سودانايل:
2025-06-12@04:55:28 GMT

الإسلاميون في السودان: لم تعثروا وكيف ينهضون (6 – 6)

تاريخ النشر: 21st, January 2025 GMT

الدكتور الدرديري محمد أحمد

(حزب ما بعد الترابي)

روت السيدة عائشة رضي الله عنها أنه عندما توفي النبي ﷺ أقبل أبو بكر الصّديق رضي الله عنه ودخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل حُجرة عائشة. فتيَمّم رسول الله ﷺ وكان قد سُجّي ببُردٍ حِبَرةٍ. فكَشف عن وجهه ﷺ ثم أكبَّ عليه وقبّله وبكى. وقال: “والذي بعثك بالحقِّ، أما الموتةَ التي كُتبت عليك فقد مِتّها، ولن يجمع اللهُ عليك بين موتتين”.



وقال ابن عباس رضي الله عنه إن الصّديق خرج من حجرة عائشة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يُكلّم الناس في المسجد ويقول: إنَّ الرسول لم يمت. وسوف يفعل ويفعل… فقال الصديق: “اجلس”، فأبى عمر. فقال: “اجلس”، فأبى. فتشهد أبو بكر رضي الله عنه، فمال إليه الناسُ، وتركوا عمر. فقال: “أما بعد، فمَن كان منكم يعبد محمدًا، فإنَّ محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله، فإنَّ الله حيٌّ لا يموت. قال الله تعالى “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ”. فوالله لكأنَّ الناس لم يكونوا يعلمون أنَّ الله أنزل الآيةَ حتى تلاها أبو بكر. فتلقَّاها منه الناس، فما يُسمعُ بشر إلا يتلوها.

وأخبر سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر تلاها فعُقِرتُ حتى ما تقلُّني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض.
“بتصرف من صحيح البخاري (كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته)، والطبري (تاريخ الرسل والملوك)، وتفسير ابن كثير”.

**************************

ان “حزب الترابي” هو التيار الذي ساد المشهد الإسلامي السوداني على مدى الأعوام الستين الممتدة من 1964 وحتى 2024. وبالرغم من أن ذلك التيار قد تفرق لأحزاب وكيانات فان فصائله المختلفة لا تزال تبني على ذات الفكرة التي قال بها الدكتور حسن الترابي في تجديد الدين وضبط الحياة العامة به. وما انفكت تتخذ لذلك من الهياكل التنظيمية قياسا على ما طوره الترابي من أنماط. أخطأ ذلك التيار حيث أخطأ، وأصاب حيث أصاب. فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئٍ ما نوى.

غير أن سنن الله الماضية، هي أنه لا بُدَّ من طي تلك الصفحة، بمرئياتها الفكرية وتراثها التنظيمي، وفتح صفحة جديدة لزمان جديد وجيل جديد وتحديات جديدة. فهذا هو مقتضى النَقل، وهو مقتضى العَقل. هذه الصفحة الجديدة هي ما نسميه هنا – مجازا – “حزب ما بعد الترابي”. ونتقدم فيما يلي بمقاربة متواضعة بشأنه آملين أن تهتدي بتصويبات الآخرين وتتقوى بإضافاتهم. ونبني المقاربة على رصد أوجه الاختلاف بين ما كان عليه “حزب الترابي” وما ينبغي أن يكون عليه “حزب ما بعد الترابي” في المسائل الثلاث الرئيسة التالية: الهدف، البناء التنظيمي، والنهج الفكري.

قلنا في الحلقة الأولى من هذا المقال إن الإسلاميين السودانيين صاروا إسلاميين لهدف. وان ذلك كان هو أن تلتزم الدولة دين الأمة وقيم المجتمع كما كان عليه الحال قبل قدوم المستعمر. بعد قيام الإنقاذ أصاب الإسلاميون نجاحا مقدرا في تحقيق ذلك الهدف، فكسبوا الصراع مع العلمانيين في جانبيه السياسي والاجتماعي، على النحو الذي بسطناه في الحلقة الخامسة. فلما رأى العلمانيون ذلك، كرِهوا أن يشاركوا في الانتخابات طوال حكم الإنقاذ “حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ”؛ وخوفاً من أن يكسَب الإسلاميون الانتخابات فيضطرون – ويضطر الغرب معهم – للتسليم بنتيجتها. فلم يشاركوا إلا في الانتخابات التي سبقت استفتاء جنوب السودان ولأغراض إسباغ المشروعية على ذلك الاستفتاء.

بعد سقوط الإنقاذ طمِع العلمانيون في استعادة العلمانية كاملة، كهيئتها عند فجر الاستقلال أو أشد. فعمدوا إلى تعلِيَة السقف. فبعد أن كانت ذريعتهم للامتناع عن المشاركة في الانتخابات في عهد الإنقاذ هي عدم ضمان نزاهتها في ظل سيطرة الإسلاميين، ائتمروا مع القوى الغربية ودولة الإمارات واشترطوا لإجراء الانتخابات أن يكتمل -أثناء الفترة الانتقالية – إنجاز الفصل بين الدين والدولة على المستوى السياسي، وتبني المنظومة القيمية الليبرالية على المستوى الاجتماعي. وحيث أن السبيل لذلك هو إقصاء أقوى فصائل الإسلاميين – كمرحلة أولى – فقد صدر في 29 نوفمبر 2019 قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو الذي بموجبه تم حل حزب المؤتمر الوطني ومصادرة أصوله دون حكم قضائي. وبعد تولِّيه منصب رئيس البعثة الأممية (يونيتامس) أقر فولكر بيرتس ذلك الإجراء المخالف للقانون الدولي لحقوق الانسان معلناً في 17 يونيو 2022 أنه “لا نية للبعثة بالتحدث مع الإسلاميين من الأحزاب المحظورة أو إشراكهم في الحوار”. بسبب ذلك صار شائعا الحديث عن “توافق واسع على عدم إشراك المؤتمر الوطني في الفترة الانتقالية”، وصارت عبارة “إلا المؤتمر الوطني” من المألوف في السياسة السودانية. وكان الراجح أن ذلك سيؤدي في النهاية إلى منع المؤتمر الوطني وطائفة من الأحزاب والشخصيات – التي يرونها واجهات له او مرتبطة به – من المشاركة في الانتخابات. كانت تلك هي التعلية الأولى للسقف. بعدها علّوا السقف مرتين. مرةً قبل الحرب. ومرة أخرى بعد اندلاعها. ونُفصِّل أدناه في هاتين التعليتين.

في 3 سبتمبر 2020 وقّع عبد الله حمدوك وهو في المنصب اتفاقا مع عبد العزيز الحلو في أديس أبابا، نص على فصل الدين عن الدولة. وجاء فيه إنه “في غياب هذا المبدأ يجب احترام حق تقرير المصير”. وفي اليوم التالي للاتفاق أبرم حمدوك والحلو اعلانا مشتركا يشترط لذلك الاتفاق “المصادقة عليه من قبل المؤسسات المعنية”، أي السلطة التشريعية الانتقالية. كان اتفاق أديس أبابا برعاية دولية معلنة. إذ حضر التوقيع ديفيد بيزلي مدير برنامج الغذاء العالمي، السياسي الأمريكي الجمهوري ذو التوجهات المثيرة للجدل. في 28 مارس 2021 عزّز حمدوك والحلو اتفاق أديس أبابا باتفاق آخر أبرماه في جوبا، سمي “إعلان المبادئ” نص على أنه “يجب أن تكون الدولة السودانية دولة مدنية ديمقراطية فدرالية، يتم فيها فصل الدين عن الدولة، لضمان عدم استخدام الدين في السياسة”. تلك كانت – في مجملها – هي التعلية الثانية للسقف.
بعد أكثر من سنة على نشوب الحرب، وتحديدا في 18 مايو 2024، وقّع حمدوك، بصفته رئيس تنسيقية “تقدم”، اتفاقا مع الحلو وعبد الواحد نور – كلٌّ على حدة – ما سُمي “إعلان نيروبي”. كذلك نص هذا الاتفاق على تأسيس دولة علمانية تفصل بين الدين والدولة وعلى “حق الشعوب السودانية في ممارسة حق تقرير المصير، في حالة عدم تضمين المبادئ الواردة في الإعلان في الدستور الدائم”.

