسرة والمجتمع والمؤسسات التعليمية.

 

 جيلٌ يصنع الحكاية

يستطيع المراقب اليوم أن يقرأ ملامح المستقبل في وجوه الجيل القرآني الناشئ الذين يسيرون في الصفوف الأولى، وفي اندفاعهم إلى المراكز الصيفية، وفي الحماسة التي يظهرونها في كل مناسبة عامة، إنهم ليسوا مجرد متفرجين على لحظة تاريخية صعبة، بل هم جزءٌ من معادلة الصمود، وربما أهم أركانها.

وهكذا تتشكل قصة الصمود اليمني كحكاية تُكتب على مراحل، الكبار يصنعون المواقف، لكن الصغار يعطونها معناها الأعمق.
الفعاليات تصنع الحضور، والمراكز الصيفية تصنع الوعي، والمجتمع بجميع فئاته يصنع روحاً جديدة تتقدم نحو المستقبل بثبات وثقة.

إن هذا الجيل، الذي وصفه خطاب السيد القائد حفظه الله،  بأنه ’’ناهض’’، أثبت بالفعل أنه قادر على حمل الراية، وأن الصمود اليمني ليس قصة تروى، بل واقع يعيشه الصغار قبل الكبار، ويعيدون صياغته كل يوم بحضورهم ووعيهم وإيمانهم

مقالات مشابهة

  • بريطانيا تحقق بتستر ضباط على جرائم حرب بأفغانستان
  • 30 نوفمبر.. يوم التحرير الذي يعرّي حقيقة المواقف اليوم
  • يوم التحرير الذي يعرّي حقيقة المواقف اليوم
  • المحضار: الـ 30 من نوفمبر يوم عظيم في تاريخ الشعب اليمني ونضاله التحرري المستمر
  • اليمن في يوم الثلاثون من نوفمبر المجيد يرفع راية الاستقلال في وجه الاحتلال الجديد
  • محافظ المهرة: الـ 30 من نوفمبر يوم استثنائي في تاريخ نضال الشعب اليمني وكفاحه المسلح
  • العليمي في ذكر 30 نوفمبر: اليمن الآمن والمستقر بات أقرب من أي وقت
  • في خطاب عيد الاستقلال .. الرئيس المشاط : اليمن الذي طرد الاحتلال البريطاني بالأمس قادرٌ بأن يحميَ سيادته ويصونَ كرامته وأن يصمدَ في وجه كل غازٍ
  • الجيل الناهض .. قصة الصمود اليمني التي كتبت بالوعي والإيمان