حميدتي ما بين مشروعه السياسي وتسجيله الصوتي (عن متلازمة دكتور جيكل ومستر هايد)!!
تاريخ النشر: 7th, September 2023 GMT
بسم الله الرحمن الرحيم
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
ما طُرح من مبادرة للدعم السريع علي حساب حميدتي في الوسائط الاجتماعية، والتي تحاول بشتي السبل غسل عار الدعم السريع من انتهاكاته، عبر إعادة تدويره كتنظيم سياسي، او اقلاه كقوات شرعية لها اهداف تتعلق ببناء دولة المواطنة، وقبل كل شئ من اجل تحسين صورة حميدتي كداعية لانهاء الحرب وداعم للحلول السياسية.
والحال كذلك، الوصول لمرحلة الحرب الدائرة الآن، والتي تضرب عصب الدولة الحي باستهداف وجودها، يبدو انها نهاية منطقية لكم الفوضي والاستهتار والفساد الهائل الذي وسم حكم الانقاذ. وهذا لا يمنع ان رد البصر كرتين الي الوراء، يظهر مكمن العُطب الذي اصاب الدولة السودانية مبكرا، ليوردها موارد الهلاك الراهنة. وهذا العُطب يتعلق تحديدا بواقعة دخول العسكر الي ساحة السياسة، واستيلاءهم علي السلطة. لانه بدخول العسكر علي السلطة، حصل تحول هو بمثابة (قطيعة اذا جاز التعبير)، اصبحت فيه القوة مصدر السلطة بدل الحقوق. والمقصود ان التحول كان شامل وجذري، ليس علي المستوي المادي (السلطة الحاكمة) ولكن علي مستوي التصور الشامل للوجود العيني والمعنوي (ثقافة استبدادية بكل تبعاتها السلبية كنتاج للحكم العسكري)، وعلي كافة المستويات والابعاد (الدولة واجتماعها وعلاقاتها). وبناء علي ذلك تصبح العلة هي الحكم العسكري منذ العام 1958م وليس دولة 56 المفتري عليها، والتي اتخذها الدعم السريع كقضية تشكل ذريعة لتبرير حربه الغير مبررة ، وكتعويض لافتقاره للقضايا والقيم والمبادئ.
وواحدة من الافرازات الحاسمة للبيئة الاستبدادية، انها فتحت السلطة علي قدرات وامتيازات لامحدودة، كما انها غير مساءلة، وما يستتبع ذلك من زيادة حدة التنافس عليها والانشغال بحفظها! والاخطر من ذلك، تغييبها للمعايير الموضوعية (كشروط المنافسة العادلة) المرتبطة بالبيئة المدنية (كتصور شامل) المصادرة سلفا. وبغياب المعايير الموضوعية من الفضاء العام، حلت محلها المعايير الذاتية والمصلحة الخاصة.
والحال ان حكم القوة المحكوم بالفشل (تراكم الاخطاء وغياب المراجعة والتقييم والمحاسبة)، لم يبرر استخدام ادوات العنف عوض عن السياسة في التعاطي مع الشان العام، ولكنه عظَّم من مكانة وامتيازات من يملك هذه الادوات، وهو المؤسسة العسكرية وعلي الاخص جنرالاتها. وترتب علي ذلك تضخم الجانب العسكري كهاجس للسلطة، بالتوازي مع ضمور الاهتمام بمتطلبات الدولة وحاجات الجمهور. ليزداد الحكم العسكري عنفا وسيطرة مع مرور الايام، كتعويض لفشله واحكام لسيطرته، لياتي حكم نميري اشرس من حكم عبود، وحكم البشير اعنف من حكم نميري، وحكم البرهان حميدتي، اوصل العنف لمرحلة الاقتتال الاهلي. وكل ذلك علي حساب مقومات وجود الدولة وحقوق المواطنين.
وما يهمنا في هذا السياق، ان حكم العسكر ومن خلال دنامياته الداخلية والضغوط الخارجية، يعمل باستمرار علي انتاج اسلوب عمل وقادة يشبهونه، سواء من ناحية استخدام كافة الاساليب لحسم صراعات واطماع ليس لها نهاية، وعلي الاخص الدسائس والغدر والخداع والكذب، وصولا لعرض ثروات البلاد علي الخارج، او من ناحية تغييب معايير الاختيار، او بالاصح الانحدار بها لادني مستوي بحيث تناسب الاساليب القذرة السالف ذكرها. لتصبح عاقبة ذلك صعود قيادت تافهة، وتزداد تفاهة مع مرور الايام، وذلك بذات معدل انتهاكاتها وفسادها و تخريبها للاوضاع الداخلية. والمفارقة ان الحكم العسكري وباغلاقه للفضاء السياسي، ينتج حركات مسلحة كنسخة منه، وقيادات لهذه الحركات من ذات طينة القيادات العسكرية! وكأن الوسيلة المستخدمة في صراع السلطة، تحدد نوعية القادة المتصارعين، والعكس صحيح اي طبيعة السلطة تحدد قادتها! وعليه بتحديد الادوات والوسائل تتحدد نوعية القادة وطبيعة السلطة التي يسعون لها.
اما الجانب الآخر من المسالة الشائكة، يتعلق بمن ينتسبون للمدنية كالاحزاب العقائدية، ووقوعها في حبائل اغراء حكم القوة، لتتورط في دعم الحكم العسكري من خلال اعطائه غطاء سياسي. وما زاد الطين بلة، ان الحكم العسكري وعبر تجفيف منابر الوعي والتمادي في نشر الدعاية والزيف، يستميل البسطاء، بوهم وجود مخلص قادر علي تغيير الواقع بضربة واحدة. لذلك وغصبا عن كل كوارث الجنرالات، وبما فيها تعذيب البسطاء وهضم حقوقهم، نجد الكثير منهم يحلم ويطالب بعسكري صارم ليحكم البلاد (وبعضهم يحن لنميري بطريقة مرضية)!
وهذه الطريقة الانقلابية البائسة المكرورة، المُكرِّسة لمناخ الاستبداد، هي المسؤولة عن انتاج قادة اقزام (دون قيم ومعايير ومؤهلات) من نوعية البشير وقوش والبرهان وحميدتي وجبريل ومناوي وغيرهم من (الهلافيت) الذين ابتلينا بهم. وكذلك شركاؤهم في الضلال ممن يسمي مساعدون ومستشارون، والذين يعملون جهدهم للتلاعب بالوقائع وتزيف الحقائق وتبرير الجرائم والتقليل من حجم الاخطاء، لحشد الدعم من المقاتلين المخدوعين والمناصرين السذج، عبر منح غطاء الشرعية لهؤلاء القادة المجرمين! ومؤكد ان اغلب (المساعدين والمستشارين) تحركهم مآرب ارتزاقية والآخرون مطامع سلطوية، يتم تمريرها عبر خداع وشراء رضا هؤلاء القادة الغافلين. (نشكي في الماضي من انتهازية وتلونات وهوان مبارك الفاضل، لنجد حالته تحولت لظاهرة او تيار جارف راهنا).
وبالرجوع للتسجيل المهزلة الذي فضفض فيه حميدتي عن نفسه وكشف عن حقيقته، مجرد مرتزق مغامر، سمحت له العاب الكيزان القذرة بالوصول الي ما وصل اليه. إلا ان خلاصة الخطاب تعبر عن مدي حنق وغيرة حميدتي من بقاء البرهان علي سدة السلطة، التي تتيح له السفر ومقابلة رؤساء الدول، وهو ما فقده حميدتي، الراغب في الحلول محل البرهان، ولو عبر بحور من دماء جنوده قبل اعداءه، الذين يحاول استمالتهم بطريقة فجة. اما ما اثبته التسجيل بما لا يدع مجالا للشك، ان مليشيا الدعم السريع ليس في وارد الدخول في مفاوضات جادة لانهاء الحرب، وان ما تدعيه من رغبة في التفاوض، ما هو إلا دعاية تسويقية لكسب ود الخارج، في حين انها داخليا تستبطن الخدعة، والغدر عند تهيئة الظروف، لحسم الحرب عسكريا! وهذا غير ان الحرب هي اللغة الوحيدة التي تعرفها هذه المليشيات، اي كجزء من بنيتها وليس عارض تفرضه ظروف استثنائية! وتاليا هي قوات في حالة استنفار علي الدوام، ومن هنا خطورة وجودها علي الاستقرار. لذلك من السخرية المريرة بمكان، ان تتحدث هذه المليشيات بلسان الحكمة والبحث عن حلول للمشاكل! لانها ببساطة هي المشكلة، بل ام المشاكل (إلا اذا كان علاج السرطان هو السرطان، او هذا ما يعبر عن حال حميدتي)!
كما بين التسجيل من جانب آخر، عن مدي غرور حميدتي الاجوف (مركب جنون العظمة والضعة). وعن طبيعة العلاقة التي تربط بينه وخليله البرهان، والتي رغم استمرارها لما يزيد عن العقدين من السنين، ارتكبا خلالها من الجرائم ما يجعلهما في مصاف كبار الطغاة والسفاحين. إلا انها علاقة من الهشاشة والتربص بمكان، الشئ الذي احالها بكل سهولة الي احقاد متبادلة لا يمكن جسرها. وذلك ليس مصادفة بمعرفة اخلاقية ومطامع كل من الرجلين. فالبرهان دعم حميدتي بصورة غير مشروطة، من اجل ان يؤَمِن له السلطة كما عمل سلفه البشير. ولكن الفارق ان البرهان وبسبب جبنه وغبائه وطمعه الاعمي، حوَّل حميدتي من مجرد حامي للسلطة، الي طمعان فيها، بعد ان تضخمت مكاسبه العسكرية والاقتصادية لدرجة تكوين دولة موازية! والحال كذلك لو سمح لاحد ان يسجد لاحد، لوجب ذلك علي حميدتي في حق البرهان، كتعبير عن شكره له! ولكنها اخلاق اللؤم ونكران الجميل التي اتصف بها حميدتي. اما ما قدمه حميدتي للبرهان فوصوله لرئاسة مجلس السيادة والبقاء فيه، وحمايته من انقلاب الجيش عليه، ومساعدته في التآمر علي الثورة وحكومتها والفترة الانتقالية، واستمر ذلك حتي خلافات ما بعد الانقلاب.
اما التلميح لدولة 56 المغضوب عليها والفلول، كمبرر لهذه الحرب، وما رافقها من انتهاكات تليق بهمجية المليشيا، فهي مردود عليها. لانه اذا كانت دولة 56 فاشلة، فالدعم السريع احد افرازاتها بعد ان حطمها العسكر، وتاليا حل المشكلة يمر عبر حل مليشيات الدعم السريع. اما الفلول فهم الرحم الذي انجب هذه المليشيات. وعليه، اي معالجة لمشكلة الفلول تصبح هي ذات الوصفة التي تعالج معضلة الدعم السريع. والعلاج عموما يتعدي التفكيك للمحاسبة، اذا كانت هنالك امكانية لحلول جذرية، ولكن للاسف هذا غير متاح. اما اذا كانت القصة مركز وهامش اذا ما صحت تلميحاته المثيرة للفتن، فما ناله الدعم السريع من سلطة وثروة، لم يتحصل عليه احد في تاريخ هذه البلاد سوي الكيزان، وبالطبع عبر النهب والفساد والارهاب. اما بقية خطرفات وهراء التسجيل فلا قيمة له. بل لو كنت اؤمن بنظرية المؤامرة، لاعتبرت ذلك التسجيل الفضيحة، فخ منصوب لحرق شخصية حميدتي، كقدمة لاخراجه من المشهد! وهذا بالطبع اذا صح انه حي يرزق، وليست العاب اعلامية واكاذيب واشاعات سببت لنا الدوار!
اي باختصار ليس للدعم السريع قضية او مبدأ يقاتل من اجله، ولكنها طموحات مسخ شيطاني يملك مليشيا بربرية، يصور له جهله انه امبراطور قادم لحكم السودان والدول المجاورة، وحوله مستشارين وطامعين يسعون بشكل محموم لاعادة انتاج سلطة الانقاذ ولكن بنسخة اكثر وحشية وهمبتة.
واذا كان هنالك من يشبه حميدتي في اوهامه وجهله واجرامه وطمعه في السلطة من غير مؤهلات، ولو علي انقاض الدولة وهلاك شعبها، فهو البرهان (الطبل الاجوف). ولذلك ليس لحميدتي او البرهان ما يزايدان عليه، فكلاهما شريك في كل الجرائم والخراب ما قبل الحرب و ما بعدها.
وما نشاهده من تباري في القتل المجاني وإحداث الدمار واضاعة فرص الاتفاق لايقاف الحرب، وبما فيها الفرصة الاخيرة بعد خروج البرهان. واصرارهما علي ممارسة ذات الاساليب القديمة في المراوغة والكذب والعمالة للخارج والوقوع في احضان الفلول في الداخل، للبقاء في سدة السلطة او الاستيلاء عليها. ما هو إلا دليل علي المحنة التي تعيشها الدولة والمجتمع الخاضع لسلطة (امزجة/رغبات/مخاوف) الافراد، سواء باستخدام المؤسسة العسكرية والاجهزة الامنية اوالعصابات المليشياوية. كما انه يثبت الخاتمة البائسة والنتيجة الكارثية، لاستبدال قيم وثقافة الحرية بقيم وثقافة الاستبداد.
وللاسف واحدة من نتائج تكريس الاستبداد بكل تبعاته، هو الياس من قدرة الاطراف الداخلية علي معالجة الماساة السودانية، سواء كعسكريين او مدنيين. اي الاستبداد لم يورثنا الكوارث والفساد فحسب، وانما العجز والشلل التام لمواجهتها. والحال كذلك، لم يتبقَ لنا إلا المجتمع الدولي، ولكن لسوء الحظ هو نفسه يعاني الارهاق وقلة الاهتمام، وصعوبة التعامل مع اطراف الحرب، وهي بكل هذه اللامسؤولية.
واخيرا
حميدتي ما تستخدمه من لغة (راندوك) وطرح (شفوت) ليس له علاقة بالسياسة او رجال الدولة، وتاليا ما يعد به ليس دولة ديمقراطية وانما دولة مليشيات! كما ان ما تمارسه قواتك الهمجية علي ارض الواقع من دمار لمؤسسات وممتلكات الدولة، وانتهاكات لحقوق المواطنين، هو فعليا استبدال دولة 56 بمملكة سوبا المخربة، وتعريض المجتمع لمحنة حكم التعايشي ومجاعة سنة ستة! اي غراب شؤوم هذا الحميدتي!!
اما البرهان وبعد خروجه من الحصار (وهو للعجب يعتبره انتصار يفاخر به)! كان هنالك عشم بسيط ان يعيد الاعتبار لمحادثات جدة، بمنحها دفقة جدية تتلاءم مع ما يعانيه المجتمع من عذاب، بسبب الحرب الكارثية التي تطاول امدها! ولكن البرهان كعادته (في الغدر والكذب والطمع) رجع لذات خط انقلابه الذي يدعمه الفلول وتحالف الموز والمصريون. لنرجع لواقعة مراوحة ما قبل الحرب، فقط الفارق استبدال لغة المرواغة السياسية باللغة الحربية، باكلافها الباهظة علي المجتمع ومخاطرها علي البلاد.
ورغما عن كل شئ ليس هنالك وجه للمقارنة بين الجيش والجنجويد، فالجيش مؤسسة افسدها التسييس، ولكن الجنجويد تاسيس للنهب والجريمة والفساد. ودمتم في رعاية الله.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحکم العسکری الدعم السریع اذا کان دولة 56
إقرأ أيضاً:
زيارة لمهمة واحدة.. هل يملك محمود عباس فرصة فعلية لنزع سلاح حماس في لبنان؟
مع زيارة محمود عباس إلى بيروت، عاد إلى الواجهة سؤال حساس يعكس تناقضا عميقا في الرؤى الفلسطينية واللبنانية والإقليمية: هل تسعى السلطة الفلسطينية لنزع سلاح الفصائل المحسوبة على محور المقاومة، وعلى رأسها حماس؟ وهل تملك القدرة أو التغطية السياسية لذلك؟ هذا الملف الذي ظل مؤجلا لسنوات، يعود اليوم في لحظة استثنائية تفرض نفسها على الجميع. في هذا المقال، نعرض الرؤيتين المتصارعتين: بين من يرى في الزيارة مغامرة عبثية، ومن يعتقد أنها قد تكون بداية تحول استراتيجي نادر.
أولا: وجهة نظر المشكّكين.. "السلطة لا تملك اليد ولا الغطاء"
هذا التيار ينطلق من مقاربة واقعية ترى أن ميزان القوى في المخيمات الفلسطينية في لبنان لا يسمح بأي محاولة فعلية لنزع سلاح حماس أو الجهاد الإسلامي. فالسلاح داخل المخيمات لا يُدار من قبل السلطة، بل يدور في فلك محور المقاومة، وتحديدا تحت مظلة حزب الله وإيران.
لبنان الرسمي نفسه، بات أكثر تقبلا لأي مبادرة تنزع فتيل المخيمات، خصوصا أن بعض الفصائل داخلها باتت تُقلق الدولة أكثر من كونها أدوات مقاومة. وفي حال نجح عباس في تقديم نفسه كشريك في ضبط الأمن داخل المخيمات، فقد يجد غطاء دبلوماسيا غير معلن، يسمح له بفرض هيبة السلطة كـ"المرجعية الوحيدة" للفلسطينيين
بالنسبة لهؤلاء، فإن أي محاولة من محمود عباس لنزع هذا السلاح لن تكون فقط غير قابلة للتنفيذ، بل قد تكون خطرة؛ لأنها تعني دخولا في صدام مباشر مع مكونات مسلحة وقادرة على الرد، خصوصا في مخيمات مثل عين الحلوة، التي شهدت في الشهور الأخيرة اشتباكات دموية بين فتح ومجموعات إسلامية.
كما أن التوازنات اللبنانية الدقيقة، التي تمنع الدولة من الدخول للمخيمات، تجعل من أي تحرك فلسطيني داخلي لنزع السلاح مخاطرة غير محسوبة. يُضاف إلى ذلك أن المجتمع الدولي لم يمنح عباس تفويضا صريحا في هذا الملف، بل يتعامل معه كطرف محدود القدرة في الساحة الفلسطينية نفسها.
ثانيا: وجهة نظر المؤيدين.. "اللحظة مؤاتية والانحناءات تكشف الهشاشة"
على الجانب الآخر، يعتقد مؤيدو هذا المسار أن لحظة استثنائية تُشكل فرصة نادرة أمام عباس لتقويض بنية حماس المسلحة خارج غزة. فالسياق السياسي تغيّر: حزب الله يتعرض لضغوط غير مسبوقة؛ داخليا من خلال الاحتجاجات والأزمة الاقتصادية، وخارجيا من خلال العقوبات والضغط الدولي.
أما حماس، فقد سلّمت بالفعل عناصر أطلقوا صواريخ من الجنوب اللبناني، ما يُفسَّر كرسالة ضعف تكتيكي أو محاولة لتفادي التصعيد مع الدولة اللبنانية. في نظر عباس، هذا السلوك يُشكّل انحناءة قد تكون كافية للشروع في محاصرة البنية العسكرية لحماس في لبنان، بدعم سياسي لبناني وعربي وغربي ضمني.
لبنان الرسمي نفسه، بات أكثر تقبلا لأي مبادرة تنزع فتيل المخيمات، خصوصا أن بعض الفصائل داخلها باتت تُقلق الدولة أكثر من كونها أدوات مقاومة. وفي حال نجح عباس في تقديم نفسه كشريك في ضبط الأمن داخل المخيمات، فقد يجد غطاء دبلوماسيا غير معلن، يسمح له بفرض هيبة السلطة كـ"المرجعية الوحيدة" للفلسطينيين.
سيناريوهات محتملة: بين الاحتواء والانفجار
السيناريو الأول هو احتواء هادئ يبدأ بنزع محدود للسلاح أو حل مجموعات صغيرة، يتم بالتنسيق مع الدولة اللبنانية وبعض الفصائل. هذا السيناريو يتطلب ذكاء سياسيا، وتنسيقا أمنيا، وتدرجا زمنيا، لكنه يبقى ممكنا إن حافظت القوى الإقليمية على حيادها.
لذلك على مستوى الفصائل الفلسطينية، فإن موقف حماس والجهاد الإسلامي يتسم بالحذر الشديد. فرغم أن كلا الحركتين تسعيان لتجنب أي صدام مباشر مع الدولة اللبنانية أو السلطة الفلسطينية، إلا أنهما تدركان أن أي محاولة لنزع سلاحهما في لبنان قد تعني خسارة إحدى أهم ساحات العمق الاستراتيجي خارج غزة. لذا، فإنهما تميلان إلى اعتماد سياسة التهدئة والمناورة، دون التخلي الفعلي عن سلاحهما.
السيناريو الثاني هو الانفجار: أن تفسّر حماس أو الجهاد هذا التحرك كاستهداف مباشر من السلطة، فترد أمنيا، وهو ما قد يفتح اشتباكات داخلية فلسطينية داخل المخيمات، تمتد لاحقا إلى توترات لبنانية أوسع. في هذا السيناريو، يكون عباس قد أشعل شرارة حرب أهلية مصغرة لا يملك أدوات إطفائها.
دور الإقليم والمجتمع الدولي: بين التواطؤ والصمت
حتى اللحظة، لم تُصدر عواصم القرار أي مواقف علنية داعمة لمسعى نزع السلاح، لكنها لم تعترض عليه أيضا. هذا الصمت قد يُفهم كضوء أخضر لخطوة تدريجية، تبدأ بالضغط السياسي ثم الأمني على الفصائل غير المنضبطة.
أما عربيا على مستوى مصر والأردن، فقد يُفضَّل بقاء السلاح في يد السلطة، طالما أن البديل هو الفوضى أو الحركات الإسلامية المسلحة.
يقف محمود عباس على مفترق حاسم، والوقائع على الأرض ستُحدد ما إذا كان سيُحسَب له أنه أنهى فوضى السلاح في الشتات، أم أنه فتح بابا لصراع أهلي داخل المخيمات
وبخصوص المملكة العربية السعودية، التي تُعد فاعلا إقليميا مؤثرا في كل من لبنان والملف الفلسطيني، فهي تراقب هذا الملف بحذر. ورغم غياب التصريحات العلنية، إلا أن سياستها المعلنة بدعم "الشرعية الفلسطينية" وحصر السلاح بيد الدولة، تقرّب موقفها من رؤية عباس. كما أن توازناتها في لبنان، وتحضيراتها الإقليمية قد تجعلها من بين أبرز المستفيدين من أي تهدئة منضبطة في المخيمات، خاصة إذا جاءت في سياق إضعاف نفوذ حماس، وتعزيز دور السلطة كطرف تفاوضي مستقبلي.
إقليميا، تبدي طهران حرصا على بقاء السلاح الفلسطيني خارج الضفة وغزة في يد حلفائها كجزء من منظومة الردع الإقليمي. أما الدوحة وأنقرة، ورغم تراجع حضورهما العلني، فلا تزالان تراعيان التوازن مع السلطة الفلسطينية، وقد لا تعارضان خطوة تدريجية إذا تمت بسلاسة وبعيدا عن الاصطدام المباشر. ومع ذلك، فإن هذه العواصم ستراقب بعناية أي خطوة قد تؤدي إلى انقسام داخلي فلسطيني يُضعف الجبهة السياسية في مواجهة الاحتلال.
خاتمة: نقاش مفتوح.. وبذور صراع
بين الواقعية السياسية والطموح النادر، يقف محمود عباس على مفترق حاسم، والوقائع على الأرض ستُحدد ما إذا كان سيُحسَب له أنه أنهى فوضى السلاح في الشتات، أم أنه فتح بابا لصراع أهلي داخل المخيمات.
وإن غادر بيروت، فقد ترك خلفه بذورا سياسية وأمنية في تربة مشبعة بالتوتر، فهل يكون الحصاد نزع سلاح منضبط، أم انفجارا فلسطينيا لبنانيا لا يمكن احتواؤه؟