حرب الإبادة الإسرائيلية الغربية تُجدّد صراع الحضارات

التطهير العرقي هو السمة الجوهرية لـ«دولة اليهود» قبل أيٍّ من سماتها الأخرى، كممارسة التمييز العرقي والفصل المكاني، الأبارتهايد.

المعطيات تشي بغلبة العامل الأيديولوجي في أذهان صنّاع القرار في الغرب عند تعريفهم لمصالحهم وصياغة السياسات الكفيلة بحمايتها وتعظيمها.

«كُتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون» [البقرة: 216]

الجديد أن الغرب أي القطيع الذي يضم إسرائيل والدول الأوروبية واليابان، هو الذي يتعامل مع «الآخرين» غير الغربيين باعتباره معسكراً موحداً وحضارة متفوقة.

نحن أمام حرب إسرائيلية غربية على أهل غزة والأمة يعتبرها الغرب حربه وبتموضع غير مسبوق في تاريخه حيال الصراع بين الكيان الصهيوني وشعوب المنطقة.

الإبادة في اعتقاد قطعان الصهاينة، حكومة ومعارضة، وبين نخبهم السياسية والثقافية، ومجتمعهم، هي الطريق الأقصر لاستكمال التطهير العرقي الذي بدأ في 1948.

سياسة الغرب العدوانية المتغطرسة دفعت دولاً لم تكن متفاهمة كروسيا والصين وإيران وتركيا وغيرها، للشراكة والتنسيق، أو السعي لتفاهمات الحد الأدنى مقابل الصلف الغربي.

* * *

أن يباشر الوحش الصهيوني الجريح، بعد عملية «طوفان الأقصى» البطولية، اعتماد سياسة المجازر المتواصلة، في مسعى مكشوف إلى إبادة أهل غزة، هو ما يتسق مع طبيعته وتاريخه.

يؤكد ما يُرتكب بحق أهل قطاع البواسل، مرة جديدة، أن التطهير العرقي هو السمة الجوهرية لـ«دولة اليهود» قبل أيٍّ من سماتها الأخرى، كممارسة التمييز العرقي والفصل المكاني، الأبارتهايد، مثلاً.

الإبادة، الجزئية أو الشاملة، في اعتقاد قطعان الصهاينة، في الحكومة والمعارضة، وبين نخبهم السياسية والثقافية، ومجتمعهم «المدني»، هي الطريق الأقصر لاستكمال التطهير العرقي الذي بدأ في 1948.

نتنياهو قال صراحة إنها حرب «الاستقلال» الثانية، وجهر لواء الاحتياط غيورا ايلاند بأن هدفها تحويل غزة مكاناً غير صالح للحياة، ودعا وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو، الوفي حقاً لهذا التراث، إلى التفكير جدياً بقصفها بقنبلة نووية.

من المفترض ألّا يثير ما يحدث، حتى في 2023، أو ربما خاصة في 2023، أدنى استغراب. لعل الأوان قد آن، بالنسبة إلى المثاليين المغفّلين الذين آمنوا بسرديات الغرب وخرافاته، عن حقوق الإنسان والأقليات والحيوانات الأليفة، وعن «الإنسانية السائرة نحو الأفضل»، لكي يراجعوا قناعاتهم.

ففي غزة، سيُحدد مصير فلسطين والفضاء العربي الإسلامي وحتى جنوب العالم إلى حد ما. منذ انسحابهم منها في 2005، أراد الصهاينة، ومعهم الغربيون الذين شاركوا في حصارها وفرض العقوبات عليها، أن تصبح «أكبر سجن في الهواء الطلق».

لكنّها أضحت معقلاً للمقاومة، فقرروا تحويلها إلى «أكبر مسلخ بشري في الهواء الطلق» عقاباً لها، وكي تكون عبرة للـ«آخرين». ولكن، بمعزل عما ستؤول إليه المنازلة المحلية - الإقليمية - الدولية الدائرة فيها، فإنها، بالنسبة إلى من يريد أن يرى، أعادت تثبيت جملة حقائق أساسية متعلقة بخلفياتها وأبعادها وتبعاتها على مستقبل الإقليم برمّته والعالم.

الحقيقة الأولى هي أننا أمام «حرب حضارية» إسرائيلية - غربية تُشنّ على أهل غزة وعلينا. لم يكن التشبيه الإسرائيلي - الغربي لـ«طوفان الأقصى» بعملية 11 أيلول 2001 نابعاً فقط من توجه لتصنيفها عملاً إرهابياً، وتبرير ما سيليها من توحّش صهيوني بذريعة ضرورات «مكافحة الإرهاب».

