عبد الرحمن الرافعي .. حين يتحوّل المؤرخ إلى ضمير وطن
تاريخ النشر: 2nd, December 2025 GMT
في كل عام، حين يقترب الثالث من ديسمبر، تشعر مصر وكأن صفحة من صفحاتها القديمة تفتح من تلقاء نفسها، يعلو غبار الذكريات، وتتحرك في الذاكرة أسماء الرجال الذين جعلوا من التاريخ أكثر من سردٍ للوقائع، بل شهادة حيّة على ما كانت الأمة تحلم به، وما حاولت أن تكونه، وفي مقدمة هؤلاء يطلّ عبد الرحمن الرافعي، المؤرخ الذي لم يكتفِ بتسجيل ما حدث، بل حاول أن يكتب ما كان يجب أن يحدث، وأن يلتقط حرارة اللحظات التي صنعت مصر الحديثة.
كان الرافعي أشبه بنافذة واسعة تطل منها الأجيال على ماضيها القريب؛ نافذة لا تعتم، ولا تتكسر، مهما تغيّرت الفصول، لأن صاحبها لم يكتب بقلم مؤرخ فحسب، بل بقلب رجل عاش اللحظة ودفع ثمنها.
غدًا تحلّ ذكرى رحيله، فتعود كتبُه إلى الواجهة، وتعود مواقفه الوطنية لتذكّرنا بأن كتابة التاريخ ليست عملاً محايدًا كما يُقال، ولا صناعة باردة؛ بل فعلٌ من أفعال الإيمان، إيمان بالوطن، وبقدرة الكلمة على أن تُبقي الماضي حاضرًا، وأن تُنقذ التجارب الإنسانية من الغرق في النسيان.
من الطفولة إلى اللحظة الوطنية
وُلد عبد الرحمن الرافعي في القاهرة عام 1889، في زمن كان الوطن فيه يبحث عن صوته تحت قبضة الاحتلال البريطاني، كان المشهد السياسي يغلي، والوعي الوطني يتشكل، والبيوت تتهامس بأسماء مصطفى كامل ومحمد فريد، في هذا المناخ تفتحت عينا الرافعي على مصر المضطربة، وعلى السؤال الدائم: كيف يمكن أن تصبح هذه البلاد حرة؟ هذا السؤال الذي ظلّ يلازمه حتى آخر حياته، وصار هو دافع مشروعه التاريخي كله.
درس القانون، وانخرط في وقت مبكر في الحزب الوطني، حتى أصبح أحد أبرز وجوهه، وخاض ميادين السياسة والنضال والمحاماة بوعي مبكر ورغبة صادقة في الإصلاح، فجاءت كتاباته بعد ذلك مشبعة بتلك الحرارة، خالية من البرود الأكاديمي الذي يلغي الروح ويقتل الحكاية.
مؤرخ لا يكتب من برج عاجي
ما يميّز الرافعي عن غيره أنه كان "مؤرخًا من قلب الحدث"، لم يكن مراقبًا من بعيد، بل عاش ثورة 1919، ودافع عن مبادئ سعد زغلول، واختلف واتفق، وشارك في المظاهرات، وتعرض للملاحقة، هذا الاحتكاك المباشر بينه وبين صانعي الحدث جعل من كتبه شهادات دقيقة، لكنها أيضًا نابضة بالحياة.
ولذلك كثيرًا ما يقول الباحثون إن قراءة الرافعي تشبه السير في شارع قديم: تعرف معالمه جيدًا، لكنك تكتشف في كل مرة تفاصيل جديدة.
المشروع الأكبر: كتابة سيرة مصر الحديثة
ترك الرافعي سلسلة من أهم ما كُتب عن تاريخ مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، هذه السلسلة لا تُعتبر مجرد "كتب"، بل مشروعًا فكريًا متكاملًا يروي قصة وطن كامل، من عصر محمد علي وحتى ما بعد ثورة 1919.
من أهم مؤلفاته: تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر، ثورة 1919، محمد علي وبناء الدولة الحديثة، سعد زغلول: الزعيم الملهم، الزعيم مصطفى كامل.
