بوابة الوفد:
2025-06-07@06:57:56 GMT

جواهرجية الطين

تاريخ النشر: 19th, August 2024 GMT

على الطريق المفضى إلى أقدم عاصمة فى العالم الإسلامى، يرتفع بك الجسر الملتوى ليسلمك إلى قلب درة مصر القديمة، الفسطاط، تفتح بوابات قرية الفواخير على مصراعيها لتصطبح فى جولة عبر الزمن إلى عالم السحر والجمال، بقعة على مساحة 13 فداناً تنتزعك عنوة من فوضى القاهرة وجلبتها إلى رحابة الفن، وتمنحك جرعة جزلة العطاء من الابداع، تتراص على جانبى الطريق بانتظام 152 فاخورة، و٤٠ بازاراً لعرض المنتجات لـ«جواهرجية الطين»، تتوسطها حديقة غناء تتناثر بها القطع الفنية الباهرة والمقاعد الوثيرة فى انتظار زوار القرية من شتى دول العالم.

بوجه خضبته شمس المحروسة، وقسمات شق بينها الزمن خطوط الحنكة والرزانة، ومسحة من ملاحة بائدة لاتخطئها العين، فى جولة بين فواخير القرية بين يدى عم إبراهيم صابر، على مدخل فاخورة صابر ومكمنه الخاص لصناعة الخزف، تطالعك أصيصات الزرع الخاوية جنباً إلى جنب مع أوانى الطعام وڤازات الزهور الموشاة بأجمل الزخارف والألوان بينما يرتفع جبل المقطم من خلفك كالوالى يشرف على سير العمل فى القرية من عليائه، تصفعك رائحة غبار الطين الأسوانى والبوكلا، بينما تلمح ممراً ضيقاً ترتفع على جانبيه أرفف الأوانى الفخارية بلون الطين اللازب.

يجلس محمد عبدالنبى، صانع وفنان فى أوساط العشرينيات، إلى دولاب الفخار؛ وهو طاولة بسيطة من قوائم حديد تدثرها قطعة من الرخام الفاخر وأسطوانة من الصلب، ما يلبث أن يجلس حتى يضغط على كابس صغير فينطلق زئير «الموتور» معلناً رفع الستار عن فقرة اللفيف، يدور كوب الخزف كدرويش يطلب المدد من السماء بينما ينفض عنه عبدالنبى شوارد الخطايا، سيمفونية من التناغم تصل السحر الكامن بين أنامل الصانع الماهر، محمد وبين الطين، ينحت معزوفته الخاصة من الخزف ويهذب بروزها باستخدام السادف أوالفيبرا المخصصة للأوانى، وبينما يتراقص الكوب بين أطراف أصابعه ينهى عبدالنبى معزوفته بقطع الوصال بين القطعة الفنية حديثة العهد وأسطوانة الدولاب باستخدام خيط معقود الطرفين.

بينما تتسلل أولى خيوط شمس النهار عبر كوة فاخورة عم إبراهيم المزخرفة على الطراز النوبى، تدب الحياة فى المكان فيتحول إلى خلية نحل تسرى فيها الحركة والنشاط، يحمل محمد عبدالنبى أكواب الخزف بعدما تأكد من اكتمال مرحلة جفافها إلى دولاب الفخار من جديد ليختم عمله بوصلة أخيرة من الدورات على الأسطوانة يصقل خلالها سطحها ويضيف إليها حفتى الشفة والقعر.

وكحبات السبحة تتناقل القطع بين أصابع فنانى الورشة فى جو صافٍ من التعاون، حيث لا مكان لمناوشات تهدر وقت العمل أو رتابة تئد رهافة الحس الفنى لفريق من الصناع لا تتخطى أعمارهم العقد الثالث، أياديهم «تتلف فى حرير»، يتحرى إبراهيم صابر فى اختيارهم البحث عن صاحب الخلق السوى، «الشغل ممكن يتعلمه لكن التربية صعبة.. تخليت عن عامل شاطر جداً من فترة عشان كان بيعمل مشاكل كتيرة كل يوم خناقة وبيعطل زمايله»، على حد وصف صابر.

عن جُنُب، ترتكز ما يبدو كخزانة ضخمة تقوم على ركائز من الصلب تُحكم غلق بابها مفاتيح ضخمة، دقائق وتنطلق صافرة معلنة انتهاء مرحلة «الحرق»، يُعمل أحد الشباب يده فى فتح مقابض الفرن ينفتح الباب عن حمو كاللهب يلفح الوجوه، يتناوب العمال على حمل القطع من داخل الفرن، البسكوت، كما يطلقون عليه إلى صيجان تتراص على الجانبين، فيما يباشر فريق آخر متابعة الخطوات التالية من خط الإنتاج، درجة بعد درجة فى عليمة شاقة تستغرق من 10 إلى 20 يوماً لإتمامها وصولاً إلى مرحلة الجليز، أى التلوين والرش.

ومثل رامٍ أوليمبى عتيد يحكم محمد أحمد، عامل رش فى فاخورة إبراهيم صابر، ضبط مسدس الجليز، وبخبرة كيميائى محترف يضع فى حاوية المسدس بنسب لا تخطئ أصباغ تلوين الخزف المستوردة ويلف قبضته على المسدس بإحكام قبل أن يسدد رميته الناجحة.

وعلى أسطوانة دائرية تتحرك بحرية حول محورها، يقبع كوب الخزف فى انتظار الحصول على وجه لامع مصقول ومزيج من ألوان شتى تعيد بهجة الحياة من جديد إلى الحمأ المطفأ، كاللفيف يتراقص الكوب حول نفسه فيما يلبسه محمد تنورة من أبهى الألوان.

وقد قامت محافظة القاهرة بتطوير القرية وإنشاء عدد ٤٠ بازاراً لعرض المنتجات وعدد ٤ معارض ومهرجانات للفخار، كما تم إنشاء مدرسة ثانوية تطبيقية لتعليم فن الخزف والفخار بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم والجمعية التعاونية للخزف والفخار، وتشرع المحافظة فى إنشاء مطعم سياحى ودورات مياه لوضع القرية على الخريطة السياحية.

كما تم تسليم المنتفعين أفراناً تعمل بالغاز الطبيعى لحرق المنتجات بطريقة صديقة للبيئة مجاناً بدلاً من الحرق بالأخشاب كما قامت المحافظة بالتعاون مع شركات الغاز والمياه والكهرباء بتقسيط قيمة المرافق تخفيفاً عن كاهل المنتفعين، كما تم تحرير عقود للمنتفعين حتى يتسنى لهم استكمال التراخيص.

المصدر: بوابة الوفد

إقرأ أيضاً:

محمد في مكة

قبل أكثر من مائة وأربعين عاماً لاحظ المستعمرون الهولنديون أن الحجاج الأندونيسيين يعودون بعد رحلة الحج إلى بلادهم، متحفزين للثورة ضد الاستعمار الهولندي. أراد الهولنديون معرفة السر وراء روح «التضحية» والمقاومة التي يمتلئ بها الحجاج بعد أداء المناسك، فتقرر إرسال مستشار الحكومة، المستشرق «كريستيان سنوك هرخرونيه» عام 1884، إلى مكة التي دخلها على أساس أنه حاج مسلم، وطُلب منه تقديم تفسير لهذه المعضلة الكبيرة التي واجهها الهولنديون، وهو ما فعله هرخرونيه في بحث قدمه لنيل درجة الدكتوراه، بعنوان: «الاحتفالات والمراسم في مكة».

وقبل ذلك بكثير نكلت «مملكة أورشليم» الصليبية بالحجاج المسلمين، وأمعنت فيهم قتلاً ونهباً وتشريداً، لمنعهم من الذهاب من بلاد الشام إلى مكة، لأسباب منها أن آثار الحج على هؤلاء الحجاج كانت مزعجة للصليبيين الذين اضطروا فيما بعد لمغادرة الأراضي التي احتلوها في الشام، تحت ضربات المسلمين.

ما الحكاية؟
في القرن السابع الميلادي ظهر الإسلام، في بيئة عربية لم يكن للدين تأثير عميق فيها على حياة الناس، وعلى الرغم من ضعف التأثير الديني على حياة العرب، إلا أن ذلك التأثير كان أكثر ضعفاً لدى الرعاة، سكان البوادي، منه لدى المزارعين والتجار في حواضر الجزيرة العربية قبل الإسلام، حسبما يرى المستشرق البريطاني، مونتغمري وات، في كتابه «محمد في مكة».

كان العربي القديم – إذن – يعطي القيم الأخلاقية أهمية أكبر من الأهمية التي يعطيها للقيم الدينية التي كانت مجرد تقاليد موروثة، ليس لها أبعاد روحية أو اجتماعية قوية. وقد بدا ذلك جلياً في تغني العرب بمكارم الأخلاق من كرم وشجاعة ومروءة ونجدة ونصرة، وغيرها من الخصال التي نجدها طاغية الحضور في الشعر العربي، وبشكل لا يمكن مقارنته بحضور مفردات الدين في هذا الشعر.

ولعل الضعف الذي اعترى «عبادة الأصنام» كان أحد أسباب تحول العرب عنها إلى «عبادة الله» الديانة التي أصبح اسمها «الإسلام». ومن الفرائض التي جاء الإسلام لإحيائها، وإعادة تعريفها أو ضبطها فريضة الحج الذي ينظر إليه في زمن التفسير المادي للمعتقدات والأفكار والتاريخ على أساس أنه يحوي بقايا من الديانات الوثنية، قبل الإسلام، وهي الديانات التي لم يكن لها تأثير كبير على جوانب الحياة العربية، حيث لم يكن العربي يذكر آلهته إلا في بعض المناسبات مثل الذهاب للحرب، التي تُحمل إليها الآلهة، طلباً للنصر.

ومع التسليم بأن الحج كان معروفاً لدى العرب قبل الإسلام، إلا أن سردية أن بعض شعائر الحج تعود لجذوره الوثنية عند العرب، لا تعدو كونها ضرباً من التهويم، حيث يعود الحج إلى ما هو أبعد من زمن وثنية قريش، وهو موجود لدى معظم الديانات التي سبقت الإسلام، ومنها اليهودية والمسيحية، وما مظاهره المادية إلا ترجمة فعلية لطريقة الأديان في تخطي الماديات – والوصول عبرها – إلى المرامي الروحية البعيدة.

هناك سورة في القرآن الكريم باسم «سورة الحج»، جاء فيها أمر الله لإبراهيم عليه السلام بأداء هذه الفريضة: «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم.»…

«تلبية» الأذان هو الهدف، و«الإتيان» هو الغاية، وهو هنا إتيان لمنافع مادية «منافع لهم»، وأخرى روحية «يذكرون اسم الله»، الذي تمتلئ بذكره الأرواح والعقول بمشاعر وأفكار لا يمكن وصفها، وهي حالة روحية لا يمكن لمحدودي الخيال من «الماديين» فهمها، حيث تتحول الماديات بالمفهوم الديني إلى رموز إشارية، تنفتح على دلالات روحية، ذات أهداف اجتماعية غير خافية، تجلى بعضها في ما لمسه الهولنديون من بعث روح «التضحية» ضد الاستعمار لدى الحجاج الأندونيسيين، بعد عودتهم من مكة.
«خلال جميع رحلاتي في الشرق لم أتمتع براحة كالتي عشتُها في مكة»
إنها رحلة روحية من طراز فريد يحتشد فيها التاريخ والجغرافيا والمعاني والدلالات، ويستحضر من خلالها الحاج شخصيات إبراهيم وإسماعيل، ورمزيات انبعاث الحياة، مع تفجر ماء زمزم، والرحلة من «واد غير ذي زرع» إلى مدينة عامرة: «أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»، ناهيك عن مناسك السعي بين الصفا والمروة، بحثاً عن ماء الحكمة وينبوع الحياة، والطواف بالبيت العتيق الذي يمثل طبيعة الرحلة إلى الله، عدا عن «رمي الجمرات»، وهي العملية التي تنفتح على دلالات ضرب الشر، ورمي المجرمين، حيث يحسن أحياناً تجسيد الشر، ومن ثم التعامل معه مادياً، تمهيداً للتخلص منه، وهي طريقة مجدية في علم النفس للتخلص من شرور النفس وآثامها.

يشير المستشرق البريطاني المختص بشؤون أفريقيا، إيوان ميردين لويس وهو عميد المستشرقين البريطانيين في الشأن الإفريقي، إلى دور الحج العميق في صياغة «الهوية المشتركة» التي تجمع مختلف الانتماءات العرقية والسياسية والجهوية، وإلى كونه مناسبة للتبادل الثقافي والنفعي بين شعوب مختلفة، الأمر الذي يكرس وحدتها.

ختاماً، سجل الرحالة السويسري جون لويس بيركهات أو (إبراهيم بن عبدالله) انطباعاته عن مكة التي زارها سنة 1814 في كتابه «رحلات العرب» الذي جاء فيه: «خلال جميع رحلاتي في الشرق لم أتمتع براحة كالتي عشتُها في مكة»، المدينة الرمز التي تشهد رحلة تبدأ وتنتهي بالطواف حول «البيت العتيق»، في مسار دائري رمزي إشاري، يشبه المسارات المعراجية التي تتصاعد في حركات دائرية إلى السماء، مع ما يكتنف الرحلة من متاعب وصعاب.

القدس العربي

مقالات مشابهة

  • وفيات السبت 7-6-2025
  • وفيات الجمعة 6-6-2025
  • حمدان بن محمد يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد زعبيل في دبي
  • مبارك الترفيع للعقيد محمد أبو هاشم
  • كاريكاتير محمد سباعنة
  • دعاء عيد الأضحى
  • ▫️وكيل وزارة النفط لشؤون الغاز عزت صابر إسماعيل: ارتفاع نسبة استثمار الغاز المصاحب للعمليات النفطية من 53% إلى 70% وزيادة إنتاج الغاز الجاف من 1300 مقمق يومياً إلى 1800 مقمق
  • وفيات الخميس 5-6-2025
  • محمد في مكة
  • مسألة إعدام نميري لمحمود محمد طه