الطريق إلى المشروع الإسلامي الجامع.. والبحث عن الهوية
تاريخ النشر: 8th, October 2025 GMT
الحداثة هي المشروع الفكري والاجتماعي الذي انطلق في أوروبا منذ عصر النهضة والتنوير؛ قامت على الإيمان بقدرة العقل والعلم والتقدم التقني على تحرير الإنسان من الجهل والخرافة والقيود التقليدية، ووعدت بإنشاء مجتمع مثالي قائم على الحرية والعدالة والعقلانية. لكن هذا الوعد سرعان ما تحوّل إلى منظومة سيطرة جديدة؛ إذ لم تعد الحرية هدفا لذاتها، بل أداة في يد الدولة والسوق والإعلام.
هكذا انتقل الإنسان من هيمنة الخرافة إلى هيمنة التقنية، ومن سلطان الكاهن إلى سلطان الخبير. ومع مرور الوقت، واجهت الحداثة أزمة في وعودها، فبدل المجتمع المثالي ظهر الاستعمار والحروب العالمية والأنظمة الشمولية.
هنا برزت ما بعد الحداثة، وبحسب ليوتار فهي ليست مجرد مرحلة زمنية، بل تشكيك في "السرديات الكبرى" التي بشّرت بها الحداثة: التنوير، والعقلانية، والماركسية، بل وحتى الليبرالية.
جوهر ما بعد الحداثة هو سقوط الإيمان بالحقيقة الواحدة أو الحل الشمولي، والاعتراف بتعدّد الحقائق والمعاني. فإذا كانت الحداثة تعد باليقين والعقلانية، فإن ما بعد الحداثة تحتفي بالاختلاف واللامركزية والشك.
لكن هذا السقوط لم يحرّر الإنسان، بل عمّق اغترابه: أصبح أكثر هلامية، فقدَ مرجعيته الدينية، ثم البدائل الوضعية، فبات بلا جوهر ولا روح، وأسهل في التوجيه والضبط.
لم يكن المسار الديني سهل التفكيك أمام الحداثة، لأنه مرتبط بسبب وجود الإنسان ذاته: حياته وغايته ومعنى كينونته. لذلك جرى تفريغه وتشويهه تدريجيا؛ صار الدين مجرد طقوس جامدة بلا روح، ثم صُوّر كـ"أفيون" يخدّر الجماهير. وبذلك سُحب من الإنسان مصدر قوته الداخلية، ليُعاد تشكيل وعيه وفق متطلبات المنظومة الحديثة.
في زمن ما بعد الحداثة، لم يعد الدين مجرد عدو يجب هدمه، بل أصبح مادة يُعاد تدويرها وإعادة تعريفها لتنسجم مع السياق العالمي، لا كمصدر مقاومة، بل كأداة احتواء.
من هنا نفهم خطورة "علمنة المشروع الإسلامي"؛ فهي ليست انسلاخا صريحا عن الدين، بل عملية ناعمة لإعادة تشكيل الإسلام كمنتج وظيفي يخدم استقرار النظام الدولي بدل مقاومته.
هذه العملية يقودها خصوم من الخارج ونخب من الداخل في آن واحد؛ نخب تدّعي تمثيل الإسلام لكنها تعيد إنتاجه في قوالب مقبولة عالميا تحت شعارات "التحديث" و"العقلانية" و"التفاعل الحضاري"؛ في جوهرها تُفرغ المفاهيم التأسيسية من بعدها التحرّري، وتدمجها في خطاب عالمي ناعم لا يصطدم بالمنظومة الغربية ولا يعارض الهيمنة الصهيونية.
يقول عبد الوهاب المسيري: "الصهيونية ليست مجرد مشروع يهودي، بل هي وظيفة غربية استعمارية خُلقت لعرقلة أي مشروع حضاري بديل، خصوصا المشروع الإسلامي بما يحمله من طابع توحيدي وشمولي".
وقد أدرك حسن البنا هذه الحقيقة مبكرا، فطرح مشروعا إسلاميا شاملا يبدأ بتربية الفرد وينتهي بأستاذية العالم، جامعا بين التربية والسياسة والجهاد: "لسنا حزبا سياسيا ولا هيئة موضعية، بل نحن فكرة ورسالة ومنهج حياة".
أما محمد عمارة فحذّر من هذه العلمنة المقنّعة بقوله: "الذين يريدون إعادة قراءة الإسلام في ضوء المعايير الغربية لا يعيدون قراءته، بل يُفرغونه من مضمونه".
