بناء الجسور.. نحو نهجٍ عراقيٍّ في فهمِ الألمان اجتماعياً
تاريخ النشر: 23rd, January 2024 GMT
التفاعلات الثقافيَّة عبارة عن نسيجٍ من التجارب والقصص ووجهات النظر التي تتجمع عندما يلتقي أفراد من مناطق مختلفة من أنحاء العالم، وبالنسبة للعراقيين الذين يجدون أنفسهم في ألمانيا، فإن فهم تعقيدات الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة يمكن أن يكون مفيداً، وفي بعض الأحيان صعباً. وفي هذه المقالة نتعمق في تجارب العراقيين الذين تفاعلوا مع المشهد الاجتماعي الألماني، سعياً إلى بناء جسور التفاهم بين ثقافتين متنوعتين.
إنَّ الطابع الاجتماعي الألماني هو انعكاسٌ للتاريخ الغني والقيم الثقافيَّة والأعراف المجتمعيَّة التي تطورت على مرّ القرون، وعندما يتعامل العراقيون مع الألمان، سواء على المستوى المهني أو الشخصي، فمن الضروري فهم تعقيدات هذه الشخصيَّة الاجتماعيَّة المختلفة عنهم، وفي هذه المقالة سنسعى لكشف تطور الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة وقيمها الأساسيَّة والاعتبارات المهمَّة والتي على العراقيين أنْ يأخذوها بنظر الاعتبار عند التعامل مع الألمان.
السياق التاريخي
لفهم الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة، من الضروري الخوض في السياق التاريخي الذي شكلها، إذ يتميز تاريخ ألمانيا بنسيجٍ من الأحداث، بما في ذلك الإمبراطوريَّة الرومانيَّة المقدسة، والإصلاح البروتستانتي، ومُثل التنوير، والمراحل الزمنيَّة المضطربة مثل الحرب العالميَّة الأولى والحرب العالميَّة الثانية، وكان لآثار الحرب العالميَّة الثانية وتقسيم ألمانيا إلى شرقٍ وغربٍ تأثيرٌ عميقٌ في تلك الشخصيَّة، وإنَّ جدار برلين الذي ظلَّ يفصلُ بين شرق برلين وغربها لمدة تقرب من ثلاثة عقود لم يكن يرمز إلى الانقسام المادي فحسب، بل كان يرمز أيضاً إلى الاختلافات الصارخة في الإيديولوجيات السياسيَّة وأساليب الحياة.
كانت يوم إعادة توحيد ألمانيا الشرقيَّة والغربيَّة في العام 1990 بمثابة لحظة محوريَّة في تاريخها، ولقد جمعت مجتمعين لهما خصائص مميزة، وخلقت مزيجاً معقداً من الثقافات والقيم، ولعلَّ عمليَّة إعادة التوحيد هذه تستمرُ في التأثير على الطابع الاجتماعي الألماني.
من بغداد إلى برلين - العراقيون في ألمانيا
العراق، «مهد الحضارة» له تاريخٌ يمتدُّ لآلاف السنين، وتشملُ مساهمته في الحضارة الإنسانيَّة التقدم في الرياضيات وعلم الفلك والأدب والهندسة المعماريَّة وسنّ التشريعات القانونيَّة، ومع تنوع سكانه الذي يشمل مختلف الأعراق والأديان والتقاليد، يعدُّ العراق بلداً عامراً في الثراء الثقافي، والشخصيَّة الاجتماعيَّة العراقيَّة هي انعكاسٌ لهذا التنوع، وإنّ كرم الضيافة والروابط الأسريَّة الوثيقة والتمسك القوي بالتقاليد هي من السمات المميزة للثقافة العراقيَّة، وعلى الرغم من التحديات التي واجهتها البلاد في العقود الأخيرة، إلا أنَّ صمود الشعب العراقي وقوته أمام هذه التحديات سجل علامة بارزة في
تاريخه.
من جانبٍ آخر تقدم ألمانيا مشهداً ثقافياً متميزاً، فهي دولة معروفة بالدقة والكفاءة والوعي البيئي، وهي قوة أوروبيَّة ذات تاريخ غني بالمساهمات الثقافيَّة والفلسفيَّة والفكريَّة، وعندما يجد العراقيون أنفسهم على الأراضي الألمانيَّة، فإنَّهم يشرعون في رحلة الاستكشاف
والتكيف.
وبالنسبة للعراقيين في ألمانيا يعدُّ بناء جسور التفاهم الثقافي عمليَّة مستمرة، ويبدأ الأمر بالاعتراف بالاختلافات في الطابع الاجتماعي بين الثقافتين واغتنام فرصة التعلم المتبادل، هنا يجب على العراقيين أنْ يأخذوا الوقت الكافي للتعرف على العادات والتحيات والآداب الاجتماعيَّة الألمانيَّة، وإنَّ فهم هذه المعايير واحترامها خطوات أساسيَّة في بناء علاقات
إيجابيَّة.
إنَّ أحد الجوانب الأولى التي يواجهها العراقيون عند التعامل مع الألمان هو أهميَّة الالتزام بالمواعيد، ففي ألمانيا لا يعدُّ الحضور في الوقت المحدد مجرد مسألة مجاملة، بل إنها علامة على احترام وقت الآخرين، وقد تكون الأعراف الثقافيَّة العراقيَّة أكثر استرخاءً في هذا الصدد، لكنَّ التكيف مع الإحساس الألماني بالالتزام بالمواعيد أمرٌ بالغ الأهميَّة للتفاعل معهم والتأثير
فيهم.
سمة أخرى من سمات الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة هي الصراحة، إذ يقدّر الألمان التواصل الواضح والمفتوح، وقد يظهرون على أنهم صريحون ومباشرون في طرحهم لأفكارهم، وتتجذّر هذه الصراحة في الالتزام بالشفافيَّة والصدق، وقد يحتاج العراقيون إلى تكييف أسلوب تواصلهم ليتوافق مع هذه السمة
الاجتماعيَّة.
تعدُّ الكفاءة وأخلاقيات العمل القويَّة أيضاً جزءاً لا يتجزأ من الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة، ويفخر الألمان بقدرتهم على العمل بجدٍ وتحقيق معايير عالية في مساعيهم المهنيَّة، وفي حين أنَّ العراقيين قد يشتركون في الالتزام بالعمل الجاد، فإنَّ فهم النهج الألماني في الكفاءة يمكن أنْ يعززَ التعاون في البيئات المهنيَّة.
وبالرغم من أنَّ اللغة الإنكليزيَّة مستخدمة على نطاقٍ واسعٍ في ألمانيا، إلا أنَّه ينبغي على العراقيين تعزيز اندماجهم الثقافي من خلال تعلم بعض العبارات الألمانيَّة الأساسيَّة، ولا يسهل هذا الجهد التواصل فحسب، بل يوضح أيضاً احترام الثقافة المضيفة. ومن المهم أنْ نتذكر أنَّ هذه الخصائص يمكن أنْ تختلفَ بين الأفراد، وليس كل الألمان سيظهرون هذه السمات بالدرجة نفسها، ففضلاً عن ذلك، ألمانيا بلدٌ متنوعٌ يضمُّ أشخاصاً من خلفيات مختلفة، لذلك يمكن أنْ تكون هناك اختلافاتٌ إقليميَّة وفرديَّة في السلوك والقيم، ويمكن أنْ تكون القوالب النمطيَّة أو التعميمات الواسعة حول أي مجموعة من الأشخاص مضللة وغير عادلة، لذلك من الضروري التعامل مع هذه الأوصاف بحذرٍ وفهم التنوع الثقافي.
كيفيَّة التعامل مع الألمان
عندما يتعين على العراقيين التعامل مع الألمان، سواء على المستوى المهني أو الشخصي، فمن الضروري التعامل مع هذه التفاعلات بحساسيَّة ثقافيَّة وعقليَّة منفتحة، وإنَّ بناء العلاقات الإيجابيَّة والتواصل الفعال بين الثقافات يتطلب فهم واحترام اختلافات بعضنا البعض، في ما يلي بعض الأفكار التي يجب مراعاتها عندما يرغب العراقيون في التفاعل مع الألمان:
* كن دقيقاً.
* تواصل بشكلٍ مباشرٍ وواضح.
* احترم المساحة الشخصيَّة للآخر.
