الإسلاميون التقدميون في تونس.. أول انشقاق فعلي في جسم الحركة الإسلامية
تاريخ النشر: 27th, February 2024 GMT
كان ظهور "الإسلاميون التقدميون" في المشهد العام في مطلع السبعينات بتونس حدثًا لافتا، لا للإسلاميين فقط بل للساحة الثقافية والإعلامية. فالحركة الإسلامية التي سمّت نفسها ب" الجماعة" ساعتها، في أوجه استقطابها ومدّها. فكان اعلان هذه "المجموعة" عن نفسها هو بمثابة أوّل انشقاق تشهده الحركة الإسلامية و "أوّل خروج عن الإجماع " وأوّل اختبار لها.
ما هي أسباب هذا الخروج؟ هل الاختلاف مع الجماعة كان حركيا تنظيميا أم عقائديا فكريا؟ هل طرحوا أنفسهم بديلا عن جماعة منغلقة تنظيميا ومتعصّبة عقائديا؟ هل هم حركة سياسيّة أم مجرّد فرقة ذات توجّه فكري مغاير؟ هل هم أفراد التقوا على نفس السّمت أم شكلوا تنظيما موازيا؟ ماهي مراجعهم الفكرية وما هي علاقتهم ب"اليسار الإسلامي" الذي ظهر في مصر؟ لماذا اختاروا هذه التسمية؟ هل أصلوا أطروحاتهم في " التراث الزيتوني"؟ كيف كانت علاقتهم بالسلطة السياسية: مهادنة ومسايرة أم اجتنابا وغضّ طرف؟
توجّهنا بكلّ هذه الأسئلة إلى "أب" هذه الجماعة الدكتور احميده النيفر في حوار صريح وشجاع. ولكن قبل هذا نحاول الإحاطة بظاهرة الإسلام التقدمي باعتبارها أحد التنويعات في التيار الإسلامي عموما.
أسباب الظهور ودواعيه
تعود الأسباب المباشرة لظهور ما يسمّى بـ"اليسار الإسلامي" ـ ولا يختلف عنه الاسلاميون التقدميون في شيء إلا في التسمية وسنرى ذلك في الحوارـ إلى الفشل الذريع في تحقيق أهداف الأمة من تقدّم وترقٍّ وتحديث نظرا لقصور المشاريع الوطنية والليبرالية والدينية والاشتراكية عن النّهضة الحقيقية. صار لزاما إذن تجاوز هذه الأطروحات إلى تركيب فكري آخر يجمع بين عناصر التراث والحداثة دون الوقوع في مثالب هذه أو تلك.
بدأت لبنات هذه الأطروحة تتجمّع في مجلّة "المسلم المعاصر" التي ظهر أوّل عدد لها في أبريل من سنة 1975 وشهدت حوارات ساخنة حول هذه المسألة. وممّن شارك في هذه المحاورات الفكرية رضا محرم وفتحي عثمان وسيف الإسلام محمود وخاصّة حسن حنفي. ويمكن ارجاع هذه "اليسارية" إلى ما سمّاه رضا محرّم ب" سيادة الفكر والتنظيم لليسار" وعليه "فإنّ جمع المسلم المعاصر بين صفتي "المسلم" و"اليساري" تصبح ظاهرة طبيعية بل وتصبح ظاهرة لا بدّ منها حتى لا تصيبه حالة فصام حضاري".
زد على هذا القوّة الذاتية والموضوعية لليسار التي " تضمن له النجاح في دنيا الواقع وترتّب له الامتداد في رحم المستقبل". ويضيف حسن حنفي " اليسار الإسلامي نتيجة حتمية لنجاح الثورة الإسلامية الكبرى في ايران" كما أنّه "تطوير للإصلاح الديني". (حسن حنفي :ما هو اليسار الإسلامي؟)
أمّا عن أهداف هذه الحركة الفكريّة فيمكن تلخيصها في: النقد الذاتي للحركة الإسلامية بروح الناقد المخلص لا روح العدوّ ووضع استراتيجية لحركة لا تملك بدائل وتكتفي بما هو أخلاقي فقط واحياء الجوانب الثورية والعناصر التنويرية في التراث واطلاق حوار مع سائر الاتجاهات من ماركسية وقومية وليبرالية لتجاوز التناقضات الظاهرة وأخيرا اقامة مجتمع اسلامي لا "المجتمع الإسلامي" لأنّه حسب رأيهم متعدد ولا يوجد نموذج له أو مثال للاحتذاء.
الخصائص الفكرية لليسار الإسلامي
يمكن أن نقف على الخصائص الأهمّ لهذا الفهم الجديد للإسلام بشكل مختزل وتتمثّل في أربع مسائل أساسيّة:
ـ نظريّة المعرفة وتعني علاقة المثلّث: الوحي/العقل/الواقع وتفاعل عناصره فيما بينها. فالوحي له مهمّة انشاء مجتمع الانسان/الخليفة من خلال امتزاجه بالعقل والواقع لصياغة الشريعة التي هي المقاصد من وراء كلّ وحي يوحى. وهذا يقود حتما لمعاداة "منهج النّص" في الفهم السلفي باعتباره سابقا على الواقع والعقل. فيرون أنّ النّص برهان خارجي والواقع يقين داخلي. فلا يستقيم الأمر عندئذ إلاّ بإعادة ترتيب الأولويات. يقول حسن حنفي في كتابه "التراث والتجديد": "فلا سلطان إلا للعقل ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه"( ص 57)
ـ الموقف من التراث: هو موقف نقدي تاريخي وذلك بأخذ مسافة عنه: فلا هو بالمقدّس عندهم ولا أيضا بالمرفوض جملةً. حسبهم منه احياء الجوانب الثوريّة والتقدميّة والتنويريّة. ويجدون في تراث المعتزلة سببا ووتدا لرؤيتهم العقلانيّة. وهذا يجرّ بالضرورة إلى التجديد على مستوى اللغة التي تلبّست بالخطاب اللاّهوتي الديني وشحنها بالعبارات المعاصرة مثل الحداثة والتقدم والجماهير والتحرر... وعلى مستوى الأفكار بالتخلّص من التمركز حول الله إلى التمركز حول الانسان.( ص140)
ـ الفهم المقاصدي للشريعة: ويعنون به أنّ الشرائع بمقاصدها العليا ذات الأولوية تمثّل مبادئ ثابتة. وهي خمسة: الانسانية، العدل الاجتماعي، الحرية، المبدئية، التقدّم. وعلى رأس هذه ما يسمونه "المصلحة " كأداة تشريعية أولى، قالبين بذلك ترتيب علماء أصول الفقه في التشريع.
ـ الانتماء السياسي للمسلم: يرى الإسلاميون التقدميون أنّ المسلمين لم يكونوا يوما فرقة واحدة ولا اتجاها فكريا واحدا فوجب إذن اختيار انتماء مهما كان دون نزع صفة "المسلم" عن صاحبها سواء كان يمينا أو يسارا. ولهذا يرفضون مقولة "الحاكمية لله" التي تصبغ السياسة الدنيوية بالصبغة الدينية المتعالية فلا حرج عندئذ من تبنّي "العلمانية" التي تمثّل "استرداد الانسان لحريته " ( التراث والتجديد ص 71)
إنّ الناظر لهذا الفهم وأهله وبقطع النّظر عن الموقف "الانفعالي" منهم ل "شقّهم صفّ الجماعة" أو ممّن سمّاهم راشد الغنّوشي ب" المتساقطون على الطريق"، فإنّه هو نفسه يقرّ بفضلهم في تأسيس خطّ نقدي داخل الجماعة وإعادة النظر في الأدبيات الإخوانية وتطوير النّظر إلى المختلف والمغاير من بقية السرديات الكبرى.
