للسياسي الفرنسي المعروف جورج كليمنصو مقولة شهيرة وهي (إن الحرب أمر جلل لا يجب أن يترك للعسكر فقط)، وقد أثبتت العديد من وقائع التاريخ صحة هذه المقولة، فقرارات الحرب والسلام يجب أن يشارك فيها الدبلوماسيون لتجنب الحرب وفرض السلام قدر الإمكان، وهذا لا يعني تجاهل آراء ومقترحات العسكر بل يجب أن تؤخذ في الحسبان عندما تعجز الدبلوماسية عن إيجاد الحلول لتجنب قرار الحرب، كونها الوسيلة الوحيدة لدعم الاستقرار وبسط سيطرة الدولة على أراضيها.
غير أن الدبلوماسية أمر مختلف تماماً، فالحلول الدبلوماسية ترتكز على مواجهة المشكلة والبحث في جذورها والتوصل لحل عميق لكافة جوانبها، وهو ما يعني مخاطبة جميع الأطراف المعنية ومناقشة متطلباتهم ثم التوصل لتسوية ترضي جميع الأطراف؛ حيث يحصل كافة الأطراف المنخرطين في الصراع على مزايا متقاربة، كما يقدّم كل منهم تنازلات متساوية، وبالتالي يتم -من خلال عقد عدة جولات تفاوضية هادفة- الحصول على حلول مستدامة ونهائية تضمن عدم خوض أي صراع أو حروب مستقبلية، فالتفاوض يسعى لتجنب الحرب في المستقبل خاصة إذا كان كلا الطرفين جاداً في رغبته في إنهاء النزاع، والدبلوماسية يجب ألا تضغط على طرف لصالح طرف آخر، بحيث تبقي أحدهما مضطرباً محتقناً على أهبة الاستعداد لتوفر اللحظة المواتية للانقضاض على الطرف الآخر، وبالتالي تستديم حالة الاضطراب المحفوفة بالخطر طيلة الوقت وتخيم على شعوب كلا طرفي النزاع.
من الملاحظ أن إسرائيل منذ نشأتها وحتى يومنا هذا لا تعتمد مفهوم الدبلوماسية مع العرب، فهي لا تنتهج سوى نهج عسكرة السياسة، ولا تؤمن إلا بلغة القوة كلغة حوار مع جيرانها، كما أنها لا تؤمن إلا بمنطق التفوق العسكري ولا تعتقد أنه بإمكانها التواجد بسلمية وسط محيطها العربي دون أن تتفوق عليهم عسكرياً، ومن المؤسف أن تكون هذه الأفكار الصراعية أيضاً أفكار بعض الدول العظمى؛ فبعض الدبلوماسيين في الدول الغربية يؤمنون بأن التفاوض يأتي بعد شعور الطرف الضعيف بالملل والانكسار، وهذا المبدأ تتبعه إسرائيل خلال مفاوضاتها مع الفلسطينيين حتى تستطيع أن تحصل منهم على أكبر قدر ممكن من التنازلات.
لا شك أن هذه السياسة التعسفية تدل على سطحية قادة إسرائيل وتبرهن على افتقاد زعمائهم لأبسط قواعد الفهم السياسي والحكمة المطلوبة لدى الساسة لقيادة أي دولة، ولو نظر قادة إسرائيل للمأزق السياسي الذي تعاني منه إسرائيل منذ نشأتها فسيجدون أن دولتهم منذ تأسيسها وهي في حالة حرب مستمرة مع الدول العربية؛ فهي تخوض أنواعاً مختلفة من الصراعات العسكرية، بعضها داخلي مع الفلسطينيين وبعضها خارجي مع جيرانها، ولا شك أن أول من عانى من تلك السياسة الرعناء هو الشعب الإسرائيلي، والذي وجد نفسه منخرطاً في صراعات هنا وهناك دون ظهور أية بوادر للسلام، فدوي صفارات الإنذار وهلع جموع الشعب وحالات الطعن والدهس والقتل تمثل أرقاً دائماً للشعب الإسرائيلي، غير أنها نتيجة مباشرة لممارسات زعمائه المتطرفين التواقين للحرب، فإسرائيل لا تفكر إلا بلغة العسكر، وهم المسيطرون على سياسة إسرائيل الخارجية البعيدة عن دبلوماسية الحوار.
لا شك أن قادة إسرائيل لا يتمتعون بأية فطنة سياسية من أي نوع، فلو كانوا يمتلكون أقل القليل منها لأدركوا أن سياسة القوة والتهديد لا يمكن أن تؤتي ثمارها أبداً على المدى الطويل، فالعرب لم ولن يتنازلوا أبداً عن حقوقهم المشروعة، وأن القتل المستمر والممنهج للفلسطينيين لا يعني موت القضية، فسيولد جيل جديد يحمل القضية في قلبه وفي أعماقه، فالقضية لن تموت أبداً، وقادة إسرائيل المتطرفين لا يرون من البحر سوى سطحه، لذا فإن الدموية المفرطة وعدم مناقشة القضايا الخلافية بالجدية الكافية سيجعل المنطقة مسرحاً للصراع لعقود وربما لقرون قادمة حتى يعود الحق لأصحابه.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله السنوار الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية عام على حرب غزة
إقرأ أيضاً:
الحرب مع إيران تكشف فشل منظومة الحماية المدنية الإسرائيلية
القدس المحتلة- لم يتضح بعد كيف ستنتهي الحرب بين إسرائيل وإيران، لكن المؤكد أن الملاجئ عادت لتتصدر المشهد، من مساحات مهجورة ومهملة تفوح منها روائح "العفن"، إلى السلعة الأكثر طلبا في زمن الطوارئ.
لم يعد الإسرائيليون يكتفون بالاختباء في بيوت الدرج أو الغرف الداخلية كما في حروب سابقة مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أو الحوثيين، فالتهديد الإيراني، بما يحمله من صواريخ دقيقة ومتفجرة، فرض واقعا جديدا لا يترك أي مجال للتهاون.
مع اشتداد الهجمات الصاروخية الإيرانية واتساع نطاق المواجهة، كشف الواقع -خلال الأيام الماضية- عن صورة قاتمة، من حيث النقص الحاد في عدد الملاجئ، والاكتظاظ غير المسبوق، وانعدام الحد الأدنى من الجاهزية والخدمات.
ملاجئ متهالكةفي مدن كبرى مثل تل أبيب وحيفا والقدس، وحتى في بلدات قريبة من جبهات القتال، وجد آلاف الإسرائيليين أنفسهم يركضون نحو ملاجئ عامة متهالكة، بعضها مغلق، وبعضها الآخر غير صالح للاستخدام وأشبه بمجمع للنفايات. وفي غياب بنية تحتية جاهزة لحالة الطوارئ، تحولت هذه المساحات إلى رمز لغياب "العدالة" في توزيع الحماية.
إضافة إلى ذلك، فإن حادثة سقوط الصاروخ في مدينة بيتح تكفا، المقامة على أنقاض بلدة ملبس المهجّرة، التي قُتل فيها زوجان نتيجة إصابة مباشرة لملجأ، زادت من قلق السكان الإسرائيليين، وشككت في فعالية هذه المساحات المحمية.
على مدار عقود، انسحبت إسرائيل تدريجيا من مسؤولية تجهيز الملاجئ، وتمت خصخصة هذه المساحات داخل المباني السكنية، وأصبحت الحماية مرهونة بالقدرة المادية، فمن يملك المال يعيش في شقة تضم غرفة آمنة مجهزة، ومن لا يملك، يُترك لملاجئ عامة تفتقر إلى أدنى مقومات السلامة.
وحسب تقرير مراقب الدولة القاضي المتقاعد يوسيف شابيرا لعام 2018، فإن 38% فقط من الإسرائيليين لديهم ملاجئ داخل منازلهم، بينما يعتمد الباقون على ملاجئ عامة قديمة ومهملة أو لا يحظون بأي حماية.
إعلانمع تصاعد الحرب بين إسرائيل وإيران، برزت هذه الفجوة بوضوح، فكثيرون لم يجدوا مأوى قريبا واضطروا لقطع مسافات طويلة تحت صافرات الإنذار، بينما اشتكى آخرون من سوء التهوية وانعدام المياه، أو حتى عدم وجود إضاءة في الملاجئ التي تكدست النفايات في بعضها.
في هذا السياق، برزت فضيحة في مدينة "بني براك" حين اكتشف السكان الذين هرعوا إلى عدة ملاجئ عامة أنها مغلقة، حسب صحيفة يديعوت أحرونوت، فالحادثة الأبرز كانت في مدرسة تضررت بفعل صاروخ، حيث كان الملجأ مغلقا ولم يصل إليه المسؤول عن فتحه، مما أجبر السكان على البحث عن آخر.
وقال بعضهم للصحيفة إن إغلاق الملجأ أنقذ الأرواح، إذ كان من الممكن أن يُحتجز من بداخله تحت الأنقاض، في حين اعتبر آخرون ذلك ذريعة لتبرير الفشل.
تقصير عميق
ملجأ آخر يُستخدم كفصل دراسي في معهد ديني وآخر كمستودع لمنظمة إنقاذ، وجميعها كانت مغلقة. بعض السكان كسروا الأقفال بالفؤوس بعد تجاهل البلدية نداءاتهم المتكررة. ووصف عضو المجلس البلدي، يعقوب ويدر، الأمر بالفضيحة قائلا: "لا يعقل أن تكون الملاجئ العامة مغلقة في أكثر مدن إسرائيل ازدحاما، وفي ذروة الحرب".
