تاج السر عثمان بابو ١ أشرنا سابقا إلى أن التدهور الاقتصادي والمعيشي والسياسي والاجتماعي ومانتج عنه َمن أنظمة عسكرية أخذت حوالي ٥٧ عاما من عمر الاستقلال البالغ أكثر من ٦٩ عاما، نتج عنه الحرب اللعينة الجارية حاليا، مما يستوجب ترسيخ الديمقراطية والسلام والحكم المدني الديمقراطي، والسير في طريق التنمية المستقلة المتوازنة، وحماية السيادة الوطنية ووقف نهب ثروات البلاد بعد أن تضع الحرب أوزارها.

فالبلاد التي دمرتها الحرب التي إضافت عبء إعادة الإعمار في حاجة للنهوض من الأنقاض. ٢ أوضحنا سابقا، كانت تجربة السير في طريق التنمية الرأسمالية الغربية منذ احتلال السودان عام 1898م، وبعد الاستقلال فاشلة وكان من نتائجها: أ – تشويه وتدمير القطاع الزراعي الذي يعتبر المصدر الرئيسي للفائض الاقتصادي اللازم للتنمية والمصدر لتأمين الغذاء، وبالتالي تأمين قرارنا وسيادتنا الوطنية. ب – استمرار وتعميق الفقر حتى وصل نسبة 95 % من السكان. ج – تعميق التبعية للعالم الغربي ، ديون خارجية تجاوزت ٦٠ مليار دولار . د – إهدار الاستثمارات والموارد الوطنية في برامج التصنيع الفاشلة، بل تم بيع أصول القطاع العام ” سكك حديد ونقل نهري وبحري وجوي” وتمليك أراضي البلاد لمؤسسات إقليمية وعالمية لمدة 99 عاما دون مراعاة حقوق أهلها والأجيال القادمة وتدمير القطاع الصناعي والزراعي والحيواني ونهب ثروات البلاد من ذهب وبترول وانهارت العملة الوطنية و أفلست البنوك، وتدهورت الأوضاع المعيشية حتى اصبحت نذر المجاعة تهدد البلاد.وادت الحرب للمزيد من التدهور وتدمير البنيات التحتية ومرافق الدولة الحيوية والمصانع والأسواق والبنوك ومواقع الإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي. فشل هذا الطريق يؤكد مشروعية البرنامج الوطني الديمقراطي الذي ينتشل البلاد من التخلف يدفعها في طريق النهضة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ٣ الجذور التاريخية للتخلف : السمات الأساسية للتخلف الذي تعاني منه البلاد تتمثل في : أ – في الجانب الدولي للتخلف الذي يشمل التبعية الاقتصادية للدول الرأسمالية الأجنبية وتصدير الفائض الاقتصادي للخارج . ب – في الجانب الداخلي : الذي يتمثل في عدم الاستقرار والحروب والمجاعات والفقر وعدم تجانس المجتمع ( قطاع حديث وآخر تقليدي ) واقتصاد جامد ومفكك . هذا التخلف ليس لعنة حلت بنا لا فكاك منها ، ولكنه نتاج تطور تاريخي . ومعلوم أن السودان في العصور القديمة والوسطى شهد مولد حضارات ( كرمة ، نبتة ، مروي ، ممالك النوبة المسيحية ، الممالك الإسلامية : الفونج ، الفور ، وتقلي ، .. الخ ) ، وكانت هذه الحضارات مزدهرة فيما يختص بالتطور الزراعي والصناعة الحرفية ، وكانت هذه الحضارات لاتقل شأنا عن الحضارات التي كانت معاصرة لها في بلدان الشرق والعالم الإسلامي وأوربا في العصر القديم والوسيط . ولكن من أين جاءت جذور التخلف ؟ لقد قطع الاحتلال التركي – المصري للسودان عام 1821 م التطور الطبيعي والباطني للمجتمع السوداني ، وبعد الاحتلال نشأت بنية اقتصادية – اجتماعية تابعة ومتجهة خارجيا ، بمعنى أن كل النشاط الاقتصادي والاجتماعي في تلك الفترة كان موظفا لخدمة أهداف دولة محمد على باشا في مصر ، وتم نهب وتدمير القوى المنتجة في السودان( المادية والبشرية ) ، وكان ذلك جذرا أساسيا من جذور تخلف السودان الحديث . رغم ارتباط السودان بالعالم الخارجي وعرف المحاصيل النقدية مثل : القطن ، الصمغ ، والتعليم المدني الحديث والقضاء المدني ،. الخ . وتم استنزاف ونهب موارد السودان ، وإرهاق الناس بالضرائب الباهظة حتى انفجرت الثورة المهدية. استمرت فترة المهدية لمدة ” 13″ عاما كانت مشحونة بالحروب الداخلية والخارجية والمجاعات. لم تشهد فترة المهدية استقرارا حتى جاء الاحتلال البريطاني للسودان (1898 – 1956)، وفي تلك الفترة عاد الاقتصاد السوداني للتوجه الخارجي، أي أن الاقتصاد السوداني كان خاضعا لاحتياجات بريطانيا ومد مصانعها بالقطن الذي كان المحصول النقدي الرئيسي ويشكل 60 % من عائد الصادرات، وتم تغليب وظيفة زراعة المحصول النقدي على وظيفة توفير الغذاء الأساسي في الزراعة ، هذا إضافة لسيطرة الشركات والبنوك البريطانية على معظم التجارة الخارجية، وارتباط السودان بالنظام الرأسمالي العالمي، وفي علاقات تبادل غير متكافئة، هذا إضافة لتصدير الفائض الاقتصادي للخارج، فعلى سبيل المثال في الفترة ( 1947 – 1950 ) كانت أرباح شركة السودان الزراعية أكثر من 9,5 مليون جنية إسترليني تم تحويلها إلى خارج البلاد ( تيم نبلوك : صراع السلطة والثروة في السودان ) . كما كانت الصناعة تشكل 9 % من إجمالي الناتج القومي ، وأجهض المستعمر أي محاولات لقيام صناعة وطنية ، وتم تدمير صناعات النسيج والأحذية التي كانت موجودة خلال فترة المهدية ، بعد أن غزت الأقمشة والأحذية المستوردة السوق السوداني . وكان نمط التنمية الاستعماري الذي فرضه المستعمر يحمل كل سمات و مؤشرات التخلف التي تتلخص في الآتي : – – 90 % من السكان كانوا يعيشون في القطاع التقليدي ( المعيشي ) . – قطاع تقليدي يساهم ب56,6 % من إجمالي الناتج القومي . – القطاع الزراعي يساهم ب61 % من تكوين الناتج المحلي . – ضعف ميزانية التعليم والصحة، تتراوح بين ( 4 –6 % ). – نسبة الأمية حسب إحصاء 55 / 1956، كانت 86,5 % . – دخل الفرد كان حوالي 27 جنية مصري في العام. – اقتصاد غير مترابط ومضعضع داخليا ومتوجه خارجيا . – تنمية غير متوازنة بين أقاليم السودان . وبعد الاستقلال استمر هذا الوضع وتم إعادة إنتاج التخلف واشتدت التبعية للعالم الخارجي أو التوجه الخارجي للاقتصاد السوداني : ديون ، عجز غذائي ( مجاعات )، تصنيع فاشل، وغير ذلك مما وضحناه سابقا. ٤ فشل الرأسمالية السودانية في قيادة النهضة الوطنية : هناك عوامل ومؤثرات وعقبات وقفت في طريق تطور ونمو الرأسمالية السودانية والتي حالت دون أن تتمكن من قيادة النهضة الصناعية والزراعية ، رغم أن بذور نشأتها كانت مبكرة ومعاصرة للثورة الصناعية في أوربا ، فقد نشأت في خضم عمليات التراكم البدائي لرأس المال التجاري في سلطنة سنار ، ويمكن أن نلخص أهم الأسباب التي أدت إلى إجهاض دور الرأسمالية السودانية في قيادة النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الآتي : – – لم تستطع الرأسمالية التجارية أن تحقق نصرا حاسما في صراعها ضد الطبقة الإقطاعية في سلطنة سنار على السلطان الذي كان يحتكر سلعتي الذهب والرقيق ، وبالتالي فشلت في الانفراد بقيادة الدولة ، كما فعلت الطبقة الرأسمالية في أوربا ، هذا فضلا عن توقف التطور الباطني الطبيعي لهذا الصراع بسبب تدخل عامل خارجي هو الاحتلال التركي للسودان . – في فترة الحكم التركي أصبح الاقتصاد السوداني متوجها لخدمة أهداف دولة محمد على باشا في مصر والذي كان يهدف إلى تحقيق نهضة صناعية وزراعية في مصر واللحاق بركب البلدان الأوربية ، وبالتالي حال ذلك دون أن تلعب الرأسمالية السودانية دورها في النهضة . – تميزت فترة المهدية بعدم الاستقرار والحروبات المتصلة والصراعات الداخلية والخارجية وإهمال القطاع الزراعي بسبب التهجير الواسع للمزارعين وأسرهم تلبية لنداء الجهاد مما أدى إلى تدهور الزراعة وانتشار المجاعات مثل مجاعة : سنة 1306 ه ، وبالتالي لم يكن الجو مساعدا لنمو وتطور الرأسمالية السودانية . – في فترة الاستعمار البريطاني للسودان ( 1898 – 1956 ) تصدت الدولة لإنشاء المشاريع الزراعية والخدمية مثل مشاريع القطن ( الجزيرة ، القاش ، طوكر ، جبال النوبة ، …. الخ ) ، السكك الحديدية والطرق الداخلية ، خزان سنار ، ميناء بور تسودان ، … الخ. كما غزت بريطانيا السودان بالسلع الرأسمالية المستوردة، مما حال دون نمو الرأسمالية السودانية وقيادتها للنهضة الصناعية والزراعية. – بعد الاستقلال لم تلعب الرأسمالية الوطنية دورها في النهضة رغم التسهيلات التي كانت تقدم لها، فقد ظل القطاع العام هو المهيمن. – بعد انقلاب مايو 1969 تم تحجيم الرأسمالية الوطنية التي بدأت تلج ميدان الإنتاج الصناعي والزراعي بقرارات التأميم والمصادرة العشوائية ، ومنذ العام 1978 ، وبعد التخفيضات المتوالية للجنية السوداني انهار الإنتاج الصناعي والزراعي وتزايد النشاط الطفيلي الذي دمر الاقتصاد السوداني بتهريب الفائض الاقتصادي للخارج . – وبعد انقلاب 30 / يونيو / 1989 سادت الرأسمالية الطفيلية الإسلاموية على حساب الفئات الرأسمالية المنتجة، وتم تدمير الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعي ونهب عائدات الذهب والبترول وأصول البلاد. وتمت الخصخصة وتشريد العاملين وتدهورت الأوضاع المعيشية ، رفعت الدولة يدها عن خدمات أساسية مثل : التعليم والصحة الذين دخلا دائرة الاستثمار الخاص ،و أفرزت حكاما طغوا في البلاد فاكثروا فيها الفساد ، استغلوا الدين في السياسة ، وقهروا الناس باسم الإسلام. وقادوا البلاد للحرب اللعينة الجارية حاليا، بهدف المزيد من نهب ثروات البلاد من ذهب وأراضي و محاصيل نقدية. الخ، والمزيد من الفساد والطغيان في البلاد. بفشل الرأسمالية في قيادة النهضة الوطنية، يستحيل الحديث مرة أخري عن قيادتها تحت ستار “الدولة التنموية” والتي تعني المزيد من الدمار وافقار الكادحين وإعادة إنتاج الأزمة بشكل أعمق من السابق، لا بديل غير قيادة طبقية جديدة تعبر عن مصالح الطبقة العاملة والكادحين والقوي صاحبة المصلحة ” فقراء ومتوسطي المزارعين ، مثقفين ثوريين، الرأسمالية المنتجة.الخ” ضمن تحالف الجبهة الوطنية الديمقراطية الاستراتيجي لإنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية. ٥ الهدف المباشر حاليا قيام أوسع تحالف جماهيري قاعدي لوقف الحرب واستعادة مسار الثورة، وترسيخ الحكم المدني الديمقراطي، وتفكيك التمكين وإعادة ممتلكات الشعب المنهوبة ، وعدم الإفلات من العقاب، وخروج العسكر والدعم السريع والمليشيات من السياسة والاقتصاد، والترتيبات الأمنية لحل كل المليشيات وجيوش الحركات وقيام الجيش القومي المهني الموحد الذي يعمل تحت إشراف الحكومة المدنية، وعقد المؤتمر الدستوري الجامع الذي يقرر شكل الحكم والحل العادل والشامل ،ووقف التدهور الاقتصادي والمعيشي. وتحقيق التنمية المتوازنة. الوسومتاج السر عثمان بابو

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الرأسمالیة السودانیة الاقتصاد السودانی الصناعی والزراعی فی طریق

إقرأ أيضاً:

مستشار السفير السوداني يؤكد ثقة بلاده بالجهود المصرية في إعمار السودان

أشاد الدكتور أمين إسماعيل مجذوب مستشار السفير السوداني بالقاهرة، بملتقى رجال الأعمال المصري- السوداني، والذي عقد الأسبوع الماضي، وحظى بالاهتمام البالغ والمتابعة والدعم الكبير من قيادة البلدين الشقيقين، وأن السودان يقف على أعتاب مرحلة التعافي وإعادة البناء بعد الظروف الاستثنائية التي مرت بها، مؤكدا على ثقة بلاده في الجهود المصرية في إعمار السودان.

وقال مستشار السفير السوداني، خلال تصريحات خاصة لوكالة أنباء الشرق الأوسط بأسوان، عقب زيارته للمحافظة، إن ملتقى رجال الأعمال تناول طرح الرؤى ومجالات العمل المشتركة، في إطار الشراكة والتكامل بين البلدين في مختلف المجالات، وخاصة فيما يتعلق بملف إعادة إعمار السودان.

وأضاف أن كافة الطرق وأطر العمل تصب لصالح تعميق العلاقات والشراكة مع الجانب المصري، للاستفادة من الخبرات المصرية الكبيرة في هذا الإطار، وأشار إلى أن السفارة السودانية بالقاهرة لديها استعدادات خاصة للتنسيق مع الشركات المصرية ورجال الأعمال الراغبين في العمل والاستثمار وإعمار السودان، فضلا عن المجالات الزراعية والصناعية، والتعدين، نظرا لاطلاع مصر بكامل مشاكل وقضايا السودان المصيرية.

وثمن جهود وسعى مصر والسودان لتعزيز التكامل الاقتصادي، تفعيلا للعلاقات التاريخية والروابط الاجتماعية والجغرافية، مبديا رغبة بلاده بتحقيق عهد جديد في العلاقات المتميزة مع الدولة المصرية تحت رعاية السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي.

بدوره أشار السفير عبد القادر عبد الله القنصل العام لجمهورية السودان بأسوان ومحافظات الصعيد، إلى سعى بلاده للشراكة مع الدولة المصرية تحت قيادة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي.

وقال إن المصير المشترك بين السودان ومصر، يعطى الأولوية لمصر في مشروع إعمار السودان بعد الحرب، مؤكدا:«لن ننسى المواقف المصرية في استقبال الألاف من الأسر والمواطنين السودانيين خلال فترات الحرب بالإضافة إلى المعاونة في برنامج العودة الطوعية للأسر السودانية النازحة إلى مصر».

وأضاف أن السفارة المصرية بالقاهرة والقنصلية السودانية، ستتولى خلال الفترة القادمة جهود التنسيق مع الشركات المصرية ورجال الأعمال الراغبين في العمل والاستثمار وإعمار السودان، وأن أهم ما يميز العلاقات بين البلدين، التكاملية بين موارد السودان وإمكانيات مصر، في ظل أن مصر لديها القدرات البشرية والعمالة المدربة ورأس المال، في الوقت الذى تمتلك فيه السودان الموارد الطبيعية والأراضي الصالحة للاستصلاح والزراعة والثروات التعدينية، ومجالات العمل المختلفة.

يذكر أن مستشار السفير السوداني بالقاهرة الدكتور أمين إسماعيل مجذوب والسفير عبد القادر عبد الله القنصل العام لجمهورية السودان بأسوان شاركا فى معرض ومؤتمر توشكى أسوان الزراعي 2025 والذي اختتمت فعالياته بأسوان الخميس الماضي و لمدة 3 أيام، بمشاركة60 عارضًا من كبرى الشركات العاملة فى قطاعات الإنتاج الزراعي والمعدات الحديثة والتقنيات المتطورة، تحت رعاية الدكتور إسماعيل كمال محافظ أسوان، والدكتور لؤي سعد الدين القائم بأعمال رئيس جامعة أسوان.

اقرأ أيضاً«سلامة الغذاء»: تصدير 180 ألف طن مواد غذائية.. والصومال والسعودية والسودان أكبر المستوردين

سفير طوكيو لدى الخرطوم: المجتمع السوداني تعرض لهزات كبيرة تحتاج إلى معالجة طويلة المدى

السودان تحت النار.. «اليمني» يكشف مستقبل الأزمة السياسية العاجلة| فيديو

مقالات مشابهة

  • الجيش السوداني: الهدنة مناورة وبابنوسة تحت القصف
  • ما قصة علم الاستقلال الذي اقترح البرهان إعادته؟ ولماذا انقسم السودانيون؟
  • تاج السر أحمد سليمان … صوت الحقيقة الذي لا ينطفئ !
  • البرهان يقترح العودة لعلم السودان القديم
  • الدعم السريع تحمل الجيش السوداني مسؤولية "هجوم كمو"
  • "الدعم السريع" تسيطر على المواد الإغاثية التي تصل إلى دافور
  • الدعم السريع تحمل الجيش السوداني مسؤولية "هجوم كمو"
  • مستشار السفير السوداني يؤكد ثقة بلاده بالجهود المصرية في إعمار السودان
  • المشاط تجتمع بـ7 سفراء أفارقة لتعزيز التكامل الاقتصادي في مؤتمر «أفريقيا التي نريدها»
  • البرهان يرسل رسائل مهمة عبر مقال في “وول ستريت جورنال” .. يكشف كيف اندلعت شرارة الحرب في السودان ولماذا يحارب الدعم السريع .. نشر مقال قائد الجيش السوداني