أيضا لم يكن الراعي الدولي غائبا، ومثّله هذه المرة الرئيس الكيني وليام روتو. إلا أن الفرق بين إعلان نيروبي وبين اتفاق أديس أبابا كان كبيرا. فبينما كان قُصارى ما اُشترط لاتفاق أديس أبابا هو مصادقة المؤسسات الانتقالية عليه، فإن إعلان نيروبي شدّد على أن يُضمّن فصل الدين عن الدولة في الدستور الدائم للبلاد. وهكذا بعد أن كان للشعب السوداني أن يقول كلمته في نهاية الفترة الانتقالية، فيما إذا كان يركَن للعلمانية أم يصُدُّ عنها، فإنه لم يعد له ذلك بعد الحرب. إذ جُعلت العلمانية مبدأً فوق الدستور super-constitutional ليس للشعب فيه رأي، ولا يجوز نقضه أو الانتقاص منه ولو باستفتاء. تلك أول مرة يسمع فيها السودانيون تعبير “المبادئ فوق الدستورية”. وكان ذلك المصطلح قد أُطلق على عشرة مبادئ، أعلن عنها عبد العزيز الحلو في كتيب صدر عام 2021، أولها العلمانية وثانيها حق تقرير المصير. بل هناك شرط آخر ضمني يفترضه إعلان نيروبي. وهو أن تعود تنسيقية “تقدم” للحياة السياسية، إذ لا علمانية أو ليبرالية بدونها. وأن يعود الدعم السريع للمؤسسة العسكرية، اذ من غيره يحمي “تقدم” وليبراليتها. هذه هي التعلية الثالثة والتي غَيرت جذريا من قواعد اللعبة السياسية في السودان.

قبل الحرب كان موضوع فصل الدين عن الدولة نزاعاً طرفاه الإسلاميون والعلمانيون. وكان الشعب فيه هو الحَكَم الذي يقول كلمته النهائية في الانتخابات. أما بعد الحرب فقد صار الشعب طرفا في الصراع. اذ صار هدف الصراع هو إلزام الشعب أن يمتثل لتضمين العلمانية في الدستور الدائم دون انتخابات أو استفتاء. بل لا بد للشعب السوداني من أن يقبل عودة حراس المعبد للمشهدين السياسي والعسكري. وهكذا استعدى العلمانيون الشعب بكل أطيافه وجعلوه خصما وساقوه سوقا إلى حَلَبة المواجهة الشاملة حول الأطروحة الليبرالية العلمانية. تلك الأطروحة التي لم يعد يتبناها – وفقا للنسخة الأخيرة منها وبحسب آخر تحديث لها في التعلية الثالثة – إلا الدعم السريع، وتنسيقية “تقدم”، وعبد العزيز الحلو، وعبد الواحد نور.

اذن فان الهدف الذي كان من أجله الإسلاميون إسلاميين في زمان “حزب الترابي” لم يعد قائما اليوم. فإذا كان “حزب الترابي” يسعى لتمكين الدين في مجتمعٍ كانت مشكلته هي “الجهل بشمول الدين، والغفلة عن مقتضاه السياسي” فإنه – بعد ثلاثين سنة من حكم الإسلاميين – لم تعد تلك المشكلة قائمة. إذ أن الدين قد “تمكن” في المجتمع وشاع العِلم بشموله وبمضمونه السياسي. هذا هو السبب الذي جعل العلمانيين يستنصرون بالأجنبي. وهو السبب الذي جعلهم – في البداية – يتهربون من إجراء الانتخابات بحجة انها تجرى في ظل الإسلاميين، ثم يقولون – في النهاية – إن شرط إجرائها هو إقرار مبادئ فوق الدستور لا تخضع حتى لاستفتاء الشعب عليها. وهو السبب الذي جعلهم يبتزون السودانيين بفصل أجزاء عزيزة من بلادهم إن هم رفضوا العلمانية.

وهكذا بعد أن كان شأن الدين مما تتصدى فيه للعلمانيين الجماعات الطلابية والحركات والأحزاب الإسلامية، فانه اليوم شأن المجتمع كله ينهض له مُجمِعاً ويضرب ضربةَ مُفردِ! وينقلنا هذا للحديث عن التنظيم.

ان من يواجه دعاة العلمانية اليوم هم كل من له مَوجِدة ضد الدعم السريع؛ في زمان ليس فيه من أحد في الشعب السوداني إلا وله هذه المَوجدة. وإن من يواجه دعاة الليبرالية اليوم هو كل من يرفض عودة تنسيقية “تقدم” وظهيرها الدولي وتحكّمهم من جديد في رقاب الناس ومصائر البلاد. والشعب كله يرفض عودة هؤلاء. فهل بعد ذلك، يحتاج الإسلاميون إلى التمايز كإسلاميين! وهل يحتاجون لأن يؤطِّروا أنفسهم في حزب إسلامي يقول بدعوة ينبري لها عامة الناس خارجه! أم إنه ينبغي أن يتركوا أمر هذه الدعوة لهذه “الظاهرة الجماهيرية”، التي هم بعضاً منها. وهل إن الظهير الدولي سيَغتمّ إن هم برزوا له للقتال؛ أم إنه سيتلمظ سروراً بذلكـ، فيعزلهم عن عمقهم الشعبي، ويستفرد بهم، ويستهدفهم بما لا قِبَل لهم به، ويستأصل شأفتهم!

إذا كان الترابي يخشى “ألا يتواكب تطور أوعية التنظيم مع توسع مدى التيار الإسلامي، فيتحول أمر الصحوة إلى ظاهرة جماهيرية سائبة”، فإنما ذلك لأنه كان في مقدور الأوعية الحزبية والحركية ان تساير المد الإسلامي إن هي اتسعت. أما في هذا الزمان فإنه لم يعد بوسع أي تشكيلات تنظيمية أن تواكب الظاهرة الجماهيرية التي تكونت بعد الحرب. وإذا ما كان الناس في زمان الترابي يخشون من أن تتناسخ الصحوة الإسلامية أو تتبدد إن لم يُحاط بها، فإن هذه الحرب التي كان شعارُها محاربة “الفلول والكيزان” قد أنضجت الفكرة الإسلامية في المجتمع وجعلت منها ظاهرة جماهيرية وطنية لا يُخشى بعد اليوم أن تضل أو تتبدد. وإذا كان الترابي – في أواسط القرن العشرين – يرنو إلى أن “نكون نحن حركة المجتمع ذاته، ندخل في سياقه، ونقاوم ما فيه من شر، ونبني على ما فيه من خير”، فإنه آن الأوان – ونحن في الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين – أن نكون بعضاً من ذلك المثال. فنعمد إلى الراية التي يرفعها المجتمع فننصبها هي ونلوح بها هي. فالإسلام اليوم ليس بحاجة إلى راية متمايزة عن راية المجتمع. ورايته هي الراية التي يعليها الكافة إلا من أبى. بهذا يضحي الإسلاميون الحزب الذي يدخل في سياق المجتمع، بدلا من أن يجانبه. الحزب الذي يبني على ما في المجتمع من خير كثير ويقاوم ما بقي فيه من شر قليل. فان “حزب ما بعد الترابي” لا ينبغي إلا أن يكون كيانا جامعا لكل السودانيين. فتدخل فيه أغلب ألوان التيار الإسلامي دون تفاضل. وتؤمُه أكثر الأطياف الوطنية الأخرى دون تردد. ويقصده من ينهض اليوم ضد اتفاقات حمدوك والحلو وعبد الواحد نور، حتى لو كان بالأمس القريب من ربابنة الليبرالية وأساطين العلمانية. ويفتح أبوابه لمن يعمل لهزيمة الدعم السريع ويسعى لمنع عودة “تقدم”. ويأتيه المسيحيون ممن عانوا من تدنيس المليشيا كنائسهم ومقدساتهم ومِن انتهاكها حرماتهم واعتدائها على شخوصهم ودورهم وممتلكاتهم؛ شأن السودانيين كلهم. فهو حزب الكافة الذي لا يغلق بابه دون أحد بسبب دينه، وليست له لافتة تصنفه ضمن تيار عقائدي او سياسي. وان كان مرجواً من السعة في فكرة “حزب ما بعد الترابي” ومن انفتاحه على مكونات المجتمع كلها ان تجعل منه الحزب الغالب، الا أنه ليس مقصوداً منه ان يكون الحزب الواحد. فلندع مئة زهرة تتفتح، ولندع مئة مدرسة تتنافس، ولندع مئة حزب يزدهر. هذا ما يقال عن التنظيم.

أما عن النهج الفكري، وحتى لا نطيل، دعونا نتفق مع ما ذهب اليه الشنقيطي من “ان سر الطرافة والجدة في تجربة الحركة الإسلامية في السودان هو ارتباط الفكر بالعمل، وهو أمر صبغ نتاج الحركة كله. وقد جمع قادة الحركة ومفكروها بين العمق الفكري والروح العملية، وأدركوا قيمة الارتباط بينهما: حيث يهدي الفكر العمل، ويهدي العمل الفكر”. هذا ما كان عليه الترابي في “القديم”. ونشير هنا بالقديم إلى فقه الترابي ومدرسته قبل الإنقاذ. و”بالجديد” إلى فقهه بعدها.

ومصطلحا “القديم” و”الجديد” استعارة من فقه الإمام الشافعي. ولا بأس هنا من استطراد قصير. ففي فقه الشافعي يُطلق المصطلحان على مرحلتين مختلفتين من آرائه نتجتا عن انتقاله من العراق إلى مصر. فالقديم يشير إلى الآراء الفقهية التي أصدرها الإمام الشافعي أثناء وجوده في العراق متأثرا ببيئة العراق، والتي كانت غنية بمدارس الرأي مثل مدرسة الإمام أبي حنيفة. وقد جمع الشافعي آراءه في القديم في كتابه “الحجة”. أما الجديد فيشير إلى الآراء الفقهية التي قال بها الإمام الشافعي في مصر متأثرا بالبيئة الجديدة التي شكلتها مدرسة الحديث وفقه الإمام مالك. وقد جمع الشافعي هذه الآراء في كتابه “الأم”. ومن أمثلة هذا الاختلاف: في القديم لا يقرأ المأموم، وفي الجديد يقرأ الفاتحة في الصلاة الجهرية. وفي القديم: يكون اخراج الزكاة بالقيمة، وفي الجديد يكون إخراجها من قوت غالب أهل البلد. عند اتْباع الشافعي يُعتبر الجديد في مجمله ناسخًا للقديم، لكنهم أحيانا يتمسكون بالقديم إذا رأوا قوة دليله. قياسا على هذا، أرى أن فقه الترابي وفكره السياسي يتمايز بين قديم سابق للإنقاذ وجديد تالٍ لها. ورفعا للجدال أرشح موضوع القديم والجديد في فقه الترابي وفكرِه لطلاب الدكتوراة في الفكر السياسي. ونعود لموضوعنا.

ان النهج الذي اختطه الترابي في “القديم” كان خاليا من الأيدولوجية ذات الانساق الراتبة التي تبدت لاحقا في “الجديد”. ويتسم “القديم” بربط الفكر بالعمل، بدلا من أن يربط العمل برؤية طوباوية طويلة المدى. وقد تعرضنا لأطرافٍ من ذلك في الحلقة الثانية. هذا هو ميراث “القديم” الذي نرى انه على “حزب ما بعد الترابي” أن يعضِ عليه بالنواجذ. فلا خير في فكر أيديولوجي جامد، أو استراتيجيات عشرية وعشرينية وثلاثينية تنشر في ورق مصقول ثم تهمل ويعلوها الغبار، كونه لا علاقة لها بالواقع ومتغيراته. وربما ليس ذلك من الدين في شيء، ولا أظنه مما يصلح دنيا الناس في شيء.

ثم أن ميراث الترابي في “القديم” لا ينبغي أن يكون وحده الذي يهدي المسير. فالتحديات الجديدة التي يواجهها “حزب ما بعد الترابي” تحتاج أفكارا جديدة وقادة جددا للتصدي لها. بل ذلك بعض ما أراده الترابي من التجديد، وبعض ما قصد اليه في “القديم”. فإن “حزب ما بعد الترابي” لا ينهض على فكر الترابي وحده؛ ولو كان ذلك جماع فكره في “القديم”. وكما قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “أعقَل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله”.

إذا جعلت هذه التعليات الإسلاميين يُقبِلون على الوطنيين، فما الذي يدفع الوطنيين للإقبال على “حزب ما بعد الترابي”. السبب الأول هو الذي أوضحناه أعلاه من أن المواجهة مع العلمانيين لم تعد قاصرة على الإسلاميين. فالوطنيون – شاءوا أم أبوا – في الصف الأول من هذه الملحمة يواجهون أطروحة الدعم السريع، وتنسيقية “تقدم”، والحلو، وعبد الواحد نور. إضافة إلى هذا العامل المحلي، هناك عامل خارجي لا بُدَّ من أن يضعه الوطنيون والإسلاميون معاً في اعتبارهم؛ ألا وهو العامل الإسرائيلي! ونفصل فيه أدناه.

في عام 1995 كتب نتانياهو كتاباً سمّاه “محاربة الإرهاب: كيف تَهزم الديمقراطيات الإرهابيين المحليين والدوليين”. هذا الكتاب لنتنياهو بمثابة كتاب “كفاحي” لهتلر. وتتلخص فكرته في أن إسرائيل لن تتخلى عن الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967 – رغم أنف القانون الدولي – وذلك لسببين: الأول نبوءة توراتية، والثاني لأن أمن إسرائيل يتطلب ذلك. وحيث ان عدم التخلي عن هذه الأراضي يستعدي حماس “والمنظمات الإرهابية الأخرى”، فإنه لابد من التصدي لها وهزيمتها. وحتى يتأتى ذلك فانه لا تكفي مواجهة “الإرهابيين” وإنما أيضا لابد من مناوأة الدول السبع المناهضة لإسرائيل والتي هي – بحسب نتنياهو – إيران والعراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال. ويكون ذلك بإشعال الحروب ونشر الفوضى واضعاف سلطة الدولة، ثم يوكل أمر الحكم في هذه الدول لمن يوالون الغرب ويُوادّون إسرائيل. وكشف جيفري ساكس – البروفيسور المشهور في الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة كولومبيا، مستشار الأمين العام للأمم المتحدة – انه منذ العام 1997 تبنى البنتاغون استراتيجية اذكاء الحروب في هذه الدول السبع. وهكذا نعلم لماذا يكون الراعي الدولي حاضرا كل مرة تتم فيها تعلية السقف؛ فهو إنما يكون حاضرا لضمان دور لربائب الغرب في المرحلة التي تلي الحرب.

يظن البعض ان الموقف الإسرائيلي المعادي للسودان انما كان بسبب الإنقاذ، وتحديدا بسبب المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي في 1991. ومن ثم فإن إسرائيل – وبحسب هؤلاء – ستعدِل عن معاداة السودان ما دامت الإنقاذ قد ذهبت، خاصة إذا غاب الإسلاميون عن المشهد، ووقع السودان الاتفاقات الإبراهيمية. غير ان هذا الاعتقاد أبعد ما يكون عن الحقيقة. فالموقف الإسرائيلي من السودان سابق لحكم الإسلاميين، وسابق للمؤتمر الشعبي العربي والإسلامي؛ الذي لا يعدو أن يكون هامشا صغيرا footnote في هذا الصدد. فسبب الموقف الإسرائيلي هو الارتباط العضوي التاريخي بين القوات المسلحة السودانية والجيش المصري. وسببه هو مساندة الرأي العام السوداني العنيدة للقضية الفلسطينية؛ مما تتشاركه تقليديا جماهير وقيادات كل الأحزاب السودانية الكبرى.
فقد شاركت القوات المسلحة السودانية في الحروب العربية الأربعة ضد إسرائيل. كانت المشاركة الأولى قبل استقلال السودان حين قاتلت قوات دفاع السودان تحت قيادة الجيش المصري في حرب عام 1948 (النكبة). والثانية في 1967 (النكسة)، والثالثة في 1968– 1970 (حرب الاستنزاف)، والرابعة في 1973 (حرب أكتوبر). فليس هناك جيش عربي قاتل إسرائيل لهذا العدد من المرات إلا الجيش المصري. وليس هناك جيش عربي شارك في القتال المباشر ضد إسرائيل إلا ودُمِّر (سوريا) او أُبرمت معه اتفاقية سلام (مصر والأردن). اللهم إلا الجيش السوداني.

أما شواهد وقوف الرأي العام السوداني – حكاما ومحكومين – باعتداد لجانب القضية الفلسطينية فأولها وأشهرها استضافة الخرطوم في 29 أغسطس 1967 أهم قمة في التاريخ العربي الحديث، قمة اللاءات الثلاث، التي جاءت لتوحيد الصف العربي بعد النكسة. ورغم الانكسار العربي الراهن لا يزال السودانيون يعتبرون تلك القمة تاج فخارهم ومصدر اعتزازهم. وثانيها، وهو أقل شهرة، ما حدث قبيل تلك القمة؛ حين أصدرت الجمعية التأسيسية – بالإجماع – إعلان الحرب على إسرائيل. لا يزال إعلان السودان الحرب على إسرائيل ساريا حتى اليوم. وإذا ما وقّع السودان الاتفاقات الإبراهيمية فإن إسرائيل ستطالب – امعانا في الإذلال – بإلغاء ذلك الإعلان بواسطة أول برلمان سوداني ينتخب. وستضع على المحك إباء الشعب السوداني، وكبرياء برلمانه المنتخب.

على مدى العقود الستة الماضية، كان هذا العامل الإسرائيلي هو أهم محددات السياسة الخارجية السودانية على الإطلاق. فهو الذي بسببه دارت رحى حرب الجنوب ثم انفصل. وهو الذي أدى لحصار السودان لثلاثين عاما في عهد الإنقاذ. وهو الذي أجّج مشكلة دارفور. وهو الذي تسبّب في تطاول أمد الفترة الانتقالية الأخيرة ثم انهيارها. وهو الذي أشعل هذه الحرب الضروس. وهو الذي دفع الإمارات لتتدخل على نحوِ ما نرى اليوم. وهو الذي بسببه تُوقِّع العقوبات على قيادة الجيش، وتُضبط بالملي وفق مقتضياته. بل هو الذي من أجله يُمهَّد الآن لتمزيق السودان تحت شعار “حق الشعوب السودانية في ممارسة حق تقرير المصير”.

ومن ثم فانه ينبغي على الوطنيين السودانيين عامة، و”حزب ما بعد الترابي” خاصة، أن يجعلوا هذا العامل نُصب أعينهم؛ فيُجمِعوا الرأي ويُعِدوا العُدّة. فكما قال نزار قباني “لم يدخل اليهود من حدودِنا * وإنما تسربوا كالنمل من عيوبِنا”.

ولن تنساق إسرائيل وراء محاولات التنصل أو الاستكانة. فلن تنطلي عليها الأقنعة التي يُزمِع البعض ارتدائها بتوقيع الاتفاقات الابراهيمية. وانما ستعمل ليل نهار لإضعاف هذا الجيش على مدى طويل ولتغيير عقيدته القتالية، ثم تدميره في المرة القادمة؛ ما دامت قد فشلت هذه المرة. ولن تنخدع بالمساحيق التي يحاول ان يضعها نفر من قادة الأحزاب والحركات المسلحة، فهي لن ترضى عنهم حتى ينقادوا وراء تنسيقية “تقدم” صاغرين.

وختاما …
انخرط هذا المقال، بحلقاته الست، في هذا الموضوع المُعضِل، الذي يتحاماه الناس، باحثا في أسباب تعثر الإسلاميين السودانيين ودواعي نهضتهم القادمة. ولئن افترع في فقه المراجعات نهجا، فإنه ليس له او لأي مقال آخر أن يحيط بالتجربة الإسلامية السودانية على اتساع مداها أو يدلف لعمقها الزاخر ليتقدم فيها بمراجعات شاملة. فإنما ذلك ما تقوم به العصبة من الناس وما نرجو أن يُحفِّز هذا المقال القائمين بالأمر لإنجازه. وإذا لم يتطرق المقال لتجربة الإسلاميين في الحكم أثناء الإنقاذ – إلا عَرَضاً – أو لبلائهم في المعارضة، فإنما لأن ذلك ليس من موضوعه ولا يدخل في غرضه. وإذا ما صَوب المقال على الهدف، والفكرة، والتنظيم، مبينا ما كان من أمرها بدءاً، وما صارت اليه حالاً، وما يُرجى أن تغدو عليه مآلاً؛ فما ذلك إلا لأن أسباب التعثر انما جاءت من بعض هذه الجوانب، وفيها – إن هي قُوّمت – تكمن جذوة النهضة الجديدة.
وهو جهد المقل الذي يكفيه أنه القى حجرا في هذه اللُجّة المتلاطمة. وغايته أن يستحث آخرين أطول باعاً وأقدر حيلةً للغوص فيها. “وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ”.

انتهى في 18 يناير 2025
نقلا عن السوداني  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الفترة الانتقالیة حق تقریر المصیر المؤتمر الوطنی فی الانتخابات الدعم السریع إعلان نیروبی رضی الله عنه الترابی فی أدیس أبابا وهو الذی هو الذی أن یکون إذا کان فیه من ما کان التی ی الذی ب لم یعد

إقرأ أيضاً:

جارف الثلوج الذي دَوَّخ فرنسا وأميركا.. من يكون هو شي منه؟

على بعد أكثر من 1600 كيلومتر إلى الجنوب من عاصمة فيتنام هانوي، وعلى بعد كيلومترات قليلة من بحر جنوب الصين تقع مدينة "هو شي منه" التي لربما يقدرها العديد من الفيتناميين أكثر من عاصمتهم هانوي.

تعد مدينة "هو شي منه" هي الكبرى في البلاد من حيث عدد السكان، بتعداد 10 ملايين نسمة تقريبا وهي العاصمة الثقافية والمالية الحقيقية لفيتنام، وفيها تمتزج الثقافة التقليدية بسرعة مع متطلبات التحضر. هنا تجد المعابد المزخرفة والأضرحة القديمة والأزقة التاريخية، تصطف جنبًا إلى جنب في وئام بجوار ناطحات السحاب الشاهقة ومراكز التسوق الحديثة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هكذا فعلها الفيتناميون.. كيف نفهم النصر والهزيمة في حرب غزة؟list 2 of 2نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أميركا في فيتنام؟end of list

يغلب على المدينة النمط العمراني الفرنسي بحكم خضوعها للاستعمار لفترة ليست قليلة، ويظهر ذلك جليا في تصميم مبنى البريد التاريخي في المدينة بهيكله المعدني الرقيق الذي يعود بناؤه إلى عام 1891 إبان الحكم الفرنسي من تصميم غوستاف إيفل مصمم برج إيفل الشهير في قلب العاصمة الفرنسية، مما يمنح المدينة لقب "باريس الشرق الأقصى".

مكتب البريد في مدينة هو شي منه في فيتنام، والذي بُني في عهد الاستعمار الفرنسي. (مواقع التواصل)

ولكن على النقيض من جغرافيا المدينة التي تحتضن تاريخها المتناقض في سلام عجيب، يتحد سكانها جميعا حول مظاهر الاحتفال والبهجة العارمة في لحظة واحدة بعينها: الثلاثين من أبريل/نيسان الماضي الذي يوافق هذا العام خمسينية نهاية الحرب الأميركية على فيتنام التي استعاد الفيتناميون بعدها وحدتهم وأراضيهم بعد نصر تاريخي على الجيش الأميركي، الأكثر قوة وبطشا على وجه الأرض.

كانت هو شي منه هي عاصمة فيتنام الجنوبية الموالية للولايات المتحدة في ذلك الوقت، وكان دخول الثوار إليها في أبريل/نيسان عام 1975 هو النهاية الرسمية للحرب، غير أن المدينة لم تكن تعرف وقتها بذلك الاسم، بل كان يطلق عليها اسم سايغون، ولمعرفة السر وراء تغيير اسمها، علينا العودة بالتاريخ إلى الوراء، تحديدًا إلى مؤتمر جنيف الذي عقد عام 1954 لتسوية شروط هزيمة فرنسا في فيتنام، حينذاك فرضت الولايات المتحدة تقسيم فيتنام إلى شطرين، واشترطت تأسيس حكومة غير شيوعية (موالية لها) في الجنوب الفيتنامي تكون عاصمتها سايغون، في حين بقيت الحكومة الشيوعية في الشمال واتخذت من مدينة هانوي عاصمة لها.

ومن هانوي، شق ثوار الفيت كونغ الشيوعيون طريق "هو شي منه"، وهو الاسم الحربي لطريق مموه كان عبارة عن ممر صغير حفر بشق الأنفس وسط غابات لاوس وكمبوديا المطيرة ليربط بين فيتنام الشمالية والجنوبية، ومن خلاله تدفق مقاتلو جبهة التحرير الشيوعيون لمحاربة الأميركيين في فيتنام الجنوبية، ومباغتتهم مثل الأشباح.

مدينة هو شي منه في فيتنام بتاريخ 17 فبراير/شباط 2024. (شترستوك)

مُنح هذا الطريق اسمه تيمنًا بالزعيم الأسطوري الذي قاد نضال الشعب الفيتنامي ضد اثنتين من أعتى القوى الاستعمارية في العالم هما فرنسا والولايات المتحدة وتمكن من هزيمتهما. وعلى ذلك كان سقوط مدينة سايغون في يد ثوار الفيت كونغ الشيوعيين والطريق الحربي التاريخي الذي مهد لذلك النصر هو الذي منح المدينة اسمها الحالي، "هو شي منه"، تخليدًا لذكرى القائد العظيم الذي أصبح رمزًا للمقاومة الفيتنامية وملهما لحركات المقاومة ضد الاستعمار في العالم.

إعلان "نغوين".. الزعيم الغامض

يصف كثيرون شخصيته بالغموض، وربما يرجع ذلك إلى أن سيرته الذاتية وقصة صعوده إلى السلطة لم توثق بشكلٍ كامل في المراجع والكتب، حتى إن بعض الكتاب قد ذهبوا بعيدًا إلى حد التكهن بوجود رجلين مختلفين يحملان الاسم ذاته "هو شي منه"، وذلك حتى قامت صحيفة فرنسية باستبعاد هذه الفكرة عند طريق مقارنة الصور التي التقطت له طوال حياته.

يعزو الكاتب ألدين وايتمان، في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز في سبتمبر/أيلول عام 1969، سر هذا الالتباس في شخصية القائد الفيتنامي الكبير إلى حقيقة أنه عُرف على مدار حياته بأسماء مختلفة، فقد كان له اثنا عشر اسمًا مستعارًا، لم يكن "هو شي منه" سوى واحد منها.

وعلى الرغم من ترجيح كثير من المصادر أن الاسم الذي عرف به خلال فترة إقامته في باريس وموسكو، "نغوين آي كوك" الذي يعني بالعربية (نغوين الوطني)، كان اسمه الحقيقي. لكن ويلفريد بورشيت قام بدحض هذه السردية، وهو مراسل أسترالي جمعته علاقة جيدة مع القائد الفيتنامي، قائلًا إن هذا الاسم لم يكن سوى اسم مستعار آخر، في حين أن اسم ميلاد هو شي منه كان "نغوين تات ثانه"، ونغوين هو اسم العائلة (وهو اسم فيتنامي شهير مستمد من اسم آخر سلالة ملكية في فيتنام)، ولقب "تات ثانه" يعني "الرجل المنتصر".

نحن نتحدث عن قائد تاريخي يبدأ الغموض من اسمه، لكنه لا يتوقف عند هذا الحد بل يصل إلى تاريخ ميلاده، ففي الوقت الذي ذكرت فيه بعض المصادر المعتبرة أن ميلاد هو شي منه كان في شهر يوليو/تموز عام 1892، يجادل وايتمان بأن التاريخ الأكثر موثوقية بحسب أغلب الأدلة هو مايو/أيار من عام 1890.

وبغض النظر عن الاسم وتاريخ المولد، فالمؤكد أن هو شي منه ولد ابنا ثالثا لأسرة فقيرة لا يختلف حالها عن كثير من مزارعي الأرز الفيتناميين، في قرية كيم ليان بمقاطعة "أنام" وهو الاسم الذي عرفت به مساحة من وسط فيتنام الحالية إبان الاستعمار الفرنسي.

إعلان

غير أن الفيتناميين كانوا يكرهون هذا الاسم وغيره من الأسماء التي أطلقها الفرنسيون ورفضوا استخدامه لوصف بلادهم، ولم يكن والد هو شي منه استثناء من ذلك، فقد كان عدوًّا لدودًا للاستعمار الفرنسي، حتى إنه رفض تعلم الفرنسية لكونها لغة غزاة بلاده، وكان عضوًا نشطًا في حركات المقاومة الفيتنامية، في وقت كانت تعج فيه هذه المقاطعة بالجمعيات السرية لمناهضة الاستعمار، لذلك لم يكن مستغربا أن هو شي منه خطا أولى خطواته الثورية وهو طفل صغير، كرسول بين والده ورفاق المقاومة.

تأثر القائد الفيتنامي "هو شي منه" بكتب كارل ماركس وهو ما قاده ليصبح ثائرا قوميا شيوعيا. (مواقع التواصل)

انخرط هوشي منّه في المسار التعليمي المتاح في مدينته ذلك الوقت، ولما اشتد عوده غادر مسقط رأسه مدفوعًا بشغف مناهضة الاستعمار من الخارج، وقد كان ذلك فكرًا منتشرًا بين الثوار الآسيويين في تلك الفترة، وبحلول عام 1911 عمل هوشي منّه طباخًا على متن سفينة فرنسية لمدة ثلاث سنوات وتنقل بين موانئ مارسيليا وأفريقيا وأميركا الشمالية، وخلال رحلاته نمت ثقافته عن طريق التعليم الذاتي وقراءة الكتب، فكان شغوفًا بمسرحيات شكسبير وروايات تولستوي والأهم بكتابات الفيلسوف والمفكر الألماني الشهير كارل ماركس، فكانت سنوات البحر هي التي أثرت شخصيته ليصبح ثائرا قوميا وشيوعيا.

بعد ذلك انتقل إلى مدينة لندن، حيث عمل هناك في مِهن شاقة متواضعة كسب من خلالها قوت يومه، فكان بستانيا حينًا وجارفا للثلوج حينا آخر، وعمل مساعد طاهٍ وعامل نظافة ونادلا في أحايين أخرى، إلا أن اهتمامه بالسياسة كان مسيطرًا على تفكيره حتى إنه انضم إلى رابطة العمال الأجانب ضمن كثير من الآسيويين، وناضل إلى جانب المناضلين من أجل استقلال أيرلندا عن بريطانيا.

لاحقا، وبدافع من فضوله العميق سافر هو شي منه إلى الولايات المتحدة الأميركية، وعلى الرغم من قلة المعلومات التي تناولتها المصادر عن فترة وجوده هناك، فإنه كان مولعًا بالحديث بين أصدقائه عما رآه من "وحشية الرأسمالية الأميركية" والممارسات العنصرية ضد السود الذين أعدموا في ذلك الوقت دون محاكمة، فكانت هذه المشاهدات هي ما حثه على إصدار كتيب عام 1924 أثناء إقامته في موسكو، بعنوان "العرق الأسود"، هاجم فيه الممارسات العنصرية في أميركا وأوروبا.

إعلان

تردد هو شي منه على فرنسا خلال فترات مختلفة من حياته، فقد عاش في شقة متواضعة في باريس فيما بين 1917 و1923، وكانت تلك هي الفترة التي بدأ فيها مشوار نضاله، حيث وجه التماسا للمشاركة في مؤتمر فرساي للسلام عام 1919 بوصفه متحدثًا رسميًّا باسم وطنه الأم، إلا أن فشل مؤتمر فرساي في تسوية القضايا الاستعمارية دفعه إلى الانضمام إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي وشارك في تنظيم الفيتناميين المقيمين هناك، وتذكر السرديات التاريخية أن أول خطاب مسجل له في الحزب عام 1920، وكان الخطاب نداءً عامًّا للوقوف "في وجه الإمبرياليين الذين ارتكبوا جرائم شنيعة" في وطنه الأمّ، وقد استمر عمله في الحزب حتى انشق الشيوعيون الفرنسيون عن الحزب الاشتراكي في العام نفسه، فانضم لهم هو شي منه ليصبح من الأعضاء المؤسسين في الحزب الشيوعي الفرنسي.

كانت هذه هي الفترة التي اكتسب فيها هو شي منه خبرة حقيقية ضمن الحركة الاشتراكية الأوروبية أهلته فيما بعد للانضمام عام 1920 إلى "الأممية الشيوعية الثالثة" (الكومنترن)، وهي منظمة دولية تأسست عام 1919، وعقد مؤتمرها الدولي الأول في موسكو وألقى فيه الزعيم السوفياتي فلاديمير لينين خطاب تأسيسها، وقد ضمت هذه المنظمة بين جنباتها الأحزاب الشيوعية الثورية من كل أنحاء العالم.

على مدار رحلة حياته فضل "هو شي منه" تقديم نفسه للعالم بوصفه زعيمًا قوميًّا فيتناميًّا أكثر من كونه شيوعيًّا. (غيتي) "نغوين".. الوطني الكاره لفرنسا

زار هو شي منه موسكو لأول مرة عام 1922، وذلك لأجل حضور المؤتمر العالمي الرابع للأممية الشيوعية، وفي فترة وجيزة أصبح من أنشط منظمي مكتبها في جنوب شرق آسيا، وقد كان انضمامه للأممية الشيوعية نقطة التحول الرئيسية في مشوار نضاله ضد الاحتلال الفرنسي معتنقا الأيديولوجية الماركسية اللينينية المناهضة للاستعمار.

دفعه ذلك في عام 1925 للتعاون مع الزعيم الوطني الجزائري "مصالي الحاج" لإصدار مجلة "لو باريا" (Le Paria) وتعني بالعربية "المنبوذ"، فكانت هذه المجلة بمثابة منبر للمقاومة الموحدة ضد فرنسا في المغرب العربي ودول الهند الصينية، وقد وقع هو شي منه مقالاته في هذه المجلة باسم مستعار جديد هو "نغوين أو فاب" أي (نغوين الكاره لفرنسا).

إعلان

في ذلك الوقت من التاريخ، كان الثوار من شعوب الهند الصينية، وهو اسم يطلق على أبناء دول لاوس وكمبوديا وفيتنام، قد جمعتهم صداقة النضال وأخوة السلاح، وكان معظمهم أعضاء في جمعيات سرية داخل وطنهم الأم، عن ذلك تقول الكاتبة والصحفية الألمانية روث فيشر في مقالة نشرتها بمجلة "فورين أفيرز" في أكتوبر/تشرين الأول عام 1954، إن هو شي منه كان عضوا داخل إحدى هذه الجمعيات السرية، وربما اختار هناك اسمه المستعار الذي عرف به في دوائر الكومنترن الشيوعية في موسكو، نغوين آي كوك، الذي يعني "نغوين الوطني".

وعن تلك الحقبة، يقول الكاتب ألدين وايتمان إن انجذاب هو شي منه إلى الشيوعية ربما جاء في المقام الأول من منظور قومي، حيث كان استقلال فيتنام ومناهضة الفرنسيين هو شغله الشاغل والمهمة الأساسية التي أخذها على عاتقه، وينقل في مقال له قول هو شي منه إنه "لا يفهم المصطلحات الشيوعية المعقدة"، لكنه يعرف جيدا أن الأممية الشيوعية الثالثة كانت معنية بمناهضة القوى الإمبريالية حول العالم ومساندة الشعوب المقهورة، ولهذا وصفه وايتمان بأنه "الرجل الذي استطاع مزج القومية مع الشيوعية".

غير أن سيرة هو شي منه العملية ربما تشي بغير ذلك، فعلى مدار رحلة حياته فضل هو شي منه تقديم نفسه للعالم بوصفه زعيمًا قوميًّا فيتناميًّا أكثر من كونه شيوعيًّا، فكان انتماؤه القومي هو الغالب عليه ولعل ذلك هو ما ساعده على النجاة من الاختبارات العاصفة التي اجتاحت الحركات الشيوعية في العالم.

وقع أهم هذه الاختبارات وأكثرها صعوبة في الثلاثينيات حين وقع الخلاف الكبير بين جوزيف ستالين ومعارضيه بزعامة ليون تروتسكي، الذي دعا الشيوعيين من منفاه إلى الانفصال عن المكتب السياسي للحزب الخاضع لستالين في موسكو.

