لجريدة عمان:
2025-07-07@22:51:22 GMT

التداخل بين المعارف والتخصصات العلمية - 1

تاريخ النشر: 20th, August 2024 GMT

نشرت جريدة «المصري اليوم» مؤخرًا مقالًا مهمًّا للدكتور عصام عبد الفتاح عن «وحدة المعرفة» التي تتجلى في «الدراسات البينية»، أي في تداخل المعارف والتخصصات، الذي بات أمرًا مسلَّمًا به في البحث والتعليم الجامعي في كل الجامعات الكُبرى حول العالم. وهذا ما سبق أن نوهت إليه باعتباره إحدى مشكلات التعليم في واقعنا العربي عمومًا وليس في مصر وحدها، وهي مشكلة حقيقية ورئيسة تعكس عوارًا وضعفًا في التعليم والبحث العلمي في كثير من الجامعات العربية.

يتبدى هذا على أنحاء عديدة، ولكنه يتبدى ابتداءً بشكل فج في تصوراتنا الزائفة والساذجة عن طبيعة المعرفة ذاتها، والتمييز الطبقي بينها على نحو يجعل المعرفة المتعلقة بالعلوم الطبيعية والرياضية في مرتبة أسمى من غيرها، ومن ثم يجعلها المعرفة الجديرة بالتعلم، أما غير ذلك من أشكال المعرفة، فهي معرفة لا يعتد بها ما دامت لا تحتذي هذه العلوم؛ لأنها ستكون عندئذ أقرب إلى التأملات الفلسفية، وستكون غير موثوقة في أفضل الأحوال، بحيث لا يمكن مقارنتها بالعلوم الطبيعية والرياضية التي تُسمى بالعلوم الدقيقة exact sciences. وربما يفسر لنا هذا سبب استعلاء المتخصصين في العلوم الدقيقة على غيرهم من المتخصصين في العلوم الإنسانية، بل نلمسه حتى في استعلاء المتخصصين في الطب الذي لا يعد من العلوم الدقيقة، وإنما يقع على حدودها أو في ذيلها. يحدث هذا بدرجات متفاوتة في عالمنا العربي وأشباهه من العوالم التي لا يزال التعليم فيها متخلفًا، وهي العوالم التي يسود فيها ما يُسمى بالنزعة التعالمية scientism، وهي النزعة التي لا تزال تنظر إلى العلم- كما تأسس منذ قرون على يد فرانسيس بيكون Bacon- كمنطق في البحث التجريبي؛ ومن بعد على يد الوضعيين المناطقة باعتباره المنطق المشروع في بلوغ الحقيقة واليقين!

إن المشكلات التي ترتبت على تطبيقات العلم في مجال البيئة تعد مثالًا بارزًا هنا قد فرض نفسه على التأمل والبحث بحكم الحاجة والضرورة، فلم تعد البيئة مجرد مجال من البحث في العلوم الطبيعية المستقل بذاته عن العلوم الإنسانية. كما أن هذه الضرورة قد فرضت علينا أيضًا النظر في الصلة بين التكنولوجيا وفلسفة الأخلاق (أي في أخلاقيات التكنولوجيا)، وفي المشكلات الأخلاقية للطب medical ethics، وذلك من قبيل: الإجهاض، والقتل الرحيم، وغير ذلك من المشكلات الفلسفية التي تقع في نطاق فلسفة الأخلاق، والتي تناولتها من قبل في مقالات عديدة في هذه الجريدة الرصينة. وهذا يعني أن المعرفة في عصرنا الآن أصبحت متداخلة ومتكاملة؛ وبالتالي لم يعد من الممكن دراسة ظاهرة ما، بما في ذلك الظواهر الطبيعية الخالصة، بمنأى عن الظواهر الإنسانية المصاحبة لها؛ ولعل ظواهر التغير المناخي تكون مثالًا بارزًا هنا. وعلى نحو مشابه، لا يمكننا أن نتصور الهندسة المعمارية من دون ما يرتبط بها من دراسات في علم الجمال الفلسفي الخاص بجماليات فن المعمار، ومن دون الدراسات الاجتماعية التي تتعلق بعلم اجتماع العمران، أي بحاجات الناس وميولهم وإرثهم التاريخي وأساليب حياتهم. ويحضرني هنا مثال بارز يتعلق بعلم الطب وما يتعلق بالصحة العامة: فقد تبين للعلماء في الطب أن صحة البدن وأمراضه هي مسألة وثيقة الصلة بنمط الحياة الاجتماعية، وأن هناك أمراضًا خطيرة تتعلق بأسلوب الحياة، وهذا ما أظهرته دراسات عديدة موثوقة تَبين من خلالها أن القبائل التي تعيش في الأمازون بمنأى عن ضغوط الحياة التي يعيشها الناس في المدن، يكون أفرادها أقل قابلية إلى حد كبير لأمراض القلب: فأمراض القلب وضغط الدم وما شابهها قد تكون مرتبطة إلى حد كبير بنمط وأسلوب الحياة. ومن النادر أن تجد طبيبًا في واقعنا يسألك عن شيء من نمط وأسلوب حياتك قبل أن يصف لك الدواء. هذا مجرد مثال تبسيطي على ما أود أن أقوله عن تكامل وتداخل المعرفة العلمية.

والواقع أن المعرفة في الأصل لم تكن تعرف هذا الانفصال بين مجالات المعرفة؛ ومن هنا فإننا يمكن أن نرى أن الإبداع في العلم ينبع دائمًا من هذا الفهم ومن تلك الحقيقة، فحتى النظريات العلمية الكبرى كانت تنبع دائمًا من رؤى فلسفية ومتخيلة للعالم. وبطبيعة الحال، فإنني لا أهدف من وراء هذا كله إلى القول بإسقاط الحدود بين التخصصات العلمية الدقيقة أو عدم الاعتراف بأهميتها، فذلك أبعد ما يكون عن غايتنا: فما أود التأكيد عليه هو أن كل تخصص علمي لا بد أن يتقاطع أو يتداخل مع تخصصات أخرى متشابكة معه على نحو لا فكاك منه، وأنا أرى في ذلك معيارًا للتمييز بين العلماء وأشباه العلماء أو ما أسميهم «بالمتعالمين»! ولهذا أرى أن الصغار من أساتذة الجامعات والباحثين هم أولئك الغارقون في تخصصهم الأكاديمي الضيق، وتراهم ينظرون إلى العالم وإلى الحياة من خلال هذا المنظور الضيق، فلا يعرفون أن يوسعوا من أفق نظرتهم الضيقة التي لا تستطيع أن تحيط بشيء من العالم الفسيح. العالِم حقًّا هو ذلك الذي كلما تعمق في تخصصه وجد أن جذور تخصصه تمتد إلى مجالات أخرى تتقاطع معه.

ولكن ما أود قوله في النهاية إن الحاجة إلى وحدة المعرفة أو تكاملها ليست مجرد مسألة تخص التعليم العالي والبحث العلمي، وإنما هي مسألة تتعلق برؤيتنا للمعرفة؛ ومن ثم للتعليم في عمومه، بما في ذلك التعليم قبل الجامعي، وذلك أمر لا يتسع هذا المقام لتفصيل القول فيه. وللحديث بقية.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

دراسة ضخمة تكشف بصمات الذكاء الاصطناعي في ملايين الأبحاث العلمية

من المحتمل أنك قرأت محتوى عبر الإنترنت دون أن تدرك أنه كُتب جزئياً أو كلياً بواسطة نموذج لغوي ضخم (LLM) مثل ChatGPT أو Google Gemini. 

ومع تطور هذه النماذج في إنتاج نصوص شبه بشرية، بات من الصعب تمييز ما إذا كانت المادة ناتجة عن عقل بشري أم عن ذكاء اصطناعي.

هذا التحدي أثار مخاوف داخل الأوساط الأكاديمية من أن الذكاء الاصطناعي بدأ يتسلل بصمت إلى الأبحاث العلمية المحكمة.

تحليل 15 مليون ملخص بحثي على PubMed

لمعرفة مدى انتشار استخدام الذكاء الاصطناعي في الكتابة الأكاديمية، قام فريق من الباحثين الأميركيين والألمان بتحليل أكثر من 15 مليون ملخص لمقالات طبية منشورة على منصة PubMed.

نشرت الدراسة التي في مجلة Science Advances كشفت أن 13.5٪ من المقالات العلمية المنشورة في عام 2024 تمت كتابتها باستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل كلي أو جزئي.

وبحسب الباحثين، فإن هذا الرقم اعتمد على تحليل نمط استخدام كلمات معينة "أسلوبية وبلاغية" ازدادت بشكل لافت بعد إطلاق ChatGPT، ما يشير إلى تدخل النماذج اللغوية في صياغة النصوص الأكاديمية.

تحذير من رئيس فورد: الذكاء الاصطناعي يهدد ملايين الموظفين حول العالمأوروبا تُصعّد ضد جوجل: البحث بالذكاء الاصطناعي في قلب الجدلاستخدم مفاتيح مرور مضادة للتصيّد لحماية حساباتك من تهديدات الذكاء الاصطناعيوكلاء الذكاء الاصطناعي قد يسرّبون بياناتك... ندوة مجانية تشرح كيفية الحمايةالاتحاد الأوروبي يؤكد استمرار خطة تشريعات الذكاء الاصطناعي في موعدهاإكس تختبر كتابة “ملاحظات المجتمع” بالذكاء الاصطناعيميتا تطور واتساب للأعمال بميزات جديدة بالذكاء الاصطناعيالذكاء الاصطناعي يتحول إلى فخ.. هجمات تنتحل صفة ChatGPT تستهدف الملايينسام ألتمان: الكمبيوترات الحالية عاجزة عن مواكبة ثورة الذكاء الاصطناعيتحوّل لغوي واضح بعد ظهور ChatGPT

بدلاً من الاعتماد على مقارنة نصوص من إنتاج بشري ونصوص تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي – وهي طريقة معرضة للتحيز – لجأ الباحثون إلى تحليل ما يُعرف بـ"الزيادة المفرطة في استخدام كلمات معينة" قبل وبعد إطلاق ChatGPT، وهي منهجية مستوحاة من أبحاث الصحة العامة خلال جائحة كورونا التي اعتمدت على تحليل "الوفيات الزائدة" لتقدير الأثر.

وتبين أنه منذ بدء استخدام نماذج LLM على نطاق واسع، حدث تغير ملحوظ في نوعية الكلمات المستخدمة، حيث قل الاعتماد على "كلمات المحتوى" مثل الأسماء، وزاد استخدام "كلمات أسلوبية مزخرفة" مثل: showcasing (عرض)، وpivotal (محوري)، وgrappling (يصارع).

تغيّرات في طبيعة الكلمات المستخدمة في الأبحاث

أظهرت الدراسة أن قبل عام 2024، كانت 79.2٪ من الكلمات الزائدة المستخدمة في الملخصات عبارة عن أسماء. أما في عام 2024، فتحول التركيز إلى الأفعال بنسبة 66٪، وإلى الصفات بنسبة 14٪، ما يشير إلى طابع لغوي أكثر "سلاسة وتزييناً" يرتبط غالباً بإنتاج الذكاء الاصطناعي.

اختلافات حسب التخصصات والبلدان والدوريات

رصد الباحثون أيضاً فروقاً كبيرة في استخدام نماذج LLM بين مختلف التخصصات العلمية، والبلدان، والمجلات الأكاديمية.

 وتُظهر هذه النتائج أن الذكاء الاصطناعي أصبح جزءاً من أدوات الباحثين حول العالم، لكنه يثير في الوقت ذاته تساؤلات حول أصالة النصوص الأكاديمية، ودقة نتائجها، وشفافية عملية النشر العلمي.

خلاصة

مع تزايد اعتماد الباحثين على أدوات الذكاء الاصطناعي في الكتابة، يبدو أن الخط الفاصل بين النص البشري والآلي يزداد غموضاً. 

وبينما يمكن أن تسهم هذه الأدوات في تحسين الكفاءة، فإنها تطرح تحديات تتعلق بالمصداقية، والأمانة العلمية، وأخلاقيات البحث

طباعة شارك الذكاء الاصطناعي ChatGPT Google

مقالات مشابهة

  • مؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة تدشّن النسخة العاشرة من «قمَّة المعرفة»
  • “الوطني للتنمية” يواصل أعمال إنشاء مجمع قاعات المؤتمرات العلمية بمستشفى ابن سينا
  • التعليم تصدر توضيحاً بشأن التحقيق مع 8 جامعات لا تلتزم بـالنزاهة العلمية
  • بالأرقام.. تعرف على مأساة الحياة والنزوح في غزة
  • القصبي: تعديلات قانون التعليم منحت الطالب العديد من البدائل حتى يختار المناسب له من العلوم
  • دراسة ضخمة تكشف بصمات الذكاء الاصطناعي في ملايين الأبحاث العلمية
  • المعرفة وهندسة القرار
  • وظائف الكهرباء 2025.. موعد التقديم والتخصصات المطلوبة
  • البرامج الصيفية .. تنوع وابتكار في المعارف والمهارات
  • إجابات امتحان الثقافة العلمية توجيهي 2025 في فلسطين الفرع الأدبي