ذكراه لم تنطفئ، ما زال السوريون في المناطق التي دمّرها وريثُه؛ يلهجون باسمه في خالص دعواتهم، بأن يسكنه الله أسفل درك في الجحيم. لكنّ ذكراه اليوم تعود قوية في ذاكرة العالم وليس في ذاكرة السوريين وحدهم؛ بسبب موت أهم شخص من بني "الثعالب" هنري كيسنجر.

فهو ثعلب السياسة الأميركية، الذي لم يحظَ بما حظي به الأسد الأب في حياته من ألقاب وصفات تملأ كتبًا بأكملها؛ لذا لم أنسَ هذه اللاحقة في العنوان "الأوّل"؛ كي لا أحرم الرئيس حافظ الأسد من أهم ما تميّز به أثناء حياته: "الأوَّليَّة في كلّ شيء".

فقد كان المعلم الأوّل، والرياضي الأوّل، والجزّار الأوّل.

وتلك عقدة في التكوين النفسي لشخصية الدكتاتور الذي عاش طفولته مهملًا ومنبوذًا، ولم يكن الأوّل في شيء ولا حتّى في لعب الصبيان في الحارة.

ألّف الكثيرون عن حافظ الأسد كتبًا منذ بداية حكمه، وقد نال الشاعر والكاتب السياسي "كريم الشيباني" قصب السبق في الكتابة عن فكر الرئيس، وحنكته، ودهائه محاولًا تكريس صورة نمطية – غير موجودة في الواقع، لكنّها مؤثرة وباقية- في أذهان الناس، وخاصة المؤيدين لحكمه.

لكنَّ الشيباني لم يكن الأكثر نفاقًا وحرصًا على تلميع صورة حافظ الأسد، فقد سبقته ــ السياسية، الكاتبة، الإعلامية، المترجمة، نائبة الرئيس التي تحمل ألقابًا تنافس فيها باسل الأسد عندما كان حيًّا وعلى سروج خيله ــ "بثينة شعبان" المشهورة بمقولة: "إنّ الإرهابيين حملوا أطفال الساحل إلى الغوطة وقصفوهم بالكيماوي ليتهموا النظام، وهؤلاء الأطفال الذين قُتلوا في الغوطة هم من قرى علويي الساحل!".

بثينة شعبان

نائبة الرئيس بشّار الأسد، المتحدثة الرسمية على الشاشات باسم النظام السوري، كانت المترجمة الشخصية لحافظ الأسد، وقد أصدرت كتابًا بعنوان: "حافة الهاوية" مدّعية أنّها الرواية التاريخية لمباحثات حافظ الأسد وهنري كيسنجر.

الكتاب صدر عام 2017؛ أي بعد وفاة حافظ الأسد بسبعة عشر عامًا، مما يجعل القارئ يتساءل: لماذا صدر هذا الكتاب في مثل هذا التوقيت، ولم يصدر بعد وفاة حافظ الأسد؟ ويأتي هذا الكتاب بعد كتاب أصدرته شعبان عام 2015 بعنوان: "عشرة أعوام مع حافظ الأسد".

لا شكّ أنّ الموقف الأميركي من النظام السوري، بالإضافة لما نشره ثعلب السياسة "كيسنجر" له علاقة بحماس "شعبان" للخوض بالبحث في أرشيف القصر الجمهوري، وبقرار رئاسي، كي تؤلف هذا الكتاب لتعيد ماء الوجه للنظام المتهالك!

بثينة شعبان (يمين) مع الرئيس الأميركي الاسبق جيمي كارتر في سوريا 2009 (رويترز) باتريك سيل

تختلف الروايات حول حافظ الأسد بين الذين كتبوا عن حياته، وقد كان الأميركي باتريك سيل أشهر شخص كتب عنه عالميًا، إذ لم تخرج الكتب المنشورة محليًا عن الدائرة الضيّقة من قُرّاء سوريا المهتمّين بشأن الرئيس.

ومن أجل البروباغندا الإعلامية مُنع كتاب سيل من دخول سوريا؛ وذلك لأجل أن يُهرّب من لبنان، ويجد تفاعلًا من القرَّاء ورغبة في الحصول عليه، تحت إغراء فكرة أنّه لا بدّ قد كتب شيئًا يمسُّ سيادة الرئيس؛ حتّى مُنع كتابه.

علمًا أنّ سيل قد دخل سوريا بشكل طبيعي، واستُقبل في القصر الجمهوري، وساعده كثيرون ممن هم في موقع السلطة ليكتب مؤلفه: "الأسد، صراع على الشرق الأوسط"، وهو كتاب ضخم جاء في 797 صفحة.

وقد بقي باتريك سيل على اتصال مباشر مع حافظ الأسد عدّة سنوات حتّى أنهى كتابه. وكتب في المقدمة يشكر الرئيس على استقباله وسماحه له بالتواصل معه، وشكر باسل وبشرى على تعاونهما بتقديم المعلومات!

هنري كسينجر

يقول كيسنجر في مذكراته: "إذا كان التاريخ يعلّمنا شيئًا فهو عدم وجود سلام من دون توازن". وقد سعى إلى إحلال ذلك التوازن في الشرق الأوسط من خلال إقناع إسرائيل بإعطاء الأسد فرصة دخول لبنان عام 1976؛ بهدف الإطاحة بياسر عرفات ومنظمة التحرير. وبقي الوضع في لبنان تحت السيطرة السورية حتّى اغتيال رفيق الحريري عام 2005، وقتها أمرت أميركا الأسد الابن بالانسحاب من لبنان.

من الواضح في كتاب كيسنجر أنّ التفاهم بين النظامين: الأميركي والسوري كان على أكمل وجه، وهو ما كان الأسد يحاول نفيه والظهور بمظهر العدو لأميركا وإسرائيل.

ما يجري في الكواليس غير الذي يظهر على خشبة المسرح، هكذا كان الوضع السياسي في سوريا، وقد رفض حافظ الأسد في بداية المفاوضات التنازل عن أيّ شبر من الجولان، وقال كيسنجر: إنّ الأسد يعارض "لفظيًّا فقط".

يذكر كيسنجر أنّ الأسد كان حريصًا على لقائه منفردًا مع مترجمه الخاص، وكان بعد ذلك يستدعي عددًا من العسكريين ليوجز لهم ما جرى من مفاوضات، ثمّ يستدعي المدنيين " برئاسة عبد الحليم خدام" ليخبرهم باختصار أشد ما حدث في المفاوضات.

الأسد كان حريصًا أن يكون وحده صاحب القرار، ووحده من يعرف كلّ شيء، ويقول فقط ما يريده أن يصل للآخرين. ويتبع الخبر عملية تنقية، وتصفية، وإدارة، وتحوير حتّى يتسلّمه الإعلام فيما بعدُ، وينشر في الصحف والمحطات الإذاعية والتليفزيونية.

يقول كيسنجر: "كان الأسد اختصاصيًا في المضي بالتفاوض، ساعيًا للحصول على كلّ تنازل ممكن، حتى لو عرّض المفاوضات للخطر، وأضعف موقف سوريا بشكل عام".

ندم "حافظ" على تهوره فيما بعد، وتنازل عن عناده في الوقت الذي رفضت إسرائيل التخلي عن شبر من الجولان! لكن ما كان يهم الأسد الحفاظ على مكاسبه الشخصية من الحكم، وآخر همّه سوريا وما يحصل لها.

وقد وصفه كيسنجر بأنّه كان أكثر حكمة من تعريض نفسه لحرب جديدة مع إسرائيل، وكان حريصًا على عدم خسارة الوساطة الأميركية. لذلك تفاهما وأحبا بعضهما بعضًا.

المفاوض العتيد – حسب وصف الإعلام السوري- الذي جعل "كلينتون" في محادثات جنيف يخرج "دائخًا" ولا يستطيع التمييز بين هيلاري ومونيكا، خسر الرهان أمام كيسنجر، وترك سوريا بين يدَي مفاوض أحمق.