ورغم تعاطف هوتشي منه مع معارضي القبضة الستالينية الحديدية فإنه آثر النأي بنفسه عن الخلافات التي دبت في أروقة الأممية الشيوعية الحديثة العهد، فلم يلبّ نداء تروتسكي الذي اعتبره غير عملي نظرًا إلى المساعدة التي كانت تقدمها موسكو للأحزاب الشيوعية الناشئة.

إعلان

فكانت تلك هي العاصفة الأولى التي تمكن تشي منّه من اجتيازها بهدوء ودهاء سياسي، ليكون من بين الناجين القلائل من "سنوات التطهير الكبير" بين عامي 1936 و1938، التي استهدف فيها ستالين رفاقه القدامى في الحزب قبل معارضيه ليثبت أقدامه في الحكم لعقود تالية.

تلا ذلك أيضًا بعض السنوات العاصفة التي قدمت رياحها من اتجاه مغاير، حيث قامت اليابان باحتلال شبه جزيرة الهند الصينية مطلع الأربعينيات بهدف إحكام الحصار على الصين خلال الحرب المشتعلة بين البلدين آنذاك.

ولكن مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها رأى شيانغ كاي شيك، الزعيم الصيني آنذاك، الفرصة سانحة لدمج الهند الصينية في مناطق نفوذه مع الهزيمة الوشيكة لليابان في الحرب، ووسط ذلك الصراع المحتدم، بدأت فرنسا تخشى من فقدان نفوذها وسيطرتها في منطقة الهند الصينية بغير رجعة.

آلاف الجنود الفرنسيين الذين أسروا في معركة ديان بيان فو في عام 1954بين فيتنام وفرنسا. (أسوشيتد برس) هو شي منه.. رجل التنوير

خلال تلك الحقبة، استغل هو شي منه الصراع بين القوى الاستعمارية بحنكة ودهاء. ففي أعقاب الهجوم المباغت الذي قامت به قوات الإمبراطورية اليابانية على الأسطول الأميركي في "بيرل هاربور" عام 1941، استخدم تشي منه مواهبه الدبلوماسية في التواصل مع القائد القومي الصيني شيانغ كاي شيك، كما استغل توتر العلاقات بين الولايات المتحدة واليابان وأقام جسور علاقات مع الولايات المتحدة قائلًا عن نفسه: "كنت شيوعيًّا لكنني لم أعد كذلك، أنا مجرد فرد في العائلة الفيتنامية".

وفي عام 1942 وأثناء توجه هو شي منه إلى مدينة كونمينغ الصينية في محاولاته لكسب الحلفاء خلال مواجهاته مع اليابانيين، اعتقله رجال كاي شيك بدعوى الاشتباه في كونه جاسوسًا فرنسيًّا نتيجة الاسم الحركي الذي كان يستخدمه، إلا أن الدافع الأعمق كان توجس كاي شيك منه نظرًا لماضيه الشيوعي.

إعلان

قضى الزعيم الفيتنامي أربعة عشر شهرًا متنقلا بين السجون الصينية من يوليو/تموز 1942 وحتى سبتمبر/أيلول 1943، ووفقًا للكاتب ألدين وايتمان فقد أطلق سراحه حينذاك بناءً على طلب أميركي، وخلال تلك الفترة واظب تشي منه على كتابة يومياته باللغة الصينية التي كان يتقنها بطلاقة إلى جانب الإنجليزية والفرنسية ولغات عدة، وقد نشرت هذه اليوميات في شكل قصائد وأبيات شعرية تروي معاناته ويومياته في السجن وشوقه القاتل إلى وطنه، كتب في إحداها: "قلبي يسافر ألف ميل نحو وطني الأم، وحلمي يتشابك بالحزن كخيوط ألف مغزل، مضى عام كامل وأنا بريء في عتمة السجن الثقيلة".

بعد إطلاق سراحه، بدأ نوع من التعاون البراغماتي ينشأ بين هو شي منه وشيانغ كاي شيك، حيث قاما برعاية اتحاد لشعوب الهند الصينية لمواجهة الاستعمار الياباني، اعتبراه مصلحة مشتركة تجمعهما، وقد استفادت قوات شي منه من هذا الاتحاد على الأرض وطورت قدرتها على العمل سرًّا في المناطق التي سيطر عليها اليابانيون، وعندما تم تطهير شريط حدودي صغير داخل الهند الصينية من القوات اليابانية نتيجة لهذه الجهود، استغل الزعيم الفيتنامي ذلك متخذًا هذه المنطقة نواةً لإقامة دولته الشيوعية المستقلة.

ولموازنة تحالف المصالح بينه وبين الصين، تعاون الزعيم الفيتنامي كذلك مع رئيس البعثة العسكرية الفرنسية جان سانتيني عام 1945، وذلك للوقوف في وجه طموح شيانغ كاي شيك ومطامعه، وهي الفترة التي قام فيها الزعيم الفيتنامي بوضع قوميته أولًا قبل انتمائه الشيوعي، فعمد إلى طمس تاريخه الأيديولوجي لتسهيل مهمته مع سانتيني، عن طريق تغيير اسمه متخذًا "هو شي منه" اسمًا مستعارًا جديدًا ومعناه "الرجل الذي بلغ التنوير الكامل"، وهو الاسم الذي أصبح يعرف به حتى يومنا هذا.

صورة هو شي منه تعلو مقر الحزب الشيوعي في هانوي. (الجزيرة)

وعلى الرغم من أنه لم يتلق من حلفائه هؤلاء جميعهم سوى القليل من المساعدة المادية، فإن تلك الفترة أكسبته مكانة سياسية وشعبية كبيرة؛ حيث استطاع استقطاب العديد من الجماعات القومية الناشئة في الهند الصينية، فكانت تلك هي الفترة التي تأسست فيها رابطة المنظمات الثورية في فيتنام عام 1942 التي عرفت اختصارًا باسم "فيت منّه"، وساهمت بشكل كبير في مناهضة الاستعمار الياباني، كما نجحت في الوقوف في وجه فرنسا عندما حاولت العودة لاحتلال الهند الصينية بعد الحرب العالمية الثانية، وفي نهاية المطاف، كانت هذه الرابطة هي التي وقفت في وجه الاحتلال الأميركي.

إعلان

كانت تلك أيضا هي الفترة التي دعا فيها هو شي منه إلى التعبئة الشاملة في الهند الصينية، واستطاع الفيتناميون آنذاك حشد قوة مسلحة للمشاركة في حرب العصابات ضد اليابانيين قوامها 10 آلاف مقاتل، وعرفوا حينذاك بـ"الرجال الذين يرتدون السواد"، فكانوا يخرجون في الظلام من الغابات والأدغال لـ"اصطياد اليابانيين" ثم العودة إلى مواقعهم بهدوء.

وبحلول منتصف الأربعينيات، شعر الفرنسيون بقدر من عدم الأمان أثناء وجودهم تحت الإدارة اليابانية، ولإنقاذ أنفسهم من الاضطهاد الياباني اضطر الفرنسيون إلى أن يحاربوا جنبًا إلى جنب مع هو شي منه والثوار الفيتناميين عام 1945 لإخراج اليابانيين من الهند الصينية.

ومع استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية في أغسطس/آب 1945، انتهز الثوار الفيتناميون الفرصة وهاجموا هانوي عاصمة البلاد مرغمين الإمبراطور باو داي (آخر أباطرة سلاسة نغوين) على التخلي عن العرش، ثم رفعوا العلم الشيوعي الأحمر فوق القصر الإمبراطوري.

عند تلك اللحظة، أعلن هو شي منه استقلال فيتنام في خطابٍ مقتبس من "إعلان الاستقلال الأميركي"، وهي عادة جرت بين كثير من الدول التي نالت استقلالها في القرن العشرين.

وبهذا الإعلان أصبح هو شي منه رئيسًا لجمهورية فيتنام الديمقراطية، التي اعترف بها الفرنسيون عام 1946، وأُعلنت فيتنام دولة حرة لها حكومتها وجيشها وبرلمانها، لكنها في الوقت ذاته اعتبرت جزءًا من اتحاد دول الهند الصينية التابع للإدارة الفرنسية. وكان ذلك ضربة قاصمة لفرحة الثوار الفيتناميين بما حققوه من نصر، خاصة مع تزايد طموح الفرنسيين لاستعادة مستعمرتهم الفيتنامية القديمة.

وفي الوقت الذي كان فيه هو شي منه يشغل منصبه الرسمي رئيسًا للبلاد اضطر إلى أن يعود مجددًا زعيمًا سريًّا لقوات المقاومة الشعبية ويخوض مع شعبه حرب عصابات عرفت باسم "حرب الهند الصينية الأولى" التي بدأت عام 1946، ولم يتلق فيها شي منه إلا القدر الضئيل من المساعدة من المعسكر الشيوعي سواء في موسكو أو في بكين لاحقا (بعد استيلاء ماو تسي تونغ ورفاقه على الحكم في الصين عام 1949)، وقد عانت قواته من سوء التغذية ونقص الإمدادات الطبية ونقص التسليح، ولكن على الرغم من ذلك انتهت هذه الحرب بانتصار ساحق للثوار الفيتناميين بعد معركة "ديان بيان فو" عام 1954 التي ختمت 8 سنوات من الحرب بين الثوار الفيتناميين "الفيت منّه" والقوات الفرنسية.

في مواجهة أميركا

بدأ التورط الأميركي في فيتنام من خلال دعم القوات الفرنسية خلال معركة "ديان بيان فو" وما قبلها خلال وقائع حرب الهند الصينية الأولى، لكنه اتخذ شكلا أكثر وضوحا بعد انتصار قوات "الفيت منّه" (رابطة تحرير فيتنام)، حيث خشيت واشنطن قيام دولة شيوعية مناهضة للغرب فوق أراضي فيتنام الموحدة، لذلك فإنها فرضت تقسيم فيتنام إلى شطرين، فيتنام الجنوبية وعاصمتها سايغون (الموالية للولايات المتحدة)، وفيتنام الشمالية (الشيوعية) وعاصمتها هانوي بقيادة هو شي منه، وشرعت واشنطن على الفور في مساعيها لتقويض الحكم في الشمال ضمن وقائع الحرب الباردة.

إعلان

يسرد المؤرخ الكندي المتخصص في الدراسات الدولية أندرو بريستون، أسباب هذه الحرب الأميركية في كتابه "مقدمة مختصرة في العلاقات الخارجية الأميركية"، قائلًا إنه في اللحظة التي تشكلت فيها معالم الصراع الجديد بين طرفي الحرب الباردة، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، اندلع أكثر الصراعات الدموية في فيتنام، وهو ما عُدّ نتيجة مباشرة لهذا الصراع المتأجج بين القوتين العظميين، وذلك لأن قرار البلدين تجنب خوض مواجهة مباشرة لم يكن إلا وسيلة لإدارة التوترات وليس إخمادها؛ وساعتها كانت حرب فيتنام كأنها بديل لتفريغ طاقة الحرب لدى القوتين دون المخاطرة باندلاع حرب نووية تصل آثارها المدمرة إلى كل دول العالم.

أما السبب الثاني للتدخل الأميركي فيتنام وفقًا لبريستون، فكان وقف التمدد الشيوعي إلى مناطق نفوذ الولايات المتحدة في آسيا، الذي كان مرتبطا ارتباطًا وثيقًا باحتواء الصينيين الشيوعيين الذين اعتبرتهم واشنطن لا يقلون خطرا عن غيرهم من الشيوعيين؛ فكانت فيتنام أحد الأماكن التي تواجهت فيها بكين مع واشنطن.

وفي البداية، كان التدخل الأميركي منصبًّا على تقديم الدعم المالي والعسكري وتوفير المستشارين للحكومة الموالية لواشنطن في فيتنام الجنوبية بقيادة "نغو دينه ديم" لكن جذوة المقاومة المتقدة القادمة من الشماليين الذين بدوا عازمين على استعادة فيتنام الموحدة والمستقلة أجبرت الأميركيين على تغيير خططهم والتدخل مباشرة في الحرب.

قاد هذه الحرب الجنرال الأميركي وليام ويستمورلاند من مدينة سايغون بصحبة وزير الدفاع الأميركي روبرت ماكنامارا، وكانت إستراتيجيته تعتمد بشكل كبير على استعراض القدرات العسكرية المتقدمة والتفوق التكنولوجي الساحق للولايات المتحدة بما يشمل القصف الجوي الوحشي لكلّ من فيتنام الشمالية والجنوبية، وتشير التقديرات إلى أن الولايات المتحدة أسقطت حمولة من القنابل على فيتنام تفوق أضعاف ما أسقطته جميع الأطراف المتحاربة في الحرب العالمية الثانية، بل إنها أسقطت على حليفتها الجنوبية (أثناء مطاردة الثوار) عددا من القنابل يفوق ما أسقطته على فيتنام الشمالية.

إعلان

وعلى الرغم من كل هذا التفوق التكنولوجي والقصف الجوي المجنون، استطاع ثوار "الفيت كونغ" بقيادة العجوز هو شي منه استخدام الأنفاق على نطاق واسع سلاحًا فعّالًا في بيئة جوف أرضية لم تصل إليها الآلة العسكرية الأميركية بعد، فتمكنوا عن طريق الأنفاق من نصب الكمائن لجنود الجيش الأميركي دون أن يتأثر المقاتلون بالهجمات الجوية، وهي الممرات التي امتدت على مسافة آلاف الأقدام وكانت لها مداخل صغيرة مموهة استُخدمت ملاجئ ومواقع للقتال.

كما زودت الأنفاق الفيتنامية مقاتلي الفيت كونغ بمساحة للتصنيع وإعادة الإمدادات، وذلك على مسافة قريبة من أعدائهم الأميركيين، الأمر الذي دفع واشنطن إلى تشكيل فرقة كاملة من القوات الأميركية تعرف باسم "فئران الأنفاق"، كان أغلبهم من قصار القامة ولهم خصائص بدنية محددة تمكنهم من الزحف ساعات داخل الأنفاق في محاولات فاشلة للبحث عن المقاتلين الفيتناميين، وذلك بحسب ما جاء في تقرير المتحف الوطني للجيش الأميركي.

وفي ليلة 31 يناير/كانون الثاني 1968، وبينما كان الفيتناميون يستعدون للاحتفال بعيد رأس السنة القمرية "تيت نوين دان" المعروف اختصارا باسم التيت، بثت الإذاعة الرسمية في مدينة هانوي قصيدة كتبها رئيس فيتنام الشمالية "هو شي منه"، قال فيها: "ربيعنا اليوم أحلى من كل ربيع، ليقلّد الشمال والجنوب بعضهم بقتال الغزاة الأميركيين.. تقدموا! سننتصر!".

كانت تلك القصيدة عبارة عن رسالة مشفرة، وجهها هو شي منه إلى ثوار الفيت كونغ الشيوعيين، ليحثهم على بداية الهجوم الذي اندلع في عشر مدن جنوبية بالتوازي، ووصل إلى عاصمة الجنوب الفيتنامي سايغون واقتحم الثوار مقر السفارة الأميركية، فيما عرف باسم "هجوم التيت" الذي استمر شهرًا كاملