ألقى الشيخ الدكتور ماهر بن حمد المعيقلي خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه، وتجنب مساخطه ومناهيه.
وقال فضيلته: إن الله تبارك وتعالى لم يخلق الخلقَ ليتعزز بهم من ذلة، ولا ليستكثر بهم من قلة، فهو الكبير المتعال، وهو المنعم المتفضل ﴿وَهُو الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِه وَهُو الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾.

وفي صحيح مسلم: يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي لَو أَنَّ أولكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ واحد مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَو أَنَّ أولكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ واحد مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا)). فالله تعالى خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، وهذه هي الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها، كما قال جل وعلا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وأرسل رسله عليهم السلام، وأنزل عليهم كتبه العظام، فقال جل شأنه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْه أَنَّه لَا إِلَه إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾.
وأضاف: إن عبادة الله حق واجب له على عباده، فمن أجلها نُصبت الموازين، ونشرت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم الناس فيها إلى مؤمنين وكفار، ومتقين وفجار. وأصل العبادة توحيد الرب جل جلاله. ولقد أفاض الله في كتابه بذكر الأدلة، وضرب الأمثلة، وبيان دلائل الوحدانية، وبراهين التفرد باستحقاق العبادة، مستشهداً بقوله جل وعلا: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّه قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِه أولياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّه شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِه فَتَشابَه الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّه خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُو الْواحد الْقَهَّارُ﴾.
وأضاف: العبد إذا أخلص في عبادة ربه صَلُح أمره، وانشرح صدره، واطمأن قلبه، وأنار وجهه، قال تعالى ﴿الَّذِينَ آمنوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّه أَلَا بِذِكْرِ اللَّه تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. وسُئل الحسن البصري: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهًا؟! فقال: “لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره”. ويقول سعيد بن المسيب -رحمه الله-: “إن الرجل ليصلي بالليل فيجعل الله في وجه نورًا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول: إني لأحب هذا الرجل”. فمن آثار العبادة حلاوة الإيمان والطاعة، فلا يزال العبد في أداء العبادات، والإكثارِ من الأعمال الصالحات، حتى يصير الذكر أنيسه، والقرآن جليسه، والصلاة قرة عينه، والصيام متعته، فيحييه الله حياة طيبة، فيكون من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسَرّهم نفساً، فتراه في أشد الكروب والخطوب، وعند حلول الهموم والغموم، يفزع إلى الصلاة، فيناجي فيها ربه، ويبثُّ إليه شكواه وهمه، يتذكر قول الرب جل في علاه: ﴿أمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذا دَعَاه وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَه مَعَ اللَّه قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾. فهذا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بشر يعتريه ما يعتري البشر، من حزن وهم وكدر، فيُعلِّمنا بفعله ومقاله كيف يزال الهم، ويدفع القلق والغم، فكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وفي سنن أبي داود: قال صلى الله عليه وسلم: “يا بلالُ، أقم الصلاةَ، أَرِحْنَا بها”. وقال علي رضي الله عنه: “لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَة بَدْرٍ وَمَا مِنَّا إنسان إِلا نَائِمٌ إِلا رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ، فَإِنَّه كَانَ يُصَلِّي إلى شَجَرَةٍ، وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ”. رواه الإمام أحمد في مسنده. قال ابن القيم -رحمه الله- في شأن الصلاة: “فلها تأثيرٌ عجيب في حفظ صحَّة البدن والقلب، وقُواهما، ودفع الموادِّ الرديئة عنهما، وما ابتُلي رجلان بعاهة أو داءٍ أو محنة أو بليَّة إلا كان حظُّ المصلِّي منهما أقلَّ، وعاقبته أسلَمَ. وللصلاة تأثيرٌ عجيب في دفع شرور الدنيا، ولاسيما إذا أُعطِيَت حقَّها من التكميل ظاهرًا وباطنًا، فما استُدفعت شرورُ الدنيا والآخرة، ولا استُجلِبت مصالحُهما بمثلِ الصلاة”. انتهى كلامه رحمه الله.
كما من آثار العبادة: تكفير الذنوب والخطايا، والعفو عن الزلات والرزايا؛ ففي صحيح مسلم: جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَة فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أمسهَا (أي: استمتع بها دون الجماع)، فَأَنَا هَذَا، فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ. فَقَالَ لَه عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللهُ، لَو سَتَرْتَ نَفْسَكَ. قَالَ: فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ، فَأَتْبَعَه النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ رَجُلاً دَعَاهُ، وَتَلَا عَلَيْه هَذِه الْآيَةَ: ﴿وأَقِمِ الصَّلَاة طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا نَبِي الله هَذَا لَه خَاصَّةً؟ قَالَ: «بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً». وفي مستدرك الحاكم: قَالَ صلى الله عليه وسلم للرجل: “أَصَلَّيْتَ مَعَنَا الصَّلَاةَ؟”، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: “قَدْ غُفِرَ لَكَ”.
وأردف قائلاً: بالعبادة تتهذب الأخلاق، وتزكو النفوس، فالعبادة لا تؤتى ثمرتها المرجُوّة إلا إذا ظهر أثرها في سلوك المرء وأخلاقه، فالدين كله خُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الدين، وأصول العبادات، كالصلاة والزكاة، والحج والصيام، هي متباينة في جوهرها ومظهرها، ولكنها تلتقي عند الغاية التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأخلاق” رواه الإمام أحمد في مسنده. فالغاية من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لإكمال الأخلاق بعد نقصانها، وجمعها بعد تفرقها. وإن حسن الخلق يبلغ بالعبد درجة الصائم القائم. وفي مسند الإمام أحمد: “قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّه، إِنَّ فُلَانَة يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَة صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ: ((هِي فِي النَّارِ)). قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه فَإِنَّ فُلَانَة يُذْكَرُ مِنْ قِلَّة صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ: ((هِي فِي الْجَنَّةِ))”. مفيدًا بأن العبادة ليست منحصرة في أركان الإسلام، بل العبادة أشمل من ذلك وأعم، فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فيدخل فيها عبادة القلب واللسان، والجوارح والأركان، كمحبة الله وخشيته، والصبر لحكمه، والتوكل عليه، والرضا عنه وبه، وخوفه ورجائه، والإنابة إليه، والحياء منه، ونحو ذلك من العبادات القلبية، وكذلك عبادات الجوارح والأركان، من الصلاة والزكاة، والحج والصيام، وبر الوالدين وصلة الأرحام، وصدق الحديث وأداء الأمانة. ويندرِج تحت العبادات أبواب كثيرة من الخيرات؛ ففي سنن الترمذي: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ: “تَبَسُّمُكَ فِي وَجْه أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإرشادكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الحَجَرَ وَالشَّوْكَة وَالعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْو أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ”. بل إن طلَبَ الرِّزقِ والكَسبِ عبادة، وسعي المرء على مصلحة مَن يعول عبادة، والأعمال المباحة تُصبِحُ بالنيَّة الصالحة عبادة، مستشهداً بما جاء في صحيح مسلم: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ”، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَه وَيَكُونُ لَه فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: “أَرَأَيْتُمْ لَو وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إذا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَه أَجْرٌ”. ولما سئل مُعاذ رضي الله عنه عن صلاته في الليل قال: “أما أنا فأنامُ وأقومُ فأحتَسِبُ نومَتي كما أحتَسِبُ قَومَتي” رواه البخاري. فكان رضي الله عنه يحتَسِبُ الأجرَ في النوم، كما يحتَسِبُه في قيامِ الليل؛ لأنه أراد بالنوم التقَوِّي على العبادة والطاعة. وإن من فضل الله وكرمه، وجوده ومنته، أن من ترك الحرام، وابتعد عن الآثام، خوفاً من الله، ورجاء ثوابِ الله، عُدَّ ذلك من طاعاته، وكُتِبَت له في ميزان حسناته، فتصبح حياة المسلم كلها عبادة، كما قال الله جل في علاه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَه وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أول الْمُسْلِمِينَ﴾.
وقال فضيلته: إن الواجب على المسلم أن يهتم بأمر عبادته، ويحسنها ويعظمها، قال تعالى ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّه فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ﴾، فمن كان يرجو لقاء ربه، ويطمع في جنته، ويستجير به من ناره، حري به أن يسعى لإحسان عبادته، فالعبادة لا يقبلها الله من العامل إلا بشرطين عظيمين، وأصلين متينين: الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم-. وقد جمع الله بينهما في قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَة رَبِّه أَحَدًا﴾، وذلكم هو مقتضى الشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فتكون العبادة خالصة لله وحده، سالمة من الرياء، ففي صحيح مسلم: قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ. مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيه مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُه وَشِرْكَهُ)). فالشرك من أعظم الظلم، ولا ينفع معه عمل، فمن صرف شيئاً من العبادات لغير الله فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين الخالدين المخلدين في نار جهنم والعياذ بالله، لا يُقبل منه فرض ولا نفل، ولا ينفعه شفاعة الشافعين، ولا دعاء الصالحين، فقد قال الله لرسوله الكريم: ﴿وَلَقَدْ أُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسرينَ * بَلِ اللَّه فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾. مبينًا أن الشرط الثاني من شروط قبول العبادة هو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد بها تأدية العبادة على الصفة التي جاءت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، من غير زيادة ولا نقصان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَي اللَّه وَرَسُولِه وَاتَّقُوا اللَّه إِنَّ اللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، فلا يجوز لأحد أن يعبد الله الواحد الأحد إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو المبلّغ عن ربه، فيكون التعبد بما شرعه، ففي الصحيحين: قال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُورَدٌّ” (أي: فهو باطل مردود غير معتد به). فالعبادة بكل متعلقاتها، من جنس العبادة وسببها، وصفتها ومقدارها، وزمانها ومكانها، متوقفة على الدليل، فلا يجوز لأحد أن يُحدث عبادة في دين الله إلا بدليل من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِه اللَّهُ﴾.
* وفي المدينة المنورة أوصى إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور خالد بن سليمان المهنا المسلمين بتقوى الله تعالى، قال جل من قائل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كثيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّه الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِه وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
وبيّن فضيلته في خطبة الجمعة اليوم أن الله تعالى كرَّم الإنسان حين خلقه في أحسن تقويم، وصوره فأحسن صورته، فهو أعدل المخلوقات قامة، مزيناً بالعقل، مهدياً بالتمييز، وذلك لما أراد سبحانه له من التكليف والاستخلاف في الأرض، ولحكم عظيمة لا يعلمها إلا هو. والبشر متفاضلون فيما بينهم بحسب ذلك، ولكنهم عند ربهم لا يتفاضلون بتلك الظواهر، فإنها لا تنفع عنده سبحانه، ولا يعبأ بها جل شأنه، وإنما التفاضل لديه جل جلاله بحسب صلاح بضعة باطنة، لا يراها العباد بأبصارهم، لكنها محل نظر الله تعالى إلى عبده، قال عليه الصلاة والسلام: “إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”.
وأوضح فضيلته أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه لا ببدنه، وذلك أن أصول العبادات الموصلة إلى الله تعالى محلها القلب، وهو مبعثها، كمحبة الله ورسوله، ورجاء الله وخوفه، وتعظيمه والتوكل عليه، والإخلاص له وأعظم غناءً وأكبر عناءً من مجاهدة الجوارح الظاهرة على فعل نوافل الطاعات، فمن صلح قلبه صلحت جوارحه وصحت أفعاله، قال ابن رجب: «ولم يكن أكثر تطوع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكثرة الصلاة والصوم بل ببرِّ القلوب وطهارتها وسلامتها وقوة تعلقها بالله». فإذا كان هذا العضو من الإنسان بهذه المنزلة فحري بالعبد أن يكون محل تعاهده وتفقُّده واستصلاحه، لا يغفل عن ذلك طرفة عين، فالنور نور القلب، والبصيرة بصيرته، والصلاح صلاحه قال تعالى {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ ولكن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور}؛ ولذلك كان من دعاء سيد المرسلين “اللهم اجعل في قلبي نوراً”.
وبيّن فضيلة أمام المسجد النبوي أن صحة القلب وسلامته ألزم على العبد من صحة بدنه وجوارحه، فإن غاية ما يوجبه سقم البدن أن ينتهي بصاحبه إلى الموت، الذي هو مصير كل مخلوق، وأما غاية سقم القلب وفساده الكفر أو النفاق الموجبان الخزي في الدنيا والآخرة، ولا ينجو من الخزي يوم البعث إلا من أتى الله بقلب سليم، كما قال تعالى على لسان خليله إبراهيم إمام الحنفاء صلى الله عليه وسلم {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. ومن دعاء إمام المتقين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «وأسألك قلباً سليماً». والقلب السليم هو الصحيح السالم من الشرك والشك والبدعة، السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو قلب المؤمن الموحد، فإن قلب الكافر والمنافق مريض، كما قال تعالى {فِي ‌قُلُوبِهِم مَّرَض}.
وحذر فضيلة الشيخ المهنا قائلاً: من نقض ميثاق العبودية مع الله تعالى يقسو قلبه، وإن على المسلم أن يكون على هذا الميثاق أشد تعاضداً من تعاضده لماله ونفسه، وإن على القلب أن يكون مفطوراً على قبول الحق والتأثر بالهُدى، فالقلب مع ذلك سريع التقلب، لا تزال ترد عليه الذنوب حتى يقسو أو يفسد، وقد يتعاظم حتى يختم عليه، فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ولا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يتوجع لجهله بالحق.
مضيفاً: الكبر من أعظم أسباب قسوة القلب، فهو حجابٌ على القلوب، يمنع عنها دواعي صلاحها ورقتها، قال تعالى {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}. قال التابعي الجليل أبو قلابة عبدالله بن زيد الجرمي -رحمه الله-: “منع قلوبهم القرآن”.
وبيّن أن من أعظم أسباب قسوة القلب وفساده تعلقه بغير الله تعالى حباً وتعظيماً وتوكلاً، حتى لا يعلق بقلبه من التوكل على ربه أدنى عُلقة.
وإن أفضل أدوية القلوب القاسية كثرة ذكر الله تعالى، ففيه الشفاء التام الذي لا يغادر فيها سقماً إلا أبرأه، قال ابن رجب رحمه الله: فأما رقة القلوب فتنشأ عن الذكر، فإن ذكر الله يوجب خشوع القلب وصلاحه ورقته.
وأردف فضيلته: إن أعلى الذكر جاهاً وأسرعه إصلاحاً للقلوب ذكر الله بكلامه المنزل، ووحيه المرتل، قال جل من قائل {لَو أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَه خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَة اللَّه وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. وأن على المسلم تلاوة آياته بالتدبر، والسمع له بالخشوع والتفكر، والاتعاظ بآيات الوعيد الأليم، والشوق عند آيات الوعد الكريم، والاعتبار بقصص الأمم الغابرة، وما جرى عليهم بقدرة الله الباهرة، فحري أن يوافق الداءَ الدواءُ، وأن يجد عند ذلك القلب الشفاء.
وأبان فضيلة إمام المسجد النبوي أن من أراد أن يلين قلبه فليمسح رأس اليتيم، وليطعم المسكين، وليتفقد حوائج ضعفاء المسلمين.

المصدر: صحيفة الجزيرة

كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية صلى الله علیه وسلم ى الله ع ل ی ه و س ل الله تعالى رحمه الله قال تعالى ی ا ر س ول کما قال ی الله قال جل

إقرأ أيضاً:

دعاء وفضل العشر الأوائل من ذي الحجة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

مع بداية العشر الأوائل ومن ذي الحجة، يوم الجمعة أول أمس الموافق ٧ شهر يونيو، يحرص المسلمون خلالها علي التركيز في الدعاء.، والصيام وأعمال الخير.

دعاء الرسول

وقالت الإفتاء، إن الرسول صل الله عليه وسلم أطلق دعاء (الكوامل الجوامع ضمن دعاء العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، وهو:اللَّهمَّ إنِّي أسأَلُكَ مِن الخيرِ كلِّه عاجلِه وآجلِه ما علِمْتُ منه وما لَمْ أعلَمْ وأعوذُ بكَ مِن الشَّرِّ كلِّه عاجلِه وآجلِه ما علِمْتُ منه وما لَمْ أعلَمْ، اللَّهمَّ إنِّي أسأَلُكَ مِن الخيرِ ما سأَلكَ عبدُك ونَبيُّكَ وأعوذُ بكَ مِن الشَّرِّ ما عاذ به عبدُك ونَبيُّكَ وأسأَلُكَ الجنَّةَ وما قرَّب إليها مِن قولٍ وعمَلٍ وأعوذُ بكَ مِن النَّارِ وما قرَّب إليها مِن قولٍ وعمَلٍ وأسأَلُكَ أنْ تجعَلَ كلَّ قضاءٍ قضَيْتَه لي خيرًا.

ومن الأدعية التي يمكن ترديدها خلال العشر الأوائل من شهر ذو الحجة

اللهم مالِكَ الملْكِ تُؤتي الملكَ من تشاءُ وتنزِعُ الملكَ ممَّن تشاءُ وتُعِزُّ من تشاءُ وتُذِلُّ من تشاءُ بيدِك الخيرُ إنَّك على كلِّ شيءٍ قديرٌ رحمنَ الدُّنيا والآخرةِ ورحيمَهما تعطيهما من تشاءُ وتمنعُ منهما من تشاءُ ارحَمْني رحمةً تُغنيني بها عن رحمةِ من سواك.

كما أنه من دعاء العشر الأوائل من ذي الحجة قول: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

 فضل العشر الاوائل من ذي الحجة

فإن العشر الأول من ذي الحجة أيام مباركة، ولفضلها أقسم المولى سبحانه بها في كتابه الكريم حيث قال: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ  سور الفجر
وأخرج البخاري من حديث ابن عباس  رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أيام العمل الصالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام - يعني أيام العشر - قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء.
وعلى هذا فينبغي للمسلم في هذه الأيام أن يجتهد في العبادة من صلاة وقراءة للقرآن، وذكر لله تعالى، واستغفار، وصلة رحم، وغيرها.
وأوكد هذه الأعمال الصيام فيها لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يصومها، ففي سنن أبي داود وغيره عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة...
وفي مسند أحمد عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل: أريت صيام عرفة ؟ قال: احتسب عند الله أن يكفر السنة الماضية والباقية.
ومما وجه إليه الإسلام من آداب في هذه العشر أن من عزم على أن يضحي كره له حلق شيء من شعره أو تقليم أظافره لما روى مسلم عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظافره.
 

مقالات مشابهة

  • تعرف على فضل الدعاء في يوم عرفة
  • لماذا أمر الله المسلمين بأن يتخذوا مقام إبراهيم مصلى؟ هذا الجواب
  • لماذا أمر الله المسلمين أن يتخذوا مقام إبراهيم مصلى؟ هذا الجواب
  • مصر لن تضام أبدا
  • فضل العشر الأول من شهر ذي الحجة وكيفية اغتنامها
  • تعرف على فضل الأضحية على المسلمين
  • دروس وفضائل العشر الأوائل من شهر ذي الحجة.. رأي من ليبيا
  • فضل صيام يوم عرفة.. (فرصة العُمر لمحو الذنوب)
  • دعاء وفضل العشر الأوائل من ذي الحجة
  • أيام معدودات من الشعائر والمشاعر