د. هبة العطار

 

عاش إنسان العصر الحجري في مساحة من الوجود لا تحدها قوانين ولا تصوغها نُظُم، ولم يكن يعرف معنى أن يكون حُرًّا؛ لأن فكرة الحرية نفسها لم تكن قد وُلدت بعد؛ إذ كانت الحرية آنذاك حالة طبيعية، كالماء حين يجري في النهر دون أن يُدرك أنه يتدفق.

كان الإنسان يتحرك بغريزته، يتبع الجوع فيعرف الطريق، ويتبع الخوف فيعرف النجاة.

لم يكن يفكر في "ينبغي" و"لا ينبغي"؛ بل في "أعيش" و"أبقى". كانت حياته فطرية، لا تعرف الانقسام بين الجسد والروح، ولا بين الواجب والرغبة. لم يكن هناك "صواب" يُقيِّده ولا "خطأ" يُجرِّمه. كل ما في الأمر أن الحياة تمضي كما هي، والإنسان جزء منها لا سيد عليها. في تلك البراءة الأولى، كان أقرب إلى جوهر الوجود مما نحن عليه اليوم.

لكن في لحظة غامضة من تاريخ الكائن، استيقظ في داخله السؤال: من أنا؟ ومنذ تلك اللحظة، تغيَّر كل شيء!

بدأ الإنسان يرى نفسه منفصلًا عن العالم، لا متوحِّدًا معه. وحين انفصل، احتاج أن يُفسِّر، وأن يضع قواعد كي يطمئن. هكذا جاءت الفكرة الأولى للقانون، ثم للدين، ثم للمجتمع. وكل فكرة، مهما كانت سامية، كانت تقتطع من مساحة الحُرية قطعةً صغيرةً. لقد منحنا الوعي قدرة على التفكير، لكنه في الوقت نفسه، أفسد بساطتنا الأولى. صار الإنسان يحيا في صراع بين ما يريد أن يفعله وما ينبغي أن يفعله، بين غريزته الأولى وصوته الداخلي الذي يعاتبه باستمرار. لقد بدأ العقل في حراسة النفس، وبدأ القلب يحنّ إلى فوضاه القديمة.

كلما خطا الإنسان نحو الحضارة، ازداد ابتعاده عن ذاته الأولى. وفي مقابل الأمان، تنازل عن الحرية. وفي مقابل النظام، تنازل عن الفوضى التي كانت تحمل الحياة بين أنيابها. حين بنى أول بيت، فَقَدَ أول سماء. حين سنَّ أول قانون، فَقَدَ أول براءة. وحين كتب أول كلمة، فَقَدَ أول صمتٍ كان يُكلِّمه فيه الكون بلا تُرجمان. وفي النهاية، صار يعيش داخل جدران من أفكاره، يُراقب نفسه باسم الوعي. لم يعُد يخاف الوحوش، لكنه صار يخاف من ذاته. لم تعُد الأغلال حديدًا في مِعصميه، بل أفكارًا في رأسه، ومخاوف في قلبه.

الإنسان الحديث، بملابسه اللامعة وأجهزته الذكية، هو ذات الكائن الذي عاش في الكهوف، لكن بسجنٍ أكثر أناقة. يسير نحو التقدّم، لكنه يبتعد عن نفسه. يؤمن أنه حُرّ، لكنه لا يجرؤ على أن يعيش خارج النظام الذي صنعه بيده. لقد تناقصت الحرية مع مرور الوقت كما يتناقص الضوء حين تتكاثف حوله الجدران. كنا نعيش الحرية بلا وعيٍ، فأصبحنا نعيش القيود بوعيٍ! صرنا نُدرك أننا لسنا أحرارًا، ومع ذلك نُقنع أنفسنا بأننا كذلك. نكتب عن الحرية، نحتفل بها، نُدرِّسها، لكننا نخاف أن نعيشها. كأنّ الوعي الذي خُلِق ليُحرِّرنا، صار السجن الأنيق الذي نسكنه بإرادتنا. فقدنا القدرة على أن نعيش ببساطة، صرنا نحتاج لتبرير كل فعل، وتفسير كل إحساس، حتى ضاعت منا عفوية الوجود، وصارت الحرية فكرة فلسفية بعد أن كانت غريزة حيّة.

وهكذا، صار الإنسان المُعاصِر أكثر وعيًا بوجوده، لكنه أقل حياةً فيه. يعيش مُحاصَرًا بما يعرف، مُطارَدًا بما يُفكِّر، مُنهكًا بما يُفسِّر. لم يعد يسمع صوت الطبيعة كما كان يسمعه حين كان جزءًا منها، لأن صوته الداخلي صار أعلى من همسها. كل معرفة يكتسبها تُبعده خطوة عن بساطته، وكل يقين يظنه خلاصًا، يزيده غُربة عن ذاته. لقد صار الإنسان يُفتِّش عن الحرية كما يُفتِّش الغريق عن الهواء، لكنه لا يدرك أنه هو من يغمر رأسه في الماء.

في زمن الكهوف كان يركض في البرية دون أن يسأل إلى أين، والآن يجلس أمام الشاشات ليبحث عن معنى الركض ذاته. كانت حياته امتدادًا للطبيعة، أما اليوم فقد صارت معادلة يحاول فيها أن يوازن بين العقل والقلب، بين الحقيقة والوهم، بين الوعي والنجاة منه. كأنَّ الوعي الذي وعده بالنور لم يكن سوى مرآة يرى فيها هشاشته كل يوم بوضوح أكبر.

