الجزيرة:
2025-08-01@08:43:39 GMT

اللغة وتشكيل الذات.. كيف تصوغ رؤانا لأنفسنا؟

تاريخ النشر: 11th, March 2024 GMT

اللغة وتشكيل الذات.. كيف تصوغ رؤانا لأنفسنا؟

"إن اللغات بتفاعلها وتناميها، وصحتها ومرضها، وحضورها وغيابها، وارتقائها وهبوطها، هي أشبه ما تكون بالكائن الحي المتنامي، بكل صفاته وخصائصه وأطواره وتطوره، هي تمثل الروح الممتدة، المحركة للإنسان، المجددة لنفسه، والمنمية لعقله وتفكيره، الصائغة لعلاقاته، الموسعة لخبراته وقدراته. فاللغة هي دينامية الإنسان، أو هي الإنسان، هي عقله، وعلمه، وثقافته، وهويته، ومفتاحه في الدخول إلى بوابة الكون الكبير، واستكناه آياته في الأنفس والآفاق".

هكذا عبر المفكر الإسلامي عمر عبيد حسنة عن أثر اللغة في صياغة الذات في مقدمة كتابه المشترك مع عدد من المؤلفين "اللغة وبناء الذات"، فاللغة كما يراها وسيلة الحركة الإنسانية كلها، في المجالات العلمية والسياسية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والتربوية، وهي وعاء ذلك كله ووسيلته، وإذا تراجعت اللغة، أو تعطلت توقفت الحركة الإنسانية وانقطع الاتصال والتواصل والتفاهم، ذلك أن اللغة من أهم وأدق طرق إنشاء الارتباط والتواصل بين الناس وبين الأجيال المتعاقبة، وهي أوعية المعلومات يتحقق بواسطتها النقل الثقافي والتراكم المعرفي وحفظ المخزون التراثي، وهي جسر التبادل العلمي المعرفي.

إن اللغة هي محرض التفكير، ومحرك الاجتهاد والتجديد، ووسيلة التفاهم والإقناع، ومفتاح الإقلاع الحضاري، هي الثقافة، وهي الحضارة، وهي العلم، والتنمية، والتفكير، والتعبير، وهي الشخصية بكل قسماتها وسماتها وذاكرتها وفلسفتها ورؤاها.

كيف تحدد اللغة صورنا الذهنية لدى الآخر؟ وكيف تؤطره وتصوغه لدينا؟

إن اختزال اللغة بوصفها أداة للتواصل كما يتوهم كثيرون مجحف بحقها وبحق الهويات البشرية، لأنها ليست محض لسان للتعبير عن الحاجات. فاللغة تعكس أسلوب المرء وعقله وتفكيره، وتعكس طريقة معاشه أيضا، فالإنسان يفكر بينه وبين نفسه بلغته الأم، وأسلوب معالجته للأفكار لا بد أن يكون متسقا مع آلية تفكيره ونظرته للحياة ورؤاه للواقع وتوقعاته منه، فباللغة يعبر المرء عن نفسه، ويرسم صورته الذهنية لدى الآخرين، وبها أيضا يحدث نفسه في تقييمه للآخرين ولغاتهم وأحاديثهم وسلوكياتهم، ولا نشط إذا ما وصفنا لغة المرء بعصب التفكير لديه، فمخرجاته اللغوية تظهر منطقه، وتراكيبه، وتفضيله لتعابير لغوية على أخرى ونظمها بشكل معين وانتقائه لها دونا عن غيره يعكس أهدافه ومراميه، ويسهم في خلق صورته عند الآخرين، ويمكن له أن يعمد إلى تجميلها أو تقبيحها.

ومن هنا جاءت مقولة "حدثني حتى أراك"، هذه المقولة التي نسبت إلى سقراط وإلى غيره من الناس، والمغزى منها أن لغة المرء وطريقة تفكيره الواضحة في أسلوب حديثه تعكس مزايا شخصيته، وترسم صورته الذهنية لدى الآخرين، فيختصر المرء في محيطه بكلمة وحديث، لا بشكل وهيئة. وقد أثر عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال "الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام". فالكلام يحدد هوية المرء الذاتية ويعبر عنه.

وفي سياق هذا الحديث أذكر ما قاله الخليفة الأموي الشهير عبد الملك بن مروان، حين سئل عن كثرة الشيب الذي غزا رأسه بعد أن صار خليفة، فأجاب إنني "أعرض عليكم عقلي في الشهر 4 مرات" يقصد خطبة الجمعة التي كان يلقيها بنفسه كل يوم جمعة، فكيف لا يغزو الشيب رأسي!

ويعبر شيخ الإسلام ابن تيمية عن تأثير اللغة في صياغة الذات، ورسم صورتها عند أنفسنا وعند الآخر بقوله في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم"، "اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية، التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن، حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، أو لأهل الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فإنه من التشبه بالأعاجم، ولا ريب أنه مكروه، ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر، وكانت لغة أهلهما رومية، ولما سكنوا أرض العراق وخراسان وكانت لغة أهلهما فارسية، وكذلك المغرب وكانت لغة أهلها بربرية، عودوا أهل هذه البلاد التحدث بالعربية، حتى غلبت على أهل هذه الأمصار، مسلمهم وكافرهم، وهكذا كانت خراسان قديما.

ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسية، حتى غلبت عليهم، وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم، ولا ريب أن هذا مكروه، إنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور، فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه صعب". وعن تأثير اللغة في فكر الإنسان ومنطقه قال "واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق".

ما العلاقة بين نظم الجمل في اللغة العربية وتشكيل الذات؟

إن ترتيب الكلم في الجمل في اللغة العربية يخضع لقواعد النحو العربي، لكنه ينتظم في الوقت نفسه بقالب بلاغي يعكس أسلوب الكاتب وطريقة تفكيره ورسائله المباشرة وغير المباشرة التي يريد إيصالها إلى القارئ علانية أو خفية.

إن ولاءنا نحن -العرب المسلمين- للغة العربية مضاعف، فهي مكون أساسي من مكونات هويتنا الوطنية والقومية وعنصر جوهري من عناصر انتمائنا الديني، لذلك يبدو اهتمامنا بها مبالغا للغرب في بعض الأحيان، ويروق لبعض الناس عربا ومسلمين وغير عرب وغير مسلمين أن يعزو عنايتنا بها وولاءنا لها إلى محض كوننا مسلمين، ويقصدون بذلك تأطير اللغة والحد من حجمها الحقيقي بجعلها مرتبطة بالدين فحسب. والحقيقة أنها كيان لغوي مستقل يزدان بعبقرية خالصة، وتتميز بأنها القالب البديع الذي حوى معجزة الدهر، وحملها لتتوارثها الأجيال إلى أن تقوم الساعة، فهي اللغة التي اختارها الله تعالى لتكون لغة القرآن الكريم آخر الكتب السماوية، فهي لغة خطاب السماء للعالمين على اختلاف أعراقهم وأجناسهم ومشاربهم وألسنتهم.

وإذا ما تساءلنا: لماذا اختار الله اللغة العربية لتكون اللغة الخالدة، لغة القرآن الكريم؟ فإننا لن نصل إلى جواب جازم يقنع جميع الخلق، لكننا -المسلمين- نؤمن أن وراء اختيار الله حكمة بالغة، ونجتهد في تبيين ذلك وإيضاحه، فتركيب الكلم في الجملة العربية يتسلسل بمنطق النظر إلى الحدث ونقله، فالجملة الفعلية على سبيل المثال تبدأ بالفعل فالفاعل فالمفعول به، ثم تأتي الظروف لاستكمال بناء الصورة الذهنية عن الحدث المنقول لدى المخاطب، وهذا موافق تماما لآلية المنطق العربي، فالحدث الممثل بالفعل هو الأهم، ثم يأتي من قام بالفعل في الدرجة الثانية من الأهمية، ثم يليه من وقع عليه الفعل، وتبقى الظروف مكملات للحدث، غير أن ذلك لا ينطبق على اللغات الأخرى، فكل لغة تعكس منطق القوم الذين يتحدثون بها بوصفها لغتهم الأم.

وماذا عن الجملة الاسمية في اللغة العربية؟ لا يبعد الحديث عنها عن الجملة الفعلية كثيرا، فعمادا الجملة الاسمية هما المبتدأ والخبر، وبعبارة أخرى هما المسند والمسند إليه، وكلا نوعي الجمل في العربية منطقيا يدوران حول فكرة الإسناد، إسناد الخبر إلى المبتدأ للحصول على معنى مفيد وصريح ومباشر، وإسناد الفعل إلى الفاعل لتحقيق المعنى المراد وإيصاله.

وسيسأل سائل: ماذا عن التقديم والتأخير في نظام الجمل العربية، وكيف نفسره؟

بالنظر إلى مباحث البلاغة العربية، وبالتحديد إلى مباحث علم المعاني كالتقديم والتأخير والتعريف والتنكير والفصل والوصل وغيرها، فإننا ندرك جيدا أن أي تقديم أو تأخير في نظام الجملة العربية ليس عبثيا، بل يخدم أهداف المتحدث ويؤدي مقاصده، فتقديم الفاعل أو المفعول على الفعل مثلا دليل على أهميته في الجملة نفسها، أو في نفس المتكلم، ويكون أحيانا للفت النظر إليه أكثر من الحدث نفسه، وتقديم المفعول به على الفعل كذلك يكون لأغراض بلاغية معنوية، ففي سورة الفاتحة في قوله تعالى: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ تقدم المفعول على الفعل لجلالته وعظمته وأهميته، وللدلالة على معنى الحصر، فلا نعبد إلا الله تعالى ولا نستعين إلا به، ولم لم يحدث التقديم والتأخير لما وقع معنى الحصر في قلب السامع الفاهم ونفسه.

ومحصلة الكلام تقودني إلى القول إن منطق اللغة العربية بوصفها لغة القرآن الكريم هو الشكل الأمثل والأفضل لتشكيل منطق الإنسان ورؤاه تجاه الكون والحياة، ومعالجته للأحداث التي تدور من حوله.

ولست أبالغ إن قلت إن "الذي يضيع لغته يضيع إنسانيته ويفقد ذاته، ويعرض وجوده للتهديد والخطر، فبغير بناء اللغة العربية لا يمكن أن يتعرف العرب على مستوى الفرد والمجموع إلى ذواتهم، وبغيابها يفقدون بناءهم النفسي المنهجي، ويغيبون عقولهم ويجعلون جذورهم بادية على سطح الأرض، فيسهل اجتثاثهم واقتلاعهم".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان حريات اللغة العربیة لغة القرآن

إقرأ أيضاً:

جواسيس ولغة.. كيف تعيد إسرائيل بناء "الثقافة المخابراتية"؟

بعد الصدمة التي تعرضت لها إسرائيل جراء هجوم حماس في 7 أكتوبر، تخضع وكالة المخابرات العسكرية الإسرائيلية لعملية مراجعة شاملة.

تتضمن التغييرات العميقة التي تشهدها الوكالة إعادة إحياء برنامج لتجنيد طلاب المدارس الثانوية لتعلم اللغة العربية، بالإضافة إلى تدريب جميع الجنود على اللغة العربية.

وبحسب تقرير لـ"بلومبيرغ"، فإن "الخطّة الجديدة تركز على تقليل الاعتماد على التكنولوجيا، وبناء فرقة من الجواسيس والمحللين ذوي المعرفة الواسعة باللهجات العربية المختلفة مع فهم عميق للعقائد المتطرفة والخطاب الديني المرتبط بها".

وفقًا لأحد ضباط المخابرات الذين تحدثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم، فإن الوكالة كانت تعاني من "سوء فهم جوهري" لأيديولوجية حماس وخططها العملية.

فقد كانت الوكالة على علم بمحاولة حماس السيطرة على قواعد عسكرية ومجتمعات مدنية قرب غزة، ورصدت تدريبات المسلحين بشكل علني، لكن التقييم العام كان أن هذه التصرفات مجرد أوهام.

يقول مايكل ميلشتاين، رئيس دراسات الفلسطينيين في مركز دايان بجامعة تل أبيب: "لو تمكن المزيد من الإسرائيليين من قراءة صحف حماس والاستماع إلى إذاعتها، لفهموا أن حماس لم تكن منكفئة بل تسعى للجهاد".

التركيز الجديد على اللغة والتدريب الديني يعكس، حسب ضابط المخابرات، "تحولا ثقافيا عميقا" في منظمة تعتمد حتى الآن على الترجمات حتى بين كبار الضباط، والهدف هو بناء ثقافة داخلية "تتنفس وتفكر مثل عدونا".

غير أن ميلشتاين وآخرين يرون أن نجاح هذه الخطوة يتطلب تغييرات واسعة النطاق على مستوى المجتمع، والتحدي يكمن في تحفيز الإسرائيليين على التركيز أكثر على المنطقة، ثقافاتها ولغاتها وتهديداتها، بدلاً من الفرص العالمية.

كجزء من التغييرات، تعيد المخابرات برنامجا كان قد أُغلق قبل ست سنوات يشجع طلاب المدارس على دراسة اللغة العربية، مع توسيع التدريب على اللهجات المختلفة.

بشكل أوسع، تتحول المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بعيدًا عن الاعتماد على التكنولوجيا إلى تعزيز جمع المعلومات البشرية، عبر زرع عملاء سريين في الميدان وتطوير وحدة التحقيقات.

هذا التوجه يكسر اتجاه العقد الماضي الذي اعتمد بشكل أساسي على بيانات الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة، ويتزامن مع تغيير آخر بعد 7 أكتوبر، حيث يتم تعزيز الانتشار البشري على الأرض بدلًا من الاعتماد على السياج وأجهزة الاستشعار.

يرى أوفر جوتيرمان، ضابط سابق في المخابرات وعضو معهد بحوث منهجية الاستخبارات، أن هذه الاستراتيجيات تتطلب المزيد من الأفراد "المدركين لمجالات مختلفة".

وأضاف: "قبل هجوم حماس، كان الاعتقاد السائد أن التهديدات الكبيرة قد تجاوزناها، باستثناء السلاح النووي الإيراني، لكنه يؤكد أن هذه المواقف باتت خاطئة وأن إسرائيل بحاجة إلى إعادة بناء ثقافة المخابرات".

ويُميز جوتيرمان بين الكشف عن السر وحل اللغز؛ إذ أن إسرائيل برعت في كشف الأسرار، مثل تصفية قيادة حزب الله في لبنان، لكنها فقدت القدرة على فهم ما يخطط له القادة، أي حل الألغاز.

ويشير إلى أن المعرفة المطلوبة تتطلب التزامًا عميقًا بالدراسات الإنسانية، مثل الأدب والتاريخ والثقافة.

مقالات مشابهة

  • جواسيس ولغة.. كيف تعيد إسرائيل بناء "الثقافة المخابراتية"؟
  • الشيخ خالد الجندي: فهم المعنى في اللغة أهم من مجرد الإعراب
  • بروتوكول تعاون بين غرفة القاهرة ومصلحة الجمارك.. وتشكيل لجنة مشتركة لسرعة التواصل
  • الترجمة الأدبية.. جسر غزة الإنساني إلى العالم
  • تحذير .. مشاهدة البنات في سن المراهقة لإعلانات منتجات التجميل تعرضهم لهذه المشاكل
  • ألمانيا تكشف "دليل سفر حلال ثنائي اللغة" لمسافري دول الخليج
  • “مسار” العبيدات سيرة ذاتية تتجاوز الذات وتوثّق لجيل
  • بين منى وأخرى في عِقْدٍ آخر.. قراءة في مجموعة «ظلّ يسقط على الجدار»
  • لاستقرار نسبي في أسعار الدواجن والبيض بالسوق اليوم الاربعاء 30 يوليو 2025
  • مصر والدنمارك تبحثان تعزيز التعاون التجاري والاستثماري وتشكيل مجلس أعمال مشترك