في هذا الملف الخاص، نقدم للقراء رحلة فكرية وثقافية استثنائية، تبدأ من قلب أوروبا، مرورًا بآسيا، وصولًا إلى قلب العالم الإسلامي في القاهرة. النص الذي بين أيدينا اليوم هو الجزء الأول من ورقة ثلاثية ينشرها الكاتب جمال سلطان على "عربي21"، بالتزامن مع نشرها على صفحته الشخصية على منصة فيسبوك، ليسرد قصة المفكر الإسلامي الذي اتهمه الأزهر بالجاسوسية، قبل أن تتكشف الحقيقة لاحقًا ويكرمه العلم والأدب الإسلامي.



تُظهر هذه السيرة كيف يمكن للمعرفة والثقافة والبحث الصادق أن تحوّل حياة الإنسان، وكيف أن التماس الجوانب الإنسانية والدينية والفكرية في الحضارات المختلفة يمكن أن يقود إلى تحولات روحية عميقة، رغم كل العراقيل والشبهات التي قد تواجه الباحث المستقل.

الجزء الأول يروي نشأة الباحث المجري "جيولا يوليوس جرمانوس"، مساره الأكاديمي، اهتمامه باللغات الشرقية، أولى لقاءاته بالإسلام، وهجرته الفكرية من بودابست إلى إسطنبول، ثم الهند، وصولًا إلى مصر والأزهر الشريف، حيث بدأت رحلة اختبار وفهم الإسلام على أرض الواقع، قبل أن يواجه اتهامات بالعمالة والجاسوسية.

هذه الورقة ليست مجرد سيرة، بل قراءة في التلاقح بين الفكر الأوروبي والإسلامي، وتجربة فردية تتحول إلى درس عام في الانفتاح، والبحث، والتسامح، وحماية الحقائق العلمية من الأوهام السياسية والاجتماعية.

البداية من بودابست

في العام 1884 ولد في العاصمة المجرية "بودابست" الطفل "جيولا يوليوس جرمانوس"، من أسرة مسيحية متدينة، أمضى فترة تعليمه بتفوق حتى تخرجه من الجامعة المجرية في العام 1903، فقررت الجامعة إرساله في بعثة "منحة" إلى إسطنبول لدراسة اللغة التركية، وحيث تتصل المجر ثقافيا وحضاريا بالدولة العثمانية على امتداد حقبة كبيرة من التاريخ، بل إنها لسنوات طويلة كانت جزءا من الدولة العثمانية، وما زالت حتى اليوم الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية قوية بين تركيا والمجر.

استطاع "جرمانوس"، بشخصيته الجادة والمحبة للعلم، أن يحذق اللغة التركية القديمة "العثمانية" في عامين، قراءة وكتابة ومحادثة، وكانت إسطنبول في تلك الفترة تعج بالحركات السياسية والتنظيمات المتمردة على السلطان عبد الحميد، فتواصل الشاب "جرمانوس" مع نشطاء في حركة "تركيا الفتاة" المعارضة من باب الاستطلاع ومعرفة ما يجري، وتم رصد اتصالاته، فألقي القبض عليه بتهمة التآمر، إلا أن الحكومة النمساوية ـ من خلال قنصلها العام في إسطنبول ـ تدخلت لدى الباب العالي، فتم العفو عنه وترحيله إلى بلاده، حيث كانت النمسا في ذلك الوقت تعتبر من حلفاء الدولة العثمانية وتحتفظ بعلاقات طيبة مع السلطان عبد الحميد خان.

في إسطنبول قرأ "جرمانوس" تفسيرا للقرآن الكريم باللغة التركية، فكان أول تماس له مع الإسلام من خلال نصوص أهله، وليس من خلال جهود المستشرقين الأوربيين، مثل أستاذه المستشرق الشهير"جولد تسيهر" الذين اعتادوا الطعن في الإسلام وتقديم صورة مشوهة عنه، حكاها هو بالتفاصيل بعد ذلك، وكان اطلاعه على القرآن شعاعا فكريا لازمه بعد ذلك عشرات السنين وانتهى به إلى الهداية إلى دين الإسلام.

التحول الثقافي والمعرفي الذي ولد معه في إسطنبول، دفع الباحث الشاب إلى الاهتمام بشكل كبير بتعلم اللغتين: الفارسية والعربية، لكي يتعرف أكثر على الثقافة الإسلامية، واعتمد في تعلم العربية بشكل خاص على نفسه، من خلال المعاجم المتوفرة، فاستطاع القراءة في العربية، دون تبحر في معرفة قواعد النحو والصرف والبلاغة وغيرها، لكن المسؤولين عن التعليم اهتموا بتطوره العلمي وقرروا تكليفه بتدريس اللغات الشرقية في معهد عال متخصص في آداب الشرق، ثم انتقل إلى الجامعة في بودابست في العام 1912، أستاذا للغات الشرقية : العربية والفارسية والتركية، ثم رئيسا لهذا القسم حتى تقاعده بعد أربعين سنة، وحظي باحترام ومكانة كبيرة في بلده بعد جهوده الضخمة في الترجمة من العربية إلى المجرية والعكس، حتى أن الجامعة أوجدت "كرسيا" باسمه في الجامعة.

أول صدمة له في مصر، أنه عندما كان يحدث عمال الميناء المصريين باللغة العربية الفصحى كانوا يضحكون منه، ويحدثونه باللهجة العامية، وبعض تعليقاتهم كانت تحمل سخرية، مما أثر في نفسيته، وكتب إلى زوجته رسالة يقول فيها أنه كان يخشى أن يسخر منه أهل مصر لضعف لغته العربية، ففوجئ بأنهم يسخرون من اللغة نفسها. في تلك الأوقات كان الباحث المجري الشاب تغشاه رؤى أثناء نومه تثير دهشته، حكاها في مذكراته وكتبه تصله بأجواء الشرق المسلم، كما كانت تنتابه موجات شوق شديدة لزيارة مكة ورؤية البيت الحرام الذي اطلع على صور نادرة له في مناسبك الحج، حتى أرسل له شاعر الهند الكبير "طاغور" دعوة لزيارة الهند وتدريس مادة "الحضارة" في جامعاتها، فسافر إلى هناك عام 1929 وبقي فيها ثلاث سنوات يتنقل بين مدن : دلهي ولاهور وحيد آباد، يتعمق أكثر في قراءاته حول الإسلام، ويخالط طبقات المجتمع الهندي المسلم كلها، وخاصة الفقراء منهم، فتأثر بشدة من اعتزازهم بدينهم، ومحافظتهم عليه، وطيب قلوبهم وكرمهم، رغم فقرهم الشديد، وعيشهم في أكواخ من القش، وكان إذا زار بعضهم يضيفونه بكرم وحب كبيرين رغم أنه غريب وغير مسلم.

لحظة من لحظات الإشراق

حتى كان يوم جمعة ذهب إلى مسجد "دلهي" الكبير، ثم استقبل المصلين وأعلن إسلامه أمامهم ، ونطق بالشهادتين نطقا عربيا مبينا، ثم اعتلى المنبر فخطب فيهم، فلما نزل داهمته حشود من البشر ـ كما يحكي في مذكراته ـ، من يحتضنه، ومن يقبله ، ومن يقبل رأسه، ومن يقبل ثيابه، وهي موجة من الفرح والنشوة العارمة بهدايته إلى الإسلام هزت أركانه، ووصفها وصفا بليغا في كتابه "الله أكبر"، واختار لنفسه اسم "عبد الكريم"، وأصبح "عبد الكريم جرمانوس"، وعندما سألوه عن أسباب هدايته للإسلام قال: "هي لحظة من لحظات الإشراق، لأن الإسلام دين الذهن المستنير، وإن أصحاب التفكير الحر ليجدون في هذا الدين السمح، عقيدة وشريعة ما يستولي على الإعجاب، وما يهدي إلى الإقناع، وعندي أنه سيكون معتقد الأحرار كلما تخلصوا من ربقة النشأة، ووطأة التقليد، وأنا أعرف كثيراً من المستنيرين يجلون الإسلام ديناً، ويكنون في سرائرهم إيماناً وإذعاناً".

في الرحلة الهندية تعرف على شاعر الهند الإسلامي الكبير ـ قبل انفصال باكستان ـ محمد إقبال، وجرت بينهما مسامرات ومحاورات عن أحوال المسلمين، وكان لقاؤه بإقبال من المعالم التي أثرت فيه بعمق، وصفها بأنها أسعد أوقات حياته، لشفافية الشاعر الكبير وعمق ثقافته وحبه العارم لدينه وحنانه على أمة الإسلام.

قضى "عبد الكريم" في الهند ثلاث سنوات مترعة بالحركة والدراسة والتدريس، حتى رغب في أن يذهب إلى مصر لتعلم اللغة العربية بعمق في الأزهر الشريف، فسافر ونزل من سفينته في الإسكندرية، ويحكي عن أول صدمة له في مصر، أنه عندما كان يحدث عمال الميناء المصريين باللغة العربية الفصحى كانوا يضحكون منه، ويحدثونه باللهجة العامية، وبعض تعليقاتهم كانت تحمل سخرية، مما أثر في نفسيته، وكتب إلى زوجته رسالة يقول فيها أنه كان يخشى أن يسخر منه أهل مصر لضعف لغته العربية، ففوجئ بأنهم يسخرون من اللغة نفسها.

حظي وجوده في القاهرة باحتفاء عدد كبير من الأدباء والكتاب، وكان للطفه ودماثة أخلاقه سريع الوصول إلى صداقات الناس، والتقى بالعديد من وجوه النخبة المصرية وقتها، مثل عبد الوهاب النجار وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل وإبراهيم المازني، ومحمود تيمور، ومحمد رجب البيومي وغيرهم، والتحق بالأزهر لبدء الدراسة، فاحتفى عدد من طلبة العلم بهذا "المجري" الأشقر الذي أتى للتزود بالعلم في الأزهر الشريف، إلا أن بعض مرضى النفوس أطلقوا الشائعات حوله، وسربوا لبعض المشايخ أن هذا الرجل إنما هو جاسوس أجنبي يستبطن الإلحاد ويظهر الإسلام وينبغي الحذر منه وإبعاده عن الأزهر، والمؤسف أن شيخ الأزهر وقتها الشيخ الظواهري اقتنع بكلامهم، وطرد عبد الكريم من الأزهر على خلفية اتهامه بالجاسوسية.

وبعد فترة من الوقت تكشفت الحقائق لشيخ الأزهر، وأدركوا خطأ ما فعلوه، فاعتذروا له، وقربوه منهم، وقرروا منحه عضوية مجمع البحوث الإسلامية، أرفع مؤسسة علمية بالأزهر بعد هيئة كبار العلماء، وظلت عضويته فيه قائمة حتى وفاته.

ونستكمل الحديث غدا بإذن الله ...

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب الذاكرة السياسية تقارير المجري المستشرقين مسيرة اسلام المجر مستشرق سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة عبد الکریم من خلال

إقرأ أيضاً:

«العقل الثاني» لميسي يودّع الملاعب!

 
معتز الشامي (أبوظبي)

أخبار ذات صلة ريال مدريد يحددّ سعر فينيسيوس بـ«مبلغ تاريخي»! الكرملين ينفي استنفاد الجهود الروسية الأميركية لإنهاء الحرب في أوكرانيا


