الأشجار المعمرة في مسندم .. ذاكرة خضراء لإرث متجذر
تاريخ النشر: 25th, July 2025 GMT
تقف الأشجار المعمرة في محافظة مسندم رموزًا حية تحكي قصة تاريخ عريق. هذه الأشجار، التي تعيش مئات وآلاف السنين، ليست مجرد كائنات طبيعية، بل هي معالم بيئية واجتماعية تلامس ذاكرة المجتمعات المحلية، تشكلت أماكنها باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من تاريخ المدن والقرى، حيث تحمل في جذورها ملاحم وحكايات تعكس تاريخ الإنسانية.
تتجاوز أهمية هذه الأشجار كونها مجرد نباتات؛ فهي ترتبط بأساطير وقصص تاريخية غنية، مما يجعلها شاهدة على أحداث بارزة في حياة المجتمعات. بعض هذه الأشجار، مثل الغاف والسدر، تحمل أسماءً مرتبطة بأحداث تاريخية، مما يضيف إلى جاذبيتها ويجعلها نقاط التقاء بين الماضي والحاضر، وتصبح هذه الأشجار حراسًا للذاكرة، تروي قصص الأجيال وتربط الحاضر بماضيه.
التقت "عمان" مع عمر علي بن محمد الشحي، باحث تاريخي، للتحدث عن هذه الأشجار المعمرة، وأفاد بقوله:
"الأشجار المعمرة هي أشجار تعيش لسنوات عديدة، عادة أكثر من عقدين من الزمن، وهي معروفة بطول عمرها وقدرتها على تحمل الظروف الجوية القاسية، وتلعب دورًا مهمًا في النظام البيئي؛ لأنها توفر الغذاء لمجموعة متنوعة من الحيوانات والطيور وتساعد في الحفاظ على توازن النظام البيئي. بالإضافة إلى ذلك، فهي مهمة للإنسان؛ إذ أنها بمثابة مصدر للأخشاب والفواكه وغيرها من الموارد القيمة للبشر".
الأشجار المعمرة في محافظة مسندم
يقول الباحث عمر الشحي: هناك الكثير من الأشجار المعمرة التي تنتشر في محافظة مسندم، ونذكر منها شجرة الغاف؛ إذ أنها تعمر لأكثر من 200 سنة، وهي شجرة دائمة الخضرة، متفرعة قوية، تنتشر على نطاق واسع في سلطنة عمان، وتعد من أشهر الأشجار وأقدمها، ولها مكانة كبيرة عند شعوب شبه الجزيرة العربية حيث أخذوا منها الظل والمأكل والدواء. وفيما يخص فوائدها البيئية، أيضًا تعمل شجرة الغاف على تقليل الانبعاثات الكربونية من خلال امتصاصها لهذه الانبعاثات، وبذلك تساعد على تقليل آثار التغيير المناخي، كما تساهم في تحسين برودة الهواء. وشجرة الغاف أيضًا لها أهمية اجتماعية وثقافية لدى سكان محافظة مسندم قديمًا، حيث شكلت أماكنها جزءًا مهمًا من تاريخ محافظة مسندم، واحتفظت حولها بذكريات الأجداد عبر عقود قديمة. فقد كانت مجلسًا يجتمع فيه كبار القوم لمناقشة جميع القضايا التي تهم الأهالي، بالإضافة إلى أنها كانت تحتضن مناسبات عديدة مثل الأعراس والولائم والعزاء، فأثرت في أدق تفاصيل حياة أهالي محافظة مسندم قديمًا.
ملتقى الأحداث التاريخية
ويضيف الباحث التاريخي عمر الشحي: شجرة الغاف كانت أيضًا ملتقى للشعراء ورواة التاريخ والحكايات الشعبية، كما كانت هذه الشجرة العظيمة مقصد المسافرين وعابري السبيل والقيّاضة والصنائعية والصفافير الذين يأتون إلى محافظة مسندم وتحديدا ولاية دبا في وقت القيظ، ويستقرون تحت شجرة الغاف لتنظيف أواني الصفر لدى أهالي دبا. وأيضًا كانت مجلسًا لأهل العلم يستظل تحتها الكتاتيب أو المطاوعة أو المعلمون لكي يعلموا الطلبة قراءة القرآن الكريم وأحكامه. ومن أشهر أشجار الغاف وأقدمها في محافظة مسندم تلك الموجودة في ولاية دبا، وهي (غافة أم الصفاصيف) التي يتراوح عمرها ما بين 250 و300 سنة، وأيضًا (غافة أم قاقوه)، و(غافة الراعي)، و(غافة المسرح)، و(غافة أم الشعر)، و(غافة الغزاير)، و(غافة حمدوه)، و(الغافتين)، والكثير من الغاف المعمر المنتشر في ولاية دبا وفي جميع ولايات المحافظة، وكل غافة تحمل في جعبتها الكثير من القصص والأحداث التاريخية والذكريات الجميلة التي لا زالت في ذاكرة الآباء والتي تروى جيلًا بعد جيل.
شجرة المزي
وعن شجرة المزي يقول عمر الشحي: إن المزي من الأشجار المعمرة التي تنتشر في جبال محافظة مسندم والتي تعيش على ارتفاع 1000 متر تقريبًا، ساقها غليظ وأوراقها طويلة، تزهر في بداية شهر فبراير، وتتميز بجمال أزهارها البيضاء وهي ذات رائحة عطرية جميلة. وثمار شجرة المزي لها فوائد طبية عند الأهالي في جبال محافظة مسندم، ويُستخرج من أغصانها أفضل العصي وأشدها متانة والتي تستخدم لعصاة الجرز المشهورة عند أهالي المحافظة. ويصل ارتفاع شجرة المزي تقريبًا إلى أكثر من خمس أمتار. وشجرة المزي تحتوي على قيمة جمالية وبيئية وثقافية وسياحية، وتوجد بكثرة في منطقة سلسطام الجبلية التابعة لولاية بخاء، وكذلك في منطقة السي الجبلية التابعة لولاية خصب، وأيضًا تواجد في مرتفعات جبال ولاية دبا.
شجرة (السقب) أو (التين الجبلي)
ويضيف الشحي: شجرة السقب تعد من أهم الأشجار المعمرة، فاكهتها لذيذة ولها فوائد صحية عديدة. تنتشر هذه الشجرة في مرتفعات جبال محافظة مسندم في سهولها وأوديتها؛ إذ أنها تنتج أطيب أصناف التين. وقد تثمر شجرة السقب مرة واحدة سنويًا أو أكثر، وتنمو في الأجواء الدافئة، أي أنها لا تحتاج إلى برودة مثل باقي الفواكه، وتتحمل شجرة السقب العطش والجفاف ولا تحتاج إلى الكثير من الماء. وتنقسم ثمرة السقب إلى شكلين: الأحمر المائل إلى الأسود، والأبيض أو الأخضر، وتحصد ثمارها في موسم القيظ.
شجرة الشريشة
وأشار الشحي إلى أن شجرة الشريشة شجرة ظل معمرة يصل طولها إلى 15 مترًا وأكثر، تمتاز بأوراقها الخضراء طول العام، ومنتشرة في كافة ولايات محافظة مسندم. وهي شجرة ذات قيمة عالية، طاردة للحشرات، كما أن ثمرتها تستخدم في الطب الشعبي في علاج الجذام واضطراب المعدة، كما تستخدم أوراقها في علاج حساسية الجلد، وأيضًا تستخدم أغصانها في علاج السعال والكحة. ومن أشهر أشجار الشريشة في محافظة مسندم تلك الموجودة في ولاية دبا، وهي (شريشة راشد الأمير)، و(شريشة الشيخ حسن بن رحمة)، و(شريشة الشيخ حمدان)، والتي يصل عمرها إلى أكثر من 100 سنة. وأيضًا في ولاية بخاء بمنطقة غمضاء (شريسة حسن) و(شريسة الصراي)، وفي قرية تيبات (شريشة التل).
شجرة (الصبارة) أو التمر الهندي
وتعد شجرة التمر الهندي من الأشجار العملاقة والمعمرة، والتي يصل عمرها إلى أكثر من 100 سنة، وارتفاعها قرابة عشرة أمتار. وتنتشر هذه الشجرة في ولايات محافظة مسندم، حيث توجد صبارة (الحاجر) في ولاية دبا، وأيضًا في ولاية بخاء، وتسمى بصبارة (غمضاء)، وتمتاز شجرة الصبارة بأنها تتحمل الجفاف والملوحة، وهي توفر الظل والغذاء، بالإضافة إلى استخدام أوراقها وزهورها وثمارها في الطعام للعديد من الوجبات.
شجرة الرولة
ويقول عمر الشحي: إن شجرة الرولة تعد من الأشجار المعمرة في مسندم، وتوجد في ولاية مدحا، إذ يصل عمر شجرة الرولة، التي تشتهر بها، إلى أكثر من 200 سنة. وهي شجرة استوائية تتميز بضخامتها، ويصل ارتفاعها إلى أكثر من 15 مترًا. ويروي لنا كبار السن في ولاية دبا أنهم عندما يذهبون إلى البحر بغرض الصيد أو السفر قديمًا، كانوا يشاهدونها من هناك. وهذه الشجرة الضخمة تعد من الرموز التاريخية – كما كانت لشجرة الرولة بولاية مدحاء الشاهدة على ذكريات وقصص وأحداث عديدة لا يزال الأهالي بولاية مدحاء يتداولونها ويرويها الآباء لأبنائهم - وكذلك يروى عن كبار السن في ولاية بخاء أنه كانت توجد شجرة رولة ضخمة ومعمرة بالقرب من مسجد المر بن حريز، ولكنها تساقطت ولم يبق لها أثر.
شجرة السدر
وعن شجرة السدر يوضح الشحي أن شجرة السدر شجرة معمرة ومهمة، ولها قيمة كبيرة لدى أبناء محافظة مسندم، حيث كانت أهم مقومات الحياة الاجتماعية لدى السكان، يعتمدون عليها اعتمادًا كليًا في حياتهم اليومية، خاصة أنها كانت ولا زالت مصدرًا للعلاج الشعبي وإنتاج العسل. ويُستفاد من أغصانها في بناء المنازل، كما هي مصدر مهم لغذاء المواشي، وأيضًا تقام تحت ظلها الأعراس والولائم وحتى دروس القرآن الكريم، ويستظل تحتها المسافرون. كما أن ثمارها غذاء للإنسان والحيوان والطيور، امتدحها الكثير من الشعراء في قصائدهم:
يا سدرتي حمالة الفضة
حتت ورقها زعفراني
حتت ولا سوت مذلة
وتمايل عود الخيزراني
ومن أشهر أشجار السدر المعمرة والموجودة بالمحافظة، هي (عود الشبلي)، و(سدرة بنت سند)، و(سدرة المياسية)، و(عود سلية النخل) و(العود معناه سدرة بلهجة أهل الجبال). كما أن ثمة أشجار السدر في منطقة الخالدية بولاية خصب، ومنها المعمرة (عود الشبلي) و(عود الصلب) و(سدرة المطوع) في ولاية مدحا، و(عود حسن) في ولاية بخاء. وتبقى الأشجار المعمّرة شاهدة على تعاقب الأزمان وتوالي الأجيال، تحفظ في جذوعها أسرار الأرض، وفي ظلالها معاني الحياة.
حماية الأشجار المعمرة
وفي ختام حديثه، يؤكد الباحث عمر الشحي أن الأشجار المعمرة ليست مجرد مكونات طبيعية عابرة، بل تمثل إرثًا بيئيًا وثقافيًا متجذرًا في وجدان المكان والناس، لما تحمله من أبعاد بيئية واجتماعية وتاريخية وسياحية عميقة. ومن هذا المنطلق، يشدد الشحي على ضرورة أن تضطلع الجهات الحكومية المعنية بدور فاعل في حماية هذا التراث الحي، وذلك من خلال حصر وتوثيق هذه الأشجار بشكل علمي دقيق، يتضمن ترقيمها وتصنيفها بحسب الأنواع والأعمار والمواقع، مع تثبيت لوحة معدنية تعريفية على كل شجرة توضح بياناتها الأساسية، بما في ذلك عمرها ونوعها ورقمها التسلسلي، بالإضافة إلى إشارة واضحة تحذر من العبث بها أو الإضرار بها بأي شكل من الأشكال.
ويضيف الشحي أن سنّ تشريعات صارمة تجرّم قطع الأشجار المعمرة أو التعدي عليها بات أمرًا ملحًا، مشيرًا إلى أن الحاجة الملحّة للتوسع العمراني أو البناء لا ينبغي أن تكون مبررًا للإضرار بهذا الإرث الطبيعي. ففي الحالات التي تصبح فيها الشجرة المعمرة عائقًا أمام مشاريع سكنية أو إنشائية، ينبغي على المواطن أن يبلغ الجهات المختصة التي يقع على عاتقها اتخاذ الإجراءات المناسبة لنقل الشجرة إلى موقع بديل تحدده مسبقًا، بما يضمن الحفاظ عليها حية ومنتجة في بيئة جديدة مناسبة.
كما يؤكد على أن حماية الأشجار المعمرة واجب وطني وإنساني، فهي شواهد حية على تعاقب الأزمان وتغير الأجيال، تربط بين الماضي والحاضر، وتغرس جذور الأمل للمستقبل وهي ذاكرة وطن وهوية وصفحات خضراء من كتاب المكان. ويشير إلى أن الجميع مسؤول تجاه هذا الموروث الطبيعي الثمين ويقتضي أن نحميه ونرعاه بكل وعي وحرص؛ لأنه ليس ملكًا لجيل واحد، بل هو إرث مشترك يجب أن نوصله للأجيال القادمة كما تسلمناه، بل وأفضل.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأشجار المعمرة فی فی محافظة مسندم فی ولایة بخاء ا إلى أکثر من بالإضافة إلى هذه الأشجار هذه الشجرة من الأشجار شجرة الغاف الکثیر من الأشجار ا من أشهر إلى أن ا کانت وأیض ا
إقرأ أيضاً:
الإبل.. ذاكرة متدفقة وهوية نابضة وتقنية تعيد اكتشافها من جديد
في قلب صحراء الصياهد، حيث يعانق شتاء الجزيرة دفء الرمال، يجمع مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل الحدث الأكبر من نوعه عالميًا، التراث والثقافة والاقتصاد في لوحة تعكس عمق علاقة الإنسان السعودي بالإبل عبر التاريخ.
ويواصل المخيم الثقافي في مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل جذب زواره، مستعيدًا مشاهد الحياة كما عاشها الأجداد.
ويقدم مخيم بانوراما صورًا حيّة لطريقة العيش القديمة، من خلال جلسات الحوار التي يتداول فيها الرواة قصائد البادية، وحكايات الإبل والصحراء، في مشهد يكتمل بطقوس استقبال الضيوف، وإعداد القهوة العربية وتحميصها على النار، باستخدام أدوات تجاوز عمر بعضها قرنًا كاملًا.
ويستعيد المخيم مسكن أهل البادية، ومنتجاتها القديمة، فيما يتعرف الزائر على اختلاف مساحات بيوت الشعر بين المخومس والمثولث وغيرها، بحسب حجم العائلة واحتياجاتها، مقدما بذلك صورة شاملة لزواره من مختلف دول العالم، لاعتماد سكان الجزيرة العربية قديمًا على الإبل في تفاصيل حياتهم اليومية؛ بدءًا من التعايش مع الإبل قديمًا في استخراج الماء من الآبار وحفظه في القرب، وصولًا إلى الترحال والتنقل والكلأ.
ويقترب الزوار في رحلتهم من عالم الألوان المميزة للإبل، التي تشكّل جانبًا مهمًا في تقييم السلالة والجمال، حيث تنقسم الإبل حسب ألوانها إلى قسمين رئيسين: المغاتير والمجاهيم، وتُعرف المغاتير وواحدتها “مغتر” بلونها الفاتح، وتتفرع إلى الوضح البيضاء الناصعة، والصفر ذات اللون الأصفر وسنامها الأسود، والشعل التي تتميز بصفار خالص بلا سواد، والحمر بلون بيج يميل إلى الحمرة، أما المجاهيم وواحدتها “مجهم” فهي السوداء وما يدخل في نطاقها من درجات، مثل المجهم الخالص السواد، والملحاء، والصهباء ذات الأسود الفاتح، والزرقاء التي يظهر في بطن يديها وأسفل رقبتها بياض.
وتظهر أيضًا ألوان أخرى مثل البرصاء البيضاء الخالصة، والقمراء التي تجمع بين الأبيض والرمادي، وتُعرف الناقة البيضاء بعدة أسماء، منها: عفراء، شقحاء، برصاء، قمراء، وضحاء.
وتُعد المجاهيم الأضخم حجمًا والأهدأ طبعًا، وأكثرها إنتاجًا للحليب، وهي المفضلة لدى بعض البادية لصفاء لونها وحسن طباعها، بخلاف المغاتر التي تظهر فيها الشوائب ويبدو لونها حساسًا للتغيرات، مما يجعل المجاهيم أجود إدرارًا للحليب في المملكة، إضافة إلى الإبل الساحليات التي تتكاثر في سواحل المملكة والمناطق الغربية من المملكة.
اقرأ أيضاًتقاريرمبادرات وبرامج تعزز مشاركة ذوي الإعاقة في سوق العمل
ويتفاوت تركيب حليب الإبل باختلاف السلالة ونوعية الأعلاف والنباتات الرعوية والمياه، بالإضافة إلى عمر الناقة وفترة الإدرار، وعادة ما يكون لبن الناقة في الغالب أبيض مائلًا إلى الحمرة، حلو المذاق لاذعًا، وقد يكون أحيانًا مالحًا أو شبيهًا بمذاق الماء تبعًا لطبيعة العلف والماء، حيث يصل محتوى الماء فيه إلى ما بين 84% و90%، وهو ما يجعله مصدرًا حيويًا لصغار الإبل، ولسكان المناطق الصحراوية في بيئة الجفاف.
ويمتد الاهتمام العلمي بالإبل نحو آفاق جديدة، إذ طور فريق بحثي في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية “كاوست” بقيادة الدكتور باسم شحادة نظامًا ذكيًا يستخدم طائرة مسيّرة منخفضة التكلفة ومرتفعة الدقة للتعرف على الإبل وتتبع حركة قطعانها دون الاعتماد على الأطواق المكلفة، وجمع الفريق آلاف اللقطات عبر كاميرا واحدة ثُبتت على طائرة الدرون، لتدريب النموذج على أنماط الحركة والسلوك، وأظهرت النتائج قدرة الإبل خصوصًا الكبيرة منها على اتباع مسارات يمكن التنبؤ بها أثناء الرعي، لتعود إلى مربّيها قبل الغروب بمتن بيولوجي دقيق، ولأن الإبل تستشعر الصوت بقوة، حافظ الفريق على ارتفاع 120 مترًا أثناء الرصد، فيما تشمل المرحلة المقبلة دراسة قطعان أكبر وأكثر تنوعًا من حيث الألوان والأحجام.
وتزداد أهمية هذه التقنيات مع معرفة أن الإبل قد تجوب نحو 50 كيلومترًا يوميًا في المناطق المفتوحة، ما يجعلها عرضة للضياع أو الاصطدام، إلى جانب تأثيرات الرعي الجائر.
ويسهم قطاع الإبل بأكثر من ملياري ريال سنويًا في الاقتصاد السعودي عبر المنتجات الغذائية والمنسوجات والسياحة والخدمات البيطرية، حيث تشير بيانات وزارة البيئة والمياه والزراعة لعام 2024م إلى أن عدد الإبل في المملكة بلغ 2,235,297 متنًا، تتصدرها الرياض بـ 656,423 متنًا، تليها الشرقية بـ 361,178، ثم مكة المكرمة بـ 281,164 متنًا، وهو ما يشكل 58.1% من الثروة الوطنية، مع تفوق واضح في أعداد الإناث التي تمثل أساس النمو والإنتاج.
وفي جانب توثيق معلومات الإبل، توثّق دارة الملك عبدالعزيز هذا الإرث عبر معارض ودراسات متنوعة، فيما أصدر مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية “معجم مصطلحات الإبل” ليحفظ الثراء اللغوي المصاحب لهذا الموروث.
وتشهد الفنون الصخرية على وجود الإبل في الجزيرة العربية منذ أكثر من 120 ألف عام، فيما امتدت رحلتها الحضارية إلى الأندلس في القرن الرابع الهجري.
وتحضر طقوس البادية القديمة مثل: “الشديد” وهي رحلة موسمية تتنقل خلالها القطعان بين السهول الدافئة والمرتفعات الرطبة كجزء من ذاكرة المكان، حيث يعتمد الرعاة على معرفة دقيقة بطبيعة الأرض وروائح أشجار السمر، والرمث، والأرطى، ومسارات السيول، ويُعد خفّ الإبل بصمة فريدة يمكن من خلالها تمييز العمر والجنس والحالة الصحية، وهو علم متوارث بين أهل البادية.
وتستحضر الذاكرة الوطنية ارتباط الإبل بمسيرة الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وناقته “مصيحة” التي رافقته في توحيد البلاد، وقيمه في الإحسان إلى “الهمّل”.
ويزداد الحضور الرمزي لهذا الكائن الحي بارتباطه في التاريخ الديني بناقة صالح عليه السلام، وناقة النبي ﷺ “القصواء”.
ويتجلى حضور الإبل المعاصر عبر مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل وسباقات الهجن، ومنافسات المزاين، والطبع، والمشالع، والتطبيع، فيما تسجل بعض السلالات الأصيلة أسعارًا قياسية، مع تصنيف منظمة “الفاو” لحليب الإبل كغذاء عالمي عالي القيمة الصحية.
وقال المهتم بشأن الإبل المربي خالد العتيبي: “إن الإبل ليست مجرد ثروة حيوانية، بل إرث حيّ يحمل ذاكرة المكان والإنسان، مؤكّدًا أن المملكة اليوم تعيش نهضة غير مسبوقة في العناية بهذا القطاع، سواء عبر المهرجانات المتخصصة، أو عبر التطوير البيطري والتقني”.
وأضاف أن مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل أسهم في رفع الوعي بقيمة السلالات الأصيلة، وتعزيز الممارسات الصحيحة في التربية، ودعم اقتصاديات المنتجين، حتى أصبح المربّي يعيش حالة من الافتخار بما يقدّمه من رعاية وسلالات تسهم في صون الموروث الوطني، ورفع جودة الإنتاج.
وفي سياق التطوير الاقتصادي المرتبط بالإبل، أعلن صندوق الاستثمارات العامة مؤخرا تأسيس شركة “سواني” التي تهدف إلى تمكين نمو قطاع منتجات حليب الإبل، والإسهام في تطوير منظومة الإنتاج المحلية للوصول إلى قطاع مستدام، بما يعزز مكانة المملكة في هذا المجال الحيوي.
وتهدف الشركة إلى تحقيق الريادة في منتجات حليب الإبل، ودعم قطاع الزراعة والأغذية، وتنويع الاقتصاد المحلي، تماشيًا مع رؤية المملكة 2030، حيث تعمل “سواني” بالشراكة مع القطاع الخاص على رفع القدرة الإنتاجية لمنتجات حليب الإبل، ورفع معايير منظومة الإنتاج عبر تبني أفضل الممارسات التشغيلية الحديثة، وتوطين المعرفة وأحدث التقنيات لزيادة كفاءة الإنتاج وجودة المنتجات.
وبامتزاج الماضي بالحاضر، يبقى هذا الكائن العريق رمزًا للشموخ والصبر والهوية الوطنية، وصوتًا متجددًا يمتد من خطى القوافل القديمة إلى أجنحة الطائرات الذكية، ومن معارف البادية إلى مختبرات الذكاء الاصطناعي، ومن اقتصاد التراث إلى شركات المستقبل, في رحلة تعيد اكتشاف الإبل بلغة تجمع بين الأصالة والابتكار، وتحمل الماضي بثبات نحو المستقبل.