هذا التشبيه يعكس كذلك التصور الراسخ والمشترك في أذهان القطاع الأعظم من النخب الإسرائيلية والغربية الحاكمة و/أو المُسيطرة عن المحركات الفعلية والدوافع الكامنة للاعبين السياسيين على الساحة الدولية، بما هي ساحة للتدافع والتنازع.

قد يكون أوضح تعبير عن هذا التصور هو ذلك الوارد في رسالة لصديق لريجيس دوبريه، نشرها الأخير في كتابه المهم «مرسوم كركلا» الصادر في 2004. يقول صديق دوبريه، وهو موظف فرنسي كبير قرر بعد عمليات 11 أيلول الهجرة إلى الولايات المتحدة والحصول على الجنسية الأميركية، أن رد الفعل على هذه العمليات، بين الذين ابتهجوا سرّاً أو علناً، ومن ذُعروا، يرسم الحد الفاصل على نطاق المعمورة بين الـ«نحن» والـ«هم»، بين ديار الغرب وديار الآخرين.

المنطق نفسه ينسحب على ردود الفعل على «طوفان الأقصى»: «الغرب الجماعي» ذُعر وهرع لنجدة إسرائيل، مرسلاً حاملات طائراته وسفنه الحربية وغواصاته حاملة الصواريخ النووية لهذه الغاية، بينما توزّع بقية العالم بين مبتهج وبين متفهم لأسباب العملية من دون تأييدها بالضرورة.

التماهي الكامل مع الموقف الإسرائيلي، بما في ذلك بالنسبة إلى إبادة سكان غزة عبر رفض الوقف لإطلاق النار بحجة عدم إتاحة فرصة التقاط الأنفاس لـ «حماس»، إضافة إلى ما ذكرناه من مشاركة عسكرية واستخبارية وسياسية - إعلامية في الحرب، تعني ببساطة أن «الغرب الجماعي» يعتبرها حربه.

هذا المستوى من التماهي الكامل والمعلَن، غير المسبوق في تاريخ تموضع الغرب حيال الصراع بين الكيان الصهيوني وشعوب المنطقة، مع ما يترتب على ذلك من استعداءٍ لـ 500 مليون عربي وحوالى 1,8 مليار مسلم، ناهيك عن بقية شعوب الجنوب العالمي، ومن تداعيات على مصالح الغرب ونفوذه، وسط خوضه لمواجهات كبرى مع «منافسين إستراتيجيين»، هي معطيات تشي بغلبة العامل الأيديولوجي في أذهان صنّاع القرار في الغرب عند تعريفهم لمصالحهم وصياغة السياسات الكفيلة بحمايتها وتعظيمها.

الحقيقة الثانية، المرتبطة بالأولى، هي أن الغرب المنحدر، لا عقلاني ومتخبّط وخطر. أين العقلانية في الانجرار إلى نزاع جديد محتمَل في الشرق الأوسط رغم كل التجارب المريرة السابقة بالنسبة إلى الأميركيين في العراق وأفغانستان، وبالنسبة إلى الأوروبيين، وهم «العدوّ الأقرب» جغرافياً لمسرح المعركة، وربما عليهم ألا ينسوا ذلك؟

ألا تتطلب المواجهة الشاملة مع الصين، والحرب بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، تفرغاً كاملاً من القوى الغربية المتراجِعة القدرات العسكرية والاقتصادية والسياسية بمجملها، كما سبق أن حضّت على ذلك وثائق الأمن القومي والدفاع الوطني الأميركية والغربية المختلفة، وأهم الخبراء الإستراتيجيين الغربيين، بدلاً من التورط في الشرق الأوسط؟

اعتقد البعض، ونحن منهم، أن النخب الحاكمة في المركز الأميركي قد عادت إلى رشدها مع إعلان أوباما عن «الاستدارة نحو آسيا» وأولوية التصدي لصعود الصين. لكن الحرب الراهنة على غزة، وقبلها، وإن بدرجة أقل، حرب أوكرانيا، أظهرتا أنّ الغرب المنحدر، وبمجرد اندلاع نزاع، يرى فيه تحدياً رمزياً وسياسياً لهيمنته، يشيح النظر عن أولوياته الرسمية وينجر إليه كما يفعل اليوم في غزة، في سياق صراع قد يتوسع ليشمل كل الإقليم.

إسرائيل من بقايا رموز حقبة الريادة الغربية المنحسرة، والغرب يأتي لنجدتها وإن على حساب أولوياته الراهنة. وعندما تطغى العصبية واعتباراتها كالهيبة واستعراض الوحدة والقوة على الحساب البارد للمصالح والأرباح والخسائر قبل اعتماد أي سياسة، فإننا نكون أمام سيادة منطق القبيلة لا المنطق العقلاني الذي لا يتوقف الغرب عن التغني به.

الحقيقة الثالثة هي أن السياسة باتت استمراراً للحرب لا العكس. عندما كتب صموئيل هنتغتون مقاله الرؤيوي في «فورين أفيرز» منذ 30 سنة عن «صدام الحضارات»، تصدى له كثيرون باسم الواقع الذي ستنتجه العولمة، من تداخل في المصالح وتلاقح وتمازج بين الشعوب وغيرها من بلاهات أسطورة العولمة السعيدة التي سادت في حقبة كلينتون.

نقد أكثر جدية لفت إلى أن الحضارات ليست فاعلاً إستراتيجياً على النطاق العالمي بل الدول، وأن عدداً من الدول التي تنتمي إلى الفضاء الحضاري نفسه متخاصمة سياسياً وتفضل التحالف مع لاعبين من خارج فضائها ضد بعضها بعضاً.

الجديد راهناً هو أن الغرب الجماعي، أي القطيع الذي يضم إسرائيل والدول الأوروبية واليابان، هو الذي يتعامل مع «الآخرين» غير الغربيين باعتباره معسكراً موحداً وحضارة متفوقة.

سياستهم العدوانية المتغطرسة دفعت دولاً لم تكن متفاهمة مع بعضها بعضاً كروسيا والصين وإيران وتركيا وغيرها، للشراكة والتنسيق، أو السعي إلى التوصّل إلى تفاهمات في الحد الأدنى، في مقابل الصلف الغربي.

وعندما ينظر المرء إلى أساطيلهم المحتشدة في المتوسط للسماح للإسرائيليين بإبادة أهل غزة، كيف لا يستعيد شريط ذكريات الغزوات الطويل، من الحملات الصليبية إلى الحملات الاستعمارية الحديثة في مشرق العالم العربي ومغربه؟ لم يتعلموا دروس التاريخ المعاصر والقديم وسيندمون.

*وليد شرارة كاتب وباحث في العلاقات الدولية

المصدر | الأخبار

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: الغرب غزة الإبادة صراع الحضارات التطهير العرقي الكيان الصهيوني التطهیر العرقی بالنسبة إلى أهل غزة

إقرأ أيضاً:

