مصطفى سعيد: أنا أكذوبة
عبد الله علي إبراهيم
أنشر بمناسبة هذه الذكرى جزءاً من تعريب لكلمة طويلة لي في الإنجليزية عنوانها "المستعمر: حالة الخلو من الترجمة الذاتية" ووجدت أن الشاعرة نجلاء التوم أخذت بالمقال فعربتها دون علمي تعريباً مشوقاً. لها محبتي)

الترجمة (السيرة الشخصية) أثر حقيقي لإنسان عاش أصالة عن نفسه.

ولكن تخلو المرأة أو الرجل ممن استعمرهم الغرب من الترجمة لأنهما عاشا عالة على غيرهما، أي من صنع الغرب. فالغرب يجحد من وطئهم بمنسمه سيرة يروونها عن أنفسهم، أو تروى عنهم. فإن طلبوا واحدة أمدهم بها من محض صنعه ومقارناته واستدعاءات من جراب تاريخه. وجحود الغرب ترجمة للمستعمَر، للآخر، مما صوره الطيب صالح بدرامية بليغة في "موسم الهجرة لشمال". فأراد الراوي في الراوية أن يعرف كنه مصطفى سعيد، بطل الرواية الغامض العجيب، فأخذ يقلب محتويات الغرفة النشاز التي بناها مصطفي في قرية سودانية لجأ إليها بعد تجربة حافلة وتراجيدية لا تُنسي من العيش في انجلترا. فمعمار الغرفة مستفاد من معمار القرى الأنجلوساكسونية بسقف أحمر محدودب مثل ظهور البقر. وازدحمت الغرفة بكتب غربية وغالبها في الإنجليزية. فحتى القرآن كان في غير نصه العربي. وتنفست الغرفة فوح انجلترا تفصيلاً حتى بوجود مدفأة فكتورية بها. وعثر الراوي خلال جوسه في محتويات الغرفة على ورقة انتوى سعيد أن يدون عليها ترجمته الذاتية. ولكنه لم يكتب فيها حرفاً عن نفسه. وهكذا ودع الرجل الدنيا ولم يجد في حياته ما يروي عنه لغيره. وبدا من بياض ورقة سعيد وسواد نصوص الغرب المعيارية في الثقافة والذوق والمعارف، التي شغلت الغرفة، أن سعيداً قد أفحمه الغرب فلم بنبس ببنت شفة عن نفسه.
ولا غرابة أن مصطفى سعيد، بطل رواية "موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح ما أنفك يتبرأ من حقائقه على طول الرواية وعرضها ملحاً بغير لبس أنه أكذوبة. وكانت أكذوبة خَلقِه هي التي جعلته يقبع ذاهلاً في المحكمة، التي انعقدت لمقاضاته على قتله عشيقاته وزوجاته الإنجليزيات، وكأنها انعقدت لمحاكمة شخص غيره. فلم يعتذر عن قتله جين موريسون بل اعتذر عن الأكذوبة التي هو. وحين تحدث أستاذه في المحكمة عن عبقريته قال مصطفى سعيد الشارد لنفسه إن مصطفى سعيد لم يعش أبداً في الدنيا. فهو وهم وأكذوبة. والتمس من القضاة الحكم بقتل الأكذوبة.
ومصطفى أكذوبة بوده هام. فهو منتج غربي من قمة رأسه حتى أخمص شهواته. ووظف الطيب صالح المحكمة التي انعقدت لمحاكمته على جرائمه العديدة بصورة غير عادية ليعرض لنا الصناعة الغربية التي تناصرت لتخليق هذا الشقي. فكانت المحكمة ساحة نزاع، لا حول حقائقه هو، بل عن بريطانيين، وصفهم مصطفى سعيد ب "البله"، حول اعتقاداتهم المتباينة وصوابها. ففيها تجاحد المحامون (الذين مثلوا الطيف العقائدي البريطاني) فوق جسده: الاستعمار والليبرالية والتبشير والتسلح الخلقي والماسونية وإنسانية عصر الأنوار والبوهيمية واليسار. فلم يكن هو في المحكمة أصالة عن جرائمه، بل كان فيها نيابة عن الصناعة الفكرية الغربية. فهناك الحلقات البوهيمية التي استلطفت منه "الأسود الأنيق". وهناك اللوردات من متصنعة الليبرالية ممن مصطفى سعيد من معروضات فضلهم على العالم. وهناك اليسار المفتون بنظريته عن اقتصاد يقوم على الحب لا الأرقام وأصبح بذلك فتاهم المدلل..
وكانت المحاكمة كذلك عن ضبط جودة هذه الصناعات. فرأينا في المحكمة هذا الضبط عند بروفسير ماكسويل، مؤسس جمعية التسلح الخلقي والماسوني وعضو المجلس الأعلى للإرساليات المسيحية في أفريقيا، الذي انزعج من مصطفى سعيد منذ أيامه في اكسفورد. وكان يقول له إنك أنت المثل الحي على أن مهمتنا الحضارية في أفريقيا قد باءت بفشل عظيم. وتحسر على جهودهم الطويلة لتعليمه سدى. فمصطفى في نظره يخرج عليهم في المحكمة وكأنه ما بارح الغابة إلا أمس. ومع ذلك كان ماكسويل في المحكمة مصمماً على تبرئته من التهم. وحتى المحلفين، الممسوسين بالإنسانية الليبرالية، اجتهدوا لأول مرة للارتفاع فوق حزازاتهم حيال هذا العبد الذي لن يقبلوا، في وضع طبيعي، بتأجير شقة له في عقارهم. فلم يرغبوا بالحكم لإعدامه لأنه في نظرهم كان رجلا فقد الرغبة في الحياة.
ولم يرد مصطفى لمحاكمته أن تتحول إلى صراع بين الشرق والغرب. فليس ثمة نزاع كهذا في نظره. فالإنجليز، متى تجاحدوا، كانوا هم موضوع التجاحد لا مصطفى. فهم قد جعلوا منه باتفاق عقائدهم قرداً يطرب فعله صاحبه لأنه أتقن ما عوده عليه. وخاف مصطفى سعيد أن تستدعي المحاكمة صورة عطيل العربي الأفريقي من شكسبيرهم العظيم من جهة قتله حبيبته الأوربية من فرط الغيرة. فيتلاشى هو أكثر فأكثر في ركام الصور الغربية عنه. فصرخ فيهم ألا يجعلوا منه عطيلاً لأنه صحراء العطش . . . وأكذوبة.
ومصطفى أكذوبة بوجه ثان هام. فهو صناعة غربية حتى في شهواته. فحتى شهواته مستعارة. فلم يأت للشمال غازياً بذكره، كما قال، اعتباطاً. فهو منتج من منتجات صناعة العنف الأوربي الإمبريالي. فلفحت جرثومة العنف هذه الغرب من أكثر من ألف سنة مذ سادوا العالم. فهو قطرة من السم الزعاف الذي حقن به الغرب شرايين التاريخ. ومع ذلك لم يشته النساء كما شاء، بل اشتهاهن كما شاءت بروتكولات الغرب. وهذه الجرثومة لها إفرازاتها الفكرية التي سماها إدوارد سعيد ب"الاستشراق". فقد شوّقت صور المعرفة الغربية للشرق وأفريقيا نساءهم في رجال تلك البقاع الغامضة وفحولتهم الوهّاجة. ولم يكن مصطفى بحاجة لبذل أي جهد لإغوائهن. يكفي أن يكون هو الأكذوبة (لا مصطفي سعيد) المصنوعة ليترامين عنده كالفراشات. ولم يكن هو موضوع شهوتهن. فصورتهن عنه، ثمرة صناعة ثقافتهن، هي التي تنصب لهن الفخاخ فيسرن لحتفهن بظلفهن. فمن رأي مصطفى سعيد أن ضحاياه رغبن في الموت ولو لم يقتلهن لانتحرن طوعاً. فالذي قتلهن هو جرثومة مرض عضال أصابهن قبل آلاف السنين.
وكان الشرك الذي نصبه مصطفى لهن فصادهن من خيوط عنكبوت ثقافتهن. كانت المرايا تغطي غرفته. فهو إن ضاجع واحدة بدا في المرايا وكأنه ضاجع النساء جميعاً: الحريم. كان الصندل يفوح في الغرفة. وكانت المساحيق الشرقية والعطور مل حَمَّامه.
ومع أنه سعى دائماً لاسترداد نفسه من ركام المعرفة الاستعماري بقوله إنه ليس عطيلاً لأن عطيل أكذوبة إلا أنه يعرف من أين تؤكل كتف نساء مصابات بالشرق وأفريقيا. فكان يَستِرقهن لمضجعه من مقود ثقافتهن. قال لسيمور يغريها: أنا عطيل، عربي أفريقي. وكان يعرف أنه ليس بعطيل وإنما هي بضاعتهن ردت إليهن.
وسقطن في فخ من صنع أيديهن الثقافية. فآن هاموند قد أخذت الفلسفة الشرقية بعقلها في أكسفورد. أما سيمور فقد شغفت ببدائيته الأفريقية ثم أندلسيته العربية في وقت معاً. وهي هواجس شهوانية التقطتها من ثقافتها. فكانت تستعذب حديثه وترخي له أذنها في صمت والشفقة المسيحية تدفق في عينيها. وترى مصطفى سعيد وقد تحول في نظرها إلى مخلوق بدائي عار كما ولدته أمه. وما فرغت من النوم معه حتى وصفته بأنه خصب كالأندلس. وقالت له: أن أرتع فيّ أيها الشيطان الأفريقي. احرقني في نيران معبدك. ودعني التوي وأدور في طقوسك الوحشية الحامية. وكانت عابدة له حتى استعجب مصطفى سعيد وقال: ألأن هناك من ولد على خط الاستواء تجد بعض المجانين من الناس يدعونه عبداً وبعضاً يؤلهونه. فأين يقع الوسط السعيد.
لقد استوعب مصطفى الحضارة الغربية ولكنها كسرت جُبارته. وقد حمل أسفار تلك الحضارة إلى غرفته العجيبة النشاز في القرية السودانية التي لجأ إليها بعد عودته من إنجلترا. وبلغ من محو هذه الحضارة لهويته أنه فشل فشلاً ذريعاً في كتابة ترجمة لنفسه. فلما جاس الراوي خلال محتويات تلك الغرفة عثر على ورقة انتوى مصطفى أن يدون عليها ترجمته الذاتية ولكنه لم يكتب فيها حرفاً عن نفسه. وهكذا ودع الرجل الدنيا ولم ير في حياته ما يروي عنه لغيره. وبدا من بياض ورقة سعيد وسواد نصوص الغرب المعيارية في الثقافة والذوق والمعارف، التي شغلت الغرفة، أن مصطفى قد أفحمه الغرب فلم ينبس ببنت شفة عن نفسه.

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: مصطفى سعید فی المحکمة عن نفسه

إقرأ أيضاً:

قصة.. (حُلم معطّل -1)

الكاتب حمد الناصري

 
   راودتهُ رغبة عارمة في الابتعاد والنأْي بنفسه عن كُل ما يُؤذي مشاعره ومبادئه وأخلاقه.. عاتب نفسه وعنّفها وتمنّى لو استطاع أن يَجْلِد ذاته ويُعاقبها فقد نشأ في بيت مُتواضع، يزهو بالقِيَم، ويرتقي بمكانته المجتمعية، ومرّت الأيام واخْتلفت ثَيّمات الأوضاع، وتعاقبَت السُنون، وولّت سنين وأعْقَبتها سنين، وتمتم.. الذي أدْبر لا يعود ولا رجعة له، والأحداث لا تُعاد.
 
    انقضىَ شبابهُ سريعاً وقوّته ليست كما كانت مُنذ بضع سنين، خلتْ وتضاءلت طاقة نشاطه وحتى أنّ رغبته في مَباهج الحياة خَفتت ... شيء ما، قد ماتَ بداخله.. هزّ رأسه.. لا شيء يَبقى على حاله، دوام الحال من المُحال. سُلوكنا، حياتنا، أخلاقنا، قِيَمنا.. مُجتمعات أخذت مكانها وأنْشأت سُلوكاً مجتمعياً خاصاً مُنفصلاً عمّا سبقتها من سلوكيات.. أجيال نشأت لا تعرف شيئاً عن ما قبْلها، سوى ما قِيْل عنها، وعن أيْديولوجيات رَبطتهما معًا.. فكّر قليلا.. البيع والشِراء والمال والسكن واللُغة توارثته الأجيال عقب أجيال.. ولكل جِيْل طريقة تعامُله.. حدّث نفسه.. هذا الجِيْل الذي تمكّنتُ من اللِّحاق بركْبه وقُدّر لي مُعايشته.. لا يَثق ولا يَطمئن بأحد ولو كان صادقًا أمِينًا أو قُدّيسًا زاهدًا.. الكُلّ يتعامل فقط بالمادة وبالمال وحدهما.. جِيْل تفكيره مادي إلى أبْعد الحُدود وكأنّما وُلدوا بلا مشاعر ولا عواطف.
 