ربما لم يفقد الإنسان حريته تمامًا، لكنه فقد بساطة أن يكون حُرًّا دون أن يعرف. الحرية لم تمت، لكنها اختبأت خلف زحام الفكر، تنتظر لحظة صمتٍ حقيقي، لحظة ينزل فيها الإنسان عن عرشه الذي صنعه من أفكاره، ويعود إلى الأرض كما وُلِد أول مرة: عاريًا من المفاهيم، نقيًّا من القوانين، لا يسأل، لا يخاف، لا يُفسِّر… فقط يعيش.

حينها فقط، سيكتشف أن الحرية لم تكن يومًا غايةً خارج نفسه؛ بل كانت تسكن فيه منذ البداية، قبل أن يتعلم كيف يسميها.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

مدريد: مئات الفنزويليين في مسيرة صامتة من أجل السلام والحرية

دعت المعارضة إلى تنظيم مسيرات في أكثر من 80 مدينة حول العالم. في مدريد، استجاب المئات من الأشخاص لدعوة ماريا كورينا ماتشادو التي دعت إلى التعبئة الجماهرية عشية سفرها إلى أوسلو، حيث ستتسلم جائزة نوبل للسلام يوم الأربعاء.

تجمع المئات من الفنزويليين يوم السبت في وسط مدريد تلبية لدعوة زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي دعت مواطنيها المغتربين إلى تنظيم مسيرات في مدن العالم "من أجل السلام والحرية" في فنزويلا.

Related ترامب يوجه إنذاراً نهائياً لمادورو: غادر البلاد الآن واترك السلطة

بدأت المسيرة في الساعة 18:00 مساءً وسط العاصمة الإسبانية حيث حمل المشاركون الأعلام والملصقات والشموع كرمز للوحدة والمقاومة. في بداية الفعالية، سُمع الحاضرون وهم يؤدون الصلوات الصلاة ويرددون "تعالي معنا في المسيرة، تعالي يا مريم العذراء". وحث المنظمون الحاضرين على السير "في صمت"، دون شعارات.

Related ترامب: العمليات البرية ضد شبكات تهريب المخدرات في فنزويلا ستبدأ قريباً جداًأجواء فنزويلا تحت التحذير الأميركي.. ما وراء إعلان ترامب المفاجئ؟"خيارات عدة" على الطاولة.. ماذا ينتظر فنزويلا بعد اجتماع ترامب الاستثنائي؟الأزمة الجوية في فنزويلا: مادورو يسعى للحصول على دعم جيرانه في عمليات مشتركة

وتأتي هذه التعبئة الدولية قبل أربعة أيام من سفر ماتشادو إلى أوسلو لتسلم جائزة نوبل للسلام لعام 2025، وهي الجائزة التي قالت إنها تخص "النضال الديمقراطي" للشعب الفنزويلي. وفي رسالة نشرتها على شبكات التواصل الاجتماعي، دعت زعيمة المعارضة مواطنيها إلى إضاءة "كل شعلة وكل شمعة" كبادرة دعم في وجه نظام يحاول، على حد قولها، التقليل من هذا الإنجاز.

أما في إسبانيا، فبالإضافة إلى مدريد، فقد تمت الدعوة إلى تنظيم مسيرات في عشرين مدينة، من بينها برشلونة وفالنسيا وسرقسطة وبلباو وبلباو وملقة وبالما دي مايوركا وأوفييدو ومورسيا وأليكانتي وغرناطة وغرناطة وفيغو وبلد الوليد وسانتياغو دي كومبوستيلا وتاراغونا ولييدا وفيتوريا-غاستيز وليناريس وفويرتيفنتورا ولا بالما وخيخون، حيث تم تحديد مواعيد التجمعات بين الساعة 17:00 و19:00 في الأماكن الرمزية في كل منطقة.

وأفادت منظمة فينت فنزويلا أن مدنًا في 24 بلدًا على الأقل انضمت إلى الدعوة. وأوضحت المنظمة أنه بسبب تصاعد القمع في فنزويلا، لم يكن من الممكن الإعلان عن الفعاليات داخل البلاد.

وأكدت ماتشادو، التي وصفت لجنة نوبل رحلتها إلى أوسلو بـ"الخطيرة"، أنها ستمضي قدماً في هذه المسيرة، وأن التعبئة العالمية تسعى إلى تعزيز رسالة الحرية لفنزويلا.

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة

مقالات مشابهة

  • المسيرة القرآنية .. إعصار الوعي الذي حطم أدوات التضليل ونسف منظومة الحرب الناعمة للعدوان
  • الاعتصام بالله .. معركة الوعي التي تحدد معسكرك، مع الله أم مع أعدائه
  • أردوغان: صبر الفلسطينيين سيتوج بالنصر والحرية
  • خالد الجندي ردا على الجماعات المتطرفة: الإسلام دين الحرية (فيديو)
  • خالد الجندي يفند مزاعم الجماعات المتطرفة ويؤكد: الإسلام دين الحرية والإنسان
  • المشروع الإسلامي وتحديات العصر الحديث: استعادة الذات والهوية
  • لماذا وقود الديزل أغلى من البنزين في أمريكا.. لكنه ليس كذلك في أوروبا؟
  • الاطلاع على سير العمل في مشروع الرصف الحجري بمدينة البيضاء
  • مدريد: مئات الفنزويليين في مسيرة صامتة من أجل السلام والحرية