في أغسطس 2012، وعلى أرض ملعب السادار أمام أوساسونا، كانت الشرارة الأولى لعلاقة كروية استثنائية، تلقّى دافيد فيا الكرة، مرّرها إلى جوردي ألبا المتقدم على الجناح، رفع الأخير رأسه ورأى ليونيل ميسي يهرب من رقابة ديفيد تيمور، وأرسل له تمريرة حاسمة، والنتيجة يعرفها الجميع.
إنها أول تمريرة حاسمة من ألبا لميسي، وبداية شراكة استمرت لأكثر من عقد، أصبحت خلالها «وصلة تَخاطر كروي» لا مثيل لها في كرة القدم الحديثة.
ومع إعلان ألبا اعتزاله بنهاية الموسم الحالي من الدوري الأميركي، يُطوى فصل ذهبي من مسيرة ميسي، ولعب الاثنان معاً 413 مباراة في برشلونة وإنتر ميامي، صنع خلالها ألبا لميسي 33 هدفاً، بينما ردّ له النجم الأرجنتيني الجميل بـ15 تمريرة حاسمة، لكن هذه الأرقام، كما يقول ألبا نفسه، «لا تعبّر عن الروح بيننا، كنا نفهم بعضنا بنظرة واحدة»
ميسي ودّع صديقه بكلمات مؤثرة عبر إنستجرام قائلاً: «سأفتقدك كثيراً، سيبدو غريباً أن أنظر إلى يساري ولا أراك هناك، من سيعيد لي الكرات الآن؟»
ولم تكن الانطلاقة مثالية دائماً، وبين 2012 و2016 أعاقتهما الإصابات المتكررة، وغابت شراكتهما لفترات طويلة، ومع صعود نيمار من الجهة اليسرى، تغيّر توزيع الأدوار الهجومية.
لكن الموسم 2016-2017 حمل لحظتهما الخالدة، تمريرة ألبا في الدقيقة الأخيرة لميسي في الكلاسيكو أمام ريال مدريد ليحسم الفوز 3-2 في البرنابيو ويُشعل سباق اللقب.
ومع تولّي إرنستو فالفيردي قيادة برشلونة عام 2017، أعيد تفعيل تلك المعادلة السحرية، حيث جعل فالفيردي ميسي أكثر حرية في العمق، فيما منح ألبا حرية التقدم من الجهة اليسرى، لتصبح تمريراته العرضية السريعة لميسي واحدة من «أسلحة البارسا الفتّاكة».
شهدت تلك الفترة ذروة التفاهم بينهما، خصوصاً في لقاء سيلتا فيجو بكأس الملك 2018، حين تبادلا الأدوار بثلاث تمريرات وهدفين في 15 دقيقة أظهرت انسجاماً «تخاطرياً» أقرب إلى الفن من التكتيك.
وفي موسم 2018، ضد توتنهام في ويمبلي، كرّر الثنائي المشهد ذاته، عبر انطلاقة لألبا، تمريرة خادعة من ميسي، وسيناريو متقن أنهى اللقاء بهدف يُدرّس في مدارس كرة القدم.
وحين اجتمع الثنائي مجدداً في إنتر ميامي إلى جانب بوسكيتس، استعاد الجمهور ذكريات برشلونة، ألبا صنع لميسي 10 أهداف في جميع المسابقات الأميركية، بينما ردّ ميسي بخمس تمريرات مؤثرة لزميله الإسباني، من أبرزها تمريرته الساحرة ضد نيويورك ريد بولز في يوليو 2024.
ومثلما كان الحال في كتالونيا، استفاد آخرون أيضاً، وتمريرة ميسي إلى ألبا صارت مقدمة لهدف سجله لويس سواريز ضد سانت لويس في يونيو.
ورغم تقدّمه في السن، تكيّف ألبا مع متطلبات اللعب الحديثة، فصار يصنع الفرص لميسي من مراكز أكثر تنوّعاً، حتى من العمق أحياناً، كما أظهرت خرائط التمرير في الدوري الأميركي.
ولا يعني اعتزال جوردي ألبا رحيل ظهير أيسر بارع فقط، بل انطفاء أحد أفضل خطوط الإمداد في تاريخ كرة القدم، وكان ألبا «المفتاح» الذي يفتح لميسي كل الأبواب المغلقة، والرفيق الذي يفهم الإشارة قبل أن تأتي الكلمة.

مقالات مشابهة

  • كلية اللغة العربية بأسيوط تعقد المجلس الطلابي الأول للاستماع إلى الطلاب وتلبية متطلباتهم
  • قيادات جامعة الأزهر يفتتحون ندوة "الإسلام حضارة بين التأصيل والمعاصرة واستشراف المستقبل"
  • قيادات جامعة الأزهر يفتتحون ندوة الإسلام حضارة بين التأصيل والمعاصرة بكلية الوافدين
  • شيخ العقل يعزّي دولة قطر بوفاة الدبلوماسيين في شرم الشيخ
  • ما تحت الحرب.. أو الوعي المأساوي المستحكم
  • حكم الزواج بأكثر من واحدة بدون سبب.. اعرف رأي شيخ الأزهر
  • قمة شرم الشيخ.. الأزهر: الحمد لله الذي هيأ أسباب السلام لأهل غزة
  • هل يوجد ترادف كلي في اللغة العربية؟.. رئيس جامعة الأزهر: العماء انقسموا إلى رأيين
  • «العقل الثاني» لميسي يودّع الملاعب!