حارة اليمن.. مبادرات لاستثمار التراث وإحياء جدران الطين
تاريخ النشر: 2nd, December 2025 GMT
كتبت - رهام بنت ناصر القصابية
تتميز ولاية إزكي بجاذبية تاريخية فريدة مستعرضة عبق الماضي العُماني عبر أكثر من 60 قرية؛ حيث تحمل كل منها اسمًا يشكل حلقة من حلقات التاريخ الذي لا يزال يتنفس في الأزقة والمجالس. يعود تاريخ حارة اليمن التي سُمِّيت تقديرًا لسكانها الأوائل من العرب اليمانيين، كما جاء في مراجع تاريخية مثل كتاب «تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان» للعلامة السالمي، إلى ما قبل الإسلام، يتجلى في الأسوار الحجرية الضخمة التي تحيط بالمنازل الطينية التي تتميز بجدرانها المتشققة ونوافذها الخشبية المنقوشة.
حارة اليمن المُسوَّرة
حارة قديمة البنيان على تلٍ مرتفع مُسوَّرة بسور عظيم الشأن يضفي لها الهيبة والآمان، ويتصل به ثلاثة أبراج دفاعية وأربع بوابات، ويبلغ طول هذا السور حوالي (557.2) متر من جميع الاتجاهات، وتختلف ارتفاعاته من جهة إلى أخرى، وهو مبني من الحجارة والطين، ويوجد به ممر علوي لتسهيل مرور الجنود للمراقبة والحراسة.
باب الصباح البوابة الرئيسية لحارة اليمن، هكذا تعارف عليها الناس، كما يروي العم أحمد القصابي ويقول: «سُمِّي بالصباح لأن موقعه يقابل شروق شمس الصباح عليها، وكان يفتح مع أول ضوء النهار ويغلق مع حلول المغرب».
وأضاف: «بيوت طينية لا تزال قائمة حتى اليوم، في زمن لم يكن فيه إسمنت ولا حديد، هذه الحارة عمرها أطول من أعمارنا جميعًا، قوية متينة، بيوتها بُنيت من مواد محلية، جدران سميكة خُلط فيها الطين بالتبن، سُقفت أسطحها بجذوع من النخل وثُبّتت بالحبال المصنوعة من ليف النخيل وسعفه».
صباحات بيوت الطين
وتصف الوالدة مبروكة الصقرية مشهد الحياة في الحارة مع بدايات الفجر قائلة: «يعلو الأذان كمنبّه يوقظ قلوب الحارة، فتتحرك الحياة وسط جدران الطين، ويبدأ الصباح، الرجال يتجهون إلى المزارع يحملون أدواتهم البسيطة، يسقون النخيل والقمح، أما نحن النساء فننشغل بتحضير خبز التنور المصنوع من الطحين المحلي، ونحمص ونطحن القهوة يدويًا، لم تكن المائدة عامرة بالأصناف، لكنها كانت تشبعنا، يكفي أنها حُصدت من أرض طيبة».
وتكمل الصقرية: «بيوتنا دائمًا مفتوحة للجيران، ونتعاون في إعداد الطعام وتربية الأطفال».
وتروي الصقرية تفاصيل الأعراس القديمة قائلة: «في العرس تجتمع القرية كلها، النساء يتزين بثياب مطرزة يدويًا وحُليّ الفضة، يجهزن الطعام، والرجال تصدح أصواتهم بالعازي والرزحة، والكل يشارك في الفرح».
ويتذكر العم ربيع الخويطري أحداث طفولته التي عاشها وسط بيوت الطين، وبساطة الحياة اليومية، والقناديل التي كانت تضيء عتمة لياليهم، وعن المجالس التي كانت تُقام على الحصير، فيقول: الحياة كانت بسيطة بلا تعقيد، نزرع ونحصد الخير، ونلعب في الساحات بألعاب بسيطة من الحصى والعصي، ونجتمع مع الرجال في «السبلة» مجلس الحارة، نتبادل الأخبار ونحل القضايا.
طقوس بين الفرح والرزحة
ويشبّه العم أحمد القصابي طقوس العيد والاحتفال بالأعراس في وسط حارة الطين في مشهد يفيض بالهيبة والاعتزاز، «كمسرح من البهجة» في رأيه؛ الحارة تستيقظ على أصوات تكبيرات العيد تتردد من على مآذن المساجد الصغيرة، فيتجاوب معها فرح الأطفال.
ويقول: «في ساحة مُصلى العيد يجتمع الأهالي لأداء صلاة العيد، ثم تبدأ فنون الرزحة والعازي، حيث تصطف الصفوف، وترتفع أصوات الطبول مع الأهازيج، وتعانق السيوف وسط البهجة والفرح».