الاحتلال الإسرائيلي يواصل حرب الإبادة في غزة لليوم الـ 625 على التوالي

الجديد برس| تواصل “إسرائيل”، لليوم الـ 625، شن حرب الإبادة الجماعية وارتكاب المجازر وجرائم الحرب ضد المدنيين في قطاع غزة، بالتوازي مع حصار مطبق واستخدام التجويع كأحد أسلحة الحرب الشاملة على القطاع. وأفادت مصادر طبية بوصول 17 شهيدًا إلى مستشفيات مدينة خانيونس جنوب قطاع غزّة صباح اليوم الأحد. وواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي، صباح اليوم، استهداف طالبي المساعدات من المجوّعين قرب مراكز “المساعدات” الإسرائيلية الأمريكية، ما أدى لوقوع عدد من الإصابات بينهم جنوب القطاع. وفي خضم المجاعة التي يعيشها المواطنون في قطاع غزة، وانقطاع الإمدادات، أعلنت منظمة المطبخ المركزي العالمي، مساء السبت، استئناف عملياتها بغزة بعد انقطاع 12 أسبوعا، واصفة الخطوة بـ “الإنجاز المهم”. آخر التطورات.. أعلن مستشفى العودة – النصيرات عن وصول شهيد و 3 إصابات بينهم طفل وطفلة جراء قصف إسرائيلي على منزل في بلدة الزوايدة وسط قطاع غزة. واستهدف قصف إسرائيلي محيط مسجد القبة في مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، في حين استهدف قصف مدفعي وسط خانيونس. وارتقى 6 شهداء بنيران جيش الاحتلال الإسرائيلي قرب مركز المساعدات الأمريكية شمال غربي مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، وهم: يوسف أحمد شاكر أبو يوسف، نجاح صبري إسماعيل أبو عرار، محمد سمير حسن الكحلوت، عبد عوني محمد النمنم، أسامة نظمي حمدان قديح، عزمي يحيى محمد أبو جابر. ووصل مستشفى العودة شهيد طفل وإصابة لسيدة جراء استهداف طائرات الاحتلال المُسيّر منزلًا في منطقة مخيم 2 بالنصيرات وسط قطاع غزة. وارتقى شهيدان وأصيب آخرون في قصف إسرائيلي استهدف منزلًا لعائلة أبو بطيحان قرب أبراج عين جالوت جنوبي مخيم النصيرات. كما استشهد مواطنان أحدهما طفل، إثر قصف الاحتلال منزلين يعودان لعائلة شابط في حي التفاح مدينة غزة، وهما منصور محمد طلال الشوا، والطفل عمر علاء الدين شابط. وقصفت مدفعية الاحتلال وسط مدينة خانيونس والمنطقة المحيطة بمقابر الحي النمساوي جنوبي المدينة. وأصيبت المواطنة أمل طلال قشطة برصاص قوات الاحتلال في الرقبة، في منطقة أصداء شمالي مدينة خانيونس. وقصفت مدفعية الاحتلال محيط ملعب أنيس شمالي مخيم البريج وسط القطاع، ما أدى لتطاير الشظايا صوب منازل المواطنين (بلوك1) بالمخيم. واستشهد المواطن فاروق الغرباوي إثر قصف مدفعي إسرائيلي استهدف منزله فجر اليوم في مخيم البريج. وأعلنت مصادر محلية استشهاد اثنين من المواطنين وإصابة آخرين في قصف إسرائيلي استهدف منزلًا لعائلة غراب في المخيم الجديد بالنصيرات وسط قطاع غزة. وأعلن الدفاع المدني الفلسطيني استشهاد أحد عناصره، وهو النقيب محمد ناصر غراب، باستهداف إسرائيلي مباشر لشقته في مخيم النصيرات. واستشهد عدد من المواطنين وأصيب عدد آخر، فجر اليوم الأحد، في قصف الاحتلال خيمة نازحين بمخيم الصمود بمواصي خانيونس. وقالت وحدة الإسعاف والطوارئ لوزارة الصحة الفلسطينية إنها انتشلت 3 شهداء وعدد من الإصابات جراء استهداف خيمة نازحين تعود لعائلة أبو شلوف مقابل مزارع فتوح في بئر 19 في منطقة المواصي غربي خانيونس، وهم سالم جمعة شلوف، وأحمد جمعة شلوف، أواب أمير أبو سنيمة. وأفادت مصادر محلية، بشن قوات الاحتلال الإسرائيلي قصفًا مدفعيًا متواصلًا استهدف المناطق الشمالية والجنوبية من مدينة خانيونس. كما أفادت المصادر بإصابة عدد من المواطنين جرّاء قصف مدفعي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلي، طال منزلاً لعائلة أبو حصيرة شرق مخيم النصيرات وسط القطاع. ونسفت قوات الاحتلال تنسف عددًا من منازل المواطنين شرق جباليا البلد شمال غزة. وذكرت المصادر، أن زوارق الاحتلال الحربية أطلقت النار بشكل مكثف صوب مراكب الصيادين في بحر مدينة خانيونس.

مقالات مشابهة

  • الاحتلال الإسرائيلي يواصل حرب الإبادة في غزة لليوم الـ 625 على التوالي
  • وزير الخارجية الإيراني: الغرب فقد بوصلته الأخلاقية تمامًا
  • الفتح الموعود يقترب وكيان العدو يترنّح
  • زيلينسكي يطالب الغرب بتخصيص 0.25% من الناتج المحلي لدعم إنتاج الأسلحة الأوكرانية
  • مظاهرات في مدن أوروبية تطالب بوقف الإبادة في غزة
  • وراء الحدث
  • ارتفاع ضحايا الإبادة الإسرائيلية إلى 55 ألفا و908 شهداء
  • التوقعات غير المتوقعة
  • «حلمي النمنم»: عداء الإخوان للمؤسسة العسكرية امتداد لرفضهم الوطن ذاته
  • خبير عسكري: الغرب يكرر سيناريو العراق في تبرير ضرباته ضد إيران