تواجه الدول التي تصبح مسرحا لصراعات سياسية وعسكرية تحديات جمة، أهمها تعويض غياب الدولة ومؤسساتها ويصبح الأمر بالغ الصعوبة مع غياب تجارب العمل المدني السابقة، إذ يجد النخب والقيادات المجتمعية أنفسهم مضطرين للعمل في ظروف استثنائية، ومواجهة تحديات داخلية وخارجية تجبرهم على إنتاج هياكل وأجسام قادرة على حل المشاكل أو إدارة شؤونهم أو تمثيل المجموع في بعض المحافل المحلية والإقليمية والدولية.

لقد فجرت تجارب بعد الربيع العربي إحساس الحشود بإمكانياتها وأدوارها ومساحات تأثيرها، وبرز دور المجتمع المدني مجددا بوصفه فاعلا مؤثرا في الحدث وموجها له في بعض الأحيان، لا سيما في بعض الدول التي تحولت فيها الثورات إلى صراع عسكري، فتقدمت بعض الكيانات المدنية الأصيلة أو الناشئة وساهمت بأدوار واضحة، سياسية كانت أم إنسانية أم اعتبارية، وكانت الحالة السورية نموذجا واضحا لعودة هادرة للمجتمع المدني بمؤسساته الأهلية والتنظيمية بعد عقود من الجمود والإقصاء.

يحاول كتاب "من الغيبوبة إلى المارثون" الصادر عن مركز الحوار السوري، الذي عملت عليه الباحثة كندة حواصلي على مدى عامين، تتبع تجربة ما سمّي "العمل الجمعي" في الكيانات والتجمعات السورية بعد عام 2011، كالشبكات والاتحادات والنقابات والائتلافات نموذجا، في محاولة لرصد التجربة وتحليلها، حيث تشير مقدمة الكتاب إلى كونه محاولة لتفكيك واختبار بعض الأسئلة الشائعة المنتشرة بين جمهور السوريين حول أنهم غير قادرين على العمل مع بعضهم، واختبار صحة هذه الأسئلة ومعرفة الأسباب وراءها.

تأتي أهمية هذا الكتاب من كونه محاولة بحثية تحليلية لتقيّم مثل هذه التجارب الجمعية السورية الناشئة بإيجابيها وسلبياتها، ومحاولة إثارة الانتباه تجاه موضوع لم يأخذ الاهتمام المطلوب بعد، وتسلّط الضوء على الإشكاليات التي يمكن مواجهتها في هذا النوع من العمل المدني، بهدف التعمق في فهم المشكلة وتحليلها والإشارة إلى مكامن الضعف واقتراح الحلول المناسبة، إلى جانب كونه وسيلة لنشر ثقافة العمل الجمعي الصحيح والتعريف بالأسس النظرية اللازمة لإدارة مثل هذه الكيانات وتقييم عملها وإنجازها، وتصويب أدائها وتطوير النموذج.

بين الجماعة والفريق والكيان الجمعي

بدأ الكتاب فصله الأول بتمهيد معرفي ومحاولة لضبط المصطلحات التي ستستخدم لاحقا، وبناء وعي القارئ ببعض أنماط العمل الجماعي التي يمكن أن تختلط في شكلها وتختلف في تأثيرها، ويقوم هذا الفصل بتفكيك الاختلاف بين 3 أنماط ومستويات من عمل المجموعات التي نلاحظها في حياتنا ومجتمعاتنا كـ"المجموعة /الجماعة" و"فرق العمل" و"الكيان الجمعي"، والتي تندرج جميعا تحت مظلة العمل الجماعي، موضحا أن الاختلاف بين الأنماط الثلاثة يعود إلى شكل العلاقات الداخلية بين المجموع وأفراده وشكلها بين المجموع مع المستويات القيادية، خاصة في ما يتعلق بآلية اتخاذ القرار ومدى مشاركة المجموع في هذه العملية.