في هذه الكتب لم يقدّم الرافعي التاريخ مجردًا، بل كشف عن تفاعلات المجتمع والسياسة والاقتصاد، وربط بين ما يحدث في الشارع وما يُكتب في الدواوين، وبين ما تريده الشعوب وما تفرضه اللحظات.
رهان الوثيقة: التاريخ لا يُكتب بالظن
أحد أهم أسرار قوة الرافعي هي الوثيقة، كان يجمع الخطابات والمراسلات الرسمية والمذكرات ومحاضر الجلسات، ويعقد مقارنات دقيقة بين روايات مختلفة للحدث.
لم يكن معنيًا بأن يكون مؤرخًا محايدًا بالمعنى الغربي البارد، لكنه كان منحازًا لشيء واحد فقط: الحقيقة، وفي زمن ضاعت فيه وثائق كثيرة، أصبحت كتبه هي الأرشيف الذي يُعوَّل عليه، والمرجع الذي يلجأ إليه الباحثون، ليس فقط لقراءة الحدث، بل لفهم روح تلك الفترة.
كاتب الرؤية لا كاتب السرد
رغم أن الرافعي كتب آلاف الصفحات، فإن ما يميّزه حقًا ليس كمّ ما كتب، بل نوعيته، كان يؤمن بأن التاريخ ليس مجرد سرد للمعارك والأسماء، بل قراءة في الأحلام التي صنعتها الشعوب، وفي الإخفاقات التي هزّتها.
وهكذا جاءت صفحاته مليئة بالتأملات والتحليلات، وبأسلوب عربي رصين يجعل القراءة أشبه بمتابعة حكاية كبرى، لا كتابًا جامعيًا جافًا.
وفاته وبقاء الذاكرة
رحل عبد الرحمن الرافعي في الثالث من ديسمبر 1966، تاركًا وراءه إرثًا هائلًا أغنى الوعي المصري، لكنه لم يرحل بالكامل؛ بقيت أعماله، وبقيت رؤيته، وبقيت نصوصه التي يشبه بعضها الخطب الوطنية، وبعضها الآخر رسائل إلى المستقبل.
واللافت أن تأثيره اليوم ربما أصبح أكبر من تأثيره في حياته؛ فكلما تفرقت السرديات، وعَلت الضوضاء، وتداخلت الحقائق بالأوهام، عاد اسمه بوصفه صوتًا أصيلًا وثقة معرفية لا تشوبها شبهات السياسة أو الاستعراض الإعلامي.
نستعيد عبد الرحمن الرافعي اليوم لأن مصر تحتاج إلى ذاكرة متماسكة، وإلى قراءة أمينة لماضيها، في زمن يسهل فيه تزوير الوقائع، وتضيع فيه الوثائق، تصبح العودة إلى مؤرخ مثله ضرورة وطنية، هو تذكير بأن الأمم لا تبني حاضرها دون أن تعرف أين مشت، ولماذا تعثرت، وكيف قامت من جديد.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: مواقفه الوطنية الاحتلال البريطاني الحزب الوطني مؤرخ سعد زغلول
إقرأ أيضاً:
كأس مصر | 22 لاعبا في قائمة الإسماعيلي استعدادا لمواجهة حرس الحدود
أعلن الجزائري ميلودي حمدي المدير الفني لفريق الإسماعيلى، قائمة الدراويش استعدادا لمواجهة حرس الحدود غدا على استاد المكس بالإسكندرية، في إطار منافسات دور الـ32 من بطولة كأس مصر.
جاءت قائمة الإسماعيلي لمواجهة حرس الحدود كالتالي:-
حراسة المرمى: أحمد عادل عبد المنعم، عبد الله جمال، عبد الرحمن محروس.
الدفاع: عبد الله محمد، عبد الكريم مصطفى، محمد عمار، إبراهيم عبد العال، حسن منصور، محمد إيهاب.
الوسط: محمد عبد السميع، ، عمر القط، محمد خطاري، إبراهيم النحعاوي، إريك تراوري، عبد الرحمن كتكوت، محمد حسن، محمد سمير كونتا، علي الملواني، عبد الرحمن الدح، عبد الله حسن.
الهجوم: أنور عبد السلام، حسن صابر.