من جانبها، تقول عنات جورجي محررة مجلة "ماركر ويك" إن هذا الواقع أعاد طرح تساؤلات جدية حول مسؤولية إسرائيل في حماية مواطنيها، واستعداد الجبهة الداخلية لحرب طويلة أو مفاجآت إستراتيجية، مشيرة إلى أن التهديد الإيراني أعاد تفعيل الخطر، لكنه أيضا عرى تقصيرا عميقا في البنية الدفاعية المدنية التي يفترض أن تكون خط الحماية الأخير للمجتمع.
وتضيف جورجي "يوما بعد يوم، تتوالى القصص عن إسرائيليين يهرعون لتنظيف الملاجئ وتهيئتها، وآخرين يُمنعون من دخول ملاجئ مجاورة، لأنها خاصة. وتتناقل على وسائل التواصل تغريدة لشخص روى كيف طُردت عمته من ملجأ أحد المباني، بسبب الاكتظاظ، وعلق السكان لافتة تقول: الملجأ خاص؛ لن يُسمح بدخول الزوار".
ووفقا لها، فإن الواقع في الملاجئ العامة قاتم، من اكتظاظ، وغياب التهوية، وكراسي بلاستيكية متهالكة، وتغطية هاتفية منقطعة، وغياب تام لأي خدمات طارئة. والأطفال الذين ينامون في بيوتهم المحصنة يواصلون حياتهم بشكل شبه طبيعي، أما أولئك الذين يجبرون على اللجوء إلى الملاجئ العامة كل ليلة، فيخسرون نومهم وأمانهم النفسي.
وأوضحت جورجي أن الفجوة في الحماية واضحة بين الطبقات الاجتماعية في إسرائيل، إذ يعيش نحو 55% من السكان المنتمين إلى الشريحة الأعلى في التصنيف الاجتماعي الاقتصادي في مساكن مزودة بوسائل حماية، مقابل أقل من 30% فقط بين السكان في الشريحة الأدنى.
وفي عديد من البلدات العربية والأحياء اليهودية المهمشة، لا يجد السكان أمامهم سوى الجسور أو الأنابيب الخرسانية كملاجئ مؤقتة، مما يعكس التمييز الواضح في مستوى الأمان والحماية المتاحة للفئات الضعيفة.
وأضافت أنه منذ الخمسينيات تولت الدولة بناء وصيانة الملاجئ، لكن في العقود الأخيرة تم خصخصة المسؤولية. و"اليوم، تقع الصيانة على عاتق السكان، والنتيجة آلاف الملاجئ العامة والخاصة بلا إشراف، بعضها تحول إلى أوكار مخدرات أو مكبات نفايات".
إعلان
إهمال رسمي
بعد حرب الخليج الأولى، فرضت إسرائيل على كل مبنى جديد تخصيص غرفة محمية، لكن حتى هذه الغرف -حسب تقرير لصحيفة هآرتس- خضعت لمعايير اقتصادية وتحولت إلى سلعة في سوق العقارات، تُمنح لمن يستطيع الدفع.
ونقلت الصحيفة عن عالمة الأنثروبولوجيا الاجتماعية أماليا ساعر، من جامعة حيفا، قولها إن "خصخصة الحماية المدنية حولت الأمن إلى امتياز اقتصادي؛ الفقراء يركضون إلى ملاجئ مغلقة أو متهالكة، والأغنياء يمتلكون ملاجئ فاخرة داخل منازلهم".
وتتابع ساعر "من تل أبيب إلى النقب، تتكرر المشاهد، ملاجئ مغلقة، وأخرى غمرتها مياه الصرف، أو مملوءة بالنفايات. في بعض الأحياء التي تسكنها عائلات يهودية متدينة، تحولت الملاجئ إلى كنس وغرف دراسة. في أماكن أخرى، لا يعرف أحد ما يوجد فيها".
ولفتت إلى أن جمعيات أهلية مثل "اصنع حيا" تدخلت لترميم مئات الملاجئ خلال السنوات الأخيرة، غالبا بمساعدة متطوعين. لكن المشكلة، حسب الخبراء، ليست في التمويل، بل في غياب التزام الدولة بالجبهة الداخلية.
وخلصت الباحثة للقول إن "الحرب مع إيران لم تُعد فقط الاعتبار للملاجئ، بل فضحت إهمال الدولة لعقود. وإن كانت هناك بارقة أمل، فهي في مبادرات المجتمع المدني وفي قصص التضامن الشعبي. لكن هذا لا يغني عن الحاجة إلى سياسة وطنية شاملة تعيد إلى الجبهة الداخلية ما فقدته، الشعور بالأمن والأمان".