ليبيا وبناء دولة.. الاشتراطات والتحديات
تاريخ النشر: 8th, July 2025 GMT
يأتي هذا المقال ضمن سلسلة مقالات متواصلة تسعى إلى إعادة قراءة الواقع الليبي قراءة شاملة؛ لا تكتفي برصد الظواهر والأحداث، بل تغوص في جذورها وتفكك أسبابها وتبحث في كل الاحتمالات الممكنة لفهمها.
سلسلة نحاول من خلالها أن نطرح الأسئلة الصعبة دون مواربة، وأن نلامس بجرأة جوهر المشكلة كما نراها: الإنسان الليبي وسلوكه وثقافته وتفاعله مع مجتمعه ودولته.
هي محاولة لتجاوز الاكتفاء بالتشخيص والنقد، وصولًا إلى فكرة جامعة قد تُقنع الليبيين – أو تُذكّرهم – بأن بناء الدولة ليس ترفًا سياسيًا ولا شعارًا نظريًا، بل هو مشروع له اشتراطات حقيقية تبدأ أولًا من داخل كل فرد قبل أن تُترجم في نصوص القوانين أو شكل المؤسسات.
ماذا يعني بناء الدولة؟
في هذا النص، نقترب خطوة أخرى من هذه الفكرة؛ نسأل بجرأة: ماذا يعني بناء دولة؟ وما الذي يمنعنا حتى الآن؟ وهل نحن حقًا مستعدون لدفع ثمنها وبناء الإنسان الذي يستطيع أن يقيمها؟
مشروع بناء الدولة يبدأ من بناء الإنسان
إن مشروع بناء الدولة الحقيقية لا يبدأ من الدستور أو المؤسسات فقط، بل يبدأ أولًا من بناء الإنسان نفسه: الإنسان الذي يفهم معنى الوطن، ويحترم القانون، ويعمل للصالح العام لا للمصلحة الضيقة.
الإنسان الذي يدرك أن تطور البشرية لم يأتِ فجأة، بل عبر تراكم تجارب واكتشافات وصراعات دفعت ثمنها غاليًا من الدماء والوقت، حتى وصلت إلى مرحلة الاستقرار والقوانين والدساتير والمؤسسات.
لكن في بلدنا ليبيا، ما زلنا نفتقر إلى هذه القناعة العميقة: أننا بحاجة إلى الإنسان الواعي الذي يقدّر قيمة الدولة الحديثة، لا الإنسان الذي يرى في الدولة مجرد غنيمة أو سلطة يوزعها بين القبيلة والمنطقة.
ليبيا عبر التاريخ… هل بُنيت الدولة بالإنسان؟
مرت ليبيا بمحطات تاريخية عديدة: من الجرمنت إلى الفينيقيين واليونان والرومان، ثم الفتوحات الإسلامية، فالعهد العثماني، فالاحتلال الإيطالي، ثم الاستقلال وبناء المملكة، وصولًا إلى الجمهورية والجماهيرية وعهد فبراير.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل ساهم الإنسان الليبي فعلاً في بناء دولة تستوعب هذا التاريخ الطويل؟
رغم أن الليبيين عاشوا مراحل اجتماعية وسياسية واقتصادية مليئة بالمعاناة والظلم أحيانًا، إلا أن تكوين الدولة بمعناها الحديث لم يكتمل. فلم تتشكل لدينا مؤسسات مستقلة قوية، ولا ثقافة قانون راسخة، بل بقيت الدولة أسيرة الولاءات الضيقة والسلطة الشخصية.
معضلة الواقع.. والوعي الغائب
كيف لنا أن نبني دولة ونحن نقدّم ابن القبيلة على الكفاءة؟
كيف نطالب بالديمقراطية بينما سلوكنا اليومي يتناقض مع أبسط مبادئها؟
كيف نطالب بالقانون ونحن لا نلتزم به إلا خوفًا من العقوبة؟
ولماذا لا نفصل بين الاجتماعي والسياسي؟ لماذا لا ننظر إلى الدولة ككيان عام نحافظ عليه جميعًا، بدل النظر إليها كغنيمة؟
ولماذا لا نعترف بأن الديمقراطية لن تُبنى في ظل وعي غائب وسلوك لا يعترف بالقانون إلا على الورق؟
المصالحة الوطنية… من الشعار إلى المشروع
كثر الحديث عن المصالحة الوطنية حتى تحولت إلى ملف ثابت في الخطابات والاجتماعات. لكنها في وجدان الإنسان الليبي لم تتحول بعد إلى مشروع حقيقي.
إن المصالحة الوطنية، في حقيقتها، ليست مجرد ورقة توقع أو بيان يعلن، بل هي حالة نفسية واجتماعية تحتاج وقتًا كافيًا لتنضج.
اليوم، يعيش كل الليبيين معاناة مشتركة: غياب الدولة، تراجع الخدمات، خوف من المستقبل، انهيار اقتصادي وبنية تحتية. هذه المعاناة وحدت الجميع بصمت تحت عبء الأزمة، وأوصلت الناس إلى قناعة أن استمرار الخصام لا يجلب سوى الخسائر.
مع زوال هذه المعاناة أو بدايات نهايتها، قد يعود الليبيون للتفكير الجدي في المصالحة الحقيقية: تلك التي تقوم على إرادة العيش المشترك، لا على اتفاقات مؤقتة.
إن المصالحة الوطنية، كغيرها من شروط بناء الدولة، تحتاج قبل كل شيء إلى الإنسان الواعِي: إنسان يؤمن بأن ما يجمعنا أكبر مما يفرقنا، وأن الوطن لا يُبنى بالانتقام أو إقصاء الآخر، بل بالحوار والقبول والتعاون.
من أين نبدأ… وكيف نبدأ؟
تبقى كل هذه الأفكار جميلة ما لم تتحول إلى فعل. والسؤال الحقيقي هو: من أين نبدأ؟ وكيف نبدأ؟
نبدأ من أنفسنا: أن نغير سلوكنا اليومي، أن نحترم القانون في أبسط التفاصيل، أن نرفض الغش، أن نؤدي أعمالنا بإخلاص دون انتظار مقابل.
نبدأ بأن نقتنع أن الوطن لا يبنيه الحاكم وحده، بل يُبنيه المواطن أولًا.
ومتى نكون مستعدين؟ اللحظة المثالية للتغيير وهم… البداية الحقيقية دائمًا تكون الآن. كل تأجيل هو هدية للفوضى، وكل خطوة صادقة هي حجر في بناء الدولة التي نطمح إليها.
خاتمة ورسالة أخيرة
إن بناء الدولة في ليبيا ليس حلمًا بعيدًا، بل هو واقع يحتاج منا أن نواجه أنفسنا بصدق، ونتجاوز أوهام الماضي، ونؤمن بأن التغيير يبدأ من الفرد قبل المؤسسات.
هذا المقال هو خطوة ضمن رحلة مستمرة نأمل أن تقودنا إلى فهم مشترك، وقناعة جماعية، بأن اشتراطات بناء الدولة ليست خيارًا بل ضرورة حتمية، وأن الطريق إلى ليبيا الجديدة يمرّ أولًا عبر بناء الإنسان الواعي والمواطن المسؤول.
ونحن نختم هذا النص، يجب أن نفهم جميعًا أن ليبيا هي بيتنا الكبير، وأن بناء هذا البيت لا يتم إلا إذا اتفقنا على احترام بعضنا البعض، بلا تمييز ولا تفاضل بين قبيلة وأخرى أو عائلة وأخرى. تعالوا نجلس ونتحاور ونتفاهم على خيارنا الوطني، باتفاق جماعي نتحمل فيه المسؤولية معًا، فنصنع وطنًا يسعنا جميعًا.
أتمنى أن يجد هذا المقال طريقه إلى كل ليبي، عبر منصات التواصل الاجتماعي ومختلف وسائل الاتصال، ليصل إلى يد كل من يهتم بمستقبل ليبيا، ويكون جزءًا من النقاش الوطني الجاد حول بناء الدولة.
فليبيا الحقيقية تبدأ بوعي كل فرد منا، وبمشاركته الفعّالة في صناعة مستقبل أفضل لوطننا جميعًا.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: المصالحة الوطنیة الإنسان الذی بناء الإنسان بناء الدولة جمیع ا
إقرأ أيضاً:
الحدود الشرقية.. دولة داخل الدولة
في خضم الأزمة الاقتصادية والسياسية العميقة التي يعيشها لبنان، تزداد التساؤلات حول طبيعة السيطرة الفعلية للدولة على كامل أراضيها، ولا سيما في المناطق الحدودية الشرقية مع سوريا، التي تشهد منذ سنوات تصاعدًا واضحًا في عمليات التهريب المنظم، خصوصًا لمواد كالكبتاغون والحشيش، وأحيانًا الأسلحة. ففي حين ينفذ الجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية عمليات متكررة لضبط معامل تصنيع المخدرات ومسارات التهريب، فإنّ حجم هذه الظاهرة واتساع بنيتها التنظيمية يطرحان علامات استفهام جدية حول وجود "نظام موازٍ" يعمل خارج سلطة الدولة، ويتقاطع أحيانًا مع غياب الرقابة، أو حتى تساهل بعض الجهات المحليّة.منذ بداية العام 2025، كثّف الجيش والأمن العام عمليات الدهم في البقاع الشمالي، وكان أبرزها العملية التي جرت في 8 كانون الثاني داخل بلدة اليمونة، حيث تم ضبط معمل تصنيع كبتاغون يحتوي على نحو 50 مليون حبّة، إضافة إلى تجهيزات متطورة تدل على وجود استثمار مالي ضخم في هذه الصناعة غير الشرعية. لكن على الرغم من ذلك، تواصل تقارير أمنية التأكيد أن هذه الشحنات لا تمثل سوى نسبة محدودة من الحجم الفعلي للتهريب الذي يتم عبر سلسلة من المعابر غير الشرعية، الممتدة من القاع إلى مشاريع القصر وجرود الهرمل.
مصادر ميدانية في الأجهزة الأمنية تؤكّد لـ"لبنان24" أن عدد المعابر غير الشرعية النشطة لا يزال كبيرا، وفي حين يتم إعلاق معبر، يتم فتح آخر خلال 72 ساعة كحدّ أقصى، يُستخدم بعضها حصريًا لنقل المخدرات، ويُدار من قبل مجموعات منظّمة تمتلك آليات نقل، وأجهزة تشويش، وأحيانًا تغطية من عناصر عشائرية أو نافذين محليين.
لا تقف خطورة هذه الشبكات عند حدود التهريب فقط، بل تتعداها إلى دورها المتنامي في إدارة الشؤون المحليّة في بعض القرى، حيث باتت تُستخدم العائدات الناتجة عن الاتجار غير المشروع لتقديم خدمات بديلة عن تلك التي يفترض بالدولة أن تؤمنها: مياه، كهرباء مولدات، وظائف محلية، ودعم لبعض العائلات. ويؤكد المصدر الأمني لـ"لبنان24" أن ما يجري اليوم في تلك المنطقة يقترب في تركيبه الوظيفي من نموذج "الاقتصاد الموازي"، حيث تُدار قطاعات واسعة من الحياة اليومية خارج الدولة، وبتمويل ناتج عن أنشطة غير قانونية، ما يجعل من الصعب فرض القانون لاحقًا من دون كلفة اجتماعية عالية.
أضاف:" هذه الظاهرة تنمو في فراغ متعدد الأوجه: غياب الخطط التنموية، ضعف المؤسسات الرسمية، وتراجع ثقة المواطنين بالدولة كراعٍ وحيد للأمن والعدال".
على الرغم من الإمكانيات المحدودة، تُسجّل القوى الأمنية اللبنانية نجاحات متفرقة في ضبط الشحنات والمعامل، لكن طبيعة الأرض، وقوة الشبكات، ونقص التنسيق الداخلي، عوامل جميعها تعيق تحقيق اختراق حاسم. وتؤكد المعلومات أنّ التعاون الأمني مع الجانب السوري يقتصر على تنسيق محدود، غير منظم، وغالبًا ما يرتبط باعتبارات سياسية أو ظرفية.
إن الحديث عن "دولة داخل الدولة" لا يجب أن يُفهم فقط كاتهام سياسي، بل كمؤشّر على فشل متراكم في إدارة مناطق الأطراف. إذ لا يمكن القضاء على التهريب ما لم تُقدَّم بدائل اقتصادية حقيقية، وخطط زراعية بديلة، واستثمارات في البنى التحتية، تعيد دمج المناطق الحدودية في مشروع الدولة. الاعتماد على الحلول الأمنية وحدها قد يؤدي إلى نتائج ظرفية، لكنه لن يغيّر المعادلة على المدى الطويل. كما أن تأخير بناء استراتيجية متكاملة لمراقبة الحدود سيُبقي لبنان مكشوفًا أمنيًا وسياسيًا، ويدفع مزيدًا من المجتمعات المحلية إلى الارتهان لمصادر نفوذ غير رسمية.
ما يجري على الحدود الشرقية ليس مجرّد تهريب متفرق أو ضعف عابر في الرقابة، بل هو مشهد متكامل لشبكات تنشط في ظل فراغ مؤسساتي واضح، وتُعيد إنتاج سلطة موازية مدعومة بالمال، والموارد، والعلاقات. لا يمكن عزل هذا الواقع عن أداء الدولة نفسه. إذ أنّ غياب الاستثمار التنموي، وتراجع حضور الدولة الخدماتي، وتدني رواتب القوى الأمنية، جعل من الصعب ترسيخ سيادة القانون. القوى الأمنية في تلك المناطق تعمل بقدرات محدودة، وتواجه ضغوطًا اجتماعية، ومخاطر أمنية، من دون غطاء سياسي موحَّد أو دعم لوجستي مستدام. كما أن سكان هذه المناطق يشعرون بأن الدولة لا تمثلهم، بل تحضر فقط عند الأزمات أو حملات المداهمة، مما يغذّي مناخ العداء المتبادل، ويدفع المجتمعات المحلية إلى البحث عن بدائل أمنية واقتصادية ضمن محيطها الضيق.
وفي سياق متصل كان لافتا البيان الذي اصدرته قيادة الجيش واكدت فيه" الاستمرار في التواصل مع السلطات السورية، واتخاذ التدابير الاعتيادية اللازمة لضبط الحدود ومنع أي مساس بالأمن". المصدر: خاص "لبنان 24" مواضيع ذات صلة مندوب اليمن بمجلس الأمن: لن يتحق السلام في المنطقة بدون قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية Lebanon 24 مندوب اليمن بمجلس الأمن: لن يتحق السلام في المنطقة بدون قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية