جائحة صامتة.. تدهور الصحة النفسية خطر كامن في أماكن العمل
تاريخ النشر: 19th, December 2024 GMT
يتسبب الاكتئاب والقلق الذي يصيب الموظفين في فقدان 12 مليار يوم عمل سنوياً، الأمر الذي يكلف الاقتصاد العالمي حوالي تريليون دولار، وذلك بسبب أزمة الصحة النفسية .
تدهور الصحة النفسية خطر يهدد أماكن العملوكشفت دراسة أجرتها شركة ديلويت هذا العام، بأن 17% من الموظفين في قطاعي المالية والتأمين يعانون من العلامات الرئيسية الثلاثة للإرهاق الوظيفي، وهي الإرهاق، تراجع الأداء، والانفصال النفسي عن العمل، مقارنة بمتوسط 12% في جميع القطاعات الأخرى.
وأشارت الدراسة، إلى أن التكلفة السنوية المتوسطة لتدهور الصحة النفسية لكل موظف في قطاعي المالية والتأمين بلغت 5.379 جنيهاً استرلينياً، وهو ما يزيد بأكثر من الضعف عن أي قطاع آخر ضمن 14 قطاعاً مشمولاً بالدراسة.
ويأتي هذا التقرير ضمن تقارير عدة تشير إلى التأثير المتزايد لأزمة الصحة النفسية على الشركات وأماكن العمل حول العالم.
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية، يتسبب الاكتئاب والقلق بفقدان 12 مليار يوم عمل سنوياً، مما يكلف الاقتصاد العالمي تريليون دولار سنوياً.
وقالت كيت بيكيت، أستاذة علم الأوبئة بجامعة يورك في المملكة المتحدة: “حجم المشكلة مقلق للغاية، خصوصاً بين الشباب، وتشير الزيادة الكبيرة في معدلات المرض النفسي إلى وجود مشكلة حقيقية تتجاوز مجرد زيادة الإبلاغ عنها”.
وتتنوع العوامل التي تغذي أزمة الصحة النفسية العالمية، من ارتفاع تكاليف المعيشة إلى الاعتماد الكبير على وسائل التواصل الاجتماعي.
وقال جون فلينت، الرئيس التنفيذي السابق لبنك “إتش إس بي سي” ورئيس الصندوق الوطني للثروة في المملكة المتحدة، لصحيفة فاينانشيال تايمز: على قادة الأعمال أن يكونوا مستعدين للتعامل مع جميع جوانب الصحة النفسية بشكل أكثر شمولاً.
وعلق دان تشيشولم، أخصائي الصحة العقلية في منظمة الصحة العالمية، إن التدهور المستمر في الصحة النفسية منذ بداية الألفية تفاقم بسبب جائحة كوفيد 19، حيث زادت حالات الاكتئاب عالمياً بنسبة 25% خلال عامي 2020 و2021، وهو ما يجعلنا بعدين عن مستويات ما قبل الجائحة، ولا يزال البعض يعاني بشكل كبير من تداعياتها.
وأضافت إليزابيث هامبسون، الشريك في ديلويت والمسؤولة عن الدراسة التي أجرتها الشركة، إلى أن تدهور رفاه الشباب زاد الضغوط على الآباء العاملين، حيث ارتفعت نسبة الأطفال الذين يعانون من اضطرابات نفسية محتملة من واحد بين كل تسعة في 2017 إلى واحد بين كل خمسة في 2023، مضيفة إن قلق الآباء بشأن صحة أطفالهم النفسية يكلف الشركات في المملكة المتحدة 8 مليارات جنيه استرليني سنوياً.
وأجرى تحالف مايندفوروارد مسح على 12.200 عامل وموظف، بأن المشكلات النفسية تعد أكثر شيوعاً في شركات المالية وشركات المحاماة مقارنة بمعظم القطاعات الأخرى، رغم أن هذه القطاعات تبذل جهوداً أكبر لتعزيز الصحة النفسية مقارنة بغيرها.
وأشارت أليسون أنستد، الرئيسة التنفيذية لتحالف مايندفوروارد، إلى إن 85% من الموظفين يشعرون بالدعم عندما يفتح المديرون التنفيذيون حواراً صريحاً حول الصحة النفسية، مقارنة بـ 31% فقط عند غياب هذه المناقشات.
وأوضح روب جوب، الرئيس التنفيذي لمجموعة برايت ستار، الذي عانى من الاكتئاب منذ الطفولة، أنه جعل الرفاه النفسي للموظفين أولوية في شركته البريطانية المتخصصة في التمويل.
فيما علق جوب: “كنت متردداً لفترة طويلة في أن أكون صريحاً بشأن معاناتي، وأشعر بالخجل من هذا التردد الآن. عندما كنت صغيراً، لم يكن من المقبول الحديث عن الصحة النفسية، لكن بعد أن بدأت بمناقشة الأمر، شعرت بتحسن كبير”.
وأستكمل جوب، بأن شركته توفر لموظفيها جلسات شهرية مع مدربين متخصصين، بالإضافة إلى تقديم دعم نفسي للموظفين لسنوات.
الاستثمار في الصحة النفسية للعاملين أسهم في زيادة الإنتاجيةولفت جوب، إلى أن الاستثمار في الصحة النفسية للعاملين أسهم في تحسين معدلات الاحتفاظ بالموظفين، وتقليل الإجازات المرضية، وزيادة الإنتاجية بنسبة تصل إلى 40 - 60% مقارنة بالشركات الأخرى.
ووفقاً لدراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة أكسفورد باستخدام بيانات من موقع إنديد، فإن تعزيز الصحة النفسية في مكان العمل يمثل استثماراً اقتصادياً مربحاً.
وأفاد لجان إيمانويل دي نيف، أستاذ الاقتصاد بجامعة أكسفورد، بأنه قاد دراسة شملت تحليل ردود مليون موظف يعملون في 1.782 شركة أمريكية مدرجة بأن هناك ارتباطاً إيجابياً قوياً بين كفاءه الموظفين وأداء الشركات.
وأظهرت محاكاة لمحفظة تضم أفضل 100 شركة سجلت أعلى معدلات رفاه الموظفين في استبيانات إنديد أنها تفوقت باستمرار على المؤشرات الرئيسية للأسواق.
وقال دي نيف: تبين لنا أن شعور الموظفين في العمل يمثل مؤشراً قوياً للأداء المستقبلي للأسواق والنتائج المالية. لذا فإن التركيز على الصحة النفسية يزيد من المشكلات النفسية.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الصحة الصحة النفسية الاقتصاد الموظفين القلق الاكتئاب المزيد تدهور الصحة النفسیة الموظفین فی
إقرأ أيضاً:
الحرب النفسية: اليمن يُعيد تعريف معادلة الصراع
في قلب الحروب الحديثة، قد تصبح الكلمة أكثر فتكاً من القذيفة. الحرب النفسية، التي كانت تاريخياً أحد أذرع القوى الكبرى، باتت اليوم في متناول الفاعلين غير التقليديين، ليس فقط كوسيلة ردع، بل كأداة لبناء توازنات معنوية وميدانية جديدة.
في هذا السياق، برز اليمن، خلال الأشهر الأخيرة من معركة الإسناد لغزة، كحالة لافتة في تطوير وتوظيف أدوات الحرب النفسية، ليس فقط عبر استنساخ أساليب العدو، بل عبر تنويعها وإعادة تشكيلها ضمن منظومة ردع متكاملة.
من أولى المؤشرات التي لفتت الأنظار في الأداء الإعلامي والعسكري للقوات المسلحة اليمنية كان استخدام أسلوب التحذير المسبق، بطريقة تعكس ما اعتادت إسرائيل فعله مع خصومها.
فبينما كانت تل أبيب ترسل رسائل تحذيرية عبر الناطقين باسم جيشها موجهة إلى سكان مناطق مثل غزة أو جنوب لبنان واليمن، بدأ الأخير بتوجيه تحذيرات مشابهة -شكلاً لا مضموناً- إلى مطارات ومواقع استراتيجية إسرائيلية، مثل مطار بن غوريون.
هذه الصيغة لم تكن مجرد محاكاة بل تمثل نقلة في الخطاب النفسي: تحويل التحذير من أداة تحييد إلى أداة تهديد. بذلك، لا يكون التحذير اليمني عملاً أخلاقياً بقدر ما يكون رسالة صلبة: نحن نملك القدرة على الإيذاء، ونمنحكم وقتاً للتفكير في العواقب.
من أدوات الحرب النفسية الأكثر بروزاً، اللجوء إلى تسمية العمليات العسكرية بأسماء ذات رمزية، كالإصرار اليمني على تسمية المدن والبلدات الفلسطينية بأسمائها الأصلية، لا تلك اليهودية، وهي خطوة تعكس رسالة محمّلة بدلالات دينية وتاريخية وسياسية.
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من أن اليمن بما يمتلك من قدرات، إلا أنها ليست كافية -كقدرة نارية واسعة نتيجة البعد الجغرافي- للتأثير الفعلي الكبير على المرافق الحيوية في الكيان، ولذلك، كان استهداف البنية التحتية للملاحة الجوية الاسرائيلية خياراً عمليّاً، وبصاروخ واحد. وبهذا استطاعت صنعاء أن تثبت في وعي الاحتلال ومستوطنيه أن السماء لم تعد آمنة، وأن المعركة اقتربت من العصب الحيوي للكيان. وهنا تتضح القوة النفسية للتسمية: إنها تجعل من كل إعلان عن عملية، تهديداً مركّباً يتغلغل في الإدراك الجمعي للمستوطنين.
يُعد التوقيت في الضربات اليمنية أيضاً جزءاً من تكتيك الحرب النفسية، لا مجرد قرار عسكري. فقد اختارت صنعاء توقيتات دقيقة لتنفيذ ضرباتها، غالباً ما تكون متزامنة مع أحداث إسرائيلية داخلية أو تطورات إقليمية حساسة. في بعض الأحيان، كان التوقيت يحمل رسالة مبطّنة: «نحن نراقب، ونستطيع مفاجأتكم في اللحظة التي تظنون فيها أنكم في أمان».
هذا الاستخدام الذكي للتوقيت لا يسبب فقط أذى ميدانياً، بل يبني حالة من الترقب والقلق الدائم. كل ساعة تمر، هي احتمال لصفعة نفسية جديدة.
بيانات القوات المسلحة اليمنية تطورت خلال الأشهر الأخيرة لتصبح أداة حرب نفسية قائمة بذاتها. اللغة المستخدمة في هذه البيانات واثقة، حادة، تنطوي على تهديد مباشر ومدروس. لم تعد البيانات مجرد إعلانات بل رسائل موجهة لا إلى الداخل اليمني فحسب، بل إلى الحكومة الإسرائيلية، وإلى جمهورها، وإلى محيطها الإقليمي.
يضاف إلى ذلك نشر مشاهد مصورة للعمليات أو لمرحلة ما بعد التنفيذ، كتوثيق استهداف سفن في البحر الأحمر أو لقطات لطائرات مسيّرة في الأجواء. هذه الصور لا تكتفي بالإخبار، بل تبث رسائل ميدانية ذات طابع نفسي صارم: نحن نملك اليد، والعين، والسلاح.
من أكثر التحولات اللافتة في الحرب النفسية اليمنية، الاتجاه نحو مخاطبة الجبهة الداخلية الإسرائيلية مباشرة، أحياناً باستخدام اللغة العبرية أو رموز معروفة في الخطاب الإسرائيلي. هذا النوع من الخطاب يكسر الحاجز النفسي التقليدي بين المقاتل العربي والشارع الإسرائيلي، ويضعه وجهاً لوجه مع خصم يعرفه، ويخاطبه، ويهدده بلغته.
إنها رسائل قصيرة، لكنها موجّهة بدقة: «نحن نراكم»، أو «نحن نعرف مفاتيح التأثير عليكم». وهذا النوع من التواصل يشكل ضغطاً على القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية التي تجد نفسها ملزمة بالرد أمام جمهور بات يشعر أن جبهته الداخلية لم تعد بمنأى عن الخطر.
في معركة الإسناد لغزة، أثبت اليمن أن الحرب النفسية ليست فقط سلاحاً تكميلياً، بل ركيزة استراتيجية في بناء معادلة ردع جديدة. لقد تجاوزت صنعاء مرحلة استنساخ أدوات العدو إلى مرحلة إعادة إنتاج أدوات نفسية متعددة الوظائف: تهدد، وتربك، وتحفّز، وتخترق.
وإذا كان ميزان القوى العسكري ما زال يميل لصالح إسرائيل، فإن المعركة النفسية باتت مفتوحة، وقابلة للتطوير، وبعيدة عن الحسم. في هذا السياق، يمثل اليمن اليوم مختبراً متقدماً في الحرب النفسية السيادية، يعيد تعريف معادلة الصراع في المنطقة.