   رفعَ رأسه وتنَشّق الهواء في حسرة، وانْتفض وكأنّه يَستعد لموجة من الطاقة الجديدة.. أغمض عينيه، وبدا في سُكون غير عادي.. ترقرقت مُقلتاهُ، وكأنّ غشاوة حجبت عنه حالة الإبْصار، داهمهُ شُعور بالعجز الكامل، وأحسّ بدغدغة في قمّة رأسه.. طفا ذهنه فوق بُحيرة من الفوضى الخلاّقة.. همس في نفسه بصوت أجشّ، ربما أصابتني عين أو مسّني شيئاً مِن السِّحر.!! لكنّ جسدي لا يزال قوياً، فلماذا أحسّ بالوهن النفسي وأشعر بالضعف الجسدي؟

      نظر إلى الشمس فأحسّ كأنّها تُضاحكه، مستبشرةً فرحةً مسرورة، تُرسل نورها إلى عينيه، فيغمضهما خشية من أشعّتها الحارقة. أشعّة الشمس في هذا اليوم على غير عادتها، باردة وهادئة، قال في نفسه.. يجب الحذر منها.. أخشى من تأثيرها على شبكيّة عيني. ويُقال، إذا رأيت القوي فاحذر منه.. وفي الأثر القديم: لا تأمَن من الذي يفوقك قوة وعتاداً.. حتى لو كان جمادًا أو شجرةً أو كوكبًا في السماء؛ وها هي الأقدار السماوية تُشرق بقوّتها لتُنذر الناس عمّا اختلفوا فيه وما وهنوا به، فالحياة شروق وغُروب وجديدها نور وظلام، أيّام لا تختلف في إشراقتها ولا في غروبها ولكنّها تختلف أنّ يومٌ ولّى وأدبر ويوم عاد وأقبَل، والجديد أنّ الآتِ لا تزال تجربتنا به مجهولة وما قد ولّى تعلّمنا الكثير منه وتجربته مرّت وانصرفت، قد يختلف عن الذي سبقه بنشاطات الناس عليه وحيويّة إدارتهم بالطريقة التي هُم مُؤمنون بها. لذلك كان هذا اليوم؛ يوم ميلاد صفحة جديدة في الحياة، صفحة قُرأت ولن تعود أبدًا.
   قال في نفسه: لماذا أشْعر بأني لستُ كغيري؟ لماذا أشعُر بالعجز الجسدي؟ هل أنا امرؤٌ ضَعيف الإرادة؟ أم أنّ ظُروفي أصعب مِن ظروف غيري؟ في هذه اللحظة كان التوتّر والقلق يَنهشان فكره وعقله ونفسه.. شعر برغبة التغيير النفسي.. قلّب مزاجهُ، فكّر في خياراته واختطّ له مسارًا يُؤدّي بالضُرورة لتجاوز أسوار عجزه واقتحامها.. شعر براحة نفسية ثم خطا خُطوات في صالة لا يزيد طولها عن ستّة أو سبعة أمتار وأعاد لنفسه هاجس الخوف؛ وهذه المرّة ممزوجاً بالرّغبة التي تشدّهُ إلى اقتحام غير معهود، تلك الرغبة التي جُبل عليها ظنًا أنّهُ تجاوز عجزه الرّغبوي.
 
    طائرٌ افترش جناحيه في لحظة مِن الحميميّة التي تجمعه بأُنثاه وضمَّها إليه فمالت بجناحيها مودّة وأُلفة.. هكذا وبكل بساطة بدأت دورة حياة جديدة لذلك الطير.!! وبما أنّ "سعيد" لم يكن قد أعدّ في مُخيّلته، مِثل تلك الرّسائل التي تُعبّر عن ذلك البُعد غير الموجود في جسده كاللّحظة الحميميّة لذلك الطّيْر.. أسئلة دارت في رأسه، أسئلة فتحتْ المجال لاحتمالات كثيرة..  منها أنّ ذلك الطير جاء مُتعمّدًا ورُبّما من فِعله أو هي أفعال يُمارسها مع غيره الأضعف قوة، وتلك المُمارسة لا أخلاقية استهدفت حُلمًا مُعطّلًا.!
 
    ودارتْ رحى عصف الأسئلة تتكثّف في مُخيّلته، وانصبّت على تجذير موقف الرغبة الحميمية، بل أعطتهُ شكْلاً جديدًا من حريّة بعثتْ الخوف في داخله وتحرّكت بُرودة الجسد وأصابته في معقله؛ وحين أدرك أنّ الأمر يتطلّب بعضًا من انتشال مخاوفه، استدركه التفكير إلى التعمّق في شؤونه المُعَطّلة، وهل يا ترى هي مُعطّلة بطبيعتها أم عامل الخوف زادها تعطيلًا أم فطرة الحُلم عبثية لا أفق لها ولا تربطها رغبة جسدية لئلا يرتكب حماقة في أفقها وتُعطّل حريّة مفتوحة كان أجدر به أن يعتني بخواصها ولا يهدرها كل الهدر فيقعد بائسًا مهيضًا مكسور الرغبة، واهِن، عاجز لا فيض له ولا عون.
    
      أعاد التفكير في تجديد ما انغلق من شهوة وما تعطّل من حُلم، ورأى أنْ يستحدث طُرقًا تسعده وتدفعه إلى أنجح الأفكار والتخلّص من الخوف والانغلاق، لربما ذلك وهنٌ نفسي لا دخل له في القدرة والرغبة والشهيّة.
 
     وأعاد مشاهد حركة الطائر التي استقرت على طائر يبدو أنه ضعيف في مواجهة قوة أكبر، مكنتهُ من الاندفاع إلى الأفعال غير الحميدة. واستمر "سَعيد" يطرح تساؤلات على نفسه.. كيف عرف ذلك الطائر أنّ بقاءه يَعتمد على تلك اللحظات؟
     
     تنهّد "سعيد" بعُمق وقال في نفسه.. طائرٌ قضى وطَرهُ بطريقته، وأنا ...؟ سكت لم يبزم.. هزّ رأسه في حِيرة.. كيفَ عرف الطائر حاجته الجسدية؟ مشهد يتجسّد، يتخيّل مَشهد الطائر المُثير.. طائر يهويِ كالسهم، بطريقة فنية احترافية، مالَ بجناحيه ثم نقر رِيْش طائر قد استراح على عود شجرة امْبّا، شجرة الـ "مانجو " ثمرتها لذيذة مَلساء وناعمة.. لكنّها بطيئة النمو.. وحين وصل إلى هذه المفردة، فزّ من مكانه، ارتباك بدا عليه.. اختلاط أشياء لم يفهم تفاصيلها، أشياء صحيحة في إطار تكوينه، لكنّها تُعطّل حُلمه وفطرة تعصف به ولا تزيده إلّا ضعفًا عاثرًا، قوة جسدية بائسة لا تربطه به، غير وضعية رجولة، مظهرها لا ينفصل عن مخبرها، وبتلك الصّفات تشكّلت صفاته الجسدية، وصار محسوبًا على قوة الرجولة التي لا يُعرف ضعفها العاثر.
 
     اضطراب وقلق وضعف وخوف انتاب الطائر الأنثى، حين أرخى ذكر الطائر بجناحيه على الطائر الأنثى التي ضمّت جناحيها إلى جسدها، ربما خوف، ربما استعداد أو تهيئة أو أنّها فهمت مُرادهُ وتحصّلت على مرامها وبُغيتها، ووجد كلاهما فرصة سانحة أو نادرة، لتكون أكثر هدوءًا من غفوتها على عود شجرة الأمّبا " المانجو"، وبدت الطائر الأنثى بحركة لغة خاصة بينهما، مرّرت بمنقارها على عود شجرة "الأمّبا" وإذا بالطائر الذكر ينقر رقبتها بمنقاره، وأخذ يمسح به ظهرها، وكأنّه يُطبطب عليها ويدقّ فوق منقارها ويطبع حرفهُ الجميل، أو كأنّه يقول لها: لا سُبَات عميق، إيْذانًا برغبة مزعجة.

    كان قدر "سعيد" قاسٍ، أزعجه حينًا، ثم بدا يتأمّلها برغبة ويتابع تفاصيلها بدقة وحماسة لعلّها تردّ بعض حُلم تفاصيلها، وأقنعتهُ مُكابرة الطائر القوي وبدت المشاعر تزدهُ تحفيزًا لنشاط فيه أمل، يستشعر به ويجمع قواهُ ويدفعهُ إلى نشاطٍ مِثْله، وكان حرصه على مُتابعة التفاصيل، تعميرًا لتفاصيل لا كراهة أخلاق فيها، إنّما موقف الطائر استفزّه لمعرفة غريزة أودعها الخالق في وجدانه، وتمثّل له الطائرين، ليرى ما همّ به، فهذا برهان، ليُريه مفازةً تنزيهًا لعاقلٍ اجْتبى الإخلاص عن غرائز لا سِتر فيها.
 
   طائر يُمسّد بمنقاره منقار أنثاهُ، كأنّه يُطبطب عليها، يحنو بعاطفة طير ليس حاله كحال البشر، كأنّما منقاره يطبع قُبلة حرف جميل، ويمسح بتمريرته اختلاط الأشياء ويُعلن سلامتهِ ويُنجز كفاءته في أسرع عمليات التموضع بلا خوف ولا قلق ولا اضطراب، تمريرات نشطة زرعتْ في مُهجة عابرة، كدليل على تكاثر الصّنف.. بسَط الطائر جناحيه فضمّت الأنثى نفسها كأنّها خُدرت بضعف ومن ميلان جناحيه، علمت رغبته فاحتوته قبل أن تَفقد سَعيه أو تفقد لحظات عاطفة حنان لا قيود فيها ولا مُقاومة، فكلّما كانت تهتمّ به، كلما ثبت الطائر الذكر أنْ لا يطير إلى أخرى، يتصرّف الطائر الذكر ، ويستنسخ تجربة غيره ، ويكرّر الذكر الآدمي تجربته، يَستحمر بقوته ما كان عصيًّا وقاسيًا بغرور وجهل، وكأنّ الجهل والإسْتحمار تجربة يُفرضها على أنثاهُ، بتجربة قاسية لا يُراعي ضعفها ولا يهتم بنفسيّتها، لكن ذكورة الطائر لم تكن عصيّة على الطائر الأنثى بل واجهها بحركة العاطفة، فمالَ بجناحيه وبتلك الحركة خدرت الأنثى بلا ضعف واستكانتْ لقضاء رغبة مُستحبّة، ومضى الطائر الذكر قُدمًا لتسكن أنثاهُ في حنان جميل.
 
    تمتم سعيد سرًّا.. ماذا لو اجْتمعت رغبة الآدمي، الذكر والأنثى معًا وكتم كل منهما سرّ الآخر. وعاشا حياة لا مُنغّص فيها، تحقيقًا لاستمرار حُلم حياة جميلة لا مُعطّل فيها، تستحق مُقاومة أصغر الأشياء وأتفه حُلم.
 
 يتبع 2

مقالات مشابهة

  • قصة.. (حُلم معطّل -1)
  • جوارديولا: حزين لرحيل دي بروين.. وتعويضه شبه مستحيل
  • مصطفى الفقي: لهجة الغرب تجاه إسرائيل تغيّرت والضمير الدولي بدأ في الاستيقاظ
  • مصطفى الفقي: إسرائيل خرجت عن مفهوم الجريمة الدولية.. والغرب يمتلك أوراق ضغط
  • سعر الذهب في قطر اليوم الثلاثاء 20 فبراير 2025
  • محمد ثروت يحيى الذكرى الرابعة لرحيل سمير غانم بهذه الطريقة
  • هكذا تفاعل الفلسطينيون مع بيان الغرب ضد إسرائيل
  • الفرجاني: طرابلس شهدت سرقات كبيرة مؤخرًا.. ارجعتنا لما بعد فبراير مباشرة
  • قادة إسرائيليون يدعون لرحيل نتنياهو
  • ‎ الذكرى العاشرة  لرحيل معالي اللواء الركن فهد باشا جرادات وزير المالية الأسبق