تلك هي القضية التي يدور حولها كثير من الجدال الفكري في الكتابات المتخصصة والمنتديات الثقافية والوسائل الإعلامية. ويبدو أن هذا الجدال لن يتوقف قريبًا، بل إنه يزداد يومًا بعد يوم بازدياد الدور الذي تقوم به الآلة في حياة البشر؛ فلم تعد الآلة مجرد «الأداة» التي يستخدمها الإنسان كوسيلة مساعدة في أداء عمل ما.
ذلك أن التطور الذي جرى على الآلات التي يستخدمها البشر، ظل تطورًا بطيئًا يتعلق بالتحسين المتواصل لأسلوب عمل الآلة، وإنتاج آلات جديدة قادرة على الأداء بشكل فعًّال وأكثر تطورًا.
لكن هذا التطور يظل تطورًا كميًّا، أما التطور الذي جرى على الآلة في عصرنا الراهن فهو تطور كيفي؛ أي نوعي، إذ إن الآلة لم تعد مجردة أداة للاستخدام، بل «آلة ذكية» قادرة على أن تعمل وتتخذ القرارات من دون تدخل بشري في أسلوب أدائها لعملها، حيث يبدو أن الآلة الآن هي التي توجه الإنسان إلى ما ينبغي فعله، كأنها تستخدم الإنسان نفسه، بل تعمل على إزاحته تدريجيًّا كلما تطورت.
تلك ظاهرة نشاهدها ونعايشها في حياتنا اليومية، فقد أصبحت الآلة تقوم بكثير من المهام البشرية؛ بدءًا من المهام التي يقوم بها العمّال في المصانع، حتى المهام التي يقوم بها الأطباء في العمليات الجراحية؛ ولهذا السبب نفسه أصبحت الجراحات التي يتم إجراؤها باستخدام الروبوتات أغلى سعرًا من التي تُجرى باستخدام المناظير؛ لأنها -ببساطة- تعتمد على ذكاء الآلة ودقتها، بمنأى عن الخطأ البشري.
بل إن نطاق عمل الآلات الذكية أصبح يمتد إلى سائر مجالات النشاط الإنساني، بما في ذلك مجال الفضاء، ومجال الحرب وتصنيع السلاح، حتى مجال التعليم والإبداع في الآداب والفنون.
ولا شك في أن هذه النقلة النوعية للتطور التكنولوجي هي طفرة أسهمت بقوة في تحسين جودة الحياة الإنسانية؛ من خلال تحسين سُبل العيش، واختزال المسافات والأزمنة التي كانت تُباعد بيننا وبين بلوغ غاياتنا إلا بطول الجهد وبشق الأنفس.
وكل هذا قد أدى إلى تلك الحالة التي سبق أن سميتها «حالة الهوس بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي»، وهي الحالة التي أفضت إلى ذلك الجدال الدائر بين المدافعين عن مكانة الآلات الذكية في حياتنا، والمتحفظين على مكانة أو تمكين هذه الآلات من أداء هذا الدور. ومن الضروري هنا أن نلاحظ أن بعض الناس يظنون أن الذكاء الاصطناعي هو برنامج أو تطبيق «Chat GPT»، في حين أن هذا البرنامج ليس سوى تطبيق من تطبيقات لا حصر لها تُعنى بأدوات الذكاء الاصطناعي، فمن ثَم الآلات الذكية، في كل مجال.
مناط الاختلاف الأساسي بين المدافعين عن الدور اللامحدود للآلات في حياتنا والمتحفظين على هذا الدور يكمن في تصور كل منهما لقدرة الآلة على الإبداع، وذلك ما سأحاول بيانه فيما يلي:
يرى المدافعون عن تمكين الآلات الذكية أن هذه الآلات ليست مجرد أدوات تنفيذية، بل أدوات شريكة في المعرفة تتميز بالقدرة على توليد الصور والأفكار، لذا فهي تشارك الإنسان في القدرة على الوعي والإبداع، حتى في مجالات الفكر والفن -بما في ذلك الفنون التشكيلية-، وهذا ما يُعرَف بالذكاء الاصطناعي التوليدي.
ولهذا؛ يرى هؤلاء المدافعون المتحمسون أنه ينبغي إعادة النظر في مفهوم العملية الإبداعية ذاتها؛ فالعملية الإبداعية لم تعد تجربة ذاتية خاصة بالمُبدع، بل هي عملية تشاركية بين المُبدع والآلة.
وإذا طبقنا هذا على الإبداع في الفنون التشكيلية -على سبيل المثال-، فإنه سوف يتمثل في تشكيل التطبيق الآلي الذكي في اختيار الألوان والخطوط وتكوينات الأجزاء في العمل أو اللوحة.
وعلى هذا يرى هؤلاء أن المتحفظين على دور الآلة في العملية الإبداعية إنما ينكرون الدور التزاملي بين الآلة والإنسان في العملية الإبداعية، وبذلك فإنهم يقاومون ضرورة التطور التاريخي الذي يجري على كل نواحي حياتنا! ولكن من يزعمون هذا الزعم إنما هم مدفوعون بحالة حماسية غير علمية، وناتجة عن الهوس بمنجزات التكنولوجيا في حياتنا؛ ولذلك فإنهم غافلون عن الحقائق التالية:
إن أية تحفظات على منجزات الذكاء الاصطناعي ودور الآلة في حياتنا لا يعني معاداة التكنولوجيا وأهميتها في حياتنا، وإنما يعني فحسب التحفظ على تمكين دور الآلات الذكية في سائر مجالات حياتنا؛ إذ يجب تقييد هذا الدور في مجالات بعينها، لعل أهمها الإبداع الفني والتعليم.
أما فيما يتعلق بالإبداع، فلا ينبغي أن يتناسى المدافعون المتحمسون أن الآلات المبرمجة وفقًا للذكاء الاصطناعي هي نفسها نتاج لتطبيقات من صنع البشر؛ وبالتالي فإن ذكاء هذه الآلات هو من صنع الذكاء البشري، وهو غير قادر على التطور بذاته، وإنما هو يتطور بفعل إبداع بشري!
وعلى هذا، فإن استخدام ذكاء الآلة يمكن أن يُنتج لوحة تحاكي أسلوب «فان جوخ» في فن التصوير، أو مقطوعة موسيقية تحاكي أسلوب «بيتهوفن» في التأليف الموسيقي، ولكن من المؤكد أن ذلك لا يمكن أن ينتج لنا مُبدعًا مثل أي منهما، ولا عملًا مثل أي من أعمالهما الكبرى التي كانت وليدة الخيال والتجربة الفنية والإنسانية والرؤية الخاصة بالمُبدع.
وأما فيما يتعلق بالتعليم؛ فبوسعي القول بأن التعويل على دور الآلات والتطبيقات الذكية سوف يؤدي إلى تقليص وتراجع دور التعليم المحفز على الإبداع، وهذا ما ألمسه من خلال ملاحظاتي وتحكيمي للبحوث التي يقدمها الطلبة والباحثون.
وقد سبق أن تناولت هذا الجانب في مقال بعنوان «مخاطر الذكاء الاصطناعي على العملية التعليمية»، فليرجع إلى ذلك من يشاء.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی فی حیاتنا الآلة فی تطور ا
إقرأ أيضاً:
عدن تختتم مشروع “عدسة الإبداع نحو السلام” بحفل رسمي استعرض تجارب الشباب في توظيف الفن لبناء التعايش
انضم إلى قناتنا على واتساب
شمسان بوست / عدن:
شهدت مدينة عدن، يوم السبت، اختتام فعاليات مشروع “عدسة الإبداع نحو السلام” الذي نظمه أعضاء شبكة بناء السلام برعاية جامعة عدن والجامعة الألمانية الدولية، وبإشراف مركز المرأة للبحوث والتدريب، وبدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) ومرفق دعم السلام (PSF).
وافتُتِح الحفل الختامي بسلسلة من الكلمات الرسمية والأكاديمية، شملت كلمة نائب رئيس شبكة بناء السلام د. فيزان سنان، وكلمة مديرة مركز المرأة د. هدى علوي، إضافة إلى كلمات لرئيس جامعة عدن أ. د. خضر الصور، ووكيل وزارة التعليم العالي أ.د. فضل الربيعي، ورئيس الجامعة الألمانية الدولية أ.د. عبد الفتاح السعيدي.
وتضمن الافتتاح عرض فيديو يلخص مراحل المشروع، أعقبه إلقاء أبيات شعرية قدمها د. عادل النمري، وفقرة فنية غنائية ركزت على رسائل السلام.
وتخللت الفعالية جلسات علمية قدمت خلالها ورقتا عمل؛ الأولى بعنوان “الإبداع والإعلام كأدوات لبناء ثقافة السلام” للدكتورة أشجان الفضلي، والثانية بعنوان “تجربة مشروع عدسة الإبداع نحو السلام كنموذج للتعليم بالممارسة” للدكتور فيزان سنان بن نعم.
كما شارك عدد من الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة (مجتمع الصم) في فقرة فنية خاصة ضمن جهود المشروع لإبراز مفهوم الشمولية.
وشهد الحفل أيضاً عرض فيديوهات المجموعات المتأهلة في المسابقة الرقمية، قبل أن تعلن لجنة التحكيم أسماء الفائزين، إضافة إلى مسابقة خاصة بالجمهور لاختيار أفضل صورة أو فيديو، والتقاط صورة جماعية للمشاركين والضيوف.
مشروع يستند إلى الإبداع كوسيلة للتغيير
وارتكز مشروع “عدسة الإبداع نحو السلام” على استخدام الفنون البصرية، بما في ذلك التصوير الفوتوغرافي وصناعة الأفلام، كوسائل عملية لتعزيز الحوار المجتمعي ونشر قيم التعايش.
وشارك في المشروع عشرات الشباب الذين تلقوا تدريبات فنية وتقنية مكثفة، إلى جانب تدريبات ميدانية ساعدتهم على إنتاج أعمال فنية تحمل رسائل تعكس رؤيتهم للسلام.
حملة رقمية طوال نوفمبر
وضمن مسار التوعية المجتمعية، أطلق القائمون على المشروع حملة رقمية بعنوان “الفن أداة للتغيير والسلام” تحت شعار “بعدستنا نصنع سلام”، والتي رافقتها مسابقة للأفلام القصيرة، بهدف إتاحة مساحة أوسع لعرض التجارب الإبداعية للشباب وتحفيز مشاركتهم في القضايا المجتمعية.
تعزيز دور الشباب في نشر ثقافة السلام
وأكد المنظمون أن المشروع يمثل نموذجاً لدمج الفن بالتعليم القائم على الممارسة، مشيرين إلى أن مخرجاته أظهرت قدرة الشباب على إنتاج محتوى إبداعي يساهم في تعزيز الحوار وينقل رسائل إيجابية تدعم جهود بناء السلام في المجتمع.