في قلب الصحراء التي شهدت ولادة أكبر تحولات الطاقة في القرن العشرين، استقبلت الظهران مؤخرا تحولا آخر، قد لا يقل تأثيرا عن اكتشاف النفط؛ إنه تحول تنتجه العقول الشابة، تشعله أفكار تأبى الحدود، وتكرسه إرادة أمة اختارت أن تكون جسرا بين الماضي والمستقبل. هنا، تحت سماء المملكة العربية السعودية، حيث يلتقي تراث الحضارات بآفاق العلم اللامتناهية، أنطلق أولمبياد الفيزياء الآسيوي 2025، حاملا رسالة مفادها أن الطاقة الحقيقية ليست تحت الأرض، لكن في العقول التي تفكر.

 

  
استضافة المملكة العربية السعودية لهذا المحفل العلمي الدولي تتويج لمسيرة بدأت قبل ربع قرن، حين قررت دول آسيا أن تنشئ أولمبيادا خاصا بفيزياء المستقبل، فجاءت النسخة الأولى في إندونيسيا عام 1999، بمشاركة 12 دولة. اليوم، بعد 25 عاما، يصل الأولمبياد إلى الشرق الأوسط لأول مرة، حاملا معه 240 طالبا من 30 دولة، وكأنما يقول العالم: إن الفيزياء لغة لا تعترف بالحواجز، وأن التنافس في ميادينها ليس سوى محبة مشتركة للكون وأسراره.  


هذه الاستضافة ليست مفاجئة لمن يتابع مسيرة السعودية في السنوات الأخيرة؛ فمنذ إطلاق رؤية 2030، تحولت المملكة من دولة تدير ثروات الأرض إلى دولة تستثمر في ثروات العقول، وهو ما تؤكده مؤسسة "موهبة" التي حولت اكتشاف المواهب إلى نظام مؤسسي قادر على صناعة إنجازات دولية، مثل الـ16 ميدالية التي حققها الطلاب السعوديون في الأولمبياد منذ 2012.  


إلا أن السؤال الأعمق يبقى: كيف نصنع من الفيزياء فلسفة حياة؟ هنا يبرز التحدي: كيف تحافظ على هويتك بينما تسبح في محيط العولمة؟ الإجابة تكمن في "موهبة"، المؤسسة التي حولت المواهب المحلية إلى نجوم عالمية. إنها معادلة السعودية الجديدة: ألا تكون تابعًا، ولا منعزلاً، إنما جسرًا بين الحضارات.

عندما تلتقي الثقافة بالفيزياء  
ليس غريبا أن يفتتح الأولمبياد بعرض للتراث السعودي، فالعلم والثقافة توأمان؛ كلاهما يعبران عن هوية الأمم، وكلاهما يقاسمان الأسئلة نفسها: من أين نأتي؟ وإلى أين نذهب؟ وفي هذا الجمع بين الفيزياء والفنون، تكمن إجابة ضمنية: أن التقدم العلمي لا ينفصل عن الجذور، وأن التفوق في معادلات اليوم لا يعني نسيان حكايات الأمس.  
ولعل في اختيار شعار الأولمبياد "معا، نولد طاقة المستقبل" إشارة ذكية إلى التحول السعودي من دولة مصدرة للنفط إلى دولة مصدرة للمعرفة، وهو تحول تقوده شركة أرامكو- الراعي الماسي للحدث - التي باتت نموذجا لتحول شركات الطاقة من الاعتماد على الموارد إلى استثمار العقول، وكأنها تردد مع الفيزيائيين: إن الطاقة لا تفنى، بل تتحول.  
لماذا الفيزياء الآن؟  
في عصر يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي والأسئلة الوجودية عن مصير البشرية، تبرز الفيزياء كعلم قادر على إعادة تشكيل الواقع. فمن خلالها نستطيع فهم التحديات الكبرى: تغير المناخ، ندرة الموارد، مستقبل الطاقة. ولهذا، فإن تنافس الطلاب في حل مشكلاتها النظرية والعملية هو تدريب أكاديمي عملي على قيادة العالم نحو أجوبة قد تنقذه.  
هنا، يذكرنا الدكتور كويك ليونغ تشوان، رئيس الأولمبياد، بأن هذه المسابقة هي "لحظة تاريخية"، ليس لأنها تعقد في الشرق الأوسط فحسب، بل لأنها تأتي في وقت يحتاج فيه العالم إلى علماء قادرين على رؤية ما وراء النظريات، والتواصل عبر الثقافات.  
رسالة من الظهران إلى العالم  
قد يسأل سائل: ما الذي يريده العالم من السعودية اليوم؟ الإجابة ببساطة: أن تظل جسرا - كما كانت دائما - لكن هذه المرة، جسرا بين شمال العلم وجنوبه، بين شرقه وغربه. فالمملكة، برؤيتها الطموحة، تثبت أن الاستثمار في الإنسان هو الطريق الوحيد لصناعة مكانة دولية، وأن الفيزياء - بكل تجريدها - قد تكون أصدق تعبير عن واقع نعيشه: كل شيء متحرك، وكل شيء ممكن.  
في الختام، لا ينبغي أن ننسى أن هؤلاء الطلاب الـ240، الذين تنافسوا في اختبارات استغرقت نحو 10 ساعات، هم سفراء دولهم، لكنهم أيضا سفراء عصر جديد، فقد تحولت الصحراء إلى مختبر عالمي، وأصبحت الجامعات السعودية منصات لحوار الحضارات. ربما لن يتذكر التاريخ أسماء الفائزين بالميداليات، لكنه سيتذكر أن الظهران كانت نقطة انطلاق لشيء أكبر: إيمان بأن المستقبل لا يبنى إلا بالعلم، والعلم لا يبنى إلا بالجسور.

طباعة شارك القرن العشرين المملكة العربية السعودية أولمبياد الفيزياء الآسيوي 2025

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: القرن العشرين المملكة العربية السعودية أولمبياد الفيزياء الآسيوي 2025

إقرأ أيضاً:

بمشاركة 45 دولة.. «بحوث الإلكترونيات» رئيسًا شرفيًا لمؤتمر الطاقة - إفريقيا 2025 (IEEE)

شارك معهد بحوث الإلكترونيات كرئيس شرفي في فعاليات مؤتمر الطاقة - إفريقيا 2025 IEEE Power Africa 2025، الذي عقد بأحد فنادق القاهرة، وذلك برعاية الدكتور أيمن عاشور وزير التعليم العالي والبحث العلمي، وبمشاركة دولية واسعة تضم باحثين وخبراء وصناع قرار من 45 دولة من مختلف أنحاء العالم، ليشكل منصة دولية رائدة لتبادل الخبرات، وعرض أحدث البحوث العلمية، ومناقشة التوجهات المستقبلية في مجالات الطاقة والشبكات الذكية والبنية التحتية الرقمية.

يأتي ذلك تنفيذًا لتوجيهات وزير التعليم العالي والبحث العلمي، بأهمية المشاركة في الفعاليات الإقليمية والدولية، لتعزيز التواصل الأكاديمي والبحثي وتبادل الخبرات مع المؤسسات الأكاديمية والبحثية على مستوى العالم، ومواكبة التطورات العالمية، وذلك في إطار تفعيل مبدأ المرجعية الدولية أحد محاور الإستراتيجية الوطنية للتعليم العالي والبحث العلمي 2030.

من جانبها ألقت الدكتورة شيرين محمد عبد القادر محرم رئيس معهد بحوث الإلكترونيات، كلمة في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، رحبت خلالها بالمشاركين، مؤكدة أهمية التعاون الدولي في مواجهة تحديات الطاقة المستدامة والتحول الرقمي، ودور البحث العلمي والابتكار في تقديم حلول عملية وفعالة تلبي احتياجات المجتمعات، وتدعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مشيرة إلى أن معهد بحوث الإلكترونيات باعتباره مؤسسة وطنية رائدة في مجالات الإلكترونيات والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، يولي اهتمامًا كبيرًا بالبحث العلمي والتطوير والابتكار، ويعمل على بناء شراكات محلية ودولية تعزز دوره في دعم رؤية مصر 2030 وإستراتيجيتها للتحول الرقمي والطاقة الجديدة والمتجددة.

وأكدت أن مشاركة معهد بحوث الإلكترونيات كرئيس شرفي للمؤتمر تأتي تقديرًا لدوره البحثي الرائد، وتعكس مكانته الإقليمية والدولية والتزامه بدعم الابتكار والتعاون العلمي في قطاع الطاقة.

كما ألقى الدكتور أحمد حسن مدين الأستاذ بكلية الهندسة جامعة النيل ورئيس IEEE فرع مصر والرئيس المشارك للمؤتمر، كلمة في الجلسة الافتتاحية استعرض خلالها تاريخ المؤتمر في إفريقيا على مدار عشر سنوات، مشيرًا إلى دوره كحدث رائد يجمع الخبراء والباحثين من جميع أنحاء العالم، لمناقشة أحدث الابتكارات والتقنيات في قطاع أنظمة الطاقة، ومعالجة التحديات والفرص بالقارة الإفريقية مع التركيز على تكامل أنظمة الطاقة، ونماذج الأعمال، والتطورات التكنولوجية، والسياسات والأطر التنظيمية.

شارك في الجلسة الافتتاحية بكلمات الترحيب كل من الدكتور أيرين سامي الرئيس المشارك للمؤتمر والأستاذ بكلية الهندسة جامعة النيل، والدكتور محمد سعيد الأستاذ المساعد بكلية الهندسة جامعة النيل، والدكتورة نولا شولز الرئيس السابق IEEE Power and Energy Society والدكتور أيمن الرفاعي الرئيس الحالي IEEE Industry Applications (IAS) و د.رجان كابور الرئيس Smart Village ورؤساء الأفرع المختلفة من دول العالم IEEE Power and Energy (PES).

بدأت فعاليات المؤتمر بمحاضرة افتتاحية ألقتها الدكتورة ويني أي أستاذة بجامعة كارلتون كندا، وعضو مجلس محافظي جمعية الفوتونات، استعرضت خلالها أحدث ما توصل إليه العلم في مجال الإلكترونيات، وتحسين كفاءة خلايا الطاقة الشمسية، وسبل توظيف التكنولوجيا لتعزيز قدرات توليد الطاقة، كما ألقى د.إيهاب السعدني عميد كلية الهندسة بجامعة خليفة أبوظبي، محاضرة بعنوان "سماء أنظف مع تكامل الطاقة المتجددة والنقل الكهربائي"، استعرض خلالها تجارب دول مختلفة في الحد من التلوث الناتج عن توليد الكهرباء والطاقة، وسبل تحسين الأداء في هذا المجال.

ومن ناحية أخرى، تقدمت الدكتورة شيرين محرم بالشكر إلى أعضاء هيئة البحوث بمعهد بحوث الإلكترونيات تقديرًا لدورهم الفاعل في أنشطة المؤتمر، حيث أسهموا في تنظيم الفعاليات، وتحكيم الأبحاث العلمية المقدمة ضمن جلسات المؤتمر، إلى جانب توليهم مهام رئاسة الجلسات (Chair) ونواب الرئاسة (Co-Chair) في عدد من الجلسات العلمية المتخصصة، ويعكس ذلك حجم الثقة الدولية في خبرات المعهد البحثية، ودوره المؤثر في دعم مسيرة البحث العلمي والارتقاء بها على المستويين الإقليمي والدولي.

وفي إطار رسالته في نشر المعرفة وتبادل الخبرات التطبيقية، قدم معهد بحوث الالكترونيات تدريبًا متخصصًا للمشاركين في المؤتمر حول بطاريات الليثيوم-أيون (Lithium-ion batteries)، تناول أحدث الاتجاهات البحثية والتطبيقات العملية في هذا المجال الحيوي.

اقرأ أيضاًكواليس مشاركة معهد بحوث الإلكترونيات في المؤتمر السابع للترابط العالمي للطاقة في بكين

شراكة استراتيجية بين معهد بحوث الإلكترونيات وشركة «إنفيجن تكنولوجي»

مقالات مشابهة

  • الأولمبياد الخاص يشارك في بطولة العالم للسلة الثلاثية الموحدة
  • من التسجيل للقيادة.. حسام حسن يكتب التاريخ مع منتخب مصر ويبدأ طريق البحث عن المجد ولكن؟
  • «الأولمبياد الخاص» يُتوج جائزة «أفضل فريق موحد»
  • أخبار التوك شو| الرئيس السيسي: عملت على ترميم التداعيات التي حدثت في مصر بعد 2011 للإنطلاق نحو المستقبل.. أحمد موسى: رسائل طمأنة واضحة للمصريين
  • الرئيس السيسي: عملت على ترميم التداعيات التي حدثت في مصر بعد 2011 للإنطلاق نحو المستقبل
  • المستقبل المستدام… جامعة سوهاج تناقش جهود مصر في الطاقة المتجددة
  • بمشاركة 45 دولة.. «بحوث الإلكترونيات» رئيسًا شرفيًا لمؤتمر الطاقة - إفريقيا 2025 (IEEE)
  • محمد مندور يكتب : خالد العناني ورمزية الانتصار الثقافي في اليونسكو
  • الدبيبة يبحث مع السفير القطري تعزيز التعاون بمجال الطاقة
  • وزير الخارجية: شخصية العناني ستُثري عمل المنظمة وتقودها لأداء رسالتها الإنسانية