* تعرف وافهم ثقافة العمل الألمانيَّة.
* أكد على الاحتراف.
* كن منفتحاً على ملاحظاتهم.
* تكيف مع الأعراف الاجتماعيَّة.
* تعلم اللغة الألمانيَّة.
* قم ببناء العلاقات وتطويرها تدريجياً.
* تمسك بالتنوع المجتمعي.
* كن واعياً من الصور النمطيَّة.
وتذكر أنّ بناء علاقات ناجحة عبر الثقافات ينطوي على الاحترام المتبادل والفضول والرغبة في التعلم من بعضنا البعض، ومن خلال إظهار الحساسيَّة الثقافيَّة والقدرة على التكيف، ويستطيع العراقيون تعزيز التفاعلات الإيجابيَّة والمثمرة مع الألمان على المستويين المهني
والشخصي.
خاتمة
غالباً ما تعكس الأمثال الألمانيَّة جوانب الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة، بما في ذلك القيم وأخلاقيات العمل والعلاقات الشخصيَّة، في ما يلي بعض الأمثال الألمانيَّة التي تقدم نظرة ثاقبة للقيم والمواقف الاجتماعيَّة الألمانيَّة:
* النظام نصف الحياة.
* مشغول كالنمل
* الأفكار حرة ولا تكلف.
* الأشياء الجيدة تستغرق وقتاً.
* الصدق يدوم أطول
* ما لا تريد أنْ يفعله بك. لا تفعله بأي شخص آخر.
* كل بداية صعبة.
* القوة تكمن في الهدوء.
وأخيراً تتجاذب الأضداد. هنا نرى تركز القيم الشخصيَّة الاجتماعيَّة للألمان على صفات مثل الاجتهاد والصدق والصبر واحترام الآخرين، وإنها توفر لمحة عن الحكمة الثقافيَّة والأعراف الاجتماعيَّة التي شكلت المجتمع الألماني مع مرور
الوقت.
وتمثل الرحلة من بغداد إلى برلين رحلة تحويليَّة بالنسبة للعراقيين الذين يجدون أنفسهم في ألمانيا، وإنَّ فهم الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة والتكيف معها أمرٌ ضروريٌ لبناء جسور التفاهم الثقافي بين مجتمعين متنوعين، وبينما يتنقل العراقيون في المشهد الألماني الذي يتسمُ بالكفاءة والتوجيه والوعي البيئي، فإنَّهم يشرعون في رحلة من التعلم المتبادل والنمو، ومن خلال فهم الحساسيَّة الثقافيَّة، والتكيف مع ثقافة مكان العمل، وتعزيز الالتزام المشترك بالاستدامة البيئيَّة، يستطيع العراقيون في ألمانيا سدّ الفجوة بين تراثهم العراقي الغني والطابع الاجتماعي الألماني
الديناميكي.
ومن المهم أنْ نلاحظَ أنَّ هذه التحديات ليست مستعصية على الحل، وأنّ العديد من الأجانب يندمجون بنجاحٍ في المجتمع الألماني مع الحفاظ على هوياتهم الثقافيَّة الخاصة، وإن بناء التفاهم بين الثقافات، وتعلم اللغة، والانفتاح على الاختلافات الثقافيَّة يمكن أنْ يساعد في التغلب على هذه التحديات وتعزيز التفاعلات الإيجابيَّة بين الألمان والأجانب. وفي هذا التبادل الثقافي، يحظى كل من العراقيين والألمان بفرصة الاحتفال بنقاط قوتهم وتقاليدهم مع إقامة روابط تتجاوز الحدود، وإنَّ بناء جسور التفاهم ليس مجرد رحلة، بل هي شهادة على جمال التنوع الثقافي والتجربة الإنسانيَّة
المشتركة.
المصدر: شفق نيوز
كلمات دلالية: العراق هاكان فيدان تركيا محمد شياع السوداني انتخابات مجالس المحافظات بغداد ديالى نينوى ذي قار ميسان اقليم كوردستان السليمانية اربيل نيجيرفان بارزاني إقليم كوردستان العراق بغداد اربيل تركيا اسعار الدولار روسيا ايران يفغيني بريغوجين اوكرانيا امريكا كرة اليد كرة القدم المنتخب الاولمبي العراقي المنتخب العراقي بطولة الجمهورية الكورد الفيليون الكورد الفيليون خانقين البطاقة الوطنية مطالبات العراق بغداد ذي قار ديالى حادث سير الكورد الفيليون مجلة فيلي عاشوراء شهر تموز مندلي الاجتماعی الألمانی على العراقیین العراقیون فی ة الاجتماعی ة الألمانی من الضروری فی ألمانیا
إقرأ أيضاً:
حقوقي عراقي لـعربي21: بغداد تنضم لمجلس حقوق الإنسان الأممي رغم سجلها الحافل بالانتهاكات
من المقرّر إعلان انضمام العراق رسمياً لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الـ14 من تشرين الأول/أكتوبر الجاري 2025، حيث يستعد لشغل أحد المقاعد الآسيوية الأربع برفقة كل من الهند وباكستان وفيتنام، ولولاية تمتدّ من كانون الثاني/ يناير 2026 حتى كانون الأول/ ديسمبر 2028.
داخل أروقة قاعات الأمم المتحدة بجنيف، حيث تتردّد أصداء الخطابات عن العدالة والكرامة الإنسانية، يشير سجلّ العراق الى مصادقة بغداد على ثمانية معاهداتٍ أساسية، من المُفترض أنها تعدّ خارطة طريق بشأن الالتزام بحقوق الإنسان، إلاّ أن المسافة بين النص النظري والتطبيق العملي تبقى شاسعة كالمسافة بين جنيف وبغداد، وفق منظمات حقوقية.
الالتزام بالقضايا (الآمنة) فقط
حرص العراق على تسجيل حضورٍ دبلوماسي خلال جلسات الاستعراض الدوري الشامل، والمراجعات الدورية التي تجريها لجان المعاهدات التي تُعقد في جنيف، وإعلان التزمه بالتوافق العام في القضايا "الآمنة" مثل: "حقوق المرأة، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بناء القدرات"، وهي قضايا لا تختلف عليها حتى أكثر حكومات العالم استبدادا، لكن هذا البريق الدبلوماسي سرعان ما يتلاشى حال مغادرة قاعات جنيف انتقالاً إلى مدن العراق المختلفة، فالبلد المزدهر في التقارير الورقية يتعثر على أرض الواقع، وتنتهك فيه كل معايير حقوق الإنسان.
استمرار اضطهاد النشطاء وتهديد حرية التعبير
قبل أيام فقط، وبالتزامن مع الذكرى السادسة لانطلاق تظاهرات تشرين عام 2019، اتهمت منظمة العفو الدولية، السلطات العراقية، مواصلة اضطهاد النشطاء والمتظاهرين، فيما فشلت في تحقيق أي عدالة فعلية أو محاسبة حقيقية عن مقتل مئات الناشطين وتشويه الآلاف منهم على أيدي قوات الأمن والميليشيات، أو حتى الكشف عن مصير المختفين وأماكنهم، مؤكدة تفاقم حالة الإفلات الواسعة من العقاب على الانتهاكات وتزايد الهجمات على حرية التعبير.
اتفاقية مناهضة التعذيب
كما أن العراق يماطل حتى اليوم في المصادقة على اتفاقية البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب، رغم أنه وقع عليها في 7 تموز/يوليو 2011، وهو ما يثير الشبهات بشأن عدم رغبته في فتح ملفات السجون وأماكن الاحتجاز، فيما تستمر تنفيذ عمليات إعدام سرية وجماعية بإجراءات موجزة للمعتقلين لدرجة ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية وفقا لتقرير الأمم المتحدة.
أكبر مستودع للمخفيين قسريًا بالعالم
كما لم يتغير الكثير منذ الاستعراض الدوري الشامل الأخير للعراق (شباط 2025) فيما يتعلق بممارسة الاخفاء القسري ولم يبذل جهدا كافيا للكشف عن مصير المغيبين، حيث لا يزال العراق أحد البلدان التي تضم أكبر عدد من الأشخاص المخفيين في جميع أنحاء العالم، ويقدر عددهم ما بين 250,000 ومليون شخص حتى الآن، بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بلّ أن العراق يتنصل عن تعهداته الملزمة له بموجب عضويته في اتفاقية الأمم المتحدّة لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري، ومن التوصيات المتكرّرة للجنة الأمم المتحدة المعنية بمتابعة تطبيق هذه الاتفاقية.
مهجرون مشردون
وللعام الثاني عشر على التوالي، ما زال هناك أكثر من مليون عراقي مهجرين من مدنهم، بحسب أرقام وزارة الداخلية، وما يمنع عودتهم غالباً هو سيطرة الفصائل المسلحة على مدنهم ومنازلهم، في حين تهدّمت منازل آخرين في العمليات العسكرية، ولا أفق واضح لحلٍّ يتيح لهم إنهاء تشردهم، وفق تقرير لمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة ناجي حرج، وصف اختيار العراق عضواً في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بأنها "معادلة رياضية بسيطة تخفي خلفها تعقيدات سياسية وأخلاقية عميقة".
وأضاف ناجي حرج، في تصريحاتٍ خاصة لـ"عربي21"، أنه وعلى الرغم من كون هذا الحدث سيسوّق باعتباره "انتصاراً دبلوماسيًا" و "اعترافًا بجهود العراق في تعزيز حقوق الإنسان"، فإن الواقع يُظهر مفارقة عميقة بين الخطاب الرسمي والممارسة الفعلية، فالعضوية، جاءت بحكم غياب المنافسة لا بناءً على تقييمٍ نوعي لسجلاّت الدول الحقوقية، وبذلك، لا تعبّر عضوية العراق عن مكافأةٍ على إنجاز حقوقي بقدر ما هي ملء إداري لمقعدٍ شاغر في المجلس.
وتاليًا نص المقابلة الخاصة مع "عربي21":
- هل شغل العراق مقعدا في مجلس حقوق الإنسان سيقيده ويجبره على تنفيذ ما وقع عليه من معاهدات؟
في مذكرتها التي قدّمت فيها ترشحها للعضوية في المجلس أكدّت حكومة العراق أن تعزيز حقوق الإنسان يعدّ "أولوية وطنية عليا"، وأن الترشح يعكس التزام العراق بالمبادئ الدولية. وأرفقت بالمذكرة تعهداً بإصلاحات شاملة في مجال حقوق الإنسان. لكن من خلال المتابعة التفصيلية فنحن ندرك أن هذه العبارات لا تصمد أمام واقعٍ تتكاثر فيه الانتهاكات الجسيمة، وسط غياب الإرادة السياسية الحقيقية لمعالجتها.
فهنالك انتهاكات جسيمة للحقّ في الحياة، وفي التعليم والصحة والسكن والخصوصية. ومن المؤكد حسب تقارير المنظمات الدولية استمرار الاعتقالات التعسفية وسوء المعاملة في السجون. فالسجون العراقية، وفق تلك التقارير، تعاني من اكتظاظٍ خانق وظروف احتجازٍ غير إنسانية، فيما تُنفّذ أحكام إعدامٍ بالجملة في ظلّ غياب الشفافية والمراجعة القضائية النزيهة. ولا تزال السلطات تعتمد أساليب التعذيب التقليدية في التحقيق، من الصعق الكهربائي إلى الضرب المبرّح والحرمان من النوم، ما يجعل هذه الممارسات أقرب إلى سياسة منهجية لا إلى تجاوزاتٍ فردية.
وبدلاً من المحاسبة على هذه الممارسات اللاإنسانية يجري اعتماد الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب في المحاكمات الجنائية، وتستمر حالة الإفلات من العقاب، ويُترك المتورّطون في الانتهاكات بلا محاسبة، وعلينا ان لا ننسى ان البلاد ينخرها الفساد المستشري في كل مفاصلها.
- فيما لو كانت الحكومة العراقية جادة فعلا في تنفيذ الإصلاحات، هل تعتقد أن الفساد المستشري سيشكلّ عائقاً امام ذلك؟
بالتأكيد. لقد أدّى الفساد الذي استشرى في العراق إلى إعاقة خطط التنمية، وضياع فرصٍ حقيقية لتحسين الأوضاع الاقتصادية في البلاد. والفساد في العراق ليس انحرافًا إداريًا فحسب، بل نظام متكامل يحرم المواطنين من حقوقهم الأساسية في التعليم والصحة والسكن والخدمات.
