في عيدها التسعين.. فيروز صوت الأمل في زمن الحرب
تاريخ النشر: 21st, November 2024 GMT
في ظل الحرب والأزمات التي تعصف بلبنان، يحيي اللبنانيون، الخميس، الذكرى التسعين لميلاد فيروز، الصوت الذي تخطى حدود الزمان والمكان ليصبح رمزا فنيا خالدا يربط بين الأجيال.
صوت فيروز، الذي شكل جزءا لا يتجزأ من الذاكرة اللبنانية، ما زال حاضرا بقوة في وجدان الشعب، وعلى الرغم من الظروف الصعبة، لم يتوان اللبنانيون عن التعبير عن محبتهم وتقديرهم لهذه القامة الفنية الاستثنائية، عبر الاحتفاء بميلادها من خلال منصات التواصل الاجتماعي.
جمعت فيروز بأغنياتها اللبنانيين، رغم الانقسامات السياسية والطائفية التي مزقتهم. واليوم، في ظل دوي المدافع وصخب الصواريخ، يكتسب صوتها بعدا معنويا أقوى من أي وقت مضى، مستحضرا ذكريات لبنان الحلم الذي يتوق إليه أبناؤه.
وتسببت الغارات وعمليات القصف الإسرائيلية على مختلف أنحاء لبنان والمواجهات بمقتل أكثر من 3540 شخصا منذ أكتوبر 2023، غالبيتهم منذ بدأت حملة القصف الإسرائيلية العنيفة في 23 سبتمبر.
سردية وطنية تتحدى الزمنيصف نقيب الفنانين المحترفين السابق، جهاد الأطرش، فيروز، واسمها الحقيقي "نهاد وديع حداد" بأنها "الأرزة الأكبر في هذا الوطن، والصوت الأعظم فيه"، مؤكدا أنها زرعت في نفوس اللبنانيين حب الوطن والانتماء إليه، ويقول "لم نسمع أغنية بصوتها إلا وخشعت قلوبنا لهذا الصوت الذي وهبها الله إياه".
ويضيف الأطرش في حديث لموقع "الحرة" أن "صوت فيروز يحمل معاني الحياة والسلام، ويجمع في محبته جميع أبناء الوطن. عندما نستمع إلى أغانيها، نستحضر القمر، والليل، والسهر، والشرفات المزينة بالفل والياسمين، وكل تفاصيل لبنان الجميل".
وفي ظل الظروف الراهنة، حيث تشتد الحرب بين حزب الله وإسرائيل، يشدد الأطرش "كم نحن بحاجة إلى أن يعيدنا صوت فيروز إلى بعلبك وصور والنبطية وكل المدن والمناطق اللبنانية".
من جانبه يؤكد الناقد الفني محمد حجازي أن عيد ميلاد فيروز يتجاوز كونه احتفالا شخصيا ليصبح عيدا للبنان بأكمله، ويوضح قائلا في حديث لموقع "الحرة" أنه "على مدى 49 عاما، منذ عام 1975 وحتى اليوم، كانت فيروز بصوتها رمزا لوحدة اللبنانيين. لقد استطاعت أن تؤكد للجميع أنها تنتمي إلى كل لبنان، دون الانحياز لأي طرف، كما أثبتت وطنيتها الحقيقية عندما رفضت الهجرة وبقيت في بيروت رغم الظروف الصعبة."
ومنذ انطلاقتها في خمسينيات القرن الماضي، حجزت فيروز أو كما يلقبها محبوها "جارة القمر"، مكانة استثنائية كأيقونة فنية في العالم العربي، وأصبحت صوت الصباح الذي يحمل الأمل لبدايات الجديدة.
فن خالديحمل صوت فيروز "الأمل الذي يشجع الإنسان على السير في طريق تحقيق الهدف رغم كل الصعوبات والمطبات"، كما يقول الأطرش، موضحا أن "الهدف الأسمى هو حب لبنان، والانتماء إليه، ودعم جيشه ومؤسساته"، مشيرا إلى أنه "كان قديما يقال، إن مصر تكتب، ولبنان يطبع، والعراق يقرأ. كنا في هذا العالم العربي مثلثا ثقافيا لا مثيل له في أي مكان في العالم، وهو ما نطوق إليه الآن".
غنت فيروز للحب والحياة، وللوطن لبنان، تغنت بسهوله ووديانه وجباله وتلاله وكرومه، مقدمة في أغانيها حكايات تسرد فصولا من تاريخه. في أغنيتها "بحبك يا لبنان"، خاطبت وطنها الجريح معبرة عن مشاعر كل لبناني ينتمي لهذه الأرض، فيما أصبحت "لبيروت" نشيدا يحمل أوجاع الشعب اللبناني وأحلامه.
ومن بين أغانيها الوطنية التي تركت أثرا عميقا في الذاكرة، "وطني يا جبل الغيم الأزرق"، و"خطت قدمكن"، "ع اسمك غنيت"، و"لبنان يا أخضر لونك حلو".
أحيت فيروز العديد من الحفلات والمهرجانات في لبنان ومدن عربية وعالمية، وقد ارتبط اسمها ارتباطا عميقا بقلعة بعلبك، إحدى أبرز المعالم الأثرية في لبنان. فقد كانت هذه القلعة التاريخية شاهدة على العديد من حفلاتها التي تركت أثرا لا ينسى في ذاكرة جمهورها، حيث أضافت الأبنية الرومانية الضخمة وجمال الموقع العريق بعدا خاصا لصوتها.
كما تميزت مسيرتها بتقديم المسرحيات الغنائية، التي أصبحت جزءا أساسيا من تاريخ الفن اللبناني، وقد جمعت هذه المسرحيات بين جمال الكلمة، وسحر اللحن، وقوة الأداء التمثيلي، ومن أبرزها "ميس الريم"، "هالة والملك" و"المحطة".
كما تألقت فيروز في عالم السينما، فقدمت مجموعة من الأفلام التي حققت نجاحا باهرا، أبرزها " فيلم بياع الخواتم"، و" سفر برلك" و"بنت الحرس".
استطاعت فيروز وفق ما يقوله حجازي أن تكسب جمهورا واسعا في العالم العربي واحترام العالم بأسره، ويشدد "يكفيها فخرا أنها رفضت الذهاب للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حين زار لبنان، فزارها هو شخصيا في منزلها، هذا حدث استثنائي يعكس مكانتها العظيمة، ويؤكد أن الفنان عندما يكون كبيرا في بلده، يصبح كبيرا في العالم".
كما استطاعت أن تبقى حاضرة في قلوب الناس طوال هذه العقود، لأنها كما يقول حجازي "تعاونت مع اثنين من أعظم العباقرة في تاريخ الموسيقى العربية، الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، فأعمالها تتحدث عن قضايا نعيشها الآن، وكأن الرحابنة تنبآ بالمستقبل. على سبيل المثال، أغنيتها "هون رح نبقى"، وكأنها كتبت لتواكب الأزمات الحالية، رغم أنها صدرت قبل أكثر من خمسين سنة".
كذلك يستحضر الأطرش، الأخوين الرحباني، اللذين صاغا موهبتهما الفنية في صوت فيروز، ويقول "قدما لهذا الوطن أجمل الأعمال، وأعادا لنا صورة لبنان الذي لا نزال نحلم به، خاصة في هذه الأيام الصعبة"، ويؤكد "أنا وكل اللبنانيين، نقول إن لبنان الحلم هو لبنان الرحابنة ولبنان فيروز. نرجو أن ينهض الوطن من هذا الدمار، كما نهضنا دائما مع كلمات الرحابنة وألحانهما التي عمقت حبنا وانتماءنا للبنان".
اليوم، في زمن الحرب والنزوح، يجد اللبنانيون عزاءهم في صوت فيروز وأغانيها التي تحاكي بيوتا غادرها أصحابها قسرا، وأطفالا حرموا من طفولتهم، وأشجارا تفتقد من كانوا يحيطون بها.
فيروز، التي يرافق صوتها اللبنانيين في كل لحظاتهم، سواء في الفرح أو الحزن، هي أكثر من مجرد فنانة، فكما وصفها الشاعر محمود درويش "هي الأُغنية التي تنسى دائما أن تكبر، هي التي تجعل الصحراء أصغر، وتجعل القمر أكبر".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: صوت فیروز فی العالم
إقرأ أيضاً:
أسير الشوك ورهين القرنفل
نور بنت محمد الشحرية
حين كتب زعيم حركة حماس يحيى السنوار "الشوك والقرنفل"، لم يكن يدوّن حكاية ذاتية، بل أرّخ لوجع شعب مُحاصر، واختار من بين رماد القهر أن يزرع وردة أمل. لم تكن الرواية مجرد سيرة ذاتية، بل كانت وعدًا مؤجلًا بالثأر النبيل والانتصار الهادئ الذي ينبت من شقوق الجدار.
في تلك الرواية، تجلّى السنوار ككاتبٍ يحمل قلبًا رحيمًا، يصف الألم لا ليُبكي القارئ، بل ليمنحه القوة. رجل يعرف تفاصيل الوجع، لا يكتبه من بعيد، بل من جوف النفق، ومن ظلال الزنزانة. من قرأ "الشوك والقرنفل" عرف أن السنوار لم يكن مجرد مقاتل، بل رجل يحمل في داخله إنسانًا مرهفًا، يُؤمن بالحب، ويتألم من أجل شعبه أكثر مما يتألم لنفسه.
هذا السنوار الكاتب، ليس نقيضًا لمن أعلن الحرب، بل هو دليله على أن من اختار السلاح لم يكن ساديًا، بل رجلًا لطيف القلب، طيّب النية، أجبره العالم على أن يقاتل كي لا يموت صامتًا.
لكن الأعجب من ذلك أن السنوار، في سنوات سجنه الطويلة، لم يكن مجرد أسير، بل كان مُفكّرًا صامتًا يُعيد رسم الخريطة. خلف القضبان، نسج خيوط العملية الأوسع في تاريخ الصراع. لم يحتج إلى ضجيج، بل إلى عزلة، ليحوّل الهزيمة إلى خطّة، واليأس إلى دهاء.
حين خرج من السجن، لم يخرج بلا شيء، بل خرج بمخططٍ كامل، بنظرة أبعد من القضبان، وعقلٍ يُدرك أنَّ المعركة ليست بعدد الجنود، بل بصلابة الإرادة وحكمة التوقيت.
ورغم الحصار، أنشأ السنوار قوة تفوقت على جيش يتجاوزها في كل شيء: في السلاح، في الدعم، في التكنولوجيا، وفي التحالفات. لكنه نسي أمرًا واحدًا: أنَّ غزة لا تُقاتل بما تملك؛ بل بما تؤمن به. وأن الغزّي لا تُقاس قوته بعدد عضلاته، بل بجلده على الصبر، وثباته حين يُخذل، وعزيمته التي تتغذى على الندرة والجوع والخطر.
في الرواية، لا يضطر الكاتب إلى تبرير فعلته، لكن التاريخ يُجبره على أن يشرح للقراء لماذا لم يعد الصمت خيارًا. لذا، حين اختار السنوار إعلان الحرب في 7 أكتوبر، لم يكن يركض خلف ضوء كاميرا؛ بل كان يوقظ العالم على صوت غابةٍ تحترق، لأنهم تجاهلوا كثيرًا لهيبها المختبئ تحت الرماد.
ومن يلوم السنوار على إشعال فتيل الحرب لم يذُق طعم الحصار، ولم ينَم على ركام منزله، ولم يحمل طفلًا شهيدًا بين ذراعيه. لذا فإن من لم يختنق بالغاز في نفق، ولم يفقد عائلته في غارة، لا يحق له أن يُعلِّم الفلسطيني كيف يُطالب بحقه. الحرب ليست خيارًا مُريحًا، لكنها أحيانًا الصرخة الأخيرة حين يصُمُّ العالم أذنيه.
وفي زنزانة موصدة على طرف الزمان، جلس السنوار على كرسيه مثلما جلس نيلسون مانديلا يومًا في سجنه. كلاهما سُلبت حريته عقودًا، لكن أحدهما خرج ليستقبل الفجر في جوهانسبرج، والآخر بقي في ليل غزة الطويل. كلاهما عاش في سجن، لكن الفارق أنَّ العالم بكى يوم سقط الأبارتايد (نظام الفصل العنصري)، بكى فرحًا، لأنَّ صفحة سوداء من التمييز العنصري طُويت. كانت دموعهم احتفالًا بانتصار العدالة، ومباركة لعهد جديد من المصالحة.
أما في غزة؛ فالعالم ذاته بارَكَ دمارها، واحتفى بانهيار جدرانها، وسقوط أجساد أطفالها، وكأنَّ العدالة لا تستحق أن تُولد من رحم فلسطيني.
السنوار لم يمت فجأة؛ بل مات واقفًا. مشهده الأخير ليس لحظة ضعف؛ بل لحظة بطولة، لا تنحني. كانت طريقة موته ختمًا على صلاحه، وتصديقًا لمبدئه، ووفاءً صامتًا لعقيدته. من كانوا يشككون فيه، الشجعان منهم فقط اعترفوا أنَّهم ظلموه حين لم يرَوا فيه سوى قائد عنيد متهور، وقاد شعبه للهلاك كما زعموا. أما البقية، فلم يُسمع لهم صوت في لحظة الحقيقة، إلا حين حاولوا التقليل من عظمة نهايته، مدّعين أنَّ المقطع مفبرك، وأن من ظهر ليس السنوار.
الأبطال لا يحتاجون بطاقة تعريف حين تسقط أجسادهم، فالنهاية التي تليق بهم تفضح الصامتين وتُسكت المشككين.
وحدهم الشرفاء في هذا العالم- من كل ملةٍ وعرقٍ ولسان- أدركوا من رحيله حجم الخسارة.
حتى من كانوا يختلفون معه في الفكر أو في السياسة، وحتى الشعوب التي تحارب حكوماتها غزة وتخذلها، عرفوا أنَّ غيابه ليس مجرد غياب جسد؛ بل سقوط رمح كان يشُق العتمة بحَدِّ الإيمان.
في عيون الأحرار، لم يكن السنوار مقاتلًا فقط؛ بل كان حلمًا صامدًا تمرد على كل من قال إنَّ الهزيمة قدر، وإنَّ الاستسلام مخرج.