 

 

 

 

 

 

 

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: بثینة شعبان حافظ الأسد الأو ل

إقرأ أيضاً:

الرئيس اللبناني: تلقينا مبادرة سعودية لترسيم الحدود مع سوريا.. ونسعى لاستعادة سيادة الدولة

أعلن الرئيس اللبناني جوزيف عون، أن بلاده تلقت مبادرة طيبة من المملكة العربية السعودية تهدف إلى ترسيم الحدود مع سوريا، مشددًا على حرصه على إقامة علاقات طيبة مع دمشق، والعمل على إعادة لبنان إلى محيطه العربي.

وأكد "عون"، خلال كلمة له بمناسبة عيد الجيش، أن لبنان طلب من الولايات المتحدة الضغط لانسحاب إسرائيل إلى خلف الحدود المعترف بها دوليًا، ووقف الاعتداءات الإسرائيلية برًا وبحرًا وجوًا، مشيرًا إلى إدخال تعديلات جوهرية على مسودة الأفكار الأميركية تمهيدًا لعرضها على الحكومة.

وفي السياق ذاته، شدد الرئيس اللبناني على ضرورة حصرية السلاح بيد الجيش اللبناني دون تردد، معتبرًا أن «حلم الدولة لن يكتمل إلا بحصرية السلاح بيد الدولة»، وأن «الجيش هو الضمانة لوحدة اللبنانيين وسيادة لبنان وحرمة حدوده».

وأكد "عون" تصميم الجيش على استكمال انتشاره في الجنوب، مشيرًا إلى أنه بسط سيطرته على جنوب الليطاني بشهادة اللجنة الخماسية، رغم عدم التزام إسرائيل بتفاهمات وقف النار، ومنعها العودة إلى القرى المدمرة وإعادة إعمار الجنوب.

وأوضح الرئيس أن لبنان بدأ مسارًا طويلًا من المحاسبة، عبر تشكيل مجلس قضاء جديد واستكمال مؤسسات المساءلة، معلنًا عزم الدولة على ضرب الخلايا النائمة ومنع تشكيل أخرى، وضبط كل أشكال التهريب في المطارات والمعابر، وعدم السماح للإرهاب بترويع المواطنين.

ودعا الرئيس إلى وقف الحروب العبثية، وتفويت الفرصة على إسرائيل لانتهاك السيادة، مؤكدًا أن مشروع الدولة سينتصر، وأنه اختار العبور نحو مستقبل أفضل، بعيدًا عن الاستقواء بأي «محور» أو «سلاح»، بل ببناء دولة تحمي الجميع، من دون تفرقة أو تبعية.

الرئيس اللبناني جوزيف عون: أكدنا استعدادنا لسحب سلاح حزب الله وتسليمه للجيش اللبناني#لبنان#قناة_الحدث pic.twitter.com/S8rmb680vb

— ا لـحـدث (@AlHadath) July 31, 2025 سورياالرئيس اللبنانيأخبار السعوديةترسيم الحدودأخر أخبار السعوديةجوزيف عونقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • تحديد أسعار سكنات عدل 3 وموعد دفع الشطر الأوّل.. الوكالة تحذر 
  • تحريك أول دعوى جنائية بحق شخصيات بارزة في نظام بشار الأسد
  • المفاوضات السورية-الإسرائيلية: تاريخ من الأخطاء والدروس
  • بعد اجتماع لافروف.. الشيباني سيلتقي الرئيس الروسي
  • من الحليف إلى الشريك..روسيا تبحث عن سوريا ما بعد الأسد
  • الشيباني: سوريا تريد علاقة سليمة مع روسيا قائمة على التعاون
  • في ذكرى تعاقد الأهلي مع أفشة.. كيف حافظ على هيمنة النسر الأحمر؟
  • باكو تستضيف جولة مباحثات جديدة بين سوريا وإسرائيل
  • أنباء عن ظهور إعلامي قريب لرئيس النظام السوري المخلوع بشار الأسد
  • الرئيس اللبناني: تلقينا مبادرة سعودية لترسيم الحدود مع سوريا.. ونسعى لاستعادة سيادة الدولة