تأريخ الوقائع شعرا.. من سقوط العثمانيين لما قبل النكبة
تاريخ النشر: 20th, September 2024 GMT
لطالما كان الشّعر العربي على مرّ العصور حاضرا في تأريخ الأحداث المهمة وتخليدها، وكذلك كان حاله في العصر الحديث منذ بداية القرن الـ19 مع انطلاق حركات البعث والتجديد في الشعر العربي وتنوع مدارسه؛ كالمدرسة التقليدية بريادة البارودي وأمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم، التي دعت إلى ضرورة البعث والإحياء في الشعر العربي؛ ومدرسة الديوان التي دعت إلى التجديد في الشعر، وجعلت من الرومانسية وتثمين الوجدان منهجا لها تأثرا بالآداب الغربية، وكانت بريادة العقاد والمازني وشكري، الذين شنوا هجوما عنيفا على أنصار المدرسة التقليدية لأنهم لم يميلوا إلى تبسيط الشعر بما يوائم العصر الحديث وينسجم مع معطياته الجديدة؛ والمدرسة المهجرية بزعامة ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، وهي الوجه الآخر لمدرسة الديوان في الغرب؛ وكذلك مدرسة مطران وأبولو الداعية إلى التجديد بدون صخب الخلافات والمعارك مع المدارس الأخرى، وغيرها من اتجاهات تبنت الشعر الحر وشعر التفعيلة وصولا إلى قصيدة النثر.
ولأن الشاعر مهما كان توجهه وانتماؤه يبقى ابن بيئته يتأثر بها ويؤثر فيها؛ بقي الشعر مرآة فردية تعكس ما في نفس الشاعر، ومجتمعية تترجم آلام أفراد المجتمع وتعكس آمالهم وتصور معاناتهم وخيباتهم وتصف أفراحهم وتخلّد انتصاراتهم. ولا نقصد بتوثيق الأحداث والوقائع شعرا أن يقتصر الشعر على سرد الحدث ووصفه، فتناولُ الشاعر للواقعة شعرا يعني نقلها بصورة تنبض بالحياة وتعج بالمشاعر وتؤثر في الجماهير لخلق فعل واستجابة لديهم أو للتنفيس عنهم. وفيما يلي عرض لبعض الوقائع المهمة الخالدة عبر التاريخ في الشعر العربي الحديث.
كانت مدينة أدرنة الواقعة في غرب تركيا حاليا والتابعة للخلافة العثمانية عاصمة للدولة العثمانيّة من عام 1365م إلى فتح القسطنطينية عام 1453م. وفيها كثير من مقابر السلاطين وآثارهم، وعند اندلاع حرب البلقان الأولى في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1912م بين الدولة العثمانية واتحاد دول البلقان خسرت الدولة العثمانية كثيرا من أراضيها في أوروبا، من بينها مدينة أدرنة التي جهزت بحصون منيعة وكان سقوطها صعب المنال لولا الحصار الطويل الذي امتد 5 أشهر فأنهكها. وقد أرخ الشاعر أحمد شوقي لسقوطها شعرا، مخاطبا إياها مستذكرا تداعي المدن والحصون وهزيمة المسلمين في الأندلس، إذ قال:
يا أُختَ أَندَلُسٍ عَلَيكِ سَلام
هَوَتِ الخِلافَةُ عَنكِ وَالإِسلامُ
نَزَلَ الهِلالُ عَنِ السَماءِ فَلَيتَها
طُوِيَت وَعَمَّ العالَمينَ ظَلامُ
أَزرى بِهِ وَأَزالَهُ عَن أَوجِهِ
قَدَرٌ يَحُطُّ البَدرَ وَهوَ تَمامُ
جُرحانِ تَمضي الأُمَّتانِ عَلَيهِما
هَذا يَسيلُ وَذاكَ لا يَلتامُ
بِكُما أُصيبَ المُسلِمونَ وَفيكُما
دُفِنَ اليَراعُ وَغُيِّبَ الصَمصامُ
وَاليَومَ حُكمُ اللَهِ في مَقدونِيا
لا نَقضَ فيهِ لَنا وَلا إِبرامُ
كانَت مِنَ الغَربِ البَقِيَّةُ فَاِنقَضَت
فَعَلى بَني عُثمانَ فيهِ سَلامُ
ويكمل مخاطبا المدينة مواسيا أهلها سائلا لهم الصبر، فقد غاب صوت الأذان فيها وغُربت المساجد بمنع إقامة الصلاة وخطب الجمعة بعدما كانت تضج بالمسلمين وتتزين بعباداتهم وشعائرهم، فيقول:
صَبرا أَدِرنَةُ كُلُّ مُلكٍ زائِلٌ
يَوما وَيَبقى المالِكُ العَلّامُ
خَفَت الأَذانُ فَما عَلَيكِ مُوَحِّدٌ
يَسعى وَلا الجُمَعُ الحِسانُ تُقامُ
وَخَبَت مَساجِدُ كُنَّ نورا جامِعا
تَمشي إِلَيهِ الأُسدُ وَالآرامُ
يَدرُجنَ في حَرَمِ الصَلاةِ قَوانِتا
بيضَ الإِزارِ كَأَنَّهُنَّ حَمامُ
وَعَفَت قُبورُ الفاتِحينَ وَفُضَّ عَن
حُفَرِ الخَلائِفِ جَندَلٌ وَرِجامُ
في ذِمَّةِ التاريخِ خَمسَةُ أَشهُرٍ
طالَت عَلَيكِ فَكُلُّ يَومٍ عامُ
تأريخ فاجعة سقوط الخلافة شعراوحين سقطت الخلافة العثمانية وحل محلها الحكم الجمهوري أرخ أحمد شوقي للحدث تأريخا أشبه بالرثاء يعبر فيه عن مشاعر الحزن والأسى على تفكك دولة الإسلام وانتهائها ليبدأ بعدها عهد الجمهوريات والقوميات المتعددة، مشبّها الخلافة العثمانية بالعروس التي كُفنت بثوب زفافها وتحول زفافها إلى مأتم تبكيها فيه دول المسلمين التي نُكبت بهذا السقوط؛ إذ قال:
عادَت أَغاني العُرسِ رَجعَ نُواحِ
وَنُعيتِ بَينَ مَعالِمِ الأَفراحِ
كُفِّنتِ في لَيلِ الزَفافِ بِثَوبِهِ
وَدُفِنتِ عِندَ تَبَلُّجِ الإِصباحِ
شُيِّعتِ مِن هَلَعٍ بِعَبرَةِ ضاحِكٍ
في كُلِّ ناحِيَةٍ وَسَكرَةِ صاحِ
ضَجَّت عَلَيكِ مَآذِنٌ وَمَنابِرٌ
وَبَكَت عَلَيك مَمالِكٌ وَنَواحِ
الهِندُ والِهَةٌ وَمِصرُ حَزينَةٌ
تَبكي عَلَيكِ بِمَدمَعٍ سَحّاحِ
وَالشامُ تَسأَلُ وَالعِراقُ وَفارِسٌ
أَمَحا مِنَ الأَرضِ الخِلافَةَ ماحِ
كانت مدينة إسطنبول تعرف في السابق لدى جموع العرب بالأستانا، وكانت تسمى "الفروق" أيضا، وبهذا الاسم خاطبها الشاعر أحمد محرم في قصيدته التي عنونها بـ"الخلافة الإسلامية ونكبة آل عثمان"، وتحدث فيها عن نكبة المسلمين بسقوط الخلافة وتفرق أمرهم من بعدها.
واعتمد في قصيدته أسلوب الخطاب والسؤال مستنكرا ما حدث، وهو بذلك يذكرنا بقصيدة أبي البقاء الرندي أيضا في رثاء مدن الأندلس، فقد قال أحمد محرم مخاطبا مدينة إسطنبول:
أعن خطبِ الخلافةِ تسألينا
أجيبي يا (فَروقُ) فتىً حزينا
هَوىَ العرشُ الذي استعصمتِ منه
بِرُكنِ الدَّهرِ واسْتعليتِ حينا
فأين البأسُ يقتحمُ المنايا
ويلتهمُ الكتائبَ والحصونا
وأين الجاهُ يَغمرُ كلَّ جاهٍ
وإن جَعَلَ السِّماك له سفينا
مَضى الخُلفاءُ عنكِ فأينَ حَلُّوا
وكيفَ بَقيتِ وحدكِ خبّرينا
ثم يخاطب قصر يلدز الشهير متعجبا مما حلَّ به بعد ما كان يزهو على غيره من بدائع العمران الفريدة بجمال ورفعة وسؤدد ومجد:
أيلدزُ ما دهاك وأيُّ رامٍ
رماك فهدَّ سؤدُدَك المكينا
خَفضت له الجناحَ وكنت قِدما
حِمَى الخلفاءِ يأبى أن يدينا
ويتابع خطاب الأستانا حزينا على ما أصابها، مشبها إياها بالشعلة التي خفت نورها، والضياء الذي تبدد في الظلام، ويخاطب خلفاء بني عثمان معزيا مذكرا إياهم بضرورة الصبر والتحلي بالإيمان، والتفكير بواجب المرحلة، فالخلافة فقدت مكانتها وأهميتها وجلالها ونخرها الفاسدون من الداخل وتناهبها الطامعون؛ إذ يقول:
وجلَّلكِ الظّلامُ وكنتِ نورا
يَفيضُ على شُعوبِ المُسلِمينا
تزاورتِ الكواكبُ عنكِ وَلْهَى
تُقلِّبُ في جَوانِبكِ العُيونا
تحيَّر فيكِ هذا الدّهرُ حتّى
لقد ظنّتْ حوادثُه الظُّنونا
فصبرا إن أردتِ أو التياعاً
وسَلْوَى عن قطنيكِ أو حنينا
بني عثمانَ إنْ جَزَعا فَحقٌّ
وإن صبرا فخيرُ الصّابرينا
أَعِدُّوا للنّوائبِ ما استطعتم
من الإيمانِ وادَّرِعُوا اليقينا
وما نَفْعُ الخلافةِ حين تُمسِي
حديثَ خُرافةٍ للهازلينا
ثَوتْ تَتجرَّعُ الآلامَ شتَّى
على أيدي الدُّهاةِ الماكرينا
تأريخ مذبحة دنشواي شعرالم يغفل شعراء العصر الحديث عن التكلم على معاناة الناس في البلاد والمدن التي ينتمون إليها ويعشون فيها، ففي مصر في قرية دنشواي بالتحديد، وهي قرية تابعة لمحافظة المنوفية، حدثت مجزرة بشعة على أيدي الإنكليز آنذاك، وكان سببها خروج ضباط إنكليز لصيد الحمام، فاندلع حريق بسبب البارود المتطاير في موسم حصاد القمح وقتلت امرأة مصرية بالرصاص خطأ، فثار الأهالي ولاحقوا الضباط الإنكليز ليقتصوا منهم، فأطلق الضباط النار على الأهالي عشوائيا فأصابوا شيخ الخفر الذي جاء لتهدئة الناس.
وتذكر الأخبار التي وثقت الحادثة أن ضابطا إنكليزيا مات بضربة شمس في تلك الأثناء انفعالا وتأثرا بشدة الحرارة، وقد أكد الأطباء الإنكليز ذلك، غير أن اللورد الإنكليزي كرومر لم يصدق أو لم يقبل هذه الرواية، فأمر بالقبض على عدد كبير من الأهالي وحاكمهم في محاكمة يحفظها التاريخ بوصفها من أغرب المحاكمات على الإطلاق.
فقد نصبت المشانق قبل المحاكمة وصدور الحكم، وانتهت بإعدام 4 من الأهالي، كان أحدهم قد تجاوز الـ75 من عمره، والحكم بالجلد والسجن والأعمال الشاقة على الآخرين، وكان عددهم كبيرا ونفذت الأحكام أمام أعين الناس وعائلات المحكومين وأطفالهم إمعانا في الانتقام والقهر والذل والتخويف.
وارتفعت أصوات الأحرار في بقاع الأرض تنديدا بهذه الجريمة البشعة، ومنهم الأديب الإنجليزي جورج برنارد شو الذي قال: "إذا كانت الإمبراطورية البريطانية تريد أن تحكم العالم كما فعلت في دنشواي فلن يكون على وجه الأرض واجب سياسي مقدس وأكثر إلحاحا من تقويض هذه الإمبراطورية وقمعها وإلحاق الهزيمة بها".
ولم يغب ذكر هذه الجريمة والمأساة الكبيرة عن شعراء مصر الكبار الذي أرخوا للواقعة واصفين فداحة المشهد ومعاناة الناس آنذاك، فلننظر إلى ما قاله حافظ إبراهيم في أبياته الآتية واصفا تلك المذبحة مخاطبا السلطات مستنكرا تسوية البشر لديهم بالحمام من جهة، وإعلاء شأن الضابط الإنكليزي مقابل الأهالي المواطنين الأصليين الذين استعبدوا واستغلوا ردحا طويلا من الزمن من جهة ثانية، وكان القصاص منهم انتقاما في حقيقته وترويعا لهم ولغيرهم؛ فقد قال:
أَيُّها القائِمونَ بِالأَمرِ فينا
هَل نَسَيتُم وَلاءَنا وَالوِدادا
خَفِّضوا جَيشَكُم وَناموا هَنيئا
وَاِبتَغوا صَيدَكُم وَجوبوا البِلادا
وَإِذا أَعوَزَتكُمُ ذاتُ طَوقٍ
بَينَ تِلكَ الرُبا فَصيدوا العِبادا
إِنَّما نَحنُ وَالحَمامُ سَواءٌ
لَم تُغادِر أَطواقُنا الأَجيادا
لا تُقيدوا مِن أُمَّةٍ بِقَتيلٍ
صادَتِ الشَمسُ نَفسَهُ حينَ صادا
أَحسِنوا القَتلَ إِن ضَنِنتُم بِعَفوٍ
أَقِصاصا أَرَدتُمُ أَم كِيادا
لَيتَ شِعري أَتِلكَ مَحكَمَةُ التَفـ
ـتيشِ عادَت أَم عَهدُ نيرونَ عادا
كَيفَ يَحلو مِنَ القَوِيِّ التَشَفّي
مِن ضَعيفٍ أَلقى إِلَيهِ القِيادا
إِنَّها مُثلَةٌ تَشُفُّ عَن الغَيـ
ـظِ وَلَسنا لِغَيظِكُم أَندادا
وكذلك أرّخ الشاعر أحمد شوقي للمذبحة نفسها شعرا مصورا حجم الحزن والأسى الذي لحق مصر برمتها عقب ما جرى من ظلم وقهر وإهانة للأهالي وترويع للناس على مرأى من المسؤولين المحليين آنذاك، فقال:
يا دِنشِوايَ عَلى رُباكِ سَلامُ
ذَهَبَت بِأُنسِ رُبوعِكِ الأَيّامُ
يا لَيتَ شِعري في البُروجِ حَمائِمٌ
أَم في البُروجِ مَنِيَّةٌ وحِمامُ
نَيرونُ لَو أَدرَكتَ عَهدَ كرومرٍ
لَعَرَفتَ كَيفَ تُنَفَّذُ الأَحكامُ
نوحي حَمائِمَ دِنشِوايَ وَرَوِّعي
شَعباً بِوادي النيلِ لَيسَ يَنامُ
إِن نامَتِ الأَحياءُ حالَت بَينَهُ
سَحراً وَبَينَ فِراشِهِ الأَحلامُ
مُتَوَجِّعٌ يَتَمَثَّلُ اليَومَ الَّذي
ضَجَّت لِشِدَّةِ هَولِهِ الأَقدامُ
السوطُ يَعمَلُ وَالمَشانِقُ أَربَعٌ
مُتَوَحِّداتٌ وَالجُنودُ قِيامُ
وَالمُستَشارُ إِلى الفَظائِعِ ناظِرٌ
تَدمى جُلودٌ حَولَهُ وَعِظامُ
وَعَلى وُجوهِ الثاكِلينَ كَآبَةٌ
وَعَلى وُجوهِ الثاكِلاتِ رغامُ
تأريخ وعد بلفور المشؤوم شعراوعلى الصعيد الفلسطيني، وجع الأمة وقضيتها الممتدة عبر الزمن، صور لنا الشاعر إبراهيم طوقان أوجاع الأمة التي ألمت بها بعد وعد بلفور المشؤوم الذي شرّعت فيه بريطانيا لليهود الصهاينة قيام وطن خاص بهم عام 1917م.
ووصف المشهد الكئيب في قصيدة عظيمة يتحدث فيها عن الإضراب الذي عمَّ أرجاء فلسطين كلها؛ فقال:
لَهفي عَلى البَلَد الكئيــب تَعطَلت أَسواقُهُ
عارٍ كَما اعرورى الخريف تَساقَطَت أَوراقه
خَفقت جَوانحه أَسىً وَتَقرّحت آماقه
صَبرا فَإِن الصَبر قَد يَحلو بِفيك مَذاقه
هَذا عَدوّك لا يَرعك وَهَذِهِ أَخلاقُهُ
***
بلفور كَأسك مِن دَم الشّهداء لا ماء العنَب
لا يَخدعنّك أَنها راقت وَكلّلها الحَبَب
فَحبابها الأَرواح قَد وَثبت إِلَيك كَما وَثَب
فَانظُر لِوَجهك إِنَّهُ في الكَأس لوّحه الغضب
وَاِنظُر عمِيت فَإِنَّهُ مِن صَرخة الحَق التهب
***
بلفور يَومك في السَماء عَلَيك صاعِقَة السَماء
ما أَنَت إِلا الذئب قَد صوّرت مِن طين الشَقاء
اخسأ بِوعدك إِن وَعدك دونه رَب القَضاء
وَإِلى جَهَنَم أَنتُما حطب لَها طول البَقاء
التأريخ لاستشهاد الشيخ عزّ الدين القسّامكان محمد عز الدين القسام مناضلا شرسا ضد الاحتلال الفرنسي والإنكليزي لبلاد الشام، أصله من الساحل السوري من مدينة جبلة لكنه اشتهر بنضاله في الأراضي الفلسطينية بعد هروبه من ملاحقة الفرنسيين له، فاستقر في حيفا ثم انتقل إلى جنين، وأسس فرقة نضالية قوية، وبقي شوكة في حلق المحتل حتى تمكنوا منه تمكّن الجبان.
وكان لاستشهاده عام 1936م أثر كبير في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى التي تعد نقطة تحول عظيمة في حركة النضال الوطنية الفلسطينية. وقد رثاه كثير من الشعراء الذي عاصروا الحدث وما بعده من تبعات، فأرخوا بذلك لاستشهاده، كالشاعر فؤاد الخطيب الذي قال:
أقسمتُ أنكَ روضةٌ وجنان
والروح فيك يرف والريحان
عرفت فلسطين الشهيد ولم تكن
لينام عنه ضميرها اليقظان
هبت تودع منه أكرم راحل
خسئ التخرص عنه والبهتان
واليوم أنت بما فعلت وما جنوا
عظةٌ تجدد ذكرها الأزمان
أولت عمامتك العمائم كلها
شرفا تقصر عندها التيجان
حافظ إبراهيم يؤرخ تفاصيل ثورة 1919م في مصر وأول مظاهرة للنساءلم تكن النساء العربيات بمنأى عن حركة النضال والجهاد في تاريخنا المليء بالمآسي والفجائع وفظائع الاحتلال، ومن جميل ما حملته إحدى قصائد الشاعر حافظ إبراهيم حديثه عن النساء اللواتي شاركن في إحدى المظاهرات في أحداث ثورة 1919م في مصر.
وقيل إنها كانت أول مظاهرة للسيدات آنذاك، فوصفهن وصفا بديعا يؤكد فيه حضور المرأة في ساحات النضال ومدى تأثيرها، وقد تظاهرن احتجاجا على تعسف الإنكليز ومعاملتهم الرعناء مع الشباب الذين تظاهروا من قبل منددين بجرائم الاحتلال وفظائعه، فما كان من الإنكليز إلا أن تعاملوا بالقسوة نفسها مع السيدات المتظاهرات، فشنّ حافظ إبراهيم عليهم حملة لاذعة في قصيدته وعرّى وجوههم أمام المشهد العام؛ فقال:
خَرَجَ الغَواني يَحتَجِجــنَ وَرُحتُ أَرقُبُ جَمعَهُنَّه
فَإِذا بِهِنَّ تَخِذنَ مِن سودِ الثِيابِ شِعارَهُنَّه
فَطَلَعنَ مِثلَ كَواكِبٍ يَسطَعنَ في وَسَطِ الدّجنَّه
وَإِذا بِجَيشٍ مُقبِلٍ وَالخَيلُ مُطلَقَةُ الأَعِنَّه
وَإِذا الجُنودُ سُيوفُها قَد صُوِّبَت لِنُحورِهِنَّه
وَإِذا المَدافِعُ وَالبَنادِقُ وَالصَوارِمُ وَالأَسِنَّه
وَالخَيلُ وَالفُرسانُ قَد ضَرَبَت نِطاقا حَولَهُنَّه
وَالوَردُ وَالرَيحانُ في ذاكَ النَهارِ سِلاحُهُنَّه
فَتَطاحَنَ الجَيشانِ ساعاتٍ تَشيبُ لَها الأَجِنَّه
فَتَضَعضَعَ النِسوانُ وَالــنِسوانُ لَيسَ لَهُنَّ مُنَّه
ثُمَّ اِنهَزَمنَ مُشَتَّتاتِ الشَملِ نَحوَ قُصورِهِنَّه
فَليَهنَأ الجَيشُ الفَخورُ بِنَصرِهِ وَبِكَسرِهِنَّه
أحمد شوقي يؤرخ لإعدام المجاهد عمر المختارومن منا لم يسمع بحكاية المجاهد الليبي عمر المختار وتفاصيل إعدامه! فقد نفذ فيه حكم الإعدام شنقا في عام 1931م في جنوب مدينة بنغازي، وهو المعروف بشيخ المجاهدين وأسد الجبل الأخضر، وكان إعدامه وسام شرف على صدره ما يزال براقا لامعا في سماء الكرامة العربية.
ويقال إنه قد حضر إعدامه نحو 20 ألف شخص مرغمين من قبل الاحتلال الإيطالي الغاصب، وقد صور الشاعر أحمد شوقي هذه الحادثة تصويرا تختلط فيه مرارة الألم بالشعور بالفخر بهذا المجاهد العظيم الذي أعيا وأصحابه الاحتلال ردحا من الزمن. وقد سطر لنا شوقي قصيدة بديعة تعرف بقصيدة الحرية الحمراء، يقول فيها:
رَكَزوا رُفاتَكَ في الرِمالِ لِواء
يَستَنهِضُ الوادي صَباحَ مَساء
يا وَيحَهُم نَصَبوا مَنارا مِن دَمٍ
توحي إِلى جيلِ الغَدِ البَغضاءَ
ما ضَرَّ لَو جَعَلوا العَلاقَةَ في غَدٍ
بَينَ الشُعوبِ مَوَدَّةً وَإِخاءَ
جُرحٌ يَصيحُ عَلى المَدى وَضَحِيَّةٌ
تَتَلَمَّسُ الحُرِّيَةَ الحَمراءَ
يا أَيُّها السَيفُ المُجَرَّدُ بِالفَلا
يَكسو السُيوفَ عَلى الزَمانِ مَضاءَ
خُيِّرتَ فَاختَرتَ المَبيتَ عَلى الطَوى
لَم تَبنِ جاها أَو تَلُمَّ ثَراءَ
إِنَّ البُطولَةَ أَن تَموتَ مِن الظَما
لَيسَ البُطولَةُ أَن تَعُبَّ الماءَ
في ذِمَّةِ اللَهِ الكَريمِ وَحِفظِهِ
جَسَدٌ بِبُرقَةَ وُسِّدَ الصَحراءَ
لَم تُبقِ مِنهُ رَحى الوَقائِعِ أَعظُما
تَبلى وَلَم تُبقِ الرِماحُ دِماءَ
كَرُفاتِ نَسرٍ أَو بَقِيَّةِ ضَيغَمٍ
باتا وَراءَ السافِياتِ هَباءَ
بَطَلُ البَداوَةِ لَم يَكُن يَغزو عَلى
تَنَكٍ وَلَم يَكُ يَركَبُ الأَجواءَ
لَكِن أَخو خَيلٍ حَمى صَهَواتِها
وَأَدارَ مِن أَعرافِها الهَيجاءَ
لَبّى قَضاءَ الأَرضِ أَمسِ بِمُهجَةٍ
لَم تَخشَ إِلّا لِلسَماءِ قَضاءَ
وافاهُ مَرفوعَ الجَبينِ كَأَنَّهُ
سُقراطُ جَرَّ إِلى القُضاةِ رِداءَ
شَيخٌ تَمالَكَ سِنَّهُ لَم يَنفَجِر
كَالطِفلِ مِن خَوفِ العِقابِ بُكاءَ
دَفَعوا إِلى الجَلّادِ أَغلَبَ ماجِدا
يَأسو الجِراحَ وَيُعَتِقُ الأُسَراءَ
وَيُشاطِرُ الأَقرانَ ذُخرَ سِلاحِهِ
وَيَصُفُّ حَولَ خِوانِهِ الأَعداءَ
وَتَخَيَّروا الحَبلَ المَهينَ مَنِيَّةً
لِلَّيثِ يَلفِظُ حَولَهُ الحَوباءَ
يا أَيُّها الشَعبُ القَريبُ أَسامِعٌ
فَأَصوغُ في عُمَرَ الشَهيدِ رِثاءَ
الشاعر شفيق جبري يؤرخ لجلاء الفرنسيين عن سوريا 1946ملم يكتب لبلادنا أن تهدأ وتهنأ باستقلالها طويلا، فنظرة إلى التاريخ القريب تجعلنا ندرك أنه لم يمر على جلاء المستعمر الفرنسي عن سوريا الحبيبة سوى ما يقرب من 80 عاما، وما تزال تتراماها الأحداث والوقائع والثورات، غير أن التاريخ يحدثنا عن نيل استقلالها عام 1946م من المحتل الفرنسي.
ويؤرخ الشعراء لهذا الاستقلال بأبدع القصائد وأحلاها، فها هو شفيق جبري يسطر الاستقلال شعرا ويصف حال الشام وأهلها وهم في حبور وسعادة بعد ما قدموه من تضحيات كبيرة في سبيل جلاء المستمر عن بلادهم، فيقول:
حُلم على جنبات الشـــــــــام أَم عيد؟
لا الهمُّ همٌّ ولا التسهيد تســــــــهيدُ
أتكذبُ العينُ والرايــــــــــاتُ خافقةٌ
أَمْ تكذب الأذن والدّنيا أغاريـــــــدُ؟
كـأَنَّ كلَّ فـؤادٍ في جـــــــــــــــلائِهمُ
نشــــــــــوان، قد لعبت فيه العـناقيدُ
ملء العيون دمــــوع من هنـــاءتها
فالدّمــــع درٌّ على الخـدين منضودُ
على النواقيــس أَنغامٌ مُســــــــــبِّحة
وفي المـآذن تســــــــبيحٌ وتحـميدُ
ليت العيونَ، صـلاح الدين، ناظرةٌ
إلى العــدوّ الذي ترمي به البيــــــدُ
اضرب بعينــــــك هل تلقى له أَثرا
كأنه شــــــــــبح في اللـيل مطـرودُ
ما نامت الشـــــــــــام عن ثأر تُبَيّتُه
هيهاتَ ما نومُـها في الثأر معهــــودُ
يا فتيةَ الشــــــــــــام للعلياء ثورتُكم
وما يضـيع مع العـلياء مجـــــــهودُ
جُدتم فسالت على الثورات أنفســكم
علمتم الناس في الثورات ما الجــــود؟
أما الشاعر عمر أبو ريشة فسطر قصيدة بديعة عن جلاء الفرنسيين عن سوريا وأنشدها في الحفل الذي أقيم في حلب احتفالا بالجلاء، وهي قصيدة معروفة لدى عموم السوريين بـ"عروس المجد"، يقول فيها:
يا عروس المجد تيهي واسحبي
فـي مـغانينا ذيـول الـشهب
لـن تـري حـفنة رمل فوقها
لـم تـعطر بدما حـر أبـيّ
درج الـبـغي عـليها حـقبة
وهــوى دون بـلوغ الأرب
لا يـموت الـحق مهما لطمت
عـارضيه قـبضة المغتصب
يـا عروسَ المجد طالَ الملتقى
بـعدما طـال جوى المغترب
سـكرت أجـيالنا فـي زهوها
وغـفت عـن كـيد دهر قُلّبِ
وصـحـونا فــإذا أعـناقنا
مـثـقلات بـقيود الأجـنبي
وأرقـنـاها دمــاء حــرة
فاغرفي ما شئت منها واشربي
وامـسحي دمع اليتامى وابسمي
والمسي جرح الحزانى واطربي
كـم لـنا مـن ميسلون نفضت
عـن جـناحيها غـبار التعب
شرف الوثبة أن ترضي العلى
غُـلِبَ الـواثبُ أم لـم يُغْلَبِ
هذه تربتُنا، لـن تزدهـي
بسوانا مـن حُماةٍ نُـدُبِ
وقفَ التاريـخُ في محرابها
وقفةَ المرتجـفِ المضطـربِ
لم يتأخر الشّعر الحديث عن تأريخ الوقائع والأحداث المهمّة في تاريخنا وأيامنا، فرسم انتصاراتنا نجوما وأفراحا تتلألأ في سماء النصر والفخار، وسطر معاناتنا ووصف آلامنا وصور الجراح العميقة تصويرا خالدا يذكّر الأجيال بأهمية اتخاذ الموقف و تحديد المسار ومعرفة العدو من الصديق، فخلق لنا الشعراء بذلك روابط جديدة مع تاريخنا القريب بلغة سلسلة عذبة قريبة إلى الأفهام والأيام التي نعيشها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات مواقع التواصل حافظ إبراهیم الشاعر أحمد أحمد شوقی فی الشعر عن سوریا ما کان
إقرأ أيضاً:
المقصورات... إلياذات الشعر العماني
حسن المطروشي -
لعلنا لا نبالغ إذا ما نعتنا مقصورات الشعر العماني بأنها إلياذات، نسبة للإلياذة الشهيرة لهوميروس في التراث الشعري اليوناني. والمقصورات هي جمع مقصورة، وتُعَرَّفُ المقصورة بأنها القصيدة التي يأتي رويّ الأبيات فيها ألفًا مقصورة، ولئن كانت الإلياذة وقرينتها الأوديسة تنتميان إلى أدب الحرب، فإنهما لا تخلوان من تعدد المواضيع الأخرى كالمجد والشرف والتراجيديا والفخر والقيم الإنسانية العليا. كل ذلك نجده في قصائد المقصورات العمانية، التي تشترك مع الإلياذة أيضا في أحجامها. فإذا ما تصفحنا المقصورات العمانية التي تبدأ بمقصورة ابن دريد وصولا إلى مقصورات الشعر المعاصر نجدها تقع في مئات الأبيات. وتتداخل في بنيتها المواضيع لتشمل الخاص والعام، والإنساني بالذاتي، استيعابا لمختلف القضايا التي يود الشاعر سردها في قصيدته. وهنا نتوقف عند أبرز المقصورات التي عرفتها مدونة الشعر العماني؛ إذ من الصعب الإلمام بكل ما كتب على هذه القافية، وليس هذا غرضنا في الأساس، وإنما نهدف إلى رصد المقصورات الأبرز، وتلك التي تشكل إضافة في رصيد تجربة الشاعر.
المقصورة الدريدية
وهي مقصورة محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (223 ــ 321 هـ/ 837 ــ 933م). جاء في الموسوعة العمانية: «اشتهر ابن دريد شعريا بمقصورته التي حفظت في مخطوطات كثيرة مع شروحها. وهي قصيدة نظمها على بحر الرجز». وقد «اختلف في عدد أبياتها؛ إذ تتراوح بين 229 و280 بيتا بحسب مخطوطاتها، وطبعت المقصورة مرات مع شروح كثيرة».
ويرى ابن هشام اللخمي في شرحه للمقصورة أن «ابن دريد من المقدّمين في نظم القصائد المقصورة، من حيث بناؤها وإحكام نظمها وسلاسة أسلوبها وجمال سبكها ورفعة موضوعتها إنسانية كانت أو حكما أو أمثالا أو مشاعر وأحاسيس، لذا نالت مقصورته شهرة واهتماما واسعين بين أهل العلم». ويقول الخصيبي في (الشقائق): «والقصيدة رائقة فائقة جدا، جامعة للفصاحة والبلاغة، وفيها من الحكم والعبر وأمثال العرب والسير ما يفوق على ما في أمثالها ونظائرها، وهي في مدح الشاه عبدالله بن محمد بن ميكال وولده أبي العباس إسماعيل بن عبدالله».
وتشتمل مقصورة ابن دريد على عدة موضوعات تمكن ببراعته الشعرية اللغوية أن ينسجها بإحكام بالغ دون أن يشعر القارئ بأنه انتقل من موضوع إلى آخر. بدأ ابن دريد مصورته مخاطبا (ظبية أشبه شيء بالمها)، متحدثًا عن فخره بذاته وصبره ورباطة جأشه في مواجهة صروف الحياة القاسية. كما اشتملت المقصورة على وصف قوم ناموا على رواحلهم في البيداء، ثم انتقل إلى الحكمة والأمثال، لينتقل إلى الغزل والحديث عن النساء، ثم أبحر في فضاء التاريخ ليستحضر وقائع وأسماء خالدة في الذاكرة، متخذًا من تلك الأحداث والرموز أمثلة حية على تحولات الزمن. كما خصص ابن دريد جزءًا من المقصورة لمدح الأمير عبدالله بن ميكال وابنه العباس. ويختتم ابن دريد مقصورته البديعة قائلا:
من كل ما نال الفتى قد نلته
والمرء يبقى بعده حُسن الثنا
فإن أمت فقد تناهت لذّتي
وكل شيء بلغ الحد انتهى
وإن أعش صاحبت دهري عالما
بما انطوى من صرفه وما انتشى
المقصورة النبهانية
هي مقصورة الشاعر السلطان سليمان بن سليمان بن مظفر النبهاني (ق: 9 هـ/ 15م). وتعد هذه المقصورة من أقدم وأفخم المقصورات العمانية أيضا. تبدأ القصيدة بوصف موكب العير وهي تقطع الفلاة «بين فيد فاللوى» من مكة المكرمة. ثم ينتقل الشاعر للفخر بنسبه وأصوله وكرمه وسخائه ومروءته وأخلاقه، كما يصف رباطة جأشه وشجاعته وبسالته في الحروب وثباته في مواجهة الأعداء، ويرسم صورا لنزاله مع الشجعان، ثم ينعطف للحديث عن الخمرة والمرأة التي يبادلها الحب، ثم يذهب للحديث عن الحكمة والمواعظ والأمثال ويسرد جوانب من مما اكتسبه من تجارب جعلته خبيرا بالحياة وأحوالها وتقلباتها. يقول النبهاني في المقصورة واصفًا كرمه وشجاعته:
أنا أخو الفضل وينبوع الندى
ومعدن الصدق لعمري والوفا
ففي يميني للورى ويسرتي
بحران جاشا من مَنونٍ ومُنى
وتجسد مقصورة النبهاني صورة بانورامية لمجمل مشروعه الشعري ومواضيعه المختلفة التي اشتملت عليها قصائده، والتي ترتبط في مضامينها على نحو لافت، حتى قال عنه الدكتور نزار العاني في كتابه (النبهاني بين الاتباع والابتداع): «قصيدته غالبا تضم كل أغراض شعره مجتمعة. يتقدم هذا الغرض على ذاك أحيانا، ولكن لا بد أن تتجاور كل الأغراض في نهاية المطاف داخل سياق القصيدة الواحدة. قد يطعّم القصيدة ببيت من الحكمة أو الخمريات، أو يستبعد هذا الغرض أو ذاك».
ولئن كانت مقصورة ابن دريد قد حظيت باهتمام من العلماء والأدباء ونالت بشهرة واسعة، بل كانت هي السبب في شهرة صاحبها الكبيرة، فإن مقصورة النبهاني قل من التفت إليها من الباحثين والدارسين، رغم بلاغتها وقوة سبكها وعلوّ لغتها وتعدد مضامينها وموضوعاتها، ما يجعلها من الأهمية بمكان بحيث تضاهي أهم المقصورات العربية على الإطلاق.
مقصورة ابن سنان
تعد مقصورة خلف بن سنان الغافري (ق: 11 ـ 12 هـ/ 17 ـ 18 م) أطول المقصورات العمانية؛ إذ بلغت خمسمائة بيت بالتمام، وهي تتضمن عدة قضايا ومواضيع أسبغ عليها الشاعر ثقافته الدينية، كونه كان قاضيا وفقيها، إلى جانب كونه شاعرا. يقول محمد بن سليمان الحضرمي في كتابه (المشرب العذب): «ومقصورة خلف بن سنان الغافري مشبعة حكما ومواعظ وإرشادات واستدلالات، ومواضيع هذا النص الطويل متفرقة، فتراه يقحم من موضوع إلى آخر، بإيجاز وببراعة لغوية.
ويسكب في مقصورته لغته المعجمية، غير أن خيطا رفيعا يمسك ببنية القصيدة، فلا تضيع بنيتها أو تتفكك وحدتها».
وتمثل مقصورة ابن سنان صورة واقعية لتجربته الشعرية وثقافته ورؤيته للحياة والوجود والقيم التي كان يعتنقها ويدعو إليها عبر قصائده. يقول جمال النوفلي في كتابه: (خلف ابن سنان: حياته وشعره): «وفي الاتجاه التقليدي وجدنا أن الشاعر أكثر من المديح، بل قد شمل أكثر شعره، بالإضافة إلى الأغراض التقليدية الأخرى، كالغزل والرثاء وغيرها. وفي الاتجاه الديني مال إلى الزهد والوعظ والإرشاد والمسائل الفقهية. وفي الاجتماعي اختار الإخوانيات والنصائح والحكم». وهكذا جاءت المقصورة مشتملة على كل ما ذكر من الأغراض والاتجاهات. يبدأ خلف ابن سنان مقصورته باستهلال غزلي مخاطبا الفتاة الكاعب الحوراء الفاتنة، فيصيف محاسنها وجمالها فيقول عنها:
ليس بها شين يرى لكنها
بلا سلاح سفكت منا الدما
وأنها للعالمين فتنة
لذي هوى من الورى وذي تقى
ثم يبادرها بالقول إنه قد أدركه المشيب ولم يعد ذلك الفتى المولع بالحسان، فيصف الشيب وكيف صيره الدهر:
وصيرتني الحادثات أقزلا
مهما أرد أمشي مشيت بالعصا
وحين يتذكر أيام الشباب والصبا يعود لوصف الدهور وانقلابه، ثم يسرد رؤيا له تحمل في طياتها البشرى الطيبة وهي أنه رأى جبريل في منامه يبشره بالقبول والرضا من الله. ثم يتجه للموعظة والحكمة وضرب الأمثال وإسداء النصيحة ويذكّر بالآخرة ويدعو إلى منهج التوحيد الخالص، ويسهب في سرد بعض قناعاته الدينية والعقدية والفقهية. وفي السياق ذاته تنفتح القصيدة على مواقف حاسمة في التاريخ الإسلامي كان لها أثر كبير في توجيه مسار الأمة، يسجل الشاعر موقفه منها بوضوح مشيرا إلى أسماء وأحداث بعينها، ثم يتحدث عن قيم العدل في الحكم ووسائله وعلاقة الحاكم بالرعية. ثم يمدح الإمام سلطان بن سيف اليعربي ونجله مرشد، ويسهب في ذكر مناقبهما وفضلهما. وهنا ينتقل للنصح والموعظة والالتزام بنهج الهدى والتقوى والحث على الطاعة، ويبين عاقبة الغرور بالدنيا وبهرجها
وفي سياق المديح يذكر الصالحين الذين لم تغررهم الحياة الدنيا، ويذكر بالأقوام السابقة التي رحلت وبقيت آثارهم وأفعالهم شاهدة عليهم. ثم يعود للنصيحة ويأمر بالتمسك بالقيم الإنسانية العليا والخصال الحميدة مثل التحلي بالشجاعة والعفة وحفظ السر والكرم وحسن العشرة والحلم والتحذير من الإساءة في القول والعمل. كما لا يفوته أن يسدي النصح للولاة والقضاة والحكام والكاتبين بالعدل بين الناس والتجار وتعامل القادة مع الجند. ولابن سنان ثلاثة أبيات يذكر فيها فراغه من كتابه المقصورة ويشير إلى عدد أبياتها، ويطلب من الله تعالى نيل ثوابها:
مقصورة الأديان والآداب
تمت بعون الملك الوهاب
خمس مئين عدها لا ناقص
أو زائد في صادق الحساب
أرجو بها من خالقي وفاطري
نيل الثواب والعطا الحساب
مقصورة البهلاني
تأتي مقصورة الشاعر أبي مسلم البهلاني (1860 ـ 1930م) كإحدى العلامات الشعرية الفارقة في تجربته، عكست قدرته الفائقة في الإمساك بزمام اللغة وسعة قاموسه اللغوي ومهارته في توظيف هذه الرصيد اللغوي الهائل في بناء قصيدة ملحمية كبيرة، ضمنها مختلف رؤاه في الحياة ومواقفه السياسية والأخلاقية والوطنية، حشد كل ذلك في قصيدة متينة البناء صعبة المعاني حتى على النخبة المثقفة. يقول محمد الحارثي في تقديمه للآثار الشعرية للبهلاني: «والمقصورة واحدة من أهم قصائده، رغم ذيوع النونية التي حجبت ـ بانتشارها الواسع بين القاصي والداني ـ فرادة فريدته المقصورة التي تضاءل الالتفات لها بسبب لغتها المستعصية حتى على النخب المثقفة التي لم تفكك إلماحات بيانها».
ونظرا لصعوبة هذه القصيدة وغرابة ألفاظها فقد باتت بحاجة إلى شروحات لبيان معانيها، حتى أن الشيخ منصور بن ناصر الفارسي قد ألف كتابا في هذا الشأن أسماه (الدرر المنثورة في شرح المقصورة)، نهج فيه على تفكيك أبيات القصيدة كل بيت على حدة، فيعمد إلى تبيان معاني الألفاظ ثم إلى شرح معنى البيت على نحو إجمالي. يقول الفارسي: «فقد سألني بعض الإخوان من الطلبة أن أشرح مقصورة الشيخ أبي مسلم ناصر بن سالم بن عديّم الرواحي شرحا مختصرا يبيّن الغريب من ألفاظها، ويكشف ما انطوت عليه معانيها .. فترى أذكر أولا معاني الألفاظ ولغاتها وربما أعربت حينا وأتركه آخر طلب الإيجاز وتركا للتطويل المملول، ثم أذكر المعنى المقصود من مجموع البيت على ما ظهر لي من ذلك، وبالله التوفيق».
عاش أبو مسلم البهلاني جل حياته في زنجبار بعيدا عن وطنه الأم عمان. وقد جسد حنينه لعمان في جزء كبير من شعره حتى بات ذلك ملمحا واضحا في تجربته، وأدل مثالين على ذلك مطلع نونيته الشهيرة، ومطلع مقصورته التي نحن بصدد الحديث عنها، والتي جاء فيها:
عرِّج عليها والها لعلها
تريح شيئا من تباريح الجوى
يقول الشاعر سماء عيسى: «يبدأ الشاعر قصيدته بمطلع رثائي لبلاده، حيث وعلى مدى ٢٥ بيتا، ينعى الحياة بها بشكل يوحي باندثارها الكلي. وما يحدث إذن هو إنه في الوقت نفسه يسقط حالته النفسية المتعبة جراء شوقه إلى بلاده، على تصوراته المأساوية عليها. هناك إذن هذه الحالات الثلاث التي تتبادل الظهور معا ومنفردة أيضا: رثاء وطنه البعيد، شوقه إلى وطنه، الدعوة إلى إعادة المجد إلى الوطن، وذلك عبر الاستيحاء التاريخي للأحداث».
يستمر البهلاني في التعبير عن شوقه الجارف لمرابع الصبا ومنازله الأولى التي حملها في قلبه رغم بعد المكان، ويسهب في بث لواعجه وحنينه وما يقاسيه من آلام البعد وسطوة الاشتياق. وما يلبث أن ينتقل بكل سلاسة إلى الحديث عن تغير أحوال الزمان والمشيب وما يقترحه على حياة المرء، مبينا تعاطيه هو مع هذا الواقع الجديد بعد أن خاض الحياة وجرب تصاريف الزمان فيقول:
ما ساءني الفائت إذ أكسبني
كنزا من الصبر وفوزا بالرضا
وتمضي مقصورة البهلاني تمزج بين العام والخاص متخذة من مضمار الحكمة والموعظة ميدانا فسيحا يسكب فيه الشاعر قناعته وأفكاره ورؤاه للإنسان وقيم الحياة. ثم ينتقل البهلاني إلى فضاء آخر في القصيدة منتقلا إلى الاستنهاض والدعوة إلى الدفاع عن الحرية والعدالة والكرمة الإنسانية ونبذ الجبن والخنوع ويدعو إلى الثورة على الظلم والقهر من أجل نيل الحياة الكريمة التي تليق بالإنسان. وهنا يعود البهلاني إلى التاريخ مذكرا بالأمجاد والبطولات التي صنعها الأجداد وقدموا التضحيات من أجلها، مستصرخا الأجيال الجديدة للنهوض مواصلة دروب الكفاح:
إلى متى نعجز عن حقوقنا
إلى متى يسومنا الضيم العدا؟
وفي هذا السياق يقول سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي: «ولئن جئنا إلى قصائده الأخرى التي تتعلق بجانب الأمة نجد أنه الطبيب الخبير، فقد عرف حق المعرفة داء الأمة ودواءها، كما نجد ذلك واضحا في كل قصائده التي تناولت هذا الجانب لا سيما تلكم القصيدة العصماء المقصورة، والتي شخص فيها العلة وجسّد الألم، ووصف فيها الدواء.»
على هذه الوتيرة المتدفقة وبهذا النفس المتوتر يستطرد البهلاني مخاطبا الضمير الجمعي بأن يهب من سباته وينفض عن كاهله غبار الذل والمهانة والعجز، وألا يرضى العيش في ظل واقع لا يحظى فيه بحقوقه كإنسان حر وكريم. وفي ترنيمة ختامية يدعو البهلاني إلى التعاضد التآلف والوقوف صفا واحدا لنيل النصر، فذاك أدعى إلى تحقيق الغيات الكبيرة:
عسى الذي قدّر ما يهولكم
يزيل باللطف الخفي ما جلى
مقصورة الخليلي:
من أبرز المقصورات الحديثة التي عرفها الشعر العماني مقصورة أمير البيان الشيخ عبدالله بن علي الخليلي (1920 ـ 2000م) التي نشرها في ديوانه (وحي العبقرية) بعنوان (المقصورة) وتقع في 251 بيتا. ورغم طول هذه القصيدة إلا أنها تكاد تنحصر في مواضيع محددة تمثل جانبا رئيسيا في اشتغالات الخليلي الشعرية وهي الفخر والشكوى من تحولات الزمان إلى جانب الوعظ والنصيحة والحكمة والاستنهاض، يضع ذلك في إطار ديني متكئا على ثقافته التي تلقاها من محيطه الأسري وبيئته الاجتماعية. وللخليلي مقصورة طويلة أخرى بعنوان (وحي النهى) نشرها في ديوان مستقل، وهي مرتبة حسب الحروف الهجائية. هذه المقصورة لم تخرج في مجملها عن سياق الوعظ والإرشاد الديني. لذا فإننا سنتوقف هنا فقط عند مقصورته السابقة.
يستهل الخليلي مقصورته بالحنين إلى مرابع الطفولة مناجيا البرق بأن يصب نداه باردا كالثلج في أحشائه لعله يبرد لوعة حنينه وأشواقه المتأججة إلى تلك المغاني والديار. ويعاتب البرق لم لا يناله فيضه ولا تصله نعماؤه، فهو أشبه بفتية الكهف كما وصفهم القرآن إذ تزاور الشمس صبحا عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال:
أم ما لمنهلّك لا ينالني
كأنني من فتية الكهف فتى
تزاور الشمس إذا ما طلعت
عني يميناً وشمالا في المسا
ويستطرد في مناجاته الحارقة للبرق بألا يبخل على معاهده، ويناشده بما تختص به هذه المعاهد التي عاش فيها فتى يافعا ثم كبر بين ربوعها وتشرب فيها العلم والقيم والمروءة، فهي منبت الماجدين وفيها بناة الأمجاد وأصحاب الفضل. وفي سياق الفخر يكتب عن نسبه وأسرته، مشيرا إلى أنها أنجبت العلماء والقادة والمرشدين والمصلحين والصالحين، ثم يعود متفجعا على ذاته بعد رحيلهم:
يا ويح نفسي وأنا بعدهم
في موقف كأنه على هُوى
وفي المجمل تراوح القصيدة موقعها متنقلة بين الفخر والموعظة والنصيحة والدعوة إلى الفضائل ومكارم الأخلاق، إلى نهايتها حيث يختتمها مبتهلا إلى الله طالبا الغوث والرحمة والصفح منه تعالى، مختتما بالحمد والثناء للخالق جلت قدرته على ما ناله في الحياة وما لم ينله:
والحمد لله على ما رمته
فنلته حمداً كأنفاس الصبا والحمد لله على ما لم أنل
من أربي حمداً كلألآء السنا
مقصورة السيابي: رايات الهدى
تضمن ديوان هلال بن سالم بن حود السيابي مقصورتين همان (رايات الهدى) و(بروق المجد). ونحن هنا سنتوقف عند المقصورة الأولى إذ هي الأقرب لموضوعنا، فهي قصيدة ذات بعد تاريخي درامي، وتشتمل على أكثر من محور، وهي قصيدة طويلة بلغت 200 بيتا. أما المقصورة الثانية فهي قصيدة قومية استنهاضية وعدد أبياتها أقل بكثير من المقصورة الأولى.
تبدأ القصيدة بمطلع طللي ينضح بالحنين إلى مرابع الطفولة ومدارج الصبا، حين يلوح البرق من ناحية هاتيك الأمكنة القصية الساكنة في القلب، فيهيج أشواق الشاعر بوميضه الأخاذ، فيرحل عبر سفر روحي متخيلا تلك البقاع النائية، مستحضرا ملامح المكان والوجوه والأصوات والتفاصيل الدقيقة التي تهطل من أدغال الذاكرة، يقتنصها الشاعر ليؤثث بها نصه الشاسع.
ناجِ الربوع أيها البرق وقف
بأدمعي منهلَّةً على الربى
وخلِّ نفسي تتلاشى شررا
بومضها ما بين هاتيك الذرى
يتخذ الشاعر من الحنين والشوق إلى الديار مدخلا ليلج إلى رحاب التاريخ الذي كانت له تلك الديار مسرحا وشهدت البطولات وقامت فوقها الحضارة العظيمة، فهي كما وصفها:
وقادت التاريخ ردحا وأبت
راياتها إلا شوامخ الذرى
وضجت البحار من أسطولها
ومن شنابك الخيول بالقرى
ويلتفت الشاعر مخاطبا البرق بأن يحمل السلام والتحية إلى مرابعه وأن يسكب عليها المطر المدرار. ثم يدخل السيابي إلى تفاصيل المكان العماني حين يأخذ قارئه إلى عدد من المدن العمانية العريقة ذاكرا مآثرها الخالدة، معرجا على بعض الأحداث التاريخية كقوله:
وفي (صحار) وقف التاريخ بي
مزدهيَ الغرة يمشي الخُيَلا
خطى (الجلندى) في حماها شهب
تضيء للتاريخ أعظم الخطى
وأمام خيلاء التاريخ وعظمة المجد العماني يقف الشاعر مفاخرا بوطنه الذي خط على جبين الدهر انتصاراته حين واجه الغزاة والأعداء وهزم الجبابرة ورفع راية العزة والحرية والكرامة عالية خفاقة. وهنا يوجه الشاعر قارئه ليسأل المحطيات التي تشهد بأمجاد الأسلاف وبطولاتهم:
سل المحيط كم مخرنا يمّه
وكم علوناه بآساد الشرى
حتى أتى الدهر لنا مخضوضعا
منكّس الهام ونحن بالذرى
ويغادر السيابي فجأة منطقة التاريخ ويتجه مباشرة للحديث عن الذات وسجاله مع الزمان، ليسجل ثباته على القيم والمبادئ الكريمة التي تربى عنها ولم يحد عنها طوال حياته، بل سار في هذه الحياة ببصيرة العارف مستفيدا من تجارب الدنيا مستشرفا لمستقبلها وفق منظوره القيمي والأخلاقي في التعاطي مع تقلبات الزمن:
أبصرت دربي والصبا في أوجه
فما ضللت الدرب معْ أوج الصبا
وإنما عرفت ما يأتي به
كأنما أشهد منه ما خا
وفي الختام يخصص السيابي جزءا كبيرا من مقصورته ليقدم خلاصة تجاربه مع الناس وأحوالهم فيسرد أنواعهم ويكشف طبائعهم، وبخبرة المجرب الحاذق يعري كثيرا من السلوك الإنساني الخادع ويميط القناع عن أشكال من الزيف والتصنع، ثم يسدي النصح لقارئه:
فهذه الأيام حبلى، فلتكن
بموقع العبرة لمّاح الذكا
وسِر على ضوء الهدى ونهجه
فإنه درب الجلال والنهى
مقصورتان سلطانيتان: في التشفع والاشتياق
ولسلاطين عمان أيضا حضور في ذاكرة المقصورات العمانية الخالدة. وتحضرنا في هذا المقام مقصورتان لشاعرين بارزين من عمان، أولا هما مقصورة لأبي مسلم البهلاني والأخرى لسعيد بن مسلم المجيزي (ت: 1952م). مقصورة البهلاني التي نحن بصدد الحديث عنها غير تلك التي أوردناها آنفا، وعنوانها (وقال عفى الله عنه في المعنى) وتقع في 118 بيتا، مرتبة على سور القرآن الكريم. وهي كما يتضح من مضمونها أنه قالها في سياق التشفع للسلطان حمد بن ثويني بن سعيد إثر جفوة وقعت بين الرجلين، على ما يبدو. يقول الأديب أحمد الفلاحي معلقا على لغة هذه القصيدة ومضمونها: «ويبدو أنه كتبها وهو في حالة حرجة وفي موقف صعب ولعل له عذره. وإن كنا نود لو أنه لم يصل في اعتذارياته إلى إلى مثل هذا». القصيدة في متنها الأساس اعتذار ومديح للسيد حمد بن ثويني، ويتسها الشاعر بذك الفاتحة:
فاتِحَةُ الحَمْدِ أيَادِي مَنْ عَفَى
والحِلْمُ أصْلٌ للمَقاماتِ العُلا
ويذكر اسم السلطان قائلا:
قد ضل كالأنعام من لا يهتدي
إن حلوم ابن ثويني كالهدى
حمد السلطان من أعرافه
والفيض من عرفانه غيث الورى
ويستطرد في مديح السلطان معددا مآثره، إلى أن يبدأ في الاعتذار مستشفعا بالقرآن، ملتمسا حلم السلطان وعفوه فيقول:
أقل عثاري والقرآن شافعي
إليك إن عز الشفيع المرتضى
فليس بعد كلمات الله من
وسيلة يقبلها ذوو الحجى
أما مقصورة المجيزي فتتكون من 85 بيتا يشكو فيها شوقه الكبير للسلطان تيمور بن فيصل في سفر له. القصيدة طافحة بحرارة الشوق وصدق المشاعر للسلطان الغائب الذي كان هذا الشاعر من جلاسه وخواصه المقربين. يبدأ المجيزي مقصورته متسائلا:
أشغفٌ يزعجني أم النوى
أم نار شوق أم تباريح الجوى؟
أم حرقة شبّ لظاها فرقة
لن تنطفي عني حتى الملتقى!
المقصورة التي يبدأها المجيزي بالتعبير عن لواعج الشوق والحنين تنفتح تدريجيا إلى الحكمة والموعظة والحديث عن تجارب الشاعر ومكابدته للحياة وسبر أغوارها وذم الدهر وتقلباته وأحواله، إلى أن يبدأ في مدح الأسرة البوسعيدية وسلاطينها الأماجد. ويسهب في ذكر أياديهم البيضاء وما حظي به من المكارم وطيب العيش في كنفهم لاسيما السلطان فيصل وابنه تيمور الذي يشكو لوعة فراقه في هذه المقصورة، وهي كما يبدو تؤرخ لحدث مهم في حياة هذا السلطان الذي غادر الديار والحمى، وهو الأمر الذي يعده الشاعر نائبة من نوائب الدهر:
فإن تنبني في النوى نوائب
فإن منها ترك تيمور الحمى
الذاكرة الخصبة
إذن تبرهن المقصورات في التراث الشعري العماني أنها ذاكرة خصبة لقصص المكان وأحاديث الزمان وحكايات الحنين والاشتياق. لقد كانت الفضاء الشعري الذي دونوا في ألواحه تواريخهم وانتصاراتهم وبطولاتهم. كما سجلوا مفاخرهم وأنسابهم وأبطالهم الذين باتت أسماءهم محل اعتزاز وتقدير في الذاكرة الجمعية. وفي المقصورات دون العمانيون قيمهم ومواعظهم ونصائحهم. وكانت المقصورات صوتا للرفض ونداءات مدوية للحرية والنهوض ومواجهة الواقع وشحذ الهمم نحو العدالة والكرامة ونيل الحقوق الإنسانية. كما كانت سجلا نابضا للفخر وسرد مآثر الأسلاف وتمجيد الأنساب وتجسيدا لضور الأجداد العظام في الضمير والوجدان.
حسن المطروشي شاعر عماني