غربة المتنبي.. في أمة تداركها الله
تاريخ النشر: 7th, June 2025 GMT
مؤخرًا أفكر بالمتنبي كثيرًا من زاوية التحليل النفسي. كم هو مثير حقًا أن نتخيَّل المتنبي جالسًا على أريكة العلاج النفسي في عيادة الدكتور بول ويستون، كما في المسلسل الأمريكي In Treatment! دخول المتنبي إلى عيادة الطبيب النفسي لا يعني فقط إخضاعه لمقاربة تحليلية نفسية، بل هو استدعاء لتوتر عميق بين خطابين يبدوان متناقضين من حيث المبدأ: خطاب الشعر بوصفه تضخيمًا للذات، وخطاب العلاج النفسي بوصفه سعيًا لتفكيكها.
ما يجعل المتنبي شاعرًا استثنائيًا في تاريخ الثقافة العربية ليس إرثه الشعري وحده، بل وعيه المتفرد بالذات الشاعرة في علاقتها بالعالم، وهي علاقة تزخر بكل مستلزمات التناقض البشري. لقد كان المتنبي مشغولًا بمشروع وجودي يجعل من «أنا» الشاعر مركزًا للكون، فتغدو القصيدة على يديه مرآة مزخرفة للذات، لا تسعى إلى فهم العالم بقدر ما تطمح إلى إعادة تكوينه على صورتها. من هنا تصبح الجلسة العلاجية الافتراضية مواجهة حقيقية بين شاعر عربي قديم لا يرى في كلامه عَرَضًا بل جوهرًا، ومعالج نفسي يسعى إلى كشف ما يُخفيه هذا الكلام لا ما يُعلنه.
لم يكن المتنبي انطوائيًا بالمعنى الاجتماعي. لا نعثر في شعره وسيرته على نزعة للعزلة واضحةٍ كما نجدها عند أبي العلاء المعري، صاحب «معجز أحمد». بل على العكس تمامًا؛ إذ يعكس شعره سيرة شاعرٍ جرَّب دهره بتوق وعنف وصخب، فخالط أصنافًا شتى من بني البشر، واتصل بعلاقات اجتماعية وسياسية طورت حدسه بالناس وطبائعهم، واصطدم بالحياة العامة بأقصى ما يمكن لمرئ سيلقى حتفه في الخمسين.
ولكن على الرغم من شهرته؛ فقد عاش مالئ الدنيا، وشاغل الناس وحيدًا ومعزولًا داخل نفسه الغريبة. خبرته ببني عصره كانت تزيد من حدة رفضه لهم، ومن اعتداده الذاتيّ القاسي. فلا نكاد نقرأ شِعرًا لأبي الطيب دون أن يكون الاغتراب (Alienation) مناخًا عامًا لقصيدته، إلى درجة أنه هو نفسه يلاحظ هذا الميل في قصيدته فيشتكي من تشكِّيه:
«أَلا لَيتَ شِعري هَل أَقولُ قَصيدَةً
فَلا أَشتَكي فيها وَلا أَتَعَتَّبُ؟!»
أما انعدام ثقته بالآخرين فتبدو من أهم صور الاغتراب عند المتنبي؛ فقد تهدَّمت الثقة بالجنس البشري بعد تجريبه مرارًا ومرارًا، إذ يكفي أن يكون الآخر من بني البشر حتى يكون جديرًا بعدم الثقة:
فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبًّا
جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ
وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ
لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنامِ
كما نتبين في شِعره حدة الصراع والانقسام بين عالمَيه: عالمه الداخلي، وعالمه الخارجي؛ فهو يرفض الانتماء إلى الناس في زمنه، يمقت عاداتهم ويسخِّف مطامحهم الصغيرة. يهجوهم ويهجو عصرهم؛ ليتمايز عنهم بكل نفور وجرأة كي يعود إلى داخله، إلى نفسه الكبيرة المعزولة:
«وَدَهرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ
وَإِن كانَت لَهُم جُثَثٌ ضِخامُ
وَما أَنا مِنهُمُ بِالعَيشِ فيهِم
وَلَكِن مَعدِنُ الذَهَبِ الرَغامُ»
هذا الرجل البعيد الهم - الذي لا تسلي فؤاده المدام - ذاهبٌ في اغترابه إلى عتبة الانفصال التي لا رجعة بعدها؛ إذ تتعمق عزلته إلى غور سحيق من الاعتداد بالذات، ورفض أناس عصره، فهو معهم، لكنه ليس منهم.
إنها النرجسية كأسلوب دفاع استباقي عن الذات الهشة. في الواقع؛ كانت تلك طريقته لصيانة هويته المنقَّحة، والخالصة من شوائب محيطه الاجتماعي الذي يتردى في واقع سياسي يشهد على ضعف الدولة العربية، وتشظيها إلى دويلات متصارعة خلال العصر العباسي الثاني.
في كتابه «مع المتنبي» يصف لنا طه حسين الزمنَ السياسي الذي زامنه المتنبي بما يضاعف من شعوره بالاغتراب؛ فقد كان ذلك الزمن -كما يقول طه حسين- زمن «خضوع سلطان الخلفاء المطلق لعبث الجند وقادة الجند، ولسلطان الخدم والنساء»، إنه زمن «عجز السلطان المركزي في بغداد عن أن يجمع أطراف الدولة ويحزم أمرها، كما كان يفعل حين كان الخلفاء خلفاء، وحين كانت الخلافة خلافة، وحين لم يكن أمير المؤمنين لعبةً في يد خادم أو أَمَة؛ ثم ما نشأ عن هذا كله من استقلال الأطراف، وطموح الولاة إلى الملك، وظهور القوميات الوطنية في الشرق والغرب، ونشوء عهد يشبه عهد الإقطاع في أوربا أثناء القرون الوسطى».
استيعاب هذا السياق السياسي يصبح في غاية الأهمية لفهم المؤشرات النفسية في شعر المتنبي. ولنا أن نتخيل ردة فعله وهو يرى صعود المتسلقين من أسخف الناس وأجهلهم إلى المراتب العليا، بينما لا ينال هو غايته في السلطة التي نحر من أجلها عيون قصائده قربانًا للأمراء، بل ضحّى من أجل هاجس السلطة اللحوح بكرامة الشعر والشاعر معًا، إلى حد التذلل الذي يتعارض مع تضخُّم «الأنا» عند شخص كالمتنبي؛ كما يشير إلى ذلك فوزي كريم في كتابه «القلب المفكر: القصيدة تغني، ولكنها تفكر أيضًا».
مع ذلك يمكن لأسطورة المتنبي أن تمنح العزاء لمن يعتقدون أنهم قد جاؤوا في زمان غير زمانهم، مع أنه لا أحد يأتي في غير زمانه. علينا أن نتذكره وهو ينشد:
«أنا في أمة تداركها اللـــه غريب كصالحٍ في ثمودِ».
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
خطبة العيد.. رسائل رحمة وسلام ومضامين ترسخ القيم
تُعد خطبة العيد محطة إيمانية واجتماعية تتجلى فيها أسمى قيم الإسلام ومقاصده، إذ يجتمع المسلمون على المحبة والتراحم، ويتبادلون التهاني في أجواء من الفرح والتقوى، وفي هذا السياق، قدّم عدد من الأئمة والخطباء والأكاديميين قراءات متعددة لمضامين خطبة العيد، مؤكدين على أهميتها كمنبر دعوي جامع، داعين إلى تجديد خطابها بما يلامس واقع الناس ويُسهم في بناء وعي ديني مستنير.
مضامين
يرى عامر بن ناصر الصباري، إمام مسجد، أن الخطبة تتجلى فيها روح الشريعة الإسلامية وأخلاقها السمحاء، إذ يعيش المسلمون هذه الأيام مناسبة مباركة فيها لحظات عظيمة مليئة بالفرح والسرور والتزاور وتبادل التهاني، وتوثيق أواصر الرحم، وذبح الأضاحي، وإفشاء المحبة بين الآباء والأبناء، وبين الأسر والمجتمعات، وهو ما يعكس البُعد الاجتماعي والتربوي والروحي لهذه الشعيرة المباركة.
وأوضح أن الخطيب يستفتح الخطبة بالحمد والثناء على الله تعالى، والتذكير بفضله على عباده، والدعوة إلى شكر النعم، وهو مدخل مهم يهيّئ القلوب لتلقّي الموعظة والتوجيه، ويُرسّخ في النفوس أن نعم الله لا تُعدّ ولا تُحصى، وأن الشكر عليها سبب لدوامها وزيادتها.
ويبيّن عامر الصباري أن من أبرز مضامين خطبة عيد الأضحى المبارك التذكير بقصة نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، حيث يسلّط الخطيب الضوء على مشهد الطاعة المطلقة، والصبر العظيم، والتفويض الكامل لأمر الله، وهي قصة تتضمن دروسًا عميقة في الإيمان والثقة بالله، وتُعدّ نموذجًا للتحلي بأخلاق الأنبياء والتمسك بالتقوى والثبات في مواجهة الابتلاءات، كما تعكس هذه القصة عمق المعاني التي يحملها العيد في جوهره.
وأضاف أن الخطيب يختم الخطبة ببيان أحكام الأضاحي ومقاصدها، موضحًا أن الأضحية ليست مجرد ذبح ولحم، وإنما هي عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله، وتوسعة على الأهل، وتصدق على الفقراء والمحتاجين، وتعزيز لروح التكافل الاجتماعي، وتنمية لمعاني التقوى التي تُعدّ أساسًا للأخلاق الحميدة، ووقاية من الوقوع في المعاصي والخطايا، مشيرا إلى أن خطبة العيد تذكّر الناس بأن قيم الإسلام لا تقتصر على المظاهر، بل تتجلى في الأعمال والنيات، وأن من أعظم غايات العيد تعزيز معاني الرحمة، وغرس قيم التعاون والمحبّة بين أفراد المجتمع، بما يجعل هذه المناسبة المباركة محطة سنوية متجددة لتجديد الصلة بالله، وبناء جسور التواصل والمودة بين الناس.
الرحمة والتكافل
بدوره، يقول الدكتور عبدالله بن مبارك العبري، أكاديمي سابق بجامعة السلطان قابوس -كلية الحقوق-: إن عيد الأضحى المبارك مناسبة دينية تتجسد فيها أسمى قيم الرحمة والتكافل، وتتجاوز فيها معاني الفرح المادي إلى رحاب الإحسان الإنساني. ويشير إلى أن هذه الأيام المباركة تُربّي في المسلم روح العطاء والبذل، من خلال شعيرة الأضحية التي لا تقف عند حدود الذبح، بل تمتد لتصل إلى قلوب الفقراء والمحتاجين، وتُرسّخ مبدأ المشاركة والتراحم.
ويبيّن أن عيد الأضحى يُعلّم المجتمع أن الفرح لا يكتمل إلا بتقاسم الخير، وأن الغني لا يحق له أن ينفرد بنعمة الوفرة دون أن يشرك فيها غيره من المحتاجين، وهو ما يعكس جوهر التكافل الذي تنشده الشريعة الإسلامية. كما يشير إلى أن مظاهر الرحمة في هذا العيد تشمل اليتامى والأرامل، بل وتصل إلى الحيوان، حيث أُمر المسلم بالإحسان في ذبح الأضحية والرفق بها.
ويضيف الدكتور العبري أن ما يميز عيد الأضحى عن سواه من المناسبات هو حضوره القوي كرسالة أخلاقية واجتماعية، تدعو إلى الرحمة بالناس، ومواساة المحتاج، وإحياء قيم التراحم والتواصل، مما يجعل منه منبرًا عمليًا لتجسيد مبادئ الإسلام في التكافل، لا بالشعارات، بل بالفعل والسلوك، في محيط الأسرة والمجتمع على حد سواء.
الخطاب الديني
من جانبه، قال عبدالله بن حمد الهاشمي، إمام جامع عرفة بحي التراث في ولاية نزوى: إن خطبة العيد كغيرها من الخطب المنبرية تُعد فرصة حيوية لتجديد الخطاب الديني بما يلامس واقع المجتمع ويعالج قضاياه المتجددة، دون أن يُخلّ ذلك بالثوابت الشرعية أو يُفقد الرسالة روحها الأصيلة. ويشير إلى أن من أبرز التحديات في هذا الجانب هو إيصال رسالة العيد إلى فئات المجتمع المتنوعة، خصوصًا فئة الشباب، التي أصبحت أكثر تأثرًا بالانفتاح الإعلامي والتغيرات الثقافية المتسارعة.
وأضاف الهاشمي أن التعامل مع هذا التحدي يبدأ من الوعي بمتغيرات العصر، ثم بتحضير مضمون الخطبة بعناية ليكون قريبًا من قلوب الناس، ويخاطب واقعهم بتوازن بين المقاصد الشرعية واللغة القريبة من وجدانهم. فالشباب اليوم لا يتفاعلون مع الطرح التقليدي الجاف، بل مع الخطاب الذي يلامس تطلعاتهم ويخاطب تجاربهم اليومية، ويقدّم الدين على أنه رفيق لهم في طموحاتهم وتحدياتهم.
وأشار إلى أن التجديد لا يكون فقط في اختيار الموضوعات، بل كذلك في الأساليب والوسائل. فالمشهد الحي والصورة، واللغة الإبداعية، والقصص الواقعية، والأمثلة المعاصرة، كلها عناصر تعزز من تأثير الخطبة وقربها من المتلقين. كما أن الوصف البصري المعبر، حتى دون صورة ملموسة، يترك أثرًا أعمق في النفوس، خاصة حين يُدمج بعنصر السؤال والتأمل، ليصبح المستمع شريكًا في الفكرة لا مجرد متلقٍ سلبي.
وفيما يتعلق بالتوازن بين الثبات في المضمون والتجديد في الطرح، وضح الهاشمي أن هذا التوازن يمثل مبدأ أساسيًّا في الخطاب الدعوي، حيث يبقى المحتوى منضبطًا بالأصول الشرعية، بينما يُطوّر الأسلوب بحسب حاجات المتلقين وواقعهم. ويستشهد في ذلك بنهج النبي ﷺ الذي خاطب كل قوم بلغتهم وعلى قدر فهمهم.
واختتم الهاشمي حديثه بقوله: إن خطب العيد ينبغي أن تحمل رسائل أمل ورحمة، تُقدَّم بأسلوب يفتح النوافذ ويُشعر الناس بأن الدين قريب من واقعهم. فالأضحية مثلا ليست مجرد ذبح، بل هي رمز للتضحية والعطاء، وربطها بهدي النبي إبراهيم عليه السلام وفرصة لإعادة ربط المفاهيم الدينية بسياق الحياة اليومية، بما يجعل الخطبة حديثًا حيًّا نابضًا بروح التجديد.
وفي السياق ذاته، يُوضح أحمد بن سعيد اليعقوبي، إمام وخطيب، أن تجديد الخطاب الديني ضرورة حتمية في ظل ما يشهده الواقع المعاصر من تحولات معرفية وتكنولوجية، وتغير في اهتمامات الأجيال وطرق تفكيرهم. ويرى أن هذه المتغيرات لا تتعارض مع ثوابت الخطاب الشرعي، بل تدعو إلى إعادة صياغته بأسلوب معاصر قادر على الإقناع والتأثير.
ويشير إلى أن بعض مظاهر العيد باتت تُفهم من قبل فئة من الشباب على أنها مجرد عادات اجتماعية، وهو ما يتطلب خطابًا دينيًا يُعيد إبراز المعاني الأصيلة لهذه الشعائر، ويصل بها إلى عقول وقلوب الناس بلغة مناسبة تجمع بين عمق المضمون وجاذبية الطرح، دون الانجراف نحو التقليد الثقافي غير المنضبط.
كما ينبه إلى أثر الانفتاح الواسع على العالم الرقمي، وتصدر شخصيات غير سوية للمشهد، مع غياب القدوات المؤثرة، وهو ما جعل الحاجة ملحة لخطاب يُعزز البناء الفكري والأخلاقي، ويُرسخ الموازين الشرعية في نفوس النشء.
ويرى اليعقوبي أن الخطاب الذي يكتفي بالمجاملات أو يهمّش النصوص الشرعية لحساب التوجهات السائدة، لن يحقق أثرًا مستدامًا، بل قد يُفاقم التحديات لاحقًا إذا لم يكن مبنيًا على وعي واستبصار.
ويؤكد أحمد بن سعيد اليعقوبي في ختام حديثه أن قوة الخطاب لا تكمن في الإطالة، بل في بلاغته، وعمق فكرته، وقدرته على استيعاب الواقع وتوجيهه، ضمن ثوابت واضحة وأساليب متجددة، تُسهم في صناعة وعي راسخ يحصّن الأجيال ويُبقي للدين أثرًا حيًّا في الحياة العامة.
البعد الإنساني
من جهته، قال سعيد بن هلال الشرياني إمام وخطيب: إن خطبة العيد تجسّد البعد الإنساني وترسّخ القيم الأخلاقية في زمن تتزايد فيه التحديات. وأكد أن هذه الخطبة تُعد من أبرز قنوات الخطاب الجماهيري وأكثرها تأثيرًا، لما تحمله من رمزية دينية واجتماعية في مناسبة تجمع المسلمين على المحبة والتآلف، مشيرًا إلى أن المنبر في صلاة العيد ليس مجرد أداء شكلي، بل وسيلة فعّالة لغرس المبادئ وترسيخ السلوك القويم.
وأضاف أن خطبة العيد تحمل في جوهرها رسالة أخلاقية ترتبط بمقاصد الإسلام الكبرى، إذ تركز على الرحمة، والتسامح، والإحسان، وقيم التراحم بين الناس، وتُعيد التأكيد على الأخلاق التي دعا إليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلها أساس دعوته، مبينًا أن هذه الرسائل الأخلاقية يجب أن تظل حاضرة بقوة في الخطاب الديني المعاصر، خصوصًا في ظل ما يشهده العالم من طوفان ثقافي ومعلوماتي يعبث بالمفاهيم ويؤثر في سلوك الأجيال.
وأشار الشرياني إلى أن المنبر يمكن أن يكون أداة فاعلة في رأب الصدع ولمّ الشمل وتقريب وجهات النظر بين أبناء الأمة الواحدة، إذا ما أُحسن توظيفه وتفعيل رسالته في زمن تتزايد فيه الانقسامات وتُستغل فيه الخلافات من أطراف خارجية، مؤكدًا أن خطابًا جامعًا يُبنى على الأخلاق والقيم النبيلة كفيل بأن يعيد للمنبر أثره الحقيقي في التوجيه والإصلاح.
واختتم سعيد بن هلال الشرياني حديثه بالقول: إن الإسلام دين رحمة وسلام، وخطبة العيد هي فرصة سنوية لتأكيد هذا المعنى، وعلى الخطباء أن يحملوا هذه الرسالة بأمانة، ويُقدّموها بلغة معاصرة واضحة تُلامس قلوب الناس، وتدفعهم نحو سلوك عملي يعمر به المجتمع وتطمئن به القلوب.
غرس مفهوم الأضحية
من جانبه، قال سامي بن خميس المجرفي، إمام وخطيب: إن توظيف خطبة العيد في غرس مفهوم الأضحية كقيمة دينية يُجسد الطاعة والإخلاص، يبدأ من التركيز على البعد التربوي والعاطفي في قصة نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، واستحضار مشهد الامتثال لأمر الله، وما يحمله من معاني الإيمان والتسليم. وأشار إلى أهمية تبسيط هذا المضمون في الخطبة بلغة قصصية موجهة للأطفال، لتقريب مفهوم الأضحية وربطها بقيم التسليم والتضحية والإخلاص.
وأوضح المجرفي أن دور أولياء الأمور لا يقل أهمية عن المنبر، حيث ينبغي أن يُحوّل الحديث عن الأضحية إلى حوار تربوي يناسب الفئات العمرية المختلفة، عبر استخدام الوسائط التعليمية كالرسم والقصص التفاعلية، بالإضافة إلى إشراك الأطفال في جوانب بسيطة من التحضير للأضحية، كالتغليف والتوزيع، لترسيخ مفهوم القرب من الله عبر العطاء.
وأضاف أن المنبر يُعد وسيلة قوية في غرس قيمة الإيثار، خاصة عند استعراض القصص القرآنية والنبوية التي تتناول مشاهد الطاعة والتضحية، كقصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في عطائه واهتمامه بالفقراء، وكذلك مواقف الصحابة والتابعين في إيثار الغير.
ونوّه إلى أن إشراك الأطفال عمليًا في شعيرة الأضحية يُسهم في تعزيز الشعور بالهُوية الدينية، وينقل القيم من المفهوم إلى التطبيق، فينشأ الطفل مدركًا لمعنى العبادة كمسؤولية ومشاركة لا تقتصر على الكبار.
وأشار المجرفي إلى أن الاستجابة من أولياء الأمور متفاوتة، ما بين وعي تربوي عميق واقتصار على المظاهر الاحتفالية، مؤكدًا على أهمية تنظيم فعاليات توعوية تربوية قبل العيد في المساجد والمدارس، وتفعيل الوسائل الرقمية الموجّهة، وتشجيع الأئمة على تخصيص جزء من خطبهم لفئة الأطفال والناشئة لتأصيل القيم الإيمانية في هذه المناسبات الدينية.