عامان مرّا على حرب غير مسبوقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حرب بدّلت ملامح المنطقة وأعادت رسم خرائطها السياسية والإنسانية، فخلال 24 شهرا من القصف والدمار والمجاعة والتهجير في قطاع غزة شهد العالم فصولا متلاحقة من مأساة وُصفت بأنها الأشدّ دموية في القرن 21.

ويوثق تقرير مراسلة الجزيرة شيماء بوعلام أبرز محطات الحرب التي انطلقت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين شنت المقاومة الفلسطينية هجوما مفاجئا على المستوطنات المتاخمة لغزة، في عملية أربكت إسرائيل وأحدثت زلزالا عسكريا وسياسيا لم تعهده منذ عقود.

ففي ساعات قليلة، سقط مئات القتلى من الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، وأُسر عشرات آخرون، ليتحول المشهد في غزة من حصار مزمن إلى مشهد مأساة صادمة، إذ ردّت إسرائيل بسياسات انتقامية غير مسبوقة في تطرفها شملت التدمير الشامل، والتجويع، والتهجير القسري لمئات الآلاف.

منذ ذلك اليوم، لم تعد غزة مجرد ساحة مواجهة محلية، بل بؤرة صراع أعادت ترتيب أجندات الإقليم والعالم، فالغارات الكثيفة والاجتياحات البرية الواسعة جعلت البحث عن الأسرى الإسرائيليين الـ251 هدفا مركزيا لحرب إبادة لم تستثنِ المستشفيات ولا مخيمات اللاجئين.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وُقّعت أول هدنة بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل لمدة 4 أيام، شابها استمرار القصف على المدنيين، أفرجت خلالها المقاومة عن 50 أسيرا مقابل إطلاق سراح نحو 150 امرأة وطفلا فلسطينيا من السجون الإسرائيلية.

ومع بداية عام 2024، دخلت ساحة العدالة الدولية على خط الأزمة، إذ أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل باتخاذ تدابير لمنع الإبادة في القطاع، وهو قرار غيّر توصيف الحرب من "نزاع مسلح" إلى "إبادة جماعية محتملة"، من دون أن يوقف نزيف الدم.

صدمة عارمة

وفي أبريل/نيسان 2024، دوّى الغضب الدولي بعد مقتل 7 من فريق منظمة "وورلد سنترال كيتشن" في غارة إسرائيلية، مما شكّل صدمة عارمة وفضح استهداف تل أبيب المتكرر للجهود الإنسانية، ودفع المجتمع الدولي إلى زيادة الضغط من أجل فتح ممرات آمنة للمساعدات.

إعلان

لكن في مايو/أيار من العام ذاته، بلغت الحرب ذروتها جنوبا، حين حاصرت إسرائيل مدينة رفح المكتظة بالنازحين، فبينما كان العالم يراقب بحذر، رأت إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن أن استمرار القصف تجاوز الخطوط الحمراء، فجمدت شحنة قنابل ضخمة متجهة إلى تل أبيب، لتظهر لأول مرة بوادر شرخ في الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل.

وفي يونيو/حزيران، تمدد الصراع خارج حدود غزة، إذ حوّلت هجمات جماعة أنصار الله في البحر الأحمر الممرات الملاحية إلى ساحة مواجهة جديدة، وربطت الاقتصاد العالمي مباشرة بالحرب الدائرة في القطاع، ليتحول النزاع المحلي إلى أزمة دولية تمسّ التجارة والطاقة والملاحة.

بحلول سبتمبر/أيلول 2024، اشتعلت الحدود الشمالية بين إسرائيل وحزب الله في تصعيد غير مسبوق، بلغ ذروته باغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله، في تطور هزّ المنطقة وفتح جبهة دعم مفتوحة لغزة من جنوب لبنان حتى الجولان.

وفي 16 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، وبعد دخول الحرب عامها الثاني، قُتل قائد حركة حماس يحيى السنوار في غارة إسرائيلية، فانقلبت موازين الميدان مجددا، وإثر ذلك شنت قوات الاحتلال اجتياحا جديدا لشمال غزة، مستهدفة جباليا ومحيطها، في محاولة لكسر بنية المقاومة المتماسكة.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني، زادت عزلة إسرائيل حين أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية طلب إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه آنذاك يواف غالانت، في خطوة غير مسبوقة لمحاكمة قادة إسرائيليين بتهم جرائم حرب.

مرحلة جديدة

وبحلول 20 يناير/كانون الثاني 2025، دخلت الحرب مرحلة سياسية جديدة مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، فقد ضاعف دعمه العسكري لإسرائيل وأفرج عن الأسلحة المجمدة، لكنه طرح في الوقت نفسه مبادرة سماها "الصفقة الكبرى"، تقوم على وقف الحرب مقابل تبادل الأسرى وترتيبات لإدارة انتقالية في غزة.

وبين فبراير/شباط ومارس/آذار من العام ذاته تم التوصل إلى اتفاق هشّ لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، سرعان ما تهاوى مع تكرار الخروقات، في وقت بدأ فيه الشارع الإسرائيلي يفقد شهيته للحرب، وارتفعت أصوات الغضب ضد طول أمدها وضبابية أهدافها.

في ربيع 2025، تمدد التضامن مع غزة عالميا؛ إذ اجتاحت المظاهرات الجامعات الأميركية وشوارع لندن وباريس ومدن أخرى، لتشكل موجة احتجاجات غير مسبوقة دفعت الغرب إلى مراجعة مواقفه الأخلاقية والسياسية تجاه إسرائيل.

وفي أغسطس/آب، أعلنت الأمم المتحدة رسميا دخول غزة في مرحلة المجاعة، في أول توثيق أممي لمجاعة بالمنطقة، بعد وفاة آلاف الأطفال جراء الجوع وسوء التغذية، لترسخ الحرب موقعها كإحدى أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.

أما في أكتوبر/تشرين الأول 2025، وبعد شهور من المفاوضات برعاية واشنطن والقاهرة والدوحة، أعلن الرئيس الأميركي ترامب خطة من 20 بندا لوقف إطلاق النار، وافقت عليها حركة حماس مبدئيا، لكنها بقيت رهينة جولات جديدة من التفاوض بشأن تفاصيل التنفيذ.

وهكذا، اختتم العامان الأخطر في تاريخ غزة والعالم العربي بمشهد لم يُكتب فصله الأخير بعد، فالحرب التي بدأت بهجوم مباغت تحولت إلى ملحمة صمود وتراجيديا إنسانية، ما زالت ترسم حدود المعركة بين العدالة والمأساة في فلسطين.

إعلان

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات التقارير الإخبارية غیر مسبوقة

إقرأ أيضاً:

هل انتهى دور «إسرائيل» الوظيفيّ؟

 

يخلط الكثيرون بين معادلتين مختلفتين، الأولى هي الدور الوظيفي لكيان الاحتلال كمخلب متقدّم وثكنة مزروعة في قلب الشرق لحماية المصالح الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً، وتأديب ومعاقبة كل مَن يتجرأ على تحدّيها، والثانية هي الالتزام الغربي عموماً، والأمريكي خصوصاً، بحماية كيان الاحتلال والحفاظ على قوته وتوفير الأسباب لتمكينه من الحصول على كل ضمانات الأمن الوجودي والاستراتيجي لبقائه على أرض فلسطين والاستعداد الغربي عموماً، والأمريكي خصوصاً، لتأديب ومعاقبة كل مَن يتجرأ على تحدّي هذه المعادلة.

السؤال المفصلي الذي يواجه أيّ باحث جدّي لا تحركه جيوبه الساعية للانتفاخ من عالم البروباغندا والاستخبارات، هو: أين تقع حرب السنتين التي شهدتها المنطقة؟ هل هي تعبير عن الدور الوظيفي للكيان في حماية المصالح الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً، باعتبار قوة المقاومة في غزة، من جهة عقبة أمام مشروع طريق الهند – أوروبا الهادف لتعطيل خط الحريري الصيني الذي يمر عبر إيران نحو أوروبا، وطريق الحرير الأمريكي البديل يفترض أن تستثمر فيه مئات مليارات الدولارات، من أنابيب نفط وغاز وطرق سريعة وخطوط سكك حديد تربط سواحل الخليج بساحل فلسطين المحتلة على مقربة من غزة، وكل هذا يستدعي تصفية المقاومة في غزة وإن أمكن تهجير سكانها، ومن جهة موازية تمثل المقاومة في غزة أحد الأجنحة الفعالة في محور المقاومة الذي تمثل إيران عمقه الاستراتيجي، والذي تجب تصفيته حتى تتمكّن واشنطن من عزل موسكو وبكين، فتجعل موسكو مجرد مركز منعزل في أقصى شمال الكوكب وبكين مركز آخر منعزلاً في أقصى الشرق، أم أن ما جرى في حرب السنتين كان حشداً غربياً شاملاً للدفاع عن كيان الاحتلال وتثبيت وجوده بعد الزلزال الذي عصف بمكوناته وروحه إثر طوفان الأقصى، ما استدعى مجيء القادة والرؤساء وأساطيلهم وحاملات طائراتهم؟

الجواب يستدعي الفصل بين ما تقوله الحرب وما تقوله نهاياتها، حيث يبدو واضحاً أن الحرب نفسها كانت تعبيراً مزدوجاً عن حرب أمريكيّة تتصل بالسعي لتوظيف اللحظة الإسرائيلية ومراكمة أسباب القوة فوقها، لاختبار إمكانية تعديل موازين القوى مع محور الصين روسيا إيران، من بوابة إضعاف إيران إذا تعذّر كسرها أو إخضاعها، من جهة، ومن جهة مقابلة محاولة لإعادة رسم الجغرافيا السياسية والعسكرية والاقتصادية في غرب آسيا، من خلال توظيف اللحظة الإسرائيلية في الحرب والاستثمار فيها، لإنهاء قوى المقاومة وفرض الهيمنة على غرب آسيا وتحويله إلى منطقة صافية للنفوذ الأمريكي، ولكن هذه الحرب هي نفسها حرب “إسرائيل” الكبرى وحرب “إسرائيل” العظمى وحرب “إسرائيل” الوجودية وحرب “إسرائيل” الحدودية، لكن هذه الحرب التي حققت لأمريكا موقعاً تفاوضياً أفضل في معادلتي الصراع مع روسيا والصين، والصراع حول غرب آسيا، أخفقت في حسم الصراع وتحقيق اطمئنان “إسرائيل” الوجودي والحدودي، وضمناً فتح الطريق نحو “إسرائيل” العظمى و”إسرائيل” الكبرى، وبمقدار ما أن النتيجتين بائنتان ولا تحتاجان إلى إثبات، فإنهما تفتحان الطريق نحو فرضية إشكالية كبرى، حيث حسن استثمار واشنطن على الفرصة التفاوضية يستدعي فك التلازم بين حربها وحرب “إسرائيل”، والتسليم بأن التطلعات الإسرائيلية صارت عقبة أمام استثمار أمريكا لوضعها التفاوضي الجديد، وأن الدور الوظيفي لـ”إسرائيل” قد انتهى، وأن على أمريكا فرض الانتقال إلى معادلة الحماية مع “إسرائيل” بدلاً من معادلة الدور الوظيفي.

إذا نجحت واشنطن في التخلص من عبء الدور الوظيفي لـ”إسرائيل”، وانطلقت في خط الانفتاح على حقائق ووقائع المنطقة، فهي تستطيع أن تستثمر على حلفاء مثل السعودية ومصر وتركيا، وتنفتح على علاقة من نوع مختلف مع إيران، وهذا التحرر يحاكي وضع أمريكي داخلي ضاق ذرعاً بدرجة التماهي الأمريكي مع السياسات الإسرائيلية والإجرام الإسرائيلي، وتتيح زيارة ولي العهد السعودي إلى أمريكا ملاحظة بعض الإشارات التي تقول إن تل أبيب لم تعد بوابة واشنطن، وإن مكانة دول مثل السعودية تعاظمت بالمقارنة مع دور “إسرائيل”، دون الوقوع في وهم التخلي الأمريكي عن حماية “إسرائيل” وضمان أمنها الوجودي والاستراتيجي، وإنه إلى حد كبير صار أمن “إسرائيل” أمريكياً منوطاً بضبط التهور الإسرائيلي والتغول الإسرائيلي والتوحش الإسرائيلي، لفتح الباب أمام حلفاء مثل السعودية لتوفير ضمانات الحماية المطلوبة لبقاء “إسرائيل” الوجودي والاستراتيجي. وهذا يتوقف على قدرة واشنطن على السير بخيار يحاكي توصيات لجنة بيكر هاملتون عام 2006م وفي قلبها التفاعل إيجابياً مع المبادرة العربية للسلام.

* رئيس تحرير صحيفة البناء اللبنانية

 

 

مقالات مشابهة

  • «سكك حديد مصر»: خطة متكاملة لتطوير المحطات الرئيسية والفرعية على امتداد الشبكة|تفاصيل
  • حظك اليوم الإثنين 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025‎‎
  • ما أبرز الخروقات الإسرائيلية في قطاع غزة؟
  • صحف عالمية: إسرائيل تتحدى ترامب بالضفة وحراك للإطاحة بزيلينسكي
  • حملة (الـ 16 يوما لمناهضة العنف ضد المرأة) لا تكفي النساء في السودان
  • ارتفاع عدد شهداء الإبادة الإسرائيلية بغزة إلى 69 ألفا و733
  • “إقليم البترا”: 81 ألف زائر في تشرين الأول
  • حظك اليوم الأحد 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025‎‎
  • هل انتهى دور «إسرائيل» الوظيفيّ؟
  • حظك اليوم السبت 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025‎‎