حين دخل الإسمنت وأصبحت أطلالًا
مع دخول الكهرباء وتوسع العمران ليشمل المخططات السكنية الحديثة، بدأت حارة الطين تفقد نبضها، بعض البيوت تهدمت بفعل الأمطار الجارفة أو العوامل الجوية، والجيران تفرقوا بين الأحياء الجديدة. واليوم العيد لا يزال حاضرًا، لكن بطابع مختلف؛ الاحتفالات تُقام داخل القاعات، والتهاني تُرسل عبر الهاتف، والفرح أصبح أكثر هدوءًا.
ورغم تغيّر الأحوال وبروز مظاهر حديثة في الاحتفالات، لا تزال بعض العادات راسخة يمارسها أهل الحارة. فما زال التنور الطيني، وهو عبارة عن حفرة عميقة تصل إلى مترين، حاضرًا في الأعياد لشي اللحم «الشواء». وما زالت الرزحة والعازي تطرب الحارة في المناسبات.
امتداد التراث إلى الأجيال
يقول محمد الدرمكي أحد شباب الحارة: «بقيت جدران الطين راسخة أمام الرياح والأمطار، وتصمد العادات أمام تغير الأزمنة. رغم تغيّر الوجوه بقيت العادات تُردد كما تُردد أغاني الرزحة في الساحات؛ فنحن تعلمنا الضيافة والكرم من آبائنا، والآن أبناؤنا يكررون ما نفعله، لتبقى هذه العادات حاضرة لا يغيّرها الزمن». ويضيف: «نحن دائمًا نحرص على حضور الأطفال المجالس أو ما يُعرف عندنا بالسبلة، فمن خلالها يكتسب الجيل الجديد الكثير من المعرفة عن التراث والعادات الأصيلة».
وعن رسوخ العادات والتقاليد التي لا تزال تُمارس، يؤمن أحمد الهشامي رئيس فريق شباب إزكي الرياضي بأن العادات لا تُحفظ بالكلام فقط، بل بالفعل. يقول: «نحن تعلمنا كيف تُدار المجالس، وكيف تُقام المناسبات، وكيف تُمارس الفنون. كما أن المشاركة عادة لا تُقال، بل تُمارس». مؤكدًا أن الفنون الشعبية لم تُحفظ بالكلام، بل بالفعل؛ ففي المناسبات والاحتفالات التي تُقام في الساحات كان الصغار يقفون بجانب الكبار لأداء فن الرزحة، يرددون الأهازيج ويضبطون خطواتهم على إيقاع الطبول. في السنوات الأخيرة بدأ شباب حارة اليمن يعودون لإحياء الحارة القديمة، لا ليسكنوها، بل ليوقظوها. يرممون الممرات، يُزينون الأزقة، يعلقون الفوانيس على الجدران، وتُفرش الساحات بالسجاد، يُقيمون المناسبات الدينية فيها، لا يملكون ميزانيات ضخمة، لكنهم يملكون ما هو أثمن: التراث.
ويقول أحمد الهشامي: «نفذت لجنة الأنشطة في الحارة فعاليات سنوية بمناسبة الأعياد الوطنية، وفعاليات سنوية أخرى لقراءة المولد النبوي الشريف في جامع وسط حارة اليمن القديمة، لتعيد الأصوات في صدر المكان».
ويضيف: «نحن لا نحتفل فقط، بل نرجع الروح للمكان؛ إذ تُزيَّن الساحات بالأنوار، وتُرتل الأناشيد، وتتعالى الابتهالات، فيجتمع الكبار قبل الصغار في حلقات يروون قصص السيرة النبوية».
هكذا لم تكن المناسبات مجرد احتفال، بل درس حي وتجربة فريدة تُنقل من جيل إلى جيل، تربط القلوب وترسخ في الذاكرة وتعزز روح المجتمع.
ويستذكر الهشامي أبرز المبادرات التي قام بها شباب البلدة وتبناها الأهالي، منها تنفيذ مشروع تعريفي بالحارة الأثرية بتركيب ثلاث لوحات تعريفية وإرشادية ترفد السياح والزائرين بمعلومات تاريخية وتراثية عن عراقة الحارة.
التراث لا يندثر إذا أُعيدت له الحياة
كيف يمكن أن نحفظ تاريخ المكان من النسيان؟ فالجواب يبدأ من بين جدران الطين؛ يمكن للمشاريع التنموية أن تحفظ التاريخ وتعيد له مجده. يقول ربيع الخويطري: «يمكن أن تكون البداية في ترميم البيوت الطينية، تحويلها إلى متاحف مصغرة تعرض مقتنيات الأجداد، وصيانة الأفلاج القديمة؛ لأنها خير شاهد على تاريخ القرية».
أما الشباب فيقترحون أن تُستثمر هذه الأماكن في السياحة الثقافية؛ حيث يأتي الزوار ليعيشوا عمق التجربة، ليتذوقوا الضيافة العُمانية، وتطرب آذانهم بفنون الرزحة والعازي. بهذا الشكل يصبح المكان مصدر دخل للحارة.
ويقترح أحمد الهشامي قائلًا: «من الممكن أن نعيد إحياء الكثير من المواقع الطينية التي لا تزال صامدة، واستخدامها كمراكز مجتمعية، تُقام فيها حلقات عمل للحرف اليدوية، ومعرض للصور القديمة، ومهرجانات للفنون الشعبية، والترويج للمشاريع لتعزيز دور الأسر المنتجة». موضحًا أن هذا الاستثمار لا يحفظ التراث فقط، بل يُعزز الاقتصاد المحلي، ويجعل الحارة أكثر جذبًا للزوار والمهتمين بالعراقة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حارة الیمن لا تزال
إقرأ أيضاً:
مولد السيدة نفيسة.. الإفتاء: يجوز الاحتفال بموالد آل البيت وإحياء ذكراهم
يبحث عدد كبير من الناس، عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي وموالد آل البيت وأولياء الله الصالحين؟ خاصة مع اقتراب مولد السيدة نفيسة والذي ينتظره كثيرون من عشاق آل البيت غدا، الأربعاء، الموافق 3 ديسمبر.
حكم الاحتفال بالمولد النبوي وموالد آل البيتمن جانبها، كشفت دار الإفتاء المصرية، عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي وموالد آل البيت وأولياء الله الصالحين؟ مؤكدة أن الاحتفالُ بِمولدِ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن أفضل الأعمال وأعظم القربات.
هل الاحتفال بالمولد النبوي وموالد آل البيت بدعة؟وأضافت دار الإفتاء، في فتوى سابقة لها، أن تعبير الناس عن الفرح والحب بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أصل من أصول الإيمان؛ فقد صح عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يُؤمِنُ أَحَدُكم حتى أَكُونَ أَحَبَّ إليه مِن والِدِه ووَلَدِه والنَّاسِ أَجمَعِينَ» رواه البخاري.
واستشهدت دار الإفتاء بما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي قد سنَّ لنا جنس الشُكرِ لله تعالى على مِيلاده الشريف؛ فكان يَصومُ يومَ الإثنينِ ويقول: «ذلكَ يَومٌ وُلِدتُ فيه» رواه مسلم.
هل الاحتفال بمولد السيدة نفيسة وأولياء الله الصالحين حلال؟وعن الاحتفال بـ مولد السيدة نفيسة، تابعت دار الإفتاء، أنه يَجُوزُ الاحتفالَ بموالدِ آل البيتِ وأولياء الله الصالحين وإحياءُ ذكراهم؛ لما في ذلك من التأسي بهم والسير على طريقهم، ولورود الأمر الشرعي بتذكُّر الصالحين؛ فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾ [مريم: 16]، ومريم عليها السلام صِدِّيقةٌ لا نبية، وكذلك ورد الأمر بالتذكير بأيام الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ [إبراهيم: 5]، ومِن أيام الله تعالى أيامُ الميلاد لأنه حصلت فيه نعمةُ الإيجاد، وهي سبب لحصول كل نعمة تنال الإنسان بعد ذلك، فكان تذكره والتذكير به بابًا لشُكر نعم الله تعالى على الناس.
حكم صيام يوم المولد النبويأوضحت دار الإفتاء المصرية، عن حكم صيام يوم المولد النبوي، حيث أكدت أنه يجوز شرعًا صوم يوم المولد النبوي الشريف شُكرًا لله- تعالى- على هذه النعمة الكبرى؛ وهذا النوع من الصيام فعله النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فقد مَرَّ بأُناس من اليهود قد صاموا يوم عاشوراء، فقال: «مَا هَذَا مِنَ الصَّوْمِ؟» قالوا: هذا اليوم الذي نجَّى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي، فصام موسى عليه السلام شكرًا لله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى، وَأَحَقُّ بِصَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ»، فأمر أصحابه بالصوم. أخرجه أحمد.
وأوضحت دار الإفتاء إن سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم العطرة مليئة بالمواقف والأحداث التي تعلمنا قيمًا إنسانية راقية تستقيم معها الحياة وتُعمَّر بها الأرض، إذا ما ترجمناها إلى واقعٍ عملي في حياتنا؛ فهو صلى الله عليه وآله وسلم القدوة المطلقة؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
حكم حج المرأة أثناء عدة الوفاة.. دار الإفتاء توضح
ما حكم المسح على الجورب الشفاف؟.. الإفتاء توضح
هل تجوز صلاة سنة الفجر بعد الفرض إذا فات وقتها؟.. الإفتاء تجيب
ما حكم الإنشاد الديني للنساء في حفل مختلط؟.. أمين الإفتاء: مباح ولكن بشروط
الاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أفضل الأعمال وأعظم القربات وأجل الطاعات؛ لما فيه من التعبير عن الحب والفرح بمولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو أصل من أصول الإيمان؛ حتى أقسم الله عز وجل بحياته؛ فقال في كتابه العزيز: «لعمرك» [الحجر: 72]، ووعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» أخرجه الشيخان.
قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري": «محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أصول الإيمان، وهي مقارنة لمحبة الله عز وجل، وقد قرنها الله بها، وتوعد من قدم عليهما محبة شيء من الأمور المحببة طبعا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك».