الحرب في برّ مصر: وفي مصر شاهدت أشياء كثيرة ولكني لم أنطِق!
تاريخ النشر: 27th, February 2024 GMT
في روايته الصادرة في طبعتها الأولى عام 1978 يحدثُنا يوسفُ القعيدُ عن حادثةٍ فريدةٍ لحرب أكتوبر عام 1973، إذ يَصدر حكمٌ قضائيٌّ باستعادة عُمدة إحدى القُرى في ريف مصر أرضَه (100 فدان) التي صادرَها الإصلاح الزراعي الذي أسسَه نظامُ ثورة يوليو، وفي ليل اليومِ نفسِه ترِد إشارةٌ بضرورة أن يسلِّم ابنُه الأصغرُ نفسَه للتجنيد في الجيش المصري.
هكذا يستمع العمدة إلى مشورة كاتبِه ويذهب معه إلى شخصٍ مشهورٍ بتخطيط العمليات المخالفة للقانون وتنفيذِها، يسمونَه (المتعهِّد). ويتفتق ذهن هذا الأخير عن خُطّةٍ مُفادُها أن يفتديَ العمدة ابنَه بشابٍّ آخر من القرية مولودٍ معه في اليوم نفسِه، يسلِّم نفسَه إلى التجنيد بصفتِه ابنَ العُمدة، على أن يختفي ابنُ العمدة الحقيقي عن الأنظار حتى يمُرَّ الأمرُ بسلام. ويقع الاختيارُ على (مصري) ابن الخفير الذي أُحيلَ حديثًا إلى الاستيداع، وهو شابٌّ وحيدٌ له خمسُ أخَواتٍ، ومن ثَمّ فهو مُعفَىً قانونًا من التجنيد، إلا أنه قد فكّرَ مِن قبلُ في أن يتطوّع في الجيش ليخففَ عن كاهلِ أبيه مشقّةَ كفالتِه. المهمُّ أنّ الصفقةَ الغريبةَ غيرَ المشروعةِ تنعقِد بين العمدة وخفيرِه على أن يُجنَّدَ (مصري) باسمِ ابنِ العُمدةِ وبدلًا منه، مقابلَ أن يَترُكَ العمدة للخفيرِ الأفدنةَ الثلاثةَ التي في حوزتِه والتي له الحقُّ في استردادِها بالقوّة، فضلًا عن تعيينِه خفيرًا شخصيًّا له رغمَ بُلوغِه سنَّ التقاعُد، براتبٍ لا بأسَ به.
تتطور الأحداثُ ونَشهدُ مصاعبَ تأقلُم (مصري) مع هُويّتِه المزيَّفة في الجيش، فهو لا يرُدُّ بسهولةٍ إذا ما نُوديَ باسمِ ابن العُمدة. تحينُ لحظةُ الصِّفر ويَعبر الجيش المصري قناةَ السويس ويُستشهَد (مصريٌّ) أثناء قيامِه بواجبِه في سلاح الخدمات الطبّيّة، وهنا يشعُر صديقُه الوحيدُ الذي أطلعَه على سرِّه في الجيشِ بضرورة أن يتلقى مصريٌّ وأهلُه الحقيقيون التكريمَ اللائقَ باسمِ الشهيد، فيُصرُّ على مرافقة عربة الجيش التي تنقلُ جثمانَ (مصري) إلى قريتِه، ليواجهَ ومعه الضابطُ ورطةَ الهويّتَين. ولأنّ العُمدةَ (مسنود) من شخصيات مهمّة في البلد، يُجبَر المحقِّقُ ذو الضمير اليقظ على إغلاق ملفّ التحقيق في هذه الواقعة، وتنتهي الروايةُ بموت الحقيقة وكمَد الأب الخفير الذي أسلمَ ابنَه للموتِ بدلًا من ابن العُمدة.
نظراتٌ في أسلوب الرواية ومضمونِها:
قسمَ أديبُنا (القعيدُ) الرواية إلى ستة فصول تروي كلًّا منها إحدى الشخصيات بلسانِها، فلدينا (العمدة، والمتعهد، والخفير، والصديق، والضابط، والمحقِّق). أنطقَهم جميعًا بفصحى موحَّدَةٍ متحررةٍ من زخارف البَيان تحررًّا يكادُ يكونُ كاملًا، واغترفَ من الأمثال العامية الشائعة والأقوال المأثورةِ في ريفِ مصر ما شاء، مفصِّحًا إيّاها بحيثُ يبدو النسيجُ اللغويُّ متجانسًا تماما. ولا نكادُ نجدُ فوارقَ مهمّةً في أسلوب حديث أيٍّ من الرُّواة الستة. وهو خلالَ ذلك بالغَ في الاستتار خلفَ هويّاتِهم، فنجدُ منهم مَن يقولُ إنّ هذه الروايةَ بلا مؤلِّفٍ ليَضبط أقوالَه ويراجعَها، وهم جميعًا مدركون أنهم يقصُّون علينا فصولًا من الرواية، فنحن إذَن أمامَ أدبٍ أرادَ كاتبُه أن يُظهِرَه واعيًا بذاتِه.
ولا يَخفى أنّ أسماءَ معظم الشخصيات الرئيسة مُجهَّلةٌ عَمدًا، فالعمدة وابنُه والخفير والمتعهد والصديق والضابط والمحقق بلا أسماء، وكذلك القرية التي تدور فيها الأحداث، وإن كان أديبُنا يّذكرُ (إيتاي البارود) بوصفِها المركزَ الذي يذهب إليه مع كاتبِه للقاء المتعهِّد، ما يَشي بأنّه ربما جعلَ قريةَ (الضهرية) التابعة لمركز إيتاي البارود – وهي مَسقطُ رأسِه – النموذجَ الذي يتمثّلُه والذي يقبع في خلفية ذهنِه أثناء كتابة الرواية.
وأرى أنّ هذا التجهيلَ للشخصيات يضطلِع بعِدّة أدوار، فهو أوّلًا يَلفتنا إلى وقوف هذه الشخصيات رموزًا على طبقاتٍ اجتماعيةٍ معيَّنةٍ، فالعمدةُ رمزٌ لكلِّ صاحب سُلطةٍ جائرٍ في مصر، والخفيرُ كلُّ موظَّفٍ حكوميٍّ مغلوبٍ على أمرِه لم يَعُد أمامَه إلا أن يقضيَ اليومَ الذي يعيشُه محاولًا أن يسُدَّ رمقَه وأرماقَ عيالِه بأية وسيلةٍ، والمتعهِّد هو كلُّ مَن انحرفَ بالصُّدفة عن جادّة القانون ثمّ استمرأَت نفسُه هذا الانحرافَ فاعتمدَ في كَسبِ قُوتِه على النفاذ من ثقوب القوانين، والضابطُ كلُّ شابٍّ مصريٍّ لا مُبالٍ مُنتَمٍ إلى الطبقة الوُسطى في المدينة، يحاولُ التخلُّص من الوقت الثقيل الذي فُرِض عليه قضاؤه في التجنيد بأقلِّ الخسائر الممكنة، وهكذا. والدور الثاني الذي يَقوم به هذا التجهيلُ هو التأكيدُ على إدانة الكاتبِ للمجتمَع، فليس ثَمّ من هو مذكورٌ باسمِه إلا (مصريٌّ)، وهو يقِف باسمِه المشحون بالعاطفةِ عَلَمًا على مَن يعتبرُهم كاتبُنا المصريين الحقيقيين الذين تحمّلوا وحدَهم عبءَ الدفاع عن أرض الوطن وبذلوا أرواحَهم في سبيلِها دون أن يحصلوا مقابلَ ذلك على أيِّ تكريم.
ومن اللافت في الرواية هذا الحَشدُ من الأوراق الرسمية التي يذكرُها المتعهِّد والضابط والصديق والمحقِّق، وكلُّها يمُتُّ بصِلةٍ إلى عملية تزييف الهُويّة أو استكشافِ هذه العملية، فضلًا عن كثرةِ النِّقاط المرتَّبة في أرقامٍ، والتي تعبِّر عن خُططٍ بعينِها، لتسليم جُثّة الشهيد إلى أهله كما في حالة الضابط، أو لإنجاز موضوع التزييف كما في حالة المتعهِّد. وفي تقديري أنّ هذا الحَشدَ من الأوراق والنِّقاط يُوحي إلى القارئ من طرفٍ خفيٍّ بهشاشة الإنسانية وضعفِها تحت وطأة عجلَة التحديثِ والضبط الحكوميِّ اللذَين حوّلا المُواطنَ إلى كومةٍ من الأوراق تتابعُ سيرورتَه من الميلاد إلى الوفاة، فكأنّ حقيقةَ الإنسان قد اختُزِلَت في تتابُع هذه الأوراق، ولا شيء وراءَها إلا العدَم. وإذَن فكاتبُنا يقدِّم لنا قسوةَ هذه العجَلة الحكومية وبرودتَها في التعامُل مع الإنسان، خاصّةً إذا ما زادَ الطينَ بَلّةً أنّ مَن بأيديهم الحَلُّ والعَقدُ أساؤوا استخدامَها وسيَّروها في مساراتٍ لا تَخدمُ إلا مصالحَهم.
عن النص السينمائي:
ظهر فِلم "المواطن مصري" عام 1991 من سيناريو محسن زايد وإخراج صلاح أبو سيف، وبطولة عمر الشريف في دور العمدة وعزت العلايلي في دور الخفير وعبد الله محمود في دور (مصري) وصفية العِمَري في دور زوجة العمدة المقرَّبة وإنعام سالوسة في دور أم مصري وأشرف عبد الباقي في دور الصديق وخالد النبوي في دور ابن العُمدة.
وأول ما يلفت الانتباه في النص السينمائي هو ظهور أسماءٍ للشخصيات المُجهَّلة، فالعمدة اكتسب اسمًا "عبد الرازق الشرشابي" والقرية "الشرشابية" والخفير "عبد الموجود المصري" والمتعهد "حمدان الويشي" والصديق "حسن" وابن العمدة "توفيق". هذا، فضلًا عن ظهور شخصياتٍ ثانويةٍ لعبَت أدوارًا متباينةَ الأهمية، فأصبح لدينا "نور أفندي" كاتب الجمعية الزراعية الذي جسَّدَه رشدي المهدي، وابنتُه "هنادي" التي جسّدَتها حنان شوقي، والتي هام بها (مصريٌّ) حُبًّا وكتبَ لها الرسائلَ أثناء تجنيدِه. بهذا الاختيار آثرَ أستاذنا محسن زايد أن يقدِّم نصًّا صديقًا للذائقة السائدة، فالمتوقَّع ألا يتجاوبَ الجمهور بسهولةٍ مع شخصيّاتٍ مُجهَّلةٍ تَفرض بتجهيلِها مسافةً بينها وبين المتلقّي. تلك المسافةُ الموجودةُ فعلًا في الرواية تُجبر القارئ على تأمُّل النصّ فكريًّا بقَدر ما تحولُ دون تورُّطِه الكامل عاطفيًّا، بعكس ما يَحدث أساسًا في الفِلم.
وثاني الملاحَظات بخصوص الفِلم أنّ تيار السرد فيه متّصِلٌ مسترسلٌ تقدمُه العدسةُ من موقع الراوي العليم، بمعنى أننا لا نُستغرَق في الأحداث من وجهة نظر العُمدة أوّلًا، ثم تتغير وِجهةُ النظر بتغيُّر الراوي، وهو ما يَحدثُ في الرواية. وقد كان هذا إجراءً يَهدفُ إلى مُصادقة الذائقة السائدة هو الآخَر.
وفي رأيي أنّ الفِلم لو كان قد التزمَ باختيارات يوسف القعيد لكان له شأنٌ آخَر. فلنتخيّل الفِلم يقدِّم لنا أحداثَه أولًا بعينَي العمدة، ثم يتخلى عن العمدة تمامًا ليتبنى منظور المتعهِّد، وهكذا. ولنتخيّل أنه قدَّم لنا شخصيّاتِه مُغفَلةً من الأسماء كما أرادَها القعيد. لا شكَّ عندي في أنّ مِثل هذين الاختيارَين كانا سيقرّبان الفِلم من تصنيف السينما التجريبية ويقللان جماهيريّتَه وقتَ عَرضِه الأول، إلا أنهما كانا سيفتحان له مجالَ ريادةٍ سينمائيةٍ مصريةٍ وعربيةٍ، لاسيّما في مستقبَل تلَقّيه، وإن كان لنا أن نتفهّم إحجامَ محسن زايد وصلاح أبو سيف عن مِثل هذه المغامرة رغم أستاذيّتِهما، فقد تكون ضغوط الإنتاج وراءَ اختياراتِهما، وقد تكونُ مسألةَ قَناعةٍ بأنّ السينما لا تكون إلا هكذا.
رغم ذلك لابُدّ من الإشادة بأداء معظم ممثلي الفِلم، خاصّةً عزت العلايلي وعمر الشريف وعبد الله محمود رحمة الله عليهم جميعًا، وذلك رغم بعض السقَطات في اصطناع لهجة البُقعة المقصودة من ريف مصر. كذلك جاء أداء المرحومَين حسن حسني والمنتصر بالله في دورَي المتعهد وكاتب العُمدة مناسبًا تمامًا لدورَيهما، فضلًا عن انضمام دور كلٍّ منهما إلى تاريخ صاحبِه الأدائيّ، فقد تخصصَ المنتصر بالله في أداء دور المنافق ماسح الجوخ، كما قدّم حسن حسني دورَ المتحذلِق الذي يَعرف ثغرات القوانين مرّاتٍ كثيرة. وإن كنتُ آخذُ على تجسيدِه هنا أنّ الحديثَ الطويلَ الذي تحدثَ به المتعهد في الرواية (في فصل المحقِّق) مُدافعًا عن شرعية قيام أحد المواطِنين بتسديد (ضريبة الدم) بدلًا من مُواطنٍ آخر، هذا الحديثَ حُذِف تمامًا من النص السينمائي، وكان جديرًا لو قُدِّم بشكلٍ جادٍّ أن يجعل الفِلم يذكِّرُنا بالمآسي الإغريقية بما تَحفِل به من إثارةٍ لأسئلةٍ جِذريّةٍ يُدافعُ المختصِمون حولها عن وِجهات نظرِهم بطُرُقٍ لا تخلو من سفسطةٍ أخّاذةٍ كسفسطة (المتعهِّد) في الرواية!
ولا ننسى موسيقى ياسر عبد الرحمن التي قدَّمَت معادلًا لحنيًّا للمأساة الرهيبة التي تفوقُ قُدرةَ البشَر على استيعابِ حكمتِها، فقد قدَّمَ لنا لحن المقدمة – وصاغَ منه أجزاء كثيرةً من الموسيقى التصويرية – في مقام صَبا زمزمة، وهو مَقامٌ رهيبُ الحُضور إذا جاز التعبير، فلا هو مُعادلٌ للّوعة الشعبيّة كما تتجلّى في مقام الصَّبا، ولا هو حزنٌ متماسكٌ كمقام الحجاز، ولا هو تأمُّلٌ محضٌ كما في النهاوند، وإنما هو أقربُ إلى الصرخة الداخلية التي لا يكادُ صارخُها يجرؤ على إطلاقِها، فهي لا تَني تتردّد بين جوانحِه في ملحميّةٍ رهيبة. هل نكونُ مُبالِغين بهذا الوصف إذا علِمنا أنّ اسمَ "صَبا زمزمة" بالفارسية يعني صدى الصوت؟ وهو اسمٌ له ما يبرره على المستوى التشريحيِّ للمَقام الذي يبدأ تقليديًّا مرتكزًا على درجة (ري)، ومنها إلى مي بيمول، فا، صول بيمول، لا، سي بيمول، دو، ري. أي أنه يكرر مسافة نصف النغمة (نصف تون) ثلاثَ مرّاتٍ متتاليةٍ بين كلّ زوجَين من هذه النغمات (ري-مي بيمول/ فا-صول بيمول/ لا-سي بيمول). ولعلّ أشهرَ سابقةٍ في استخدامِه للتعبير عن مِثل هذه الأفكار والمَشاعر في تتر مسلسل "الوسيّة" الشهير الذي يسبق إنتاجَ هذا الفِلم بعامٍ واحد.
والعجيبُ أنّ هذه القراءةَ لاختيار ياسر عبد الرحمن تتوافق مع الجُملة التي صدَّرَ بها (القعيدُ) روايتَه، وهي اقتباسٌ من هيرودوت لم أُفلِح في الاهتداء إلى أصلِه: "وفي مصر شاهدتُ أشياءَ كثيرةً ولكنّي لم أنطِق"! هكذا أراد القعيدُ – والتقطَ خيطَه ياسر عبد الرحمن- أن يثيرَ فينا تلك الصرخةَ المتبرّمةَ بغياب العدل الاجتماعيّ في "بَرِّ مصر"، رغم أنّ نبرةَ هذا التبرُّم كانت جِدَّ عاليةٍ في ثنايا الرواية، فنرى الشخصياتِ المقهورةَ تُظهر استنكارَها لتصاريف القدَر وتُعلِن سخطَها على الإرادة الإلهية، ما جعل كثيرًا من المتلقّين يرَون في هذا مُروقًا صارخًا من الدِّين. ولكنا في النهاية نقول إنّ مِثل هذا السُّخط نراه ونلمِسُه في المقهورين كثيرًا ولو كانوا من المتديِّنين، فهو ليس مُروقًا من الدين بقَدر ما هو التزامٌ من (القعيد) بقضية العدالة الاجتماعية التي تَشغلُ الحيّز الأكبر من تفكيرِه بحُكم قَناعاتِه، وبحُكم ناصريّتِه بالتحديد.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير مصر المواطن مصري مصر أدب حرب أكتوبر المواطن مصري سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی الروایة فی الجیش فضل ا عن ابن الع الف لم الذی ی فی دور التی ت
إقرأ أيضاً:
حنين داخل الركام.. كاتبة غزّية تكتب عن مدينتها التي لم تعد كما كانت
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالاً للكاتبة غادة عبد الفتاح، المقيمة في قطاع غزة، تناولت فيه واقع الحياة في ظل الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ عامين، مؤكدة أن حرب الإبادة غيرت كل شيء في القطاع، من المشهد العمراني إلى القلوب والعقول والأرواح.
تبدأ عبد الفتاح مقالها بالإشارة إلى شعورها بالحنين العميق لغزة، رغم وجودها داخلها، موضحة أن هذا الحنين لا ينبع من البعد الجغرافي، بل من تحول المدينة إلى مكان غريب ومشوّه لا يُمكن التعرف عليه. تقول الكاتبة: "هذه ليست غزة… التفاصيل كلها خاطئة، لا شيء كما هو"، مشددة على أن فقدان الألفة صار ملموسًا حتى وهي تقف على الأرض نفسها التي نشأت عليها.
وتصف غادة حالتها الشخصية مع انهيار الحياة اليومية في دير البلح، حيث تسكن في شقة مزدحمة مع ثلاث عائلات منذ عام كامل، مستقبلة 16 فردًا آخر من عائلتها هربا من القصف في الأسابيع الأخيرة. وتشير إلى انتشار الخيام في الشوارع والأراضي الزراعية، بعضها بين أشجار النخيل المتبقية، التي دُمّرت معظمها أو أحرقت بفعل الدبابات الإسرائيلية. وتضيف: "أكره هذه الكلمة: خيمة. لقد رافقت الفلسطينيين لأجيال، كظلهم".
وفي تفاصيل منزلها الذي لم يعد صالِحًا للسكن كما كان، تروي عبد الفتاح كيف أعيد بناؤه جزئيًا باستخدام حجارة من أنقاض منازل الجيران، مع جدران نصف ارتفاعها السابق، وغياب النوافذ، وتغطية الفجوات بأقمشة نايلون وبطانيات بدل الأبواب. هذه التفاصيل الصغيرة تعكس الواقع المرير للسكان في مواجهة القصف المستمر، حيث كل همسة تنتقل في أرجاء المنزل، والحرية محدودة حتى في صوت الكلام.
تشير الكاتبة إلى أن العيش في غزة أصبح حربًا على التفاصيل: "الله يكمن في التفاصيل"، تقول، مشيرة إلى أن الحرب فرضت تسلسلًا هرميًا في المعاناة. البقاء داخل غرفة بجدران نصفية أفضل من العيش في خيمة، والخيمة المنظمة أفضل من خيمة مُرقّعة بالبطانيات والنايلون والحقائب القديمة. هذا التسلسل الهرمي يمتد أيضًا إلى العلاقات الاجتماعية، وكيفية الحديث ومشاركة المشاعر.
وتروي الكاتبة لقاءاتها اليومية مع الناس، مثل معلمتها السابقة التي ذكرتها باثنتين من زميلاتها القتيلات في غارات إسرائيلية، مؤكدة أن الحيطة والحياد أصبحا ضرورين عند الحديث عن المعاناة: "خسارتي جدران، وخسارته أناس… البقاء على قيد الحياة كدين لا يمكنك سداده".
وتصف الكاتبة تجربة القصف المباشر على منزلها، حيث دوت الانفجارات في منتصف الليل، وامتلأت الغرف بالحطام والغبار، واضطرت العائلة للخروج وسط الظلام للتحقق من سلامة الجميع. وتوضح أن المسيّرات الإسرائيلية حلّقت في السماء، محركاتها تُصدر أزيزًا كحشرات آلية، مع ضوء يشقّ الليل، مما جعل البقاء في الخارج خطرًا دائمًا.
تتحدث الكاتبة عن الحرب على أنها خلقت تسلسلًا هرميًا من الخسارة والمصاعب، فبينما أصيب أحد أقاربها بجروح بسيطة، فقد آخرون أكثر من 40 فردًا من عائلتهم. تطرح الكاتبة التساؤل عن جدوى الحديث عن الدمار الشخصي في مواجهة فقدان الأرواح: "كيف تتحدث عن جدران متصدعة لشخص يعدّ الوجوه الغائبة؟".
كما تصف المعاناة اليومية في المستشفيات، حيث تُنقل الأطراف المبتورة بصناديق ورقية، وتبقى الأسماء محفورة في الذاكرة حتى بعد مرور أشهر، مؤكدة أن هذه اللحظات الصغيرة تعكس جزءًا من هول الحرب وتأثيرها النفسي على السكان.
وتشير الكاتبة إلى التحديات المعيشية، من ندرة الوقود والطاقة إلى الطهي على نار الحطب باستخدام أي مادة متاحة، من ألواح خشبية مكسورة إلى صنادل بلاستيكية وعلب فارغة. كما تتحدث عن صعوبة التعليم، حيث يُجبر الأطفال على الكتابة بخط صغير ومرصوص بسبب ندرة الأقلام والدفاتر، مع حرص المعلمين على توصيل الدروس رغم الظروف الصعبة.
وتختتم الكاتبة مقالها بالتأكيد على أن الحرب لم تقتصر على الدمار المادي، بل طالت المشاعر والأفكار والأحلام. تقول: "الحرب جنونية - جنون يتسلل إلى العقل، إلى الجسد، إلى الأحلام… لا أستطيع استيعاب ما يحدث تماما". وتوضح أن آلة الحرب الإسرائيلية لم تتوقف منذ عامين، وأسفرت عن مقتل وجرح ما يقرب من ربع مليون شخص، وتهجير السكان، وتحويل المنازل والمدارس والمستشفيات والمساجد والأسواق إلى أنقاض، مشددة على أن هذه التفاصيل هي ما تحدد حياة الناس اليومية في غزة.
يقدم مقال غادة عبد الفتاح شهادة مباشرة عن الحياة تحت القصف، ويُبرز كيف أن الدمار المستمر والتهجير القسري والنقص في المواد الأساسية والمخاطر اليومية تشكل الواقع اليومي للفلسطينيين في غزة. ويعدّ هذا النص دعوة للعالم لفهم التفاصيل التي تشكل حياة المدنيين وسط الصراع المستمر، بعيدًا عن الإحصاءات الرسمية أو الأخبار المجردة عن القصف والخسائر.