اعتقد ساهر، في وقت مبكر من صباح أحد أيام الأحد، أن الفرصة مواتية، حيث ظنّ أن قوات الاحتلال الإسرائيلي ستكون منشغلة بردّات الفعل على الهجمات الصاروخية الإيرانية، فبدأ بتسلق جدار الفصل الإسرائيلي.

احتاج ساهر (26 عاما) إلى نحو 15 دقيقة لعبور الجدار. لكن أثناء تسلقه، ظهرت دورية إسرائيلية فجأة. قال ساهر "شعرت بالذعر، فأفلت الحبل وسقطت".

سقط من أعلى الجدار -وهو حاجز أسمنتي يصل ارتفاعه في بعض المناطق إلى 8 أمتار- وارتطم بالأرض بعد سقوطه من ارتفاع 4 أمتار.

يقول ساهر "لبرهة، ظننت أنني متّ"، وأضاف "سمعت أصواتا بالعبرية، ثم بدأ الألم يتسلل إلى جسدي".

نقلته سيارة إسعاف فلسطينية إلى مستشفى رام الله، حيث شُخّصت حالته بكسور متعددة في الأضلاع، ووُضعت له دعامة طبية.

كان ساهر، الذي يعمل في البناء، يحاول الوصول إلى عمله في مدينة ريشون لتسيون داخل إسرائيل. وقد تحدث إلى الجزيرة شريطة عدم كشف هويته، خوفا من الملاحقة بسبب دخوله غير القانوني.

وقبل بدء الحرب على غزة في أعقاب 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، اعتمد نحو 390 ألف عامل فلسطيني على وظائف داخل الأراضي الإسرائيلية. لكن مع اندلاع الحرب، ألغت السلطات الإسرائيلية تصاريح العمل، وأجبرت العمال على المغادرة.

ومع استمرار الحرب واشتداد العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة، يخاطر بعض الفلسطينيين، خصوصا في قطاعات البناء والضيافة، بحياتهم للعودة إلى إسرائيل بحثا عن عمل مؤقت.

ومع إغلاق المعابر وانخفاض أعداد المهرّبين الذين كانوا ينقلون الناس بالسيارات منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم يبقَ أمام الكثيرين سوى خيار واحد وخطير: تسلق الجدار. وقد أصبح هذا الخيار أكثر فتكا مع تشديد إسرائيل لإجراءاتها الأمنية، وازدياد التوترات في المنطقة.

وأصبح الجدار الآن خاضعا لمراقبة شديدة عبر الطائرات المسيّرة والحساسات والدوريات العسكرية.

إعلان "بين نارَين"

ومع وصول معدل البطالة في الضفة الغربية إلى مستويات حرجة، يدفع اليأس البعض إلى تسلق الجدار. يقول عاهد رزق (29 عاما) وهو ممدد على سريره في مستشفى رام الله: "يا رب، خذني وريحني من هذا العذاب".

ويعاني رزق، الذي تزوج حديثا، ليس فقط من الألم الجسدي بل من عجزه عن إعالة أسرته حيث فقد القدرة على استخدام ساقيه بعد سقوطه من جدار الفصل أثناء محاولته دخول إسرائيل في منتصف يونيو/حزيران.

وأصيبت إحدى ساقيه بالشلل، والأخرى تحطمت كليا. وخضع لعملية جراحية استغرقت 6 ساعات بعد سقوطه من ارتفاع 5 أمتار تقريبا، حيث انقطع الحبل الذي كان يتسلق عبره تحت وطأة وزنه البالغ 140 كلغ.

وقال رزق "ليست هذه المرة الأولى لي، لكنّها كانت الأخطر. كنت أدخل سابقا مع مهرّبين مقابل أجر. لكن منذ بداية الحرب، عمّت الفوضى، لم تكن هناك سيارات، والجنود كانوا في كل مكان".

وأضاف "كنت بين نارَين: إما أن أموت أثناء العبور أو أعجز عن العمل وإعالة عائلتي".

وأوضح أن عشرات العمال كانوا يتجمعون قرب الجدار بين بلدة الرام والقدس المحتلة. وبما أنهم لم يمتلكوا سلّما بارتفاع كافٍ، استخدموا سلّما قصيرا وحبلا مربوطا من الجهة الأخرى.

لكن أثناء صعوده، انقطع الحبل. وأوضح أنه سقط "فوق شاب آخر كان يتسلق. أُصيب بكدمات، لكنني فقدت ساقَيّ. ذهب البقية إلى العمل. ابن عمي فرّ حين اقترب الجيش، وبقيت وحدي".

"لا خيار آخر"

ويقول شاهر سعد، الأمين العام لاتحاد نقابات عمال فلسطين، إن الفلسطينيين يُجبرون على محاولات عبور خطيرة منذ سنوات طويلة. وأضاف للجزيرة "عقود من البطالة المرتفعة لم تترك لآلاف الأشخاص أي خيار آخر".

لكن العبور بات أكثر فتكا منذ بدء الحرب، وفقا لسعد. فقد أُطلق الرصاص على فلسطينيين أو سقطوا حتى الموت أثناء محاولاتهم. وأوضح أن ما لا يقل عن 35 عاملا فلسطينيا لقوا حتفهم أثناء محاولاتهم الدخول إلى إسرائيل للعمل في عام 2025، دون وضوح الأعداد التي توفيت جراء إطلاق النار أو السقوط.

وأشار سعد إلى أن القيود الإسرائيلية المشددة تمنع وصول العمال إلى مسارات عمل رسمية، وغالبا ما تكون ظروف العمل في المواقع الإسرائيلية سيئة: "معظم المواقع تفتقر لأدنى معايير السلامة. لا تُوزّع معدات الوقاية، وبعض الإصابات سببها الجهل بإجراءات السلامة".

تعميق التهميش الاجتماعي

ويرى المحلل السياسي المستقل ساري عرابي، المقيم في رام الله، أن إستراتيجية إسرائيل المتمثلة في فرض القيود والحصار العسكري تهدف إلى تعميق التفاوت بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

وقال للجزيرة "هي سياسة تقوم على تقييد الحركة ومنع الوصول إلى الموارد، وتضع المدنيين أمام خيارَين: الجوع أو الخطر الجسدي".

وأضاف "هذه السياسة التي تعتمد على العزل الجغرافي والسيطرة العسكرية تُعمّق التهميش الاجتماعي وتزيد الاعتماد على المساعدات. إنها تزرع اليأس والفقر".

وفي قرية نعلين غرب رام الله، روى عثمان الخواجا (37 عاما) -وهو أب لـ3 أطفال- كيف فتحت القوات الإسرائيلية النار عليه أثناء محاولته تسلق الجدار في مارس/آذار الماضي، حيث سقط أرضًا وكُسرت ساقاه. كان يعمل في مجال البلاط وقال إنه تسلق الجدار عدة مرات من قبل خوفا من عدم قدرته على إعالة أسرته.

إعلان

وتابع "الخوف يعمي البصيرة أحيانا". وخضع الخواجا لعملية جراحية لتركيب قضبان معدنية في ساقيه. وبعد 3 أشهر من العلاج، تمكن من المشي مجددا.

وقال الخواجا "الله كتب لي حياة جديدة". ثم أضاف "لن تُقدّر قيمة الحياة إلا إذا واجهت الموت، عندها تتعلم القبول بما يأتيك".

هذا التقرير نُشر بالتعاون مع منصة "إقلب"

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رام الله

إقرأ أيضاً:

انتصار نظرية الجدار الحديدى!

منذ أكثر من مائة عام وبالتحديد فى عام 1923 كتب القيادى الصهيونى فلاديمير جابوتنسكى (1880 - 1940) مقالًا راح فيه يضع رؤيته لمواجهة أى أخطار تواجه مساعى إنشاء الدولة اليهودية فراح يقول إن الطريقة الوحيدة التى يمكن أن يوافق بموجبها العرب على دولة يهودية فى فلسطين هى القوة التى تسحقهم وتذعنهم، مضيفا أن «الوسيلة الوحيدة للوصول إلى اتفاق مع الأعداء العرب فى المستقبل هى التخلى عن كل فكرة تسعى إلى الوصول إلى اتفاق معهم فى الوقت الحالى».

ورغم أن رؤية جابوتنسكى التى عرفت بنظرية الجدار الحديدى لم تلق القبول التام، إلا أن السياسة الإسرائيلية على مدار تلك السنوات المئة تمثل سعيا لتحقيق تلك الفكرة، خاصة من خلال التيارات المتطرفة والتى تمثلها فى وقتنا الحالى حكومة نتنياهو والذى يعتبر رئيسها أن جابوتنسكى الأب الروحى له.

بعيدًا عن التفاصيل التى يكمن الشيطان فيها بشأن المباحثات التى تدور لوقف الحرب فى غزة، فإن مآلات العملية تشير إلى أن الاتفاق ربما يكون النزع الأخير للمقاومة المسلحة والتى لن تقوم لها بعده قائمة. رغم ما تمثله هذه الكلمات من قسوة، وما تحويه من رؤية تبدو متشائمة إلا أنها فى التحليل الأخير ربما لا تتجاوز توصيف الواقع. فموافقة حماس، بعيدا عن الأسباب التى دفعتها إلى ذلك ومنطقيتها، على قبول فكرة تسليم سلاحها ضمن خطة ترامب التى تقضى بأن تكون غزة منزوعة السلاح، إنما يعنى انتهاء زمن المواجهات المسلحة مع إسرائيل فى سعى الفلسطينيين لانتزاع حقهم فى إقامة دولة مستقلة، وأن الخيار الأساسى المطروح أمامهم لم يعد يتجاوز فكرة المقاومة السلمية التى قد لا تغنى ولا تسمن من جوع.

بالطبع فإن كل الاحتمالات قائمة وسيناريوهات المستقبل بشأن مسار القضية الفلسطينية متعددة خاصة فى ظل ما تحقق من مكاسب على خلفية طوفان الأقصى، لدرجة توقع البعض أن يكون مخاض الفترة الحالية قيام الدولة الفلسطينية! على خلفية موجة الاعترافات بتلك الدولة ومن دول لم يكن فى الحسبان أن تقدم على مثل تلك الخطوة. غير أننا إذا أردنا الحقيقة فإن الواقع الحالى، فلسطينيًا وعربيًا، يشير إلى أن الأمر لو استمر على ما هو عليه قد لا يفرز سوى منطقة حكم ذاتى فلسطينية فى قطاع غزة، مع مواصلة مكثفة من إسرائيل لهضم وابتلاع الضفة الغربية لتخرج تماما من معادلة كونها أرضا فلسطينية.

واذا كانت السياسة الدولية لا تعرف الحتميات فى محاولة استشراف المستقبل، وهو ما يضع احتمالات أخرى اكثر ايجابية حال حدوث ظروف استثنائية لصالح الفلسطينيين على غرار تولى ترامب الذى مثل تحولا استثنائيا لصالح اسرائيل، فإن ذلك مما لا يجب البناء عليه كثيرا فى توقع مسارات المآل الذى ستنتهى اليه القضية الفلسطينية.

إن نزع سلاح المقاومة، بغض النظر عن الصيغة والأسلوب، هو رصاصة الرحمة الأخيرة على جهود ومساعى تحقيق الحلم الفلسطينى، وبغض النظر عن الظروف التى أدت اليه، وليس فى ذلك إدانة لعملية 7 اكتوبر، فإن ذلك يمثل فى النهاية انتصار الرؤية الإسرائيلية لشكل ومسار الصراع. المشكلة الأكبر أن استثمار تل أبيب لعلاقاتها مع الولايات المتحدة، أسفر عن توسيع جبهة انتصارها ليشمل فكرة المقاومة بالمنطقة ككل، للحد الذى تجاوز حزب الله مثلا ليتسع لحد شموله دولة مثل إيران.

وإذا كان المثل يقول إن الايام دول.. فلعل فيما جرى، وفيما سيجرى من تداعيات يمثل دروسًا لنخرج كعرب من تلك الدائرة من الانكسار!

‏[email protected]

مقالات مشابهة

  • هيئة البث الإسرائيلية: ويتكوف وكوشنر يصلان اليوم إلى إسرائيل للتحضير لزيارة ترامب
  • انتصار نظرية الجدار الحديدى!
  • المفوضية الأوروبية تطالب بتوسيع مشروع "جدار المسيرات" لحماية دول القارة
  • كيف تتخلص من الكوابيس أثناء النوم؟.. بـ 4 آيات اقرأها على الفراش
  • يوم دامٍ في السويس.. مصرع طفل وإصابات خطيرة لعاملين أثناء العمل
  • القارئ أحمد نعينع ناعيا الدكتور أحمد عمر هاشم: فقدت أخا حبيبا وصديقا عزيزا
  • رئيس هيئة قضايا الدولة ناعيا الدكتور أحمد عمر هاشم: الأمة فقدت أحد رموزها المخلصين
  • هل كشف القدمين للمرأة أثناء الصلاة يبطلها؟.. الإفتاء ترد
  • كيف يمنع قانون العمل الجديد الفصل التعسفي؟ الوزير يجيب
  • اعتماد بند الأجر في عقد العمل الموثق سندًا تنفيذيًا لتسريع الفصل في المنازعات العمالية