فقد تحوّلت الموارد العامة إلى غنائم تُوزَّع على أساس الولاء الحزبي والطائفي، بينما تُستبعد الكفاءات وتُحتكر المناصب العليا لصالح أقارب المسؤولين والمقرّبين منهم. وقد مثل هذا الشكل من المحسوبية انتهاكاً مباشراً لمبدأ تكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون، ويجعل الحديث عن "الحكم الرشيد" و"الشفافية" مجرّد لافتة تجميلية.
- كثيرا ما تؤكد الحكومات في العراق بأن نظامها ديمقراطي، وتتقبل نقد معارضيها والرأي الآخر، ما صحة ذلك؟
لا نعرف ما هي حقيقة النظام الديمقراطي الذي يتحدّثون عنه في ظل القمع الحاصل لكلّ رأيٍ مخالف. وقد وثقنا حالاتٍ غير قليلة من الاغتيالات، والاعتقالات، والتهديد الذي طال ناشطين وكتّاب وصحفيين لمجرد أنّهم عبّروا عن آرائهم بالأداء الحكومي او بالسلاح المنفلت الذي أصبح يشكل عبئاً على الدولة. وهكذا فعلى الرغم من تعدّد وسائل الإعلام، إلاّ أن الصحفيين يعيشون تحت مناخ خوفٍ ورقابةٍ ذاتية، ويواجهون تهديداتٍ واعتداءاتٍ متكرّرة.
ـ ذكرتم ايضاً التضييق على الناشطين، لكن الحكومة تتحدث عن "بيئة داعمة للمجتمع المدني"، ما هو تقييمكم لذلك؟
نعم هذا هو الخطاب الحكومي الرسمي الذي نسمعه في اجتماعات هيئات حقوق الإنسان، لكن الجميع يعرف ان يبقى في حدود الكلام المنمق المفصول تماماً عن الواقع المعاش في العراق، فالبلاد تشهد تضييقاً متصاعداً ضدّ المنظمات والناشطين، ضمن حملات ترهيبٍ وتقييدٍ ممنهجة، إذ يتعرّض العاملون في الشأن الحقوقي إلى استدعاءاتٍ أمنية واستجواباتٍ تعسفية إذا ما تناولوا قضايا مرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان.
هنالك من يواجه محاكماتٍ غير عادلة وبتهمٍ شتّى تصل الى الاتهام بـ"التعاون مع جهاتٍ أجنبية"، ويأتي ذلك على الرغم من أنّ العراق ملزم بالقرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدّة والتي تقضي بعدم التعرّض للمدافعين عن حقوق الإنسان وعدم التضييق على نشاطاتهم، وبالمحصلة، فقد تحوّلت بيئة العمل المدني في العراق إلى بيئة خوفٍ ومراقبةٍ وعقابٍ ناعم، حيث يتوجب من المنظمات أن تعمل في إطار الولاء للسلطة لا في فضاء الحرّية التي ينصّ عليها الدستور والتزامات العراق التعهدية الدولية.
- لطالما دعت الأمم المتحدة، العراق إلى توفير أجواء آمنة للأقليات ووقف الانتهاكات ضدها، هل أوفت الحكومة بذلك؟
ما تزال الأقليات الدينية والعرقية، من الإيزيديين والمسيحيين إلى الشبك والتركمان، تعاني من تمييزٍ هيكلي وبطءٍ في إعادة الإعمار وتعويض الضحايا، وسط تجاهلٍ رسميٍ لمعاناتهم، وضعف مشاركتهم السياسية، كما تتلكأ الدولة في تنفيذ الالتزامات التي قطعتها على نفسها فيما يتعلّق بإجراءات ترسيخ الأمن في هذه المناطق، والتعويض عن الخسائر التي تكبّدتها اثناء سيطرة الفصائل الإرهابية.
- ماذا عن جهاز القضاء العراقي؟، هل تتوفر فيه المعايير الدولية التي تؤهله ليكون محطّ ثقة أممية بقراراته؟
من المؤسف ان يكون القضاء العراقي محلّ انتقادات شديدة تتعلّق بمدى نزاهته واستقلاليته، وعدم الالتزام بالمعايير الدولية خاصّة في المحاكمات الجنائية. ففي كل الاستعراضات التي جرت للالتزامات العراقية التعاهدية وكذلك ضمن الاستعراض الدوري الشامل كانت هنالك مطالبات متكررّة بضرورة ضمان استقلالية القضاء، وضرورة أصالحه. لكن للأسف لا توجد أي استجابة لذلك، امّا الحديث عن إصلاح القضاء فقد ظلّ هو الآخر في حدود الردود على المطالبات الدولية.
- فوضى السلاح وتعدد القرار، قضايا كثيرا ما لمحت لها أمريكا والاتحاد الأوروبي، هل تعتقد إجراءات حصر السلاح وتحجيم أنشطة الفصائل حقيقية؟
في الشوارع والمدن، يتجلّى السلاح المنفلت كوجهٍ آخر لانهيار سيادة القانون؛ فالفصائل المسلحة تواصل نفوذها الواسع، وتتحرك أحيانًا بمعزل عن الدولة أو بالتوازي معها، وتقوّض هذه الحالة ثقة المواطنين بالمؤسسات الأمنية والقضائية، وتُضعف مصداقية الحكومة أمام المجتمع الدولي خاصةً حين تتحدث عن "استقرارٍ وأمنٍ مستدامين"، هذه الممارسات لا تعكس ضعفاً في إدارة الملف الحقوقي فحسب، بل تمثل تحدياً مباشراً لالتزامات العراق الدولية بموجب آليات حقوق الإنسان، وسيتطلّب منه، كعضوٍ في مجلس حقوق الإنسان، أن يُظهر التزاماً صارماً بها وأن ينفذ التعهدات التي قدّمها الى الجمعية العامة كي يصبح عضواً في المجلس.
- العراق مقبل على انتخابات برلمانية، وقد بدأت تتصاعد الحملات الانتخابية في مناخٍ مشحون، هل رصدتم في مركز جنيف الدولي للعدالة أية انتهاكات تمس الانتخابات؟
نعم، من المؤسف انه كلّما تجري انتخابات في العراق، تبرز الى السطح ممارسات سلبية تكاد تكون غير مسبوقة، تقوّض الانتخابات قبل موعد إجراءها بوقت ليس بالقليل. فالحملات الانتخابية التي بدأت مبكراً، جاءت محمّلة بخطاب كراهية طائفي مقيت، مثير للفتنة، وبعيد كل البعد عن ما ترمي اليه الديمقراطية. وقد صدر هذا الخطاب من مرشحين، او من داعمين لهم، ومن رجال دين، تحدّثوا بلغة طائفية وبأساليب مرفوضة.
ونستطيع القول اننا لمسنا منذ بداية هذا العام (2025) تصاعداً ملحوظاً جداً في النبرة السياسية الطائفية، بدأت بالتحديد في أعقاب التغيير في سورية (كانون الأول/ ديسمبر 2024)، واستمرّت في التصاعد والتوسع عام 2025. وقد لاحظنا انخراط أشخاص وناشطين حقوقيين ـ من الذين كانوا يقدّمون أنفسهم على أنّهم ضدّ الطائفية والخطاب الطائفي ـ في هذه الحملة. وراح هؤلاء يستخدمون أساليب شتى في تصعيدهم لهذا الخطاب، ساعين لتغليف خطاباتهم بنبرة وطنية ضمن سياق انتقادهم ايضاً للمنظومة الحاكمة في العراق، كذلك برزت في الحملة الانتخابية عمليات شراء الأصوات علناً، وامام الكاميرات بعد ان كانت تجري في الدورات الانتخابية السابقة في سرية تامة.
حرج ختم قائلا:" إن عضوية العراق في مجلس حقوق الإنسان ليست شهادة تقدير، بل امتحان لجدّية الدولة في التزاماتها الدولية، وما لم تتحوّل هذه العضوية إلى منصة للمراجعة والإصلاح، فإنها ستبقى مجرد محاولة للهروب إلى الأمام — تبييضٌ دبلوماسي لسجلٍ مثقلٍ بالانتهاكات، بدل أن تكون خطوةً حقيقية نحو العدالة والكرامة الإنسانية".