التعليم والإعلام والقمع: ثلاثية تفكيك المشروع الإسلامي
لم تكن المواجهة مع الإسلام محصورة في السلاح أو السياسة، بل مع وعي الناس جميعا، لذلك جرى الاعتماد على ثلاثية محكمة: التعليم، والإعلام، والقمع.
1. التعليم: صناعة العقل العلماني
بدأ ذلك مع محمد علي، الذي جرد الأزهر من استقلاله، وأخضعه للدولة، وأقام مدارس حديثة منفصلة عن المرجعية الدينية. النتيجة: نخبة جديدة تحمل عقل الدولة الحديثة لا عقل الأمة.
2. الإعلام: إعادة رسم صورة الإسلامي
صوّر الإعلام الإسلامي إما كطيّب ساذج أو كمتطرف إرهابي. هكذا صار أي مشروع إسلامي خطرا على الوطنية والتقدم، بينما السياسي القادر هو الليبرالي أو العسكري، حتى بعض الحركات الإسلامية وقعت في هذا الفخ.
3. القمع: قتل المعنى قبل قتل الأشخاص
لم يقتصر القمع على اغتيال الأفراد، بل استهدف المفاهيم ذاتها. فكل محاولة لإحياء الإسلام كمرجعية حاكمة صُوّرت كخطاب رجعي معادٍ للدولة.
مأزق الإخوان المسلمين: بين السردية والبيئة
هل نجح حسن البنا في تقديم تعريف مستقل للجماعة خارج التصنيفات الغربية؟ أم تحوّلت مع الزمن إلى كيان هجين: لا حزب سياسي كامل، ولا حركة إسلامية خالصة، ولا مشروع دولة قادر على الصمود؟
التجربة القصيرة في الحكم في مصر لم تكشف فشل الفكرة، بل أظهرت حجم التحديات. فالمشروع الإسلامي حين يعمل داخل دولة منهكة ببنية عسكرية-بيروقراطية مرتبطة بالمنظومة الغربية، يجد نفسه في بيئة معادية.
الأزمة هنا ليست أزمة تنظير بقدر ما هي أزمة بيئة ووعي:
بيئة: مؤسسات أُعيد تشكيلها لتعمل ضد المشروع من جيش وأجهزة أمنية وإعلام مهيمن، إلى مناهج تعليمية وفنون تصوغ الذائقة العامة.
وعي: وعي مُصطنع تشكّل داخل ما يُسمّى بالنخب من رجال سياسة وفن وإعلام وحتى الرياضة، ممن تبنوا رؤية الدولة الحديثة المعلمنة وأعادوا إنتاجها كمرجعية عامة.
وفي إطار ما بعد الحداثة، بدا المشروع الإسلامي نفسه "سردية كبرى" في زمن يسخر من السرديات الكبرى. وهكذا وُضع في خانة الاتهام المسبق لمجرد كونه مشروعا جامعا.
المعركة الكبرى: استعادة المعنى
الصراع لم يعد بين جيوش فقط، بل بين سرديات: مشروع تحرري إسلامي يستمد مرجعيته من الوحي والتاريخ، ومشاريع وظيفية تسعى لاحتوائه.
قال حسن البنا: "إن الإسلام إذا قَبِل أن يكون ذيلا لفكر آخر فقد معناه، وفقدنا معه كل شيء".
المعركة الكبرى اليوم هي معركة المعنى: إعادة تعريف المفاهيم، وبناء خطاب إسلامي توحيدي يستمد من الوحي مرجعيته، ومن الواقع أدواته، ومن التاريخ دروسه.
ليست المواجهة فقط مع الاحتلال العسكري، بل مع الاحتلال الرمزي للعقول واللغة والمفاهيم، ومع إرث الحداثة وما بعد الحداثة الذي برمج الوعي العالمي على رفض أي حقيقة كبرى.
الخاتمة
المشروع الإسلامي لم يُهزم لأنه فكرة قاصرة، بل لأنه واجه منظومة أعادت تشكيل العقل المسلم ضده: تعليم يصنع نخبة معلمنة، وإعلام يشيطن صورته، وقمع يغتال الأفكار.
لكن كما استغرق التفكيك عقودا، فإن إعادة البناء تحتاج إلى تراكم وصبر طويل، ومشروع جامع يعيد للأمة ثقتها بذاتها.
إن البيئة المقصودة هنا ليست مجرد فراغ اجتماعي، بل شبكة مؤسسات قوية من جيش وأجهزة أمنية، وإعلام مهيمن، ومناهج تعليمية مصممة لإنتاج عقل بديل، وفنون تعيد تشكيل الوعي العام.
أما الوعي فليس وعي الجماهير وحده، بل وعي النخب من رجال السياسة والفن والإعلام وحتى الرياضة، الذين تمت برمجتهم على إعادة إنتاج النموذج الغالب وتقديمه كقدر لا بديل له.
وهكذا يصبح السؤال الأهم ليس: لماذا فشلت الحركات الإسلامية؟ بل: كيف يمكن لمشروع أن ينجح في أمة بُرمجت مؤسساتها ونخبها وعقولها مسبقا على رفضه؟
كل مشروع عظيم بدأ بحلم، وكل أمة عظيمة وُلدت من فكرة آمن بها رجال ونساء لم يعرفوا الاستسلام. واليوم نحن أمام فرصة أن نحلم حلما يليق بأمتنا؛ مشروعا جامعا يستعيد المعنى في زمن سقطت فيه المعاني.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الحداثة المشروع اخوان اسلامي مشروع حداثة مدونات مدونات مقالات اقتصاد سياسة مقالات مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المشروع الإسلامی ما بعد الحداثة
إقرأ أيضاً:
إطلاق مشروع دعم التراث الثقافي
صراحة نيوز-أطلق اليوم الثلاثاء في محافظة إربد مشروع دعم التراث الثقافي المستدام لحماية موقع أبيلا الأثري، بتمويل من الاتحاد الأوروبي وتنفيذ الوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي (AICS)، بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار ودائرة الآثار العامة، بهدف ترميم المعالم الأثرية، وتطوير البنية التحتية للموقع، وتعزيز دوره ضمن المسار السياحي الوطني.
وأكد الأمين العام لوزارة السياحة والآثار يزن الخضير، خلال رعايته حفل الإطلاق مندوباً عن وزير السياحة، أن المشروع يجسد التزام الأردن بالحفاظ على تراثه الثقافي كركيزة للهوية الوطنية والتنمية المستدامة، مشيراً إلى أن حماية التراث تمثل استثماراً في المستقبل يعزز السياحة الثقافية ويوفر فرصاً اقتصادية للمجتمعات المحلية، خصوصاً للشباب والنساء.
وأضاف أن المشروع يضع المجتمع المحلي في صلب العملية التنموية من خلال إشراكه في أعمال الصيانة والتأهيل والترويج السياحي، مثمناً دعم الاتحاد الأوروبي والوكالة الإيطالية المستمر في صون التراث الأردني وتعزيز الوعي بأهميته.
وأوضح مدير التعاون الدولي في بعثة الاتحاد الأوروبي لدى الأردن باتريك لامبريخت أن الاتحاد خصص منحة بقيمة 10 ملايين يورو لدعم التراث الحضاري في الأردن، لافتاً إلى أن إطلاق المشاريع في موقعي أبيلا ومكاور يمثل ثمرة تعاون بناء مع الحكومة الأردنية لتحقيق تنمية محلية وسياحية مستدامة.
كما أكدت رئيسة وحدة الشرق الأوسط في المفوضية الأوروبية آنا بيريس، أن دعم الاتحاد الأوروبي للتراث الثقافي في الأردن يعد من أبرز أولوياته، مشيرة إلى أن التعاون مع المجتمعات المحلية يجعل المواقع الأثرية مصادر فخر وانتماء وفرص اقتصادية.
وتضمن الحفل عرض تفصيلي لأهداف المشروع ومكوناته، والتي تشمل أعمال التنقيب والحفظ والترويج السياحي محلياً وعالمياً، إضافة إلى برامج تدريبية وتوعوية تربط المدارس والجامعات والمجتمع المدني بأهمية التراث الوطني والانتماء إليه. وفي ختام الحفل، تجول الحضور في الموقع الأثري واستمعوا إلى شرح حول تاريخه وأهميته الحضارية ضمن المشهد الأثري الأردني الغني.
ويذكر أن المشروع ينفذ بتمويل من الاتحاد الأوروبي بمنحة تبلغ خمسة ملايين يورو، تم توقيعها في حزيران 2024، لدعم أعمال الحفظ والترويج السياحي والتدريب في موقع أبيلا الأثري.