يقدم الكتاب تعريفا للعمل الجمعي قيد الدراسة باعتباره عملا غير ربحي يجمع كيانات أو ممثلين اعتباريين يهدفون إلى خدمة الصالح العام أو تمثيله أو حل مشكلاته انطلاقا من إحساسهم بالمسؤولية المجتمعية، ويشترط أن يكون تطوعيا حرا، ذا بعد أخلاقي يعزز قيما أصيلة في المجتمع، ويتمتع باستقلالية عن الدولة، ويملك بعدا تنظيما محوكما كشرط أساسي للعمل، ويقدم بعض الأمثلة على هذا النمط من الأعمال متمثلة في النقابات والاتحادات، والشبكات، والتحالفات، وغيرها.

 

ويعرج الفصل الأول من الكتاب أيضا على نظرية توكمان التي تدرس مراحل تشكل وتطور عمل المجموعات مستعرضا 5 مراحل بما تحمله من سلوكيات ومشاعر وأفكار واحتياجات للعمل، وصولا إلى المهارات القيادية المطلوبة فيها، وتبدأ هذه المراحل من مرحلة التشكيل إلى العواصف، ثم اعتماد النموذج إلى تطوير الأداء وصولا للإغلاق.

إلى سوريا.. وتشريح التجربة

ينتقل بنا القسم الثاني من الكتاب إلى استعراض لمحة عن واقع العمل المدني في سوريا بعد الاستقلال، والتطورات التي طرأت عليه وقيدت مجالات عمله بعد صدور قانون التنظيم النقابي عام 1964، ثم يعرج بنا إلى عام 2011 متجاوزا مرحلة الجمود والتصحر السياسي والمدني، ليظهر الظروف التي شهدت عودة متسارعة للعمل المدني فرضتها الظروف الداخلية والخارجية وقادتها مجموعات من السوريين بمبادرة ذاتية منهم.

يتعمق الكتاب في فصله الثالث في تفكيك التجربة السورية الناشئة، مشيرا إلى أن غالبية التجارب الجمعيّة السورية انتظمت في نمط متقارب متكرر يتوافق بشكل كبير مع ما ورد في النظرية، ويكاد يلاحظ في كافة التجارب المدروسة، وقد حلل هذا الفصل دوافع التشكيل والمشاعر والأفكار والسلوكيات التي كانت ملاحظة بين السوريين، خاصة في المراحل الأولى، معتبرا أن معظم التجارب السورية علقت بين مرحلتي العواصف واعتماد النموذج، ولم تستطع غالبية التجارب تجاوزها.

في الفصل الرابع من الكتاب، نجد أمامنا تفصيلا وتفكيكا دقيقا لأنماط المشاكل التي تكررت في التجارب المدروسة، والتي صنفتها الباحثة تحت 4 أنماط رئيسية، منها مشاكل ظهرت نتيجة صفات تتعلق بالأفراد بغض النظر عن جنسيتهم كالفردية والأنانية وتضخم الذات وغياب الضوابط الأخلاقية والهوس بالسلطة، ومشاكل اعتبرت ذات أبعاد ثقافية تتعلق بتأثيرات الثقافة السائدة في المجتمع السوري كغياب الثقة بالأفراد والقوانين والأنظمة، و"الشللية" و"المناطقية" التي طغت على الهوية الوطنية الجامعة

وبالانتقال إلى الفصل الرابع من الكتاب، نجد أمامنا تفصيلا وتفكيكا دقيقا لأنماط المشاكل التي تكررت في التجارب المدروسة، والتي صنفتها الباحثة تحت 4 أنماط رئيسية، منها مشاكل ظهرت نتيجة صفات تتعلق بالأفراد بغض النظر عن جنسيتهم كالفردية والأنانية وتضخم الذات وغياب الضوابط الأخلاقية والهوس بالسلطة، ومشاكل اعتبرت ذات أبعاد ثقافية تتعلق بتأثيرات الثقافة السائدة في المجتمع السوري كغياب الثقة بالأفراد والقوانين والأنظمة، و"الشللية" و"المناطقية" التي طغت على الهوية الوطنية الجامعة.

أما النمط الثالث من المشاكل، فكانت المشاكل الإدارية التي تكررت في التجارب كلها وبشكل لافت، إذ تشير إلى غياب الوعي وافتقاد المهارات الإدارية المطلوبة بهذا النمط من الأعمال، بالإضافة إلى فقدان المهارات القيادية وغياب مهارات حل الخلاف والتعامل مع الاختلاف، ثم يُختتم هذا الفصل بالنمط الرابع من المشاكل التي تركزت في غياب التجربة السابقة وتأثير الدعم الخارجي على أداء هذه الأجسام وإدارة علاقاتها الداخلية، سواء كان هذا الدعم سياسيا أم ماليا.

النمط الثالث من المشاكل هو المشاكل الإدارية التي تكررت في التجارب كلها وبشكل لافت، إذ تشير إلى غياب الوعي وافتقاد المهارات الإدارية المطلوبة بهذا النمط من الأعمال، بالإضافة إلى فقدان المهارات القيادية وغياب مهارات حل الخلاف والتعامل مع الاختلاف، ثم يُختتم هذا الفصل بالنمط الرابع من المشاكل التي تركزت في غياب التجربة السابقة وتأثير الدعم الخارجي على أداء هذه الأجسام وإدارة علاقاتها الداخلية، سواء كان هذا الدعم سياسيا أم ماليا

من التوصيف إلى النبش في جذور المشكلة

وبعد رسم صورة التجربة وتفكيك أنماط مشاكلها، يقدم الفصل الخامس من الكتاب وقفة مع الأسباب التي صعّبت على السوريين القدرة على العمل في هذه الكيانات والأجسام التي يفترض بها مواجهة الاستحقاقات المتنوعة، وكانت وراء ظهور هذه المشاكل والسلوكيات وأنماط العمل غير الصحية.

جذور المشكلة بدأت من تأثير تجميد العمل المدني السوري والأجواء القمعية التي عاشها السوريون لعقود

ويفصّل هذا القسم في تحديد جذور المشكلة التي بدأت من تأثير تجميد العمل المدني السوري والأجواء القمعية التي عاشها السوريون لعقود، منتقلا إلى توضيح تأثير العرف والثقافة في تكوين منطق مؤسسي خاص يعمل على تشكيل أنظمة خلفية تسود ويحكم في الكواليس أغلب أشكال العلاقات بين الأفراد، ويحدد الصواب والخطأ، ويتغلب في عديد من الأحيان على الأنظمة الإدارية المطبّقة.

كما تطرق هذا الفصل إلى أثر غياب الأطر القانونية الناظمة فعليا للعمل والتي يمكن الاحتكام إليها عند الخلاف، ويعود غياب هذه الأطر القانونية إلى انتقال هذه الأجسام إلى العمل في بيئات جديدة في المغترب، إلى جانب عدم توافر الشروط الناظمة للعمل الجمعي كالتفرغ والتطوع والبعد التنموي والقيمي والاستقلالي، فضلا عن غياب الوعي بأساسيات هذا النمط من الأعمال وأنظمته.

ويعود الكتاب مجددا لطرح تأثير التدخلات الخارجية، وتوضيح آثارها السلبية على التجربة السورية، فقد صادرت الجهات الداعمة بشكل غير مباشر القرار وتدخلت في أنماط الإدارة والعلاقة بين الأفراد، وفرضت شروطها ورؤيتها على المجموع مستغلة الضعف الإداري الكبير وغياب النماذج القيادية المؤهلة التي يمكنها العمل في مثل هذه التحديات.

أبرزت الباحثة في الفصل السادس بعض الجوانب الإيجابية لهذا التجارب، في محاولة لتقديم رؤية منصفة، معتبرة أن هذه الكيانات تمكنت من النمو والعمل في بيئات استثنائية وإثبات وجودها، معتبرة أن الإحساس بالمسؤولية والقدرة على المبادرة والتحدي واستكشاف مجالات تأثير جديدة أمر يستدعي الثناء والاحترام، خاصة أن التجربة خلقت بيئة للممارسة والتجريب وتطوير الأدوات وهي أولى خطوات النضج والنمو

كيف نحدد النجاح من الفشل؟ معايير لتقييم التجربة

ورغم الواقع الصعب الذي يحيط بالتجربة بأكملها، أبرزت الباحثة في الفصل السادس بعض الجوانب الإيجابية لهذا التجارب، في محاولة لتقديم رؤية منصفة، معتبرة أن هذه الكيانات تمكنت من النمو والعمل في بيئات استثنائية وإثبات وجودها، معتبرة أن الإحساس بالمسؤولية والقدرة على المبادرة والتحدي واستكشاف مجالات تأثير جديدة أمر يستدعي الثناء والاحترام، خاصة أن التجربة خلقت بيئة للممارسة والتجريب وتطوير الأدوات، وهي أولى خطوات النضج والنمو.

وفي محاولة للابتعاد عن أحكام متسرعة حول التجربة الناشئة، وصعوبة الحكم على نماذج العمل الجمعي لحداثة عهدها وتعقد ظروف نشأتها ومجالات عملها، يقدم الفصل السابع 3 معايير يمكن من خلالها الآلية التي يفترض اعتمادها لقياس مدى نجاح هذه الكيانات ونموها بعيدا عن الانطباعات والأحكام المسبقة، وينطلق أولا من معايير الحوكمة الـ12 وبنودها التفصيلية المعتمدة لقياس "الحكم الديمقراطي الجيد"، ثم يستعرض ثانيا معايير قياس الأداء انطلاقا من القيمة والأداء المؤسسي إلى التأثير وإدارة الصراعات ورأي أصحاب المصلحة، ثم يتوقف ثالثا مع اتجاهات النمو والتطور التي تنتقل بالكيانات والمؤسسات من مرحلة النمو إلى مرحلة التأثير المستدام.

ضوء في نهاية النفق

أما الفصل الثامن من الكتاب، فيستعرض مجموعة من الفرص والتحديات والاحتياجات والأدوار الغائبة التي من شأنها الانتقال بواقع مؤسسات العمل الجمعي السورية إلى مستوى أفضل، حيث يبرز جوانب القوة والفرص التي يفترض استغلالها والتي برزت خلال التجربة كالمرونة وسرعة التعلم والإحساس بالمسؤولية والرغبة في التغيير، كما يقدم أيضا مجموعة من الاحتياجات التي يفترض توفيرها لتعزيز الأداء وتطويره، والتي تنطلق من بناء الوعي الذاتي والداخلي والشعبي حول الأدوار المتوقعة هذه الكيانات والمهام المنوطة بها، وتأهيل الكوادر وامتلاك الأدوات المطلوبة لحل المشكلات.

يستعرض الكتاب مجموعة من السلوكيات التي يلزم تغييرها لكونها سببا في إخفاق العمل كالمحاصصات والإقصاء وتصحيح العلاقة مع الداعمين، وينبه إلى مجموعة من الأدوار التي لا تزال غائبة عن هذه الكيانات والتي تتعلق بأدوارها التنموية المحلية والعالمية والتي يمكن أن تنتقل بها إلى مساحات تأثير جديدة

كما يستعرض هذا الفصل أيضا مجموعة من السلوكيات التي يلزم تغييرها لكونها سببا في إخفاق العمل كالمحاصصات والإقصاء وتصحيح العلاقة مع الداعمين، وينبه إلى مجموعة من الأدوار التي لا تزال غائبة عن هذه الكيانات والتي تتعلق بأدوارها التنموية المحلية والعالمية والتي يمكن أن تنتقل بها إلى مساحات تأثير جديدة.

ويختم الكتاب رحلته باستعراض لنتائج البحث والدراسة، وتقديم مجموعة من التوصيات العملية التي تساعد على تعزيز التجربة ورفع الوعي، وعلى تطوير مستويات الإدارة الحالية وتوصيات تتعلق بإعادة تشكيل الذهنية الجمعية والثقافية للمشاركين في هذه الكيانات وللمجتمعات الحاضنة لها.

يقدم الكتاب -على مدى 188 صفحة- رحلة تشريحية عميقة، يناقش فيها التجربة السورية الناشئة مقدما الأمثلة والشواهد من أصحاب هذه التجربة والممارسين لها، ومعتمدا على ما يزيد على 33 مقابلة معمقة امتدت على قرابة 50 ساعة، ودراسات حالات شملت 5 أجسام جمعية سورية عملت في مجالات تطوعية ومدنية وإنسانية وسياسية وعسكرية خلال 13 سنة، وواجهت تحديات جمة من عدم الاستقرار والنزوح والتدخلات الخارجية، بالإضافة إلى ورشة نقاش مركزة قام عليها مجموعة من الخبراء النفسيين.

إن كتاب "من الغيبوبة إلى المارثون" وإن كان يقدم دراسة للتجربة السورية الناشئة، إلا أنه يتقاطع بشكل كبير مع واقع العمل المدني ومشاكله في البيئات العربية والإسلامية، إذ تغيب التنظيرات والدراسات العلمية الرصينة حول واقع عملنا ومشاكله وسبل تطوير، ويتم الاكتفاء غالبا بالمعرفة القادمة من الغرب ومحاولة إسقاطها على بيئاتنا المختلفة سياسيا واجتماعيا وثقافيا وفكرية، وهو، إذ يحلل الحالة السورية، يقدم قراءة هامة ترفد المكتبة العربية بدراسة تشريحية معمقة يمكن من خلالها فهم الواقع المعقد والتحرك لتحسين مؤسساتنا وتطويرها والارتقاء بأدائها لتمارس أدوارا حقيقية فاعلة في المجتمع.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات هذه الکیانات العمل المدنی المشاکل التی تأثیر جدیدة من المشاکل التی یفترض فی المجتمع مجموعة من فی محاولة من الکتاب هذا الفصل الرابع من التی یمکن العمل فی

إقرأ أيضاً:

الانعطافة السورية الروسية.. الدوافع والفرص والعقبات

أسهم التدخل الروسي في سوريا عام 2015 في الحيلولة دون سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد بسرعة وإطالة عمره في السطلة، كما مكّن موسكو من إبراز قدرتها في المشهد العسكري والتدخل المباشر لأول مرة خارج الحدود التقليدية للاتحاد السوفياتي منذ عام 1991.

ومن خلال التدخل العسكري والقتال في صفوف نظام الأسد المخلوع، أثبتت روسيا حضورها في الشرق الأوسط عبر بوابة سوريا ومن قاعدتي حميميم وطرطوس، بالإضافة إلى مطار القامشلي وعدة نقاط في شمال البلاد.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل اقتربنا من سيناريوهات انفجار الذكاء الاصطناعي؟list 2 of 2لماذا تدعم دول جزر المحيط الهادي إسرائيل؟end of list

لكن بعد اندلاع حرب أوكرانيا عام 2022، وما تبعها من استنزاف، تقلّص دور موسكو في إدارة الملف السوري، الأمر الذي نتجت عنه تحولات جيوسياسية أهمها تراجع نفوذ طهران في دمشق وهي حليف رسمي لروسيا في المنطقة.

ومع بدايات معركة ردع العدوان التي انطلقت في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تبين أن الدعم الروسي للأسد تراجع إلى أبعد الحدود، وسرعان ما تحول موقف الكرملين في اتجاه الانسحاب من الخطوط الأمامية رغم الإبقاء على القواعد العسكرية.

وبعد تولّي الحكومة السورية الجديدة قيادة البلاد، بدا أن دمشق وموسكو أبقيا أبواب التفاهم مفتوحة رغم ضبابية المشهد، إذ تم الاتصال -عبر الهاتف- بين الرئيسين فلاديمير بوتين وأحمد الشرع في 12 فبراير/شباط 2025.

كما أن زيارة وزير الخارجة السوري أسعد الشيباني إلى موسكو في نهاية يوليو/تموز 2025، أعطت مؤشرا على الاهتمام بروسيا بوصفها شريكا عسكريا، وقوة ذات ثقل في ميزان القوى التي تتصدر المشهد الإقليمي.

ويبدو أن المتغيرات في الساحتين السورية والروسية قد تدفع البلدين إلى إعادة تفعيل قنوات الشراكة، ولكن وفقا لأسس ومعطيات جديدة.

وحول هذا الموضوع، نشر مركز عمران للدراسات الإستراتيجية ورقة تحليلية حول دوافع الطرفين في استعادة العلاقات في الظروف الراهنة، ورسم الملامح المتوقعة لتلك العلاقة ومحدّداتها.

إعلان

الورقة التي جاءت تحت عنوان "بين الإرث السياسي الثقيل الانعطافة الروسية السورية: الدوافع والفرص والعقبات" أعدها الباحثان ساشا العلو وصبا عبد اللطيف.

دوافع الحكومة السورية الجديدة نحو موسكو

نتيجة لبحثها عن الاستقرار الداخلي، والانفتاح في العلاقات الخارجية، تعتبر الحكومة السورية الجديدة أن موسكو تبقى خيارا ووجهة قديمة وجديدة، رغم العداء في مرحلة ما قبل سقوط الأسد.

ويعزز هذا الخيار أن روسيا لها القدرة على لعب أدوار في المرحلة الحالية والمقبلة نظرا لخبرتها الطويلة وعلاقاتها المتشابكة مع مختلف أطراف الصراع.

ويرجع الحضور الروسي في الساحة السورية إلى مرحلة وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة عام 1963، حيث لبعت موسكو أدوارا مختلفة في سياق تشكل الدولة السورية وقتها، إذ أبرمت علاقات أمنية وعسكرية متينة استمرت إلى ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991.

وبعد أن أصبح بشار الأسد رئيسا لسوريا، يمّم وجهه نحو الغرب وخاصة باريس ولندن، لكنه بعد اندلاع الثورة 2011، رجع إلى موسكو بوصفها حليفا قديما، وشكّلت له حماية من الاحتجاجات الداخلية وارتداداتها الدولية.

هذه الخبرات المتراكمة التي تملكها روسيا في الساحة السورية، جعلت السلطة الجديدة لا تمانع من الشراكة معها، ولكنها تريد أن يكون ذلك وفقا لمحدّدات أهمها إعادة التفاوض على كافة الاتفاقيات وعقود التأجير طويلة الأمد.

وبقدر ما تسعى الحكومة الجديدة في دمشق، إلى توظيف خبرات روسيا في تدعيم الأمن والاستقرار الداخلي، فإنها تهدف بالدرجة الأولى إلى أن لا تستغل موسكو الشبكات الخطيرة والموجودة داخل أرضها في الإضرار بأمنها.

يبدو أن السلطة السورية تسعى بالدرجة الأولى إلى تحييد قدرة موسكو عن استخدام تلك الشبكات كأدوات في زعزعة الأمن أو تعطيل أي توافقات محلية. ثم السعي بالدرجة الثانية إلى محاولة توظيفها في تدعيم الأمن والاستقرار.

على الجانب الآخر، لا يبدو أن موسكو الساعية للحفاظ على الحد الأدنى من نفوذها تمانع هذه الأدوار والتنسيق فيها، والذي بدأت تظهر مفاعيله في بعض المناطق والملفات.

ففي الساحل السوري، حيث تتواجد القوات الروسية في قاعدتي "حميميم وطرطوس"، يلحظ تنسيق أمني أكبر بين القوات الروسية والحكومية لتأمين استقرار المنطقة التي شهدت في مارس/آذار 2025 أحداثا دامية، كان خلالها الدور الروسي ملتبسا في تغطية بعض عناصر النظام السابق ضمن المنطقة، أو على الأقل عدم مشاركة معلومات أمنية مع السلطات الجديدة.

أما بالنسبة للشمال الشرقي -حيث تتواجد القوات الروسية في مطار القامشلي- فتظهر مؤشرات متزايدة حول محاولات موسكو استثمار تموضعها العسكري وعلاقتها بما تسمى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) باتجاهات تصب في مصلحة الحكومة السورية ضمن المنطقة. وكانت موسكو قد عرضت سابقا التوسط بين الحكومة السورية وقسد التي قد تجد في روسيا أيضا هامشا إضافيا للمناورة وسط احتماليات تراجع الدعم الأميركي وتصاعد ضغط الحكومة المركزية في دمشق وتركيا على جانب الحدود.

أما في الجنوب السوري، فيبدو أن الحكومة تنظر أيضا إلى إمكانية تفعيل أدوار روسية محتملة في سياق "خفض التوتر" وتدعيم مواقفها من إسرائيل، خاصة مع تأكيد الرئيس بوتين لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على دعم روسيا لوحدة وسلامة الأراضي السورية.

إعلان

مقابل تلك التوقعات، تضع السلطة السورية أمام موسكو مُحددات واضحة لتنظيم العلاقات وتفعيلها:

إعادة تعريف الشراكة والتواجد على الأراضي السورية وفق أسس السيادة واستقلال القرار. احترام القرار السوري المستقل والتحرّر من عقلية التبعية الجيوسياسية، وأن تتعامل موسكو مع دمشق المعتمد شريكا سياديا مستقلا، لا تابعا ضمن محور طهران موسكو، أو منصة ضغط ضد الغرب. لا يبدو ملف بشار الأسد وحاشيته، رغم حساسيته البالغة، من بين المحددات الرئيسية التي قد تعيق استعادة مسار العلاقات السورية الروسية.

الانعطافة الروسية نحو دمشق وعراقيلها

من جانبها، تدرك موسكو حجم التغيير الذي حدث في سوريا بعد الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، والخسارة الإستراتيجية التي لحقت بها بعد الإطاحة بحليفها بشار الأسد، الأمر الذي تعزز بالانفتاح الغربي على السلطة الجديدة، وخروج إيران من المعادلة.

وموازاة مع ذلك، تسعى موسكو إلى عدم الخروج من المعادلة وفقدان مواطن نفوذها التقليدية عبر إدارة الخسائر حتى يبقى لها حضور إستراتيجي في الشرق الأوسط.

وتعدّ انعطافة موسكو نحو سوريا الجديدة مدفوعة بأسباب اقتصادية متعلقة بتحصيل ديونها المتراكمة والتي حصلت عليها مقابل عقود امتيازات واستثمارات خاصة.

ورغم مؤشرات التقارب بين دمشق والكرملين، فإن مسار استعادة العلاقات بشكل فعال ويخدم الطرفين، تعترضه العديد من المعوّقات والعراقيل.

ومن أهم تلك العقبات هو إرث الحرب، وأزمة الثقة مع الرأي العام والنخبة الجديدة، إذ إن الجميع يتذكّر الدور الروسي في سوريا خلال السنوات الماضية التي شهدت الكثير من قتل المواطنين وتعذيبهم وتهجيرهم.

وجدير بالسلطات الجديدة أن تربط هذا الملف ببرنامج إعادة العلاقات، وتطالب بتعويض المتضررين من القصف الروسي خلال فترة الأسد.

وفي هذا السياق، تحتاج موسكو أن تتبنّى مقاربة مختلفة، وتعترف بالأخطاء والانتهاكات التي ارتكبتها في حق المدنيين السوريين، والثوار الباحثين عن مستقبل أفضل لبلدهم.

وانطلاقا من هذه المحدّدات، يمكن القول إن مكانة روسيا في الشرق الأوسط وسوريا تراجعت بعد سقوط الأسد، وإن إعادة التموضع متاحة من خلال الإشارات التي أعطتها السلطة الجديدة في دمشق، لكن ذلك لن يتم إلا بأدوات وسياسات مختلفة.

الفرص والتحديات

ومن خلال المواقف السياسية الجديدة للبلدين، تبين أن كلا منهما يقف على عتبة إعادة ضبط العلاقة بحذر وترقّب.

ففي سياق التحديات الداخلية لسوريا، تعتبر الحكومة الجديدة أنها تعاني من أزمات أمنية وخاصة بعد مشكلة السويداء، وما صاحبها من الضربات الإسرائيلية، الأمر الذي قد يدفعها إلى البحث عن القوة الروسية بوصفها شريكا قد يضمن التوازن.

وفي المقابل تملك روسيا رصيدا من الخبرة وقنوات الاتصال الواسعة مع الأطراف المعارضة في المشهد السوري، كما أن لها معرفة بالتعامل مع التهديد الإسرائيلي الذي خبرته ميدانيا منذ عام 2015.

ورغم كل ذلك فإن المؤشّرات توحي إلى أن إعادة التفاوض والجدية في العلاقات، قد تنكشف من خلال مراجعة عقود القواعد العسكرية (حميميم وطرطوس) وإعادة توسيع العلاقات في المجالات التنموية والاقتصادية بدلا من الاكتفاء بصفقات التسليح.

وتشير المعطيات إلى أن نجاح هذا المسار مرهون بإرادة الطرفين وقدرتهما على إدارة معادلة دقيقة تتمثل في "صيانة السيادة السورية وضمان الحضور الروسي على أسس جديدة".

وإن تحقّقت تلك المعادلة فيمكن لدمشق وموسكو أن تنتقلا من الحساسيات وثقل إرث الماضي إلى واقعية التحوّل وإكراهاته، حيث تقاس الشراكة بقدرتها على تثبيت الاستقرار.

وفي هذا السياق، تراهن موسكو على البقاء حتى ولو كان النفوذ محدودا، في انتظار متغيرات على الساحتين الإقليمية والدولية وما تحمله من فرص.

من جانبها، لا تخفي السلطات السورية الجديدة أنها بحاجة إلى التجربة الروسية وخبرتها الطويلة في الميدان التي ترجع إلى عقود من الزمن، لكنّها نتيجة للظروف الحالية تستطيع تطويع تلك العلاقة ومراجعتها بأكبر كم من المكاسب.

إعلان

ومع الأخذ بعين الاعتبار، أن الحكومة السورية تطمح إلى أن تكون أبوابها مفتوحة أمام الجميع، إلا أنها ليس بوسعها أن تكون حليفا إستراتيجيا للجميع، مما يعني أن تحديد البوصلة لا بد أن يتم ولو بعد حين.

وانطلاقا من ذلك فإن السياسة الخارجية للنظام الحالي ستنعكس بشكل كبير على الاستقرار الداخلي، ووحدة البلاد وأمنها.

ولتجنّب الانعكاسات الخارجية، يتحتّم على النظام الجديد في دمشق أن يتجه نحو حوكمة رشيدة، وإبرام عقد اجتماعي يصلح علاقة الدولة بالمجتمع، ويؤسس لشرعية داخلية تكون قادرة على حمايته وصموده أمام التحديات والتجاذبات الخارجية.

كما أنه يجدر بالنظام الحالي أن ينطلق من مبدأ الابتعاد عن التخندق والتحالف ضمن الأحلاف الخارجية، حتى يحقّق قطيعة مع إرث النظام السابق وتجاربه.

مقالات مشابهة

  • إصابة شاب برصاص الاحتلال قرب جدار الفصل في الرام
  • استعراض التجارب الناجحة في حلقة عمل حول السجل المهاري لطلبة التعليم العالي
  • الانعطافة السورية الروسية.. الدوافع والفرص والعقبات
  • ملتقى مهندسي بلديات الداخلية يستعرض التجارب الناجحة في تنفيذ المشاريع
  • خبير أممي يطّلع على التجربة العُمانية في الكشف المبكر عن سرطان عنق الرحم
  • الدواجن السورية: نخطط لإنتاج أكثر من 68 مليون بيضة خلال 2025
  • أبرزها ثلث المقاعد للمؤسِّس.. ضوابط جديدة لإنشاء الكيانات غير الربحية الحكومية
  • هشام عباس يعود إلى القاهرة بعد جولة فنية ناجحة في كندا
  • حكم الدعاء على أهل الكتاب في خطبة الجمعة
  • صور|الأقصر تستضيف ماراثون روتارى للتوعية ضد شلل الأطفال