لجريدة عمان:
2025-06-01@21:22:02 GMT

أوّلُ القَصَصِ «2»

تاريخ النشر: 16th, July 2024 GMT

أوَّلُ بلد أزوره من الخليج العربي كانت عُمان، ولم أكن أعرف قبل سنة 2007 تلك البلاد ولا أهلها، وكانت وِجْهتي الأولى نزوى، حيث أقمْتُ في فُنْدق بـ «فرْق» قبل أن تنقلنا الجامعة إلى الشُقق المُخصّصة لنا، وكُنّا في شهر رمضان، فكانت الغُرْبة مضاعفة، خاصّة أنّ السنة التدريسيّة لم تبدأ بعد، وفي ليلة من ليالي السّمر الرمضانيّة التي استضافني فيها جملة من الأصدقاء العُمانيين الحادثين، فُوجِئتُ بأنّهم يتبارزون بعرْض أجدادهم، انتسابا إلى الجدّ الثامن أو العاشر أو ما يفوق ذلك، وفُوجِئتُ أيضا أنّهم يعرفون القبائل، وما تفرّع عنها من بطون وأفخاذ وعشائر، وفُوجِئتُ أيضا أنّهم يعرفون كل لقبٍ إلى أيّة قبيلة يرجع، وحكاية الانفصال أو التغيير أو التبدُّل، والأعراق وما داخلها من شعوبٍ وقبائل، وما إلى ذلك من معارف اجتماعيّة، أدركتُ من بعد ذلك أنّ معرفتها واجبٌ على كلّ فردٍ من القبيلة، وصُعِقت أنا الذي بالكاد يُمكن أن أعرف اسم جدّي ثمّ أقف لا أعرف من بعد ذلك شيئا، وهو أمرٌ لا أختصُّ بجهْله وعدم طلب العلم به، وإنّما هو ظاهرةٌ تسودُ جيلي والأجيال السابقة عنّي والأجيال اللاّحقة في بلادي، ذهلت أيضا أنّ صحْبي من العُمانيين يختزنون كمّا رهيبا من الحكايات، ومن الأساطير، ومن الوقائع التي تبدو لبعضهم حقائق وأراها من توليد عقل تخييلي له طاقة عجيبة على القصص.

ولذلك، عندما فتحتُ مبحث سردية الخبر في التراث العربي في رسالة الدكتوراه التي أنْجزتُها بإشراف الرائد في علم الأخبار الأستاذ محمّد القاضي، اعتقدتُ أنّ الدخول بالكتابة في الأنساب والحكايات العالقة بها بهذا الشكل المفرط، الذي تتميّز به الآداب العربية، هو من نافلة المباحث، وأنّه اهتمام صفوةٍ من العرب، أرادوا الحفاظ على نِسْبَتهم وانتسابهم أمام دخولِ شعوب أخرى الإسلامَ، شعوبٌ تعرَّبت وانتمت إلى القبائل العربيّة، ولم يُرَد لها أن تذوب في الأصل العربيّ. والحالُ أنّ الأمر لم يكن لهذه الغاية فحسب، بل هو راجعٌ إلى ميزة فطريّة عند العربيّ أنْ يرتبط بأصله، وأن يظلّ موتودا إلى سلفه، مرْتبطا بعرقه، مفتخرا به. والحديث في النسب عند العرب، شفويّا كان في أحاديثِ شقٍّ من سُكّان الجزيرة العربيّة لحدّ اليوم، أو في المنقول المكتوب من كتب جمّة ووفيرةٍ، لم يكن محض روايةٍ لتسلسل النسب، وإنّما النسبُ حكاية، وقَصص تُرْوى، ولذلك عددتُ كُتب الأنساب من المصادر الأولى التي خلَّقت القَصص وولّدت أصوله في تراث العرب، ومن المقامات التي ساهمت بشكلٍ فاعلٍ في إنتاج مدوّنةٍ قصصيّة ما زالت فاعلةً بأشكال مختلفة في الأدب العربيّ. مدوّنات في النسب عديدة، يعسُرُ جمعها ووسْمها بسمةٍ واحدة، تُستَهلُّ تدوينا بكتابٍ له الأثر الكبير في مرويّات العرب الأخباريّة والإحاليّة والتخييليّة والأنسابيّة والسِيَريّة، وهو كتاب «جمهرة النسب» لأبي المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبي (تـ 204 هـ)، الذي جمّع المرويّات الشفويّة في النسب، ونقلها إلى صحيفةٍ مدوّنةٍ تناقلها عنه الرُّواة وصدّروها منطَلقا رئيسا لكلّ خائضٍ في «علم النَّسب»، الذي ظاهرُه بيانٌ لأصول القبائل العربيّة، وباطنُه حمَّالُ فِكَرٍ ومعتقدات، ومنه تفرّعت مُصنّفات تقترب منه وتبتعدُ، في ذكر أنساب العرب وقصّ حكايات الآباء والأجداد، والصلات والعلائق، الحوادث والوقائع، الأمّهاتُ ومنازلهنّ وما خلّفن من سلالات فانية أو باقية، إلى غير ذلك من معارف وأخبار وقصص قد لا نجد مصادرها إلاّ في كُتب الأنساب، وقد عَدّ محقّق كتاب «جمهرة النسب» هشام بن السائب الكلبي «رائدَ المؤرّخين في علم الأنساب، بما له من مشاركة ملموسة في الحياة الثقافية والفكرية للإسلام. وقد ظل ابن الكلبي لفترات طويلة تجاوزت عصره من أبرز وجوه الإسلام لدى مؤرخي عصره ومَن بعدهم. وقد تجلّى ذلك حين اعتمدت المؤلفاتُ اللاّحقة على كتاباته إلى حدّ بعيد». ولا فائدة في هذا المقام من التوسُّع في عرْض هذه المصنّفات التي تخصّصت في الأنساب العربيّة، فليس هذا مقام عرْضها، ولكن غايتنا توجيه الباحثين إلى ثراءٍ قصصيّ كبير موجود قي هذا المقام النثري ظلّ إلى حدّ اليوم بِكرا، غُفلا، يحتاج دراسةً عميقةً، تتوسَلُ بالأدبيّ واللّسانيّ والتاريخي والأنثروبولوجي، إعمالا للدرس التداوليّ الثقافيّ. ويُمكن أن نقصِر إشارتنا في مثالٍ مبينٍ عن ظاهرة علوّ السرديّة في تتبّع الأنساب، هو كتاب «الأنساب» لأبي المنذر سلمة بن مسلم العوتبي الصحاريّ، الذي توسّع فيه صاحبه في تقَصُّد قصص الأقدمين، وطلب حكايات الأنساب، وهو يبدأ ضَبْطَه للنسب من أوّل الخلْق، ويسير قُدُما عارضا قصّة آدم خلْقا وعصيانا ونزولا إلى الأرض، وحكايات الجنّ، وقصّة قابيل وهابيل وما دار من صراع بينهما، وغير ذلك، ممّا رافق سرد النسب من قصص موجودٍ في القرآن الكريم، أو مأثورٍ في التفاسير، أو مدوّن في مؤلّفات المؤرّخين. ومن ذلك أنّه عند بيانه لنَسَب مالك بن فهْم الأزدي وانتشار ولده، واختياره السكن في أرض عُمان، يروي قصّة جَنّتي «مأرب وما كان من أمرهما وانتقال الأزد منهما حين حُشِروا بسيْلٍ»، ويتوسّع في بيان قصّة الجنّتين الوارد ذكرهما في القرآن، يقول: «وكانت جنّتاهم من وراء السور، وقصورهم داخل الجنّتين. والجنّتان كلّ تؤتي أكلها كلّ حين. وكان أحدهم إذا أراد الماء رفع تلك الأبواب التي تلي جنته بابا، فخرج الماء إلى جداول تخترق في قصورهم، وجنّاتهم، وحدائقهم، وإذا استغنى أرسل الباب. وكانوا قد غرسوا على ذلك الماء الجنّتين اللّتين ذكرهما الله تعالى في القرآن عن يمين وشمال وظلّلوهما حتى كانتا لا تدخلهما الشمس ولا الريح وكان من أمرهما كما ذكر الله تعالى (...) فكانت المرأة تخرج من مأرب، إلى بلد الشّام، تريد بيت المقدس، ومغزلها في يدها، ومكتلها على رأسها، بلا زاد. وكانت إذا أرادت الأكل أصابت مكتلها مملوءًا كلّه ثمر، ممّا ألقته الريح من غير أن تجتنيه، فتأكله. ولم يكن في بلدهم سبُع، ولا حيّة، ولا شيء من الهوامّ يُخاف منه». وقِس على ذلك من أُصول الحكايات التي يُهْتَدى في شِقٍّ من صياغتها السرديّة بهيْكلة القصص القرآنيّ، ويُهْتدى في شِقّ آخر بقوّة المخيَّلة العربيّة على ابتداع «عوالم قصصيّة ممكنة». ولا يحيد العوتبي في روايته عن الثيمات القصصيّة الكُبرى الواردة في القصص القرآني، وهو يجتهد في تعبئة الموتيفات القصصيّة التوسيعية، التي تضخِّم النوى الأصليّة وتفخّمها وتُفصّلها، ليَصْنَع بذلك سُرُودا أُولى يُمكن أن تكون مشاريع روائيّة تستلهم تخييل التاريخ، ولا ننسى أنّ أعمالا روائيّة وسينمائيّة عالميّة كبرى مَتَحت نواها السرديّة من موروثها التاريخي والأسطوري، وهو الأمر الذي يُكوّن ثغرة وَسيعة في أعمال الروائيين العرب اليوم، الذين ظلّ التاريخ بعيدا عن تناولهم التخييلي، التاريخ الذي تكتّلت قصصه حدّ بلوغ أوجها في «ألف ليلة وليلة»، ولذلك، هل يحقّ للناقد أن يستبق الروائيّ وأن يُفتّح له مسالك في الكتابة القصصيّة، تبدو بعيدة المنال، وهي الأقرب؟ هل يحقّ لي أن أتحدث عن قصص ضاربٍ في التاريخ، منغرسٍ في الطبع العربيّ؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العربی ة

إقرأ أيضاً:

عاصم منير.. الجنرال الباكستاني الذي تخشاه الهند

في الأول من مايو/أيار الماضي، وقف قائد الجيش الباكستاني الجنرال عاصم منير (رُقي إلى رتبة فيلد مارشال "مشير" بعد ذلك بأيام) فوق دبابة أثناء مناورة عسكرية، مُوجِّها خطابا تحذيريا للهند بعدما تصاعدت حدة التوترات بين البلدين، حيث أعلنت نيودلهي عن نيتها شن هجومٍّ على مواقع عسكرية باكستانية. خطب قائد الجيش في قواته حينها قائلا: "أي مغامرة عسكرية غير محسوبة من جانب الهند ستقابلها باكستان برد سريع وحازم وصاعق".

اعتُبرَت كلمات منير الظهور الإعلامي الأشهر والأكثر حدة له، رغم ما عُرِف عنه من تفضيله العمل بعيدا عن عدسات الإعلام، واقتصار ظهوره على المناسبات العسكرية الرسمية منذ توليه المنصب الأعلى في الجيش الباكستاني في نوفمبر/تشرين الثاني 2022.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف واجه العثمانيون وحشية دراكولا الحقيقي؟list 2 of 2مشروع "الهيئة": أن تعرف ما تريد خلال الطريقend of list

حظي خطاب منير باهتمام واسع النطاق، لا سيما بعدما تعهد بالوقوف إلى جانب الكشميريين الذين يخوضون "نضالا بطوليا" ضد "الاحتلال" الهندي حسب وصفه، وهو ما دفع بعض المحللين إلى اعتبار كلماته تحوُّلا في الموقف الباكستاني الذي بات يتخذ طابعا أكثر تحديا وميلا إلى المواجهة المباشرة مع الهند. وفي 6 مايو/أيار، منح رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف تفويضا كاملا من الحكومة للجيش الباكستاني كي يرد ردا مناسبا على الهجوم الهندي، ومن ثم صار عاصم منير مهندس الهجوم المضاد الذي شنته باكستان على عدة مواقع عسكرية في الهند.

إعلان

خلال الحرب التي استمرت زهاء 4 أيام فقط، وقبل أن يدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، صرَّح المتحدث باسم الجيش الباكستاني عن تحليق مُسيَّرات بلاده فوق العاصمة الهندية نيودلهي، وإسقاط 5 مقاتلات هندية بينها 3 من طراز "رافال" الفرنسية. وفي يوم 10 مايو/أيار، خرج رئيس الوزراء شهباز شريف مُعلنا انتصار بلاده في صدِّ العدوان الهندي، ومُوجِّها الشكر لقائد الجيش عاصم منير (إضافة إلى قائدي القوات البحرية والجوية) قائلا إنه "لولا عزيمته القوية وذكاؤه الحاد وقيادته البطولية لما تمكنت البلاد من تحقيق هذا الانتصار التاريخي على الهند".

وفي أعقاب ذلك خرج سكان المدن الكبرى إلى الشوارع مُعبِّرين عن فرحتهم وواصفين منير بأنه "بطل الأمة الباكستانية"، وقد زَينت صوره شوارع العاصمة الباكستانية إسلام آباد مع العلم الأخضر ولافتات النصر.

باكستانيون أمام ملصق يحمل صورة رئيس أركان الجيش الباكستاني الجنرال عاصم منير، على طول طريق في لاهور في 16 مايو/أيار 2025 (الفرنسية) "الملا منير"

في عام 2023، وفي قاعة فندق مكتظة بالوزراء والدبلوماسيين والجنرالات بالعاصمة الباكستانية إسلام آباد، وصف مراسل هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، فرحات جاويد مقابلته الأولى مع الجنرال عاصم منير قائلا: "كان يتحرك بين الجمع بهدوء وثقة، ويرتدي ملابس مدنية، وقد بدا عليه أنه شخص قليل الكلام ومهذب".

لكن بمجرد أن صعد منير إلى المنصة لإلقاء كلمته، تحوَّلت نظرته الهادئة إلى مزيج من الصرامة والحزم، وافتتح خطبته بتلاوة آيات من القرآن الكريم، والتي أصبحت عادة مُميِّزة له بوصفه "حافظ القرآن" الأول الذي يصل إلى منصب رئيس الأركان. كان منير قد أكمل حفظ القرآن كاملا أثناء وجوده في المملكة العربية السعودية وهو ابن 38 عاما، حيث شارك في برنامج التعاون الدفاعي بين الرياض وإسلام آباد.

إعلان

ولد سيد عاصم منير أحمد شاه في مدينة راوَلبندي بإقليم البنجاب في يونيو/حزيران 1966، وهو ينحدر من عائلة متدينة مرموقة تعود أصولها إلى مدينة جالَندَر في الهند، لكنها هاجرت إلى باكستان في أعقاب استقلال باكستان عن الهند عام 1947.

لم تخلُ نشأة منير من تربية دينية، فقد كان أشقاؤه من حفظة القرآن الكريم، أما والده سيد منير فكان معلما وإماما، وعمل مديرا لمدرسة "إف جي" الفنية بمدينة طارق آباد، وهي المدرسة التي تلقى فيها منير تعليمه الأساسي قبل أن يلتحق بمدرسة "دار التجويد" المركزية حيث درس القرآن والتجويد. ولهذا السبب تطلق عليه وسائل الإعلام الهندية لقب "الجنرال الملا" أو "الملا منير"، وهو اللقب الذي اشتهر به بين نقاده، إذ أبدى البعض تحفظه على مرجعيته الدينية واستشهاده المتكرر بالقرآن الكريم في خطاباته، معتبرين أن ذلك دلالة على التوجه الديني المحافظ للجنرال الباكستاني.

بدأ منير حياته العسكرية عام 1986 عندما التحق بمدرسة تدريب الضباط في مانغلا، ثم انضم إلى "أكاديمية كاكول العسكرية" شمال غربي البلاد حيث أصبح متدربا في كتيبة من حرس الحدود. وقد واصل منير تعليمه في العديد من المؤسسات والمعاهد العسكرية حول العالم، كان منها مدرسة فوجي في اليابان، وكلية القوات المسلحة الماليزية، وكلية القيادة والأركان في كويتا الباكستانية. وعلاوة على ذلك، نال منير درجة الماجستير في السياسات العامة وإدارة الأمن الإستراتيجي من جامعة الدفاع الوطني في إسلام آباد.

تقلد منير العديد من المناصب، إذ خدم تحت قيادة الجنرال قمر جاويد باجوا الذي كان آنذاك قائدا للفرقة العاشرة، وتدرج في المناصب حتى أصبح قائد الفيلق الأول في مانغلا. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2014 رُقي إلى رتبة لواء عندما تولى قيادة قوات الجيش الباكستاني في المنطقة الشمالية، وهو منصب ظل فيه حتى عام 2017، عندما نال رتبة فريق بعد تعيينه مديرا عاما للاستخبارات العسكرية، وهي الوحدة المكلفة بالشؤون الداخلية للجيش.

إعلان

وبعد عام واحد، تولى منير منصب مدير المخابرات العامة الباكستانية، ليصبح بذلك أول قائد للجيش يتولى رئاسة أهم جهازين استخباريَّيْن، الأمر الذي منحه خبرة كبيرة في فهم ديناميات الجيش الداخلية، إلى جانب ملفات الأمن القومي.

لم يستمر الجنرال عاصم منير في هذا المنصب إلا ثمانية أشهر فقط، إذ أقاله رئيس الوزراء السابق عمران خان دون أن يعلن عن سبب إقالته، لكن مصادر إعلامية تكهنت بوجود خلافات بين الرجلين. وفي أثناء الفترة التي فصلت بين تعيينه مديرا للمخابرات العامة وتوليه رئاسة الأركان، تقلَّد منير منصبين هامين هما منصب قائد الفيلق 30 في مدينة كوجرانوالا بإقليم البنجاب عام 2019، ومنصب المدير العام للإمداد والتموين في القيادة العامة للقوات المسلحة الباكستانية عام 2021.

حين خرج عمران خان من السلطة في أبريل/نيسان 2022، لم يثنِه ذلك عن معارضة ترقية عاصم منير إلى منصب قائد الجيش، واتهم خانُ المؤسسة العسكرية بقيادة الجنرال جاويد باجوا بأنها هي من أطاحت به، ومن ثم تفجرت أزمة سياسية كبيرة سرعان ما أفضت إلى محاكمة عمران خان وسجنه مدة عامين. ونتج عن ذلك اضطرابات سياسية حيث خرج مؤيدو خان في احتجاجات خلال مايو/أيار 2023 انتهت بأعمال شغب أضرموا خلالها النيران في بعض المباني الرسمية والمنشآت العسكرية.

وفي خضم هذه الأزمة السياسية الكبيرة، تولى عاصم منير رئاسة الأركان يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2022. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024 أقر البرلمان الباكستاني تعديلا على قانون الجيش يقضي بتمديد فترة ولاية قادة القوات المسلحة من ثلاث إلى خمس سنوات، وهو تعديل رسَّخ وجود منير على رأس القيادة العسكرية حتى عام 2027.

رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف (في المقدمة، يمين) برفقة رئيس أركان الجيش الباكستاني، الجنرال سيد عاصم منير (في المقدمة، يسار)، وهما يصلان لزيارة معسكر باسرور في سيالكوت، إقليم البنجاب في 14/مايو أيار 2025. (الفرنسية)

وبالنظر إلى الدور الموسع للجيش الباكستاني، والذي يعتقد محللون وخبراء أنه يمتد إلى الشؤون السياسية والاقتصادية للبلاد، وصفت صحيفة نيويورك تايمز منير بأنه بات "الرجل الأقوى في باكستان"، في إشارة إلى أن الجيش الذي حكم البلاد مباشرة قرابة 4 عقود، لا يزال السلطة الأثقل فيها.

إعلان

في المقابل، واجه عاصم منير ضغوطا سياسية تتعلق بإثبات جدارته واستعادة ثقة الشعب بالجيش مرة أخرى، إلى جانب التوترات الإقليمية والأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أعقبت جائحة كورونا، وتفاقُم الوضع الاقتصادي بعدما اجتاحت البلاد موجة فيضانات كارثية. ووفقا للخبراء فإن هذه التحديات الكبيرة أثقلت كاهله وجعلت الإستراتيجيات الطويلة الأمد والمعقدة التي اتبعها سلفه في احتواء الأزمات الإقليمية غير ممكنة، ولهذا كان على منير تبني إستراتيجية جديدة أكثر حزما تعتمد على الاستجابة السريعة للأزمات.

كشمير.. شريان الحياة

لطالما عُرف عن الجنرال عاصم منير حرصه على صورته العامة، فالرجل عادة ما يتجنب التصريحات العفوية والأضواء، لكن خطاباته في الأشهر الأخيرة اتسمت بالقوة والحزم، وتردَّد صداها إلى خارج باكستان، وأثارت حفيظة العديد من عواصم العالم وعلى رأسها نيودلهي.

ففي 17 أبريل/نيسان 2025، ألقى منير كلمة أثناء مؤتمر للمغتربين الباكستانيين في إسلام آباد، وصف فيه إقليم كشمير المتنازع عليه مع الهند بأنه "شريان الحياة" لباكستان، قائلا: "لن نتخلى عن إخواننا الكشميريين وهم يخوضون نضالهم البطولي ضد الاحتلال الهندي". وفي الخطاب نفسه، استشهد منير "بنظرية الأمتين" التي تأسست على أثرها جمهورية باكستان عام 1947، إذ أشار إلى أن المسلمين والهندوس شعبان منفصلان، مما يستوجب أوطانا منفصلة لكل منهما.

جاء الخطاب قبل أيام من الهجوم الذي وقع في الجزء الهندي من كشمير يوم 22 أبريل/نيسان، وأسفر عن مقتل 26 شخصا، وزعمت الهند دون تقديم أي دليل رسمي أن باكستان تقف وراءه، واستغلت في ادعاءاتها خطاب منير الأخير الذي اعتبرته الخارجية الهندية "تحريضيا". رفض المسؤولون الباكستانيون ربط تصريحات منير بالهجوم في كشمير، ورد المندوب الباكستاني لدى الأمم المتحدة قائلا إن الادعاءات الهندية لا أساس لها، كما طالبت إسلام آباد رسميا بإجراء تحقيق دولي مستقل.

إعلان

لكن نيودلهي تمادت في اتهاماتها، وأكثر من ذلك علَّقت معاهدة تقاسم مياه نهر السند، وأغلقت الجارتان النوويتان مجالهما الجوي في وجه شركات الطيران التابعة للدولة الأخرى، في حين صرح وزراء باكستانيون بأن أي محاولة من الهند لتحويل مسار المياه المتدفقة إلى باكستان ستندرج ضمن نطاق التصعيد العسكري.

وأشار محللون إلى أن خطاب منير لا يختلف عن خطابات القادة العسكريين الباكستانيين على مر السنين، ويرى المحلل السياسي أمير ضياء أن كشمير تُعَد قضية أمن قومي بالنسبة لباكستان وجزءا من الهوية الوطنية، ومن ثم لا يمكن لأي قائد سياسي أو عسكري أن يُظهر ضعفا تجاهها. كما أرجع أستاذ الشؤون الدولية بجامعة جونز هوبكنز جوشوا وايت، الجدل الدائر حول خطاب منير الأخير إلى مسألة التوقيت، مشيرا إلى أن تعليقاته تتماشى في جوهرها مع الخطاب القومي الباكستاني.

ورغم تماشي تصريحات منير في جوهرها مع مواقف أسلافه، يَعتقد مراقبون أنها باتت أكثر جرأة وحِدة، وهو ما يظهر على أنه ردة فعل باكستانية على تبني رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي -بشكل متزايد- سياسة هندوسية متطرفة مناهضة للمسلمين.

وكان حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي فاز في الانتخابات الهندية بأغلبية ساحقة في الأعوام 2014 و2019 و2024، ونجح في تشكيل الحكومة برئاسة مودي والتي ألغت وضع الحكم شبه الذاتي في منطقة كشمير ذات الأغلبية المسلمة. وفي غضون ذلك، روجت الحركة القومية الهندوسية طوال العقود الفائتة لاضطهاد مسلمي البلاد ومسيحييها بوصفهم خطرا على الهوية الثقافية والدينية الهندوسية.

وفي الآونة الأخيرة، تعرض مودي لضغط سياسي من أنصار حزبه الذين نادوا برد حازم وقاطع على الهجوم المسلح في كشمير. وذكرت مجلة "ذي إيكونومست" البريطانية أن الانتهاكات الهندية الممنهجة لحقوق الإنسان أحد العوامل التي أججت العنف في المنطقة، بينما أعرب مستشار الأمن القومي الباكستاني السابق معيد يوسف، عن قلقه من الدعوات العلنية للحرب الشاملة التي يروجها القوميون الهندوس، وهو قلق شاركه فيه الكاتب والصحفي الهندي أديتيا سينها الذي قال لصحيفة "الشرق الأوسط" إن ضربة عابرة للحدود على مواقع عسكرية باكستانية لن ترضي عطش الدم لدى مؤيدي اليمين الهندوسي.

إعلان

لفهم سياق النزاع الإقليمي بين الهند وباكستان على إقليم كشمير، علينا أن نعود إلى تاريخ الاستقلال عن الاستعمار البريطاني عام 1947، حيث انقسم الإقليم حينذاك إلى عدة مناطق خاضعة لسيطرة ثلاث دول نووية، منطقة اتحاد جامو وكشمير الخاضعة للسيطرة الهندية، ومنطقة آزاد كشمير تحت السيادة الباكستانية، والمناطق الخاضعة للسيطرة الصينية المعروفة بأكساي تشين، وكل منطقة منها تمتعت بحكم ذاتي.

وتقطن إقليم كشمير أغلبية مسلمة مقابل أقلية هندوسية، وكان الأساس الذي اعتمد عليه تقسيم الهند إلى منطقتين هو الأساس الديني، وعليه تنازعت باكستان مع الهند على المنطقة على اعتبار أنها منطقة تحوي أغلبية مسلمة.

ويُشكِّل الإقليم أهمية إستراتيجية للهند، إذ يُعَد حدودا طبيعية تحميها من أي تهديدات صينية أو باكستانية محتملة، في حين تعتبر باكستان كشمير امتدادا طبيعيا لحدودها الجغرافية والدينية والبشرية، لا سيما وأن الإقليم يضم الأنهار الحيوية الثلاثة التي تمد البلاد بالموارد المائية، وهي السند وجيلُم وتشِناب، مما يمنح الهند القدرة على تشكيل تهديد مباشر للموارد المائية الباكستانية.

خريطة تبين تقاسم السيطرة على إقليم كشمير بين باكستان والهند والصين (الجزيرة) مستقبل باكستان بين يدي الجنرال

في 6 مايو/أيار، شنَّت الهند غارات جوية على 9 مواقع عسكرية في باكستان. ولم يتأخر الرد الباكستاني كثيرا؛ إذ تصاعدت الاشتباكات بين الجارتين وقصفت إسلام آباد عدة مواقع عسكرية في كشمير الخاضعة لسيطرة الهند، وأعلنت عن إسقاط مقاتلات هندية وطائرات مسيرة، وقتل في هذا الهجوم 31 شخصا في باكستان وأصيب 57، في حين سقط 12 قتيلا هنديا و48 جريحا، وذلك وفقا للإحصاءات الرسمية.

وقبل أيام من الهجوم، كانت مجلة "ذي إيكونومست" البريطانية تناولت سياق الصراع الأخير قائلة إنه لا يشبه أيا من المواجهات العسكرية السابقة بين البلدين، وأرجعت ذلك إلى عدة أسباب، أهمها شخصية عاصم منير التي تختلف كليا عن سلفه باجوا الذي قاد الرد الباكستاني على الغارات الجوية الهندية عام 2019.

وكتب وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو عن تلك المواجهة في مذكراته، قائلا إنه أمضى ساعات في اتصالات هاتفية بين وزير هندي والجنرال قمر جاويد باجوا لإقناع كل طرف بأن الآخر لا يُعِد لشن حرب نووية.

إعلان

وعن ذلك أشارت المجلة البريطانية إلى أنه بينما كان باجوا يُعد للرد على الهجوم الهندي، فتح قنوات دبلوماسية مع الولايات المتحدة، وعندما أسقطت القوات الباكستانية طائرة هندية وأسرت طيَّارها تعامل باجوا مع الأزمة بهدوء حذر، وأعاد الطيار الهندي إلى بلاده بعد عدة أيام لتجنُّب تصعيد الصراع بين البلدين إلى حرب شاملة.

وعلى العكس تماما يقف عاصم منير، الذي وصفته "ذي إيكونوميست" بأنه أقوى من سلفه وأكثر تشدُّدا تجاه الهند، مما جعله مستعدا للرد على الهجوم الهندي بقوة وحزم ودون أي قيود. وتشير تقارير إلى أن هذا الصراع وكيفية تعامل منير معه لم يُحدِّد شخصيته كقائد عسكري ولاعب سياسي مؤثر فحسب، بل وحدّد الدور الإقليمي الذي تسعى باكستان إلى لعبه في المستقبل.

من جهة أخرى، ذكرت صحيفة "غارديان" أن الجيش الهندي عانى في السنوات الأخيرة من عدة تحديات، فمع أن عدد جنود الجيش البالغ 1.2 مليون جندي أكبرُ من عدد أفراد الجيش الباكستاني البالغ 650 ألف جندي، تسبَّب نشر الهند لأعداد هائلة من الجنود والمعدات العسكرية على الحدود الجبلية مع الصين عام 2020 في إحداث نوع من التوازن بين الجيشين الهندي والباكستاني، وذلك بحسب تصريحات المحاضر بجامعة "ييل" سوشانت سينغ، الذي أضاف أن نيودلهي عانت في السنوات الأخيرة من صعوبات في تحديث قواتها المسلحة، كما واجهت مشكلات في التجنيد أدت إلى نقص أعداد الجنود، الأمر الذي حرمها من أسباب التفوُّق النظري على باكستان أو القدرة على تحقيق نصر سريع في مواجهة تقليدية.

أما السبب الآخر الذي يجعل المواجهة الأخيرة مختلفة عن المواجهات العسكرية الأخرى، فهو التحولات التي شهدها المشهد الجيوسياسي منذ عام 2019، حيث تغيرت البيئة الدولية، لا سيَّما بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان عام 2021، وهو ما أثر بدوره في نفوذ واهتمام واشنطن بباكستان، وفقا للباحثة في برنامج السياسة الخارجية بمعهد بروكينغز، تانفي مادان. ومع تراجع النفوذ الروسي في المنطقة، أصبحت العلاقات الأميركية الهندية أكثر تقاربا.

إعلان

وفي خضم الحرب التجارية التي يشنها ترامب على الصين، بدأت واشنطن ترى في نيودلهي فائدة إستراتيجية أكبر وبديلا اقتصاديا محتملا لبكين، وأخذت إسلام آباد هذا التحول الجيوسياسي في الحسبان، وعملت على توطيد علاقاتها مع الصين، الأمر الذي ظهر جليا في الأسلحة التي استخدمها الطرفان في المواجهة الأخيرة.

في الوقت الذي عملت فيه الهند على تحديث ترسانتها من الأسلحة الروسية واستبدلت بها ذخائر غربية مثل طائرات "رافال" الفرنسية المتعددة المهام، وطائرات "إف 16" الأميركية، اعتمدت باكستان في 80% من ترسانتها العسكرية على الأسلحة الصينية، بعدما أصبحت بكين أكبر مورد أسلحة لإسلام آباد.

وبحسب ما ورد في صحيفة "غارديان"، صرح الجيش الباكستاني في مايو/أيار أنه استخدم صواريخ "بي إل 15" الصينية الأكثر تطورا في إسقاط الطائرات الهندية، وهو صاروخ جو/جو يصل مداه إلى 200 كلم، وتبلغ سرعته 5 أضعاف سرعة الصوت. وجرى اختبار تلك الذخائر عمليا لأول مرة في ساحة المعركة خلال الرد الباكستاني على الهجوم الهندي، وهو ما علّق عليه خبراء عسكريون قائلين إن الصين لم تساعد باكستان في حربها الأخيرة فحسب، بل استخدمتها حقل تجارب لأسلحتها.

ثم جاءت الطائرات المسيرة التي استُخدِمَت على نطاق واسع في الصراع الأخير، وعملت على تغيير طبيعة الاشتباكات بين البلدين، حيث عملت فرنسا وإسرائيل والولايات المتحدة على تزويد الهند بالتكنولوجيا العسكرية التي تحتاج إليها، بينما اعتمدت باكستان على الطائرات المسيرة القادمة من تركيا، وهو ما جعل أنقرة شريكا مهما لإسلام آباد.

ورغم توقعات البعض بتصاعد حدة الصراع بين البلدين إلى حدِ التهديد النووي، أتى الإعلان المفاجئ لإدارة ترامب عن وقف إطلاق النار وأربك نيودلهي، وجاءت الوساطة التي عرضتها الإدارة الأميركية لإخماد نيران الحرب بطريقة ساوَت بين الهند وباكستان، ولعلها لم تلق استحسان نيودلهي، بحسب ما أشارت إليه الباحثة تانفي مادان.

إعلان

ووفقا لتصريحات المفوض السامي الهندي السابق لدى باكستان أجاي بيساريا، فإن الهند قد تسعى للرد من خلال استغلال تقاربها مع الولايات المتحدة لدفع الإدارة الأميركية نحو عقاب باكستان بفرض عقوبات على ضباط باكستانيين، أو تعطيل خطة إنقاذ صندوق النقد الدولي لإسلام آباد والتي تبلغ قيمتها 7 مليارات دولار.

ولكنْ أيا كان ما سيحدث في المستقبل، فإن المواجهة الأخيرة ربما وضعت قواعد جديدة للصراع الهندي الباكستاني، خطها ببراعة جنرال يمتلك الجرأة لتحدي القواعد القائمة والقفز على الحذر العسكري الذي ميّز ردود أفعال الجيش الباكستاني خلال السنوات الماضية.

مقالات مشابهة

  • بوريطة: الموقف الذي عبرت عنه المملكة المتحدة بشأن قضية الصحراء المغربية سيعزز الدينامية التي يعرفها هذا الملف
  • سعد: الغائب الذي لم يَغب
  • عاصم منير.. الجنرال الباكستاني الذي تخشاه الهند
  • في اليوم الذي يسمونه يوم القدس
  • سبب مرض كتف الأبوة النادر الذي يعاني منه ولي عهد الأردن
  • ليس حسام حسن.. من المدرب الذي سيقود منتخب مصر في كأس العرب؟
  • عرفة.. خطيب المسجد الحرام: يوم وفاء بالميثاق الذي أخذه الله على بني آدم
  • ما الذي يميز القطط البرتقالية؟ هذا ما اكتشفه العلماء على جيناتها
  • بولتون الذي تجاوزه التاريخ يواصل دعم دعاية البوليساريو
  • الذي يعرفه كل الناس عدا الجنجويد