د. احميده النّيفر:
هو كاتب ومفكر تونسي وأستاذ جامعي متخصص في أصول الدين والفكر الإسلامي المعاصر.حاصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من جامعة السوربون بباريس، فرنسا، سنة 1970م، وعلى دكتوراه الدولة في العلوم الإسلامية، جامعة الزيتونة 1990م، تخصص أصول الدين. له مجموعة من الأبحاث والدراسات المنشورة التي تعنى بسؤال التجديد من بينها: "مختصر تفسير المراغي" و"التفاسير القرآنية الحديثة: قراءة في المنهج" و"بين القصر والجامع: إضاءة على المؤسسة الدينية الأندلسية". وهو عضو بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" ورئيس رابطة تونس للثقافة والتعدد. ويُعتبر هو الأب المؤسّس ل"الإسلاميون التقدميون في تونس" من خلال رئاسة تحرير مجلّة "15 ـ 21".
في مكتبته المرتّبة الأنيقة، استقبلنا محتفيا ودار حوار حول أسئلة لا تزال حسب اعتقادي معلّقة. فقد بدأ الحديث من حيث لم نحدّده حول "الأستاذ راشد الغنوشي" الذي اعتبره حداثيا ولم يكن يوما سلفيا في رؤيته. وله قابلية فكرية لتبنّي المنجز الحداثي في المؤسسات والمفاهيم العقلانية. وعن الاختلاف الذي وقع معه ومع الجماعة الإسلامية وبداية ظهور الإسلاميين "الجدد" أجاب سي احميده أنّ الحركة الإسلامية في تونس قد وُلدت ب"ثلاثة رؤوس" وهم: راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو واحميده النيفر. ولئن كان ثلاثتهم متديّنين التقوا في المساجد في سياق "الصّحوة الإسلامية" في السبعينات، فإنّهم كانوا في الحقيقة بتوجّهات مختلفة ووجهات نظر متباينة: كان عبد الفتاح مورو أميل للخطابة والدعوة يرى أنّ مناط الجماعة هو جعل الإسلام شاملا للحياة عامّا وأنّ أهمّ أدوارها هو اقناع الناس بالعودة إلى التديّن وريادة المساجد.
وأمّا راشد الغنّوشي فقد كان منشغلا أكثر ببناء تنظيم ذي مرجعيّة إسلاميّة والمشاركة السياسية القانونية المباشرة في معركة "التأصيل والتغريب" وأنّ الحركة منتدبة لتلك المهمّة، غير أنّ احميده النيفر كان معنيا أكثر بالتكوين الفكري والعقائدي. لهذا حين توجّه باسم التنظيم الجديد إلى مصر تقريبا سنة 1973 بدعوة من الإخوان المسلمين وجد أنّهم "متشنّجون" بعد خروجهم من سجون عبد النّاصر يحملون رؤية منغلقة لمجتمعهم ورافضين لفكرة الحزب السياسي "لأنّ الإسلام أوسع من الأحزاب" ولمّا دُعيَ للبيعة رفض ذلك في الوقت الذي قَبِلها محفوظ النّحناح مؤسّس حركة مجتمع السلم بالجزائر.
وبسؤاله "عمّا حدث" أشار محدّثنا إلى أنّ الاختلاف مع الجماعة قد بدأ يتفاقم خاصّة بعد عرض مجموعة من الأحاديث والمقتطفات من الكتب التي كانت تركّز على "فهم معاصر وحداثي للإسلام" لترويجها داخل الحركة فوجّهها رئيس التنظيم لعبد المجيد النّجار الذي رفضها دفعة واحدة. وبدا له أنّ التوجّه التّراثي قد غلب على الجماعة وضاق عليه تنظيم شمولي شبيه بالأحزاب الحديدية. فكان الخروج عنه هو الخيار الوحيد الممكن. سألناه عن محاولات رأب الصدع والتوسّط في الخلاف فأجاب :" حرص البعضُ على الوساطة ورأب الصدع لمدة أشهر عبر لقاءات حوارية متعثرة. ما تحقق من هذه المحاولات هو اتساع الخرق على الراقع لِما كشفته تلك اللقاءات من تعذر التوصل إلى قدر من التوافق يسمح بالعودة إلى عمل جامع."
فيما يتعلّق بمرجعيّات هذا الفهم الجديد، أكّد سي احميده أنّ متابعته لحوارات مجلّة "المسلم المعاصر" وبعد هذا، ظهور كتب توسّع من هذا الفهم الحداثي للإسلام خصوصا كتب حسن حنفي : من العقيدة إلى الثورة والتراث والتجديد وغيرهما، رأينا أنّنا على طريقة واحدة. وكان علينا بعد ذلك أن نلتفت إلى "مراجعنا الزيتونيّة" فوجدنا في كتب محمد الطاهر بن عاشور مثل مقاصد الشريعة الإسلامية وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام ما يؤكّد توجّهنا وفهمنا. "ولكنّكم آثرتم تسميّة (الإسلاميون التقدميون) على اليسار الإسلامي" فأجاب أنّ هذا ما يميّزهم عن المشارقة: فلئن كانوا يتبنّون مقولات اليسار الإسلامي إلاّ أنهم جعلوا صفة الإسلام أسبق على التقدّم واليساريّة لأنّهم يرون أنّ الأصل هو الإسلام بدلالته الدينيّة والحضاريّة وما سواه مُستمدٌ من مبدإ الاستخلاف المستحضِر لمداه التاريخي الانساني.
وعن امكانيّة تكوين حزب سياسي قال: "موضوع تكوين حزب سياسي كان غير مطروح بالمرّة لأن اهتمامنا كان بالأساس هو إنشاء تيار فكري كان يعمل على تقديم إجابات عن قضايا عقدية وتاريخية وفقهية موقوفة أو مسكوت عنها. عندما وقع الانفصال عن الجماعة كان الهدف تخطّي عناصر السردية السائدة التي صرنا نراها سببا لعجز الحركة عن المعاصرة والتقدم."
سألناه عمّا أضافت مجلّة 15 ـ 21 أجاب: "بمجلة 15 ـ 21 أمكننا القيام بجملة اختبارات لفرضية الرهان على انخراط فكري حضاري واع للمسلم في قضايا العصر الحديث ومعارفه. السؤال المطروح الذي سيصاحب المجلة ويدفع القُرّاء لحمل قلقنا الحضاري والوجودي والمتعلق بالآخر وبالذات: الآخر المختلف، كيف يمكن عدُّه، من الداخل الثقافي، مدخلا نموذجيا للوعي الذّاتيّ؟ وللذات بتفاعلها مع الآخر المختلف كيف تصبح أقدر على الإضافة الفكرية والثقافية والاجتماعية والقيمية محليا وإنسانيا؟ في كلمة، المجلة عملت على بناء سمتٍ ثقافي جديد للإسلام في تونس وفي المجال العربي شعاره: أنت لن تكون أنت حتى تكون الآخر".
وفي الأخير كان لابدّ من سؤال يقيّم من خلاله حركته الأمّ فكان جوابه :"تواجه حركة النهضة تحديا مصيريا يتطلب منها مراجعات فكرية وعقدية عميقة مع ضرورة تقييم لمسيرتها الممتدة خاصة منها ما خاضته في العشرية التي تلت ثورة 2011. أعقد ما في هذه المراجعات وأوكدها هو بناء وعي جديد مدرك أن عموم الحراك الإسلامي الاحتجاجي والسياسي مُنتَج غربي لم يَسْتَبْقِ من إسلام الثقافة والحضارة ومكوناته الرمزية والاعتقادية والأخلاقية والإنسانية والتي تتشكّل باختلاف الأزمنة والنظم الإنتاجية والسياسية إلا العنوان واللبوس والطقوس."
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير حوار الاسلاميون تاريخي تونسي تونس تاريخ حوار اسلاميون أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحرکة الإسلامیة هذا الفهم فی تونس
إقرأ أيضاً:
المكتب الجهادي للمليشيات الحوثية في اليمن.. على خطى الباسيج الإيراني في التعبئة والتجنيد
يهدف هذا المقال التحليلي إلى فهم طبيعة المكتب الجهادي للمليشيات الحوثية في اليمن ودوره التنظيمي والفكري داخل بنية الجماعة، مع محاولة تتبع خلفيات نشأته وتأثيره في منظومة التجنيد العقائدي والقتالي، وتأثيره على المجتمع والدولة، وصولًا إلى مخاطره الإقليمية والدولية.
فالمكتب الجهادي لا يُعدّ مجرد وحدة دعوية أو فكرية، بل هو جهاز مركزي يربط بين العقيدة والسلاح، بين الحوزة والجبهة، وبين الخطاب الديني والتوجيه الميداني، وقد تشكّل هذا الجهاز بشكل تدريجي منذ النواة الأولى لحركة “الشباب المؤمن” في محافظة صعدة مطلع التسعينيات، مستلهماً نموذج “الباسيج” الإيراني في التعبئة والتجنيد وفق أدبيات ولاية الفقيه، ثم تحوّل بعد عام 2014م إلى كيان مؤسسي يملك سلطة توجيهية على المستويين العقائدي والعسكري (تقرير فريق الخبراء الأممي المعني باليمن 2024، وهيومن رايتس ووتش 2023).
ما هي النبذة التعريفية عن "المكتب الجهادي" ودوره التنظيمي داخل بنية الجماعة؟
المسمّى الرسمي قد يختلف داخل هياكل المليشيات الحوثية لكنه يشير إلى جهاز فكري-دعوي-تنظيمي ينسّق صلاحيات دينية وتعليمية وتعبوية مرتبطة بتبرير العمليات العسكرية، وتشكيل الخطاب العقائدي داخل الجماعة، وبلورة سياسات التجنيد والتعبئة، ويعمل هذا الجهاز بالتكامل مع الأجنحة العسكرية والإدارية (القيادة السياسية، الأمن، الحوزات والمراكز الدعوية)، فيهيئ المشروعية الدينية اللازمة لتحويل النزاعات السياسية إلى مشروع قتال “جهادي” بحسب لغتهم الداخلية، وتشير دراسات ميدانية وتحليلات استخبارية إلى وجود تنسيق مركزي وهيكل قيادي يدير هذا الجانب ويستمد عناصره أمنيًا وفكريًا من مستويات عليا داخل الحركة، خصوصًا من مكتب زعيم الجماعة ودوائر التعليم والتعبئة المرتبطة به (تقرير مجموعة الأزمات الدولية، 2023).
كيف يسهّل المكتب الجهادي عمليات التجنيد العقائدي والقتالي؟
المكتب يبني سردًا دينيًا ووجوديًا يحوّل الخسائر والأزمات إلى «محنة» وطنية أو عقائدية، ويضع استقطاباً مرحليًا يبدأ بالتجنيد أماميًا في المدارس والحوزات ثم التحول إلى تدريب شبه عسكري وإلزام بمراكز التعبئة، كما يوفر آليات لفرز المجندين وتوزيعهم على تشكيلات قتالية أو وحدات دعم لوجستي، ويستخدم أيضاً أنظمة إدارية (سجلات، قوائم، مكافآت مالية أو امتيازات اجتماعية) لتثبيت التجنيد وتحويله إلى بنية مستمرة وليست حملة موسمية فقط، وتشير تقارير صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) في 2024م إلى أن هذا المكتب يقف خلف إدارة وتنسيق برامج التجنيد في المدارس والمراكز الصيفية بمناطق سيطرة الجماعة، حيث يتم استدراج الأطفال عبر ما يسمى “الدورات الثقافية” ثم نقلهم إلى معسكرات التعبئة في صعدة وعمران وحجة.
ما أبرز أدوات الحوثيين في استقطاب الشباب عبر الخطاب الديني؟
الأدوات ثلاثية: أولاً، تأطير النص الديني عبر فتاوى ومحاضرات تضع الصراع في خانة فرض عين أو دفاع عن الأمة، ثانيًا، استغلال الأحداث الإقليمية مثل الحرب في غزة أو الغارات الأميركية لتعبئة وجدانية تربط بين “الجهاد” المحلي والمواجهة العالمية ضد “الاستكبار”، ثالثًا، استغلال الضغوط الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية لاستمالة الشباب عبر وعود مادية أو امتيازات رمزية، أو عبر استهداف الأيتام والفقراء بمنح تعليم أو مراكز تدريب مقنّعة، وهذه الأدوات تعمل ضمن منظومة دعائية متكاملة عبر الإعلام الرسمي والحوثي والمنابر والمدارس، كما توثق تقارير منظمة العفو الدولية (2023) وجود استخدام مكثّف لخطاب ديني تعبوي قائم على الكراهية والتحريض المذهبي في المدارس والجامعات.
كيف توظف المليشيا المنابر والمناسبات الدينية لخدمة أهداف التجنيد؟
المناسبات الدينية كأيام عاشوراء، والاحتفالات بالمولد النبوي، وخطب الجمعة، واللقاءات الحسينية، تتحول إلى منصات لتقديم نماذج بطولية ومشاهد رمزية للتضحية، كما تُستغل المخيمات الصيفية والمراكز الثقافية المدرسية لنشر مضامين تعبويّة وعسكرية في قالب أنشطة دينية أو تعليمية، مما يسمح بانتقاء شباب قابلين لتلقّي التدريب لاحقًا، وتشير تقارير فريق الخبراء الأممي إلى أن المليشيا حوّلت 80% من المراكز الصيفية عام 2023 إلى مراكز تعبئة فكرية وتنشئة عقائدية تمهّد لتجنيد القاصرين والمراهقين.
وما علاقة المكتب الجهادي بالحوزات والمراكز الثقافية التابعة للجماعة؟
الحوزات والمراكز الثقافية تُعدّ شبكات إيديولوجية أساسية للمكتب الجهادي، فهي تزوّده بالشرعية الدينية والنخبة المدربة على الخطاب، وتُستخدم كمخازن بشرية لترويج فتاوى ومناهج تُطوّع الفقه لصالح أهداف الجماعة، والعلاقة عادة تكاملية: الحوزات تضع الإطار الفقهي، والمكتب يوفر الاتجاه السياسي والتسيير الميداني، مع تقاطع في التمويل والإدارة أحياناً، والنتيجة هي دمج ديني للمشروع السياسي والعسكري عبر مؤسسات مدنية-دينية، وقد وثّقت تقارير مركز صنعاء للدراسات (2022) هذا التكامل بين الحوزات والمكاتب الجهادية، مشيرة إلى أن بعض المشرفين على الحوزات يتولون مسؤوليات عسكرية ميدانية.
كيف يؤثر هذا المكتب على النسيج الاجتماعي والمذهبي في اليمن؟
آثاره عميقة ومتشعبة، إذ يُغذّي الانقسام الطائفي والمذهبي عبر خطاب يستثمر الاختلافات المحلية، ويضعف مؤسسات التعليم والحيّز المدني بصبغها أيديولوجيًا، ويصنّف المجتمع إلى فئات مؤيدة ومعارضة بصيغ تؤدي إلى استقطاب وملاحقات اجتماعية (الطرد من العمل، العزل المؤسسي، الضغط على الأسر)، كما تُخضع شبكات التضامن المحلي لولاءات جديدة تُغيّر ديناميكيات القبائل والمجتمع المدني، وتشير دراسة صادرة عن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى (2023) إلى أن المكاتب الجهادية للحوثيين أدت إلى تآكل النسيج الاجتماعي وتحويل الانتماء المذهبي إلى معيار ولاء سياسي.
ما حجم تورط المكتب الجهادي في تجنيد الأطفال والزج بهم في الجبهات؟
المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية وثقت أنماطًا مستمرة ومنهجية لتجنيد الأطفال من قبل الحوثيين، واستخدامهم في القتال والدعم اللوجستي والفصائل الأمنية، وأكدت تقارير الأمم المتحدة (2023) تجنيد أكثر من 2000 طفل خلال عام واحد، بعضهم دون سن 15 عامًا، وتزايد هذا النشاط بعد الحرب في غزة في أكتوبر 2023م، وهو سلوك مصنّف كجريمة حرب وفق المعايير الدولية، وأشارت هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية إلى أن المكتب الجهادي يشرف على هذه العمليات ميدانيًا بالتنسيق مع قادة الوحدات الميدانية ووزارة الدفاع الحوثية.
ما هي طرق مواجهة هذا النشاط الإجرامي ومناهضته؟
المواجهة تحتاج مزيجاً من الأدوات، منها التوثيق المنهجي للانتهاكات، وحملات إعلامية مضادة تعيد التأطير الديني والإنساني، وبرامج بديلة لحماية الأطفال (التعليم والدعم الاجتماعي للأسرة)، وضغط دولي وسياسي يحمّل القادة الحوثيين مسؤولية الانتهاكات، مع تعزيز مؤسسات التعليم الأهلي والرسمي وتقنين المنابر الدينية وتدقيق مناهج الحوزات، والمنظمات العاملة بإنصاف يجب أن تنسق مع الحكومة الشرعية والهيئات الدولية لوضع آليات حماية وتتبّع وإعادة تأهيل.
ما دور الحكومة الشرعية والمنظمات الحقوقية في التصدي وفضح الآليات وتوثيق الانتهاكات؟
دور الحكومة الشرعية يجب أن يكون مزدوجاً: داخلي عبر جمع الأدلة وتقديم القضايا أمام محاكم وطنية ودولية عندما يسمح الظرف، وخارجي عبر شراكات مع الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية لرفع الوعي الدولي وفرض قيود وقرارات، والمنظمات الحقوقية الدولية تقوم بالتوثيق والضغط الدبلوماسي، وعلى الحكومة تسهيل وصولها وإمدادها بالبيانات والضمانات لحماية الشهود والضحايا، كما على المجتمع المدني حشد الروايات الشفوية وتحويلها إلى ملفات قانونية، وفضح الآليات يتطلب أدلة ميدانية وشهادات مصورة وسجلات تجنيد وبيانات مالية حيث أمكن، وفق توصيات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة (2024).
الخطر يمتد من عنصرين: أمنيًا — عبر تحويل اليمن إلى منصة للتدخلات الإقليمية والتوسع بعمليات هجومية أو تهديد الملاحة في البحر الأحمر والخليج العربي، وسياسيًا — عبر تصدير خطاب تجنيدي طائفي يثير استقطاباً في دول مجاورة ويخلق حواضن محلية للصراع، إذ أن وجود جهاز يدمج خطاباً دينياً متطرفاً مع قدرات عسكرية يرتّب مخاطر على الاستقرار الإقليمي، فالنتيجة قد تكون تهديداً للممرات البحرية والحدود والعمليات الإرهابية العابرة للدول، وهو ما حذرت منه تقارير الأمن الإقليمي العربي الصادرة عن مجلس وزراء الداخلية العرب في 2023م.
ولابد أن يكون لدى الحكومة الشرعية القدرة على البدء بالخطوات العملية المقترحة للتعامل مع التوثيق والبحث الميداني
أولاً: البدء بملف توثيق مركزي يتضمّن شهادات ناجين، وصورًا وفيديوهات للمراكز الصيفية، وقوائم أسماء المجندين، وسجلات مالية إن أمكن، وتواريخ دقيقة لكل حدث.
ثانيًا: التنسيق مع منظمات حقوقية دولية (هيومن رايتس ووتش، العفو الدولية، مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان) لتوثيق وتقديم تقارير مشتركة.
ثالثًا: إنشاء حملات بديلة على المنابر الشرعية يظهر فيها فقهاء مستقلون يرفضون تجنيد الأطفال ويعيدون قراءة النصوص الدينية بما يحمي المجتمع.
رابعًا: برامج إعادة تأهيل نفسية وتعليمية للأطفال العائدين، وشبكات حماية اجتماعية للأسر لتقليل اقتصاد الاستغلال.
خامسًا: الضغط الدولي لقضايا المساءلة وفرض عقوبات موجهة على القيادات والممولين المسؤولين عن تجنيد الأطفال، وربطها بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة (القرار 2624 لسنة 2022).
إن المكتب الجهادي للحوثيين يمثل اليوم حجر الأساس في مشروع الجماعة الفكري والعسكري، وتحليله وكشف بنيته هو الخطوة الأولى في مواجهة خطره، لأنه يجسّد التقاء العقيدة والسياسة والسلاح في كيان واحد، يهدد المجتمع اليمني أولًا، والمنطقة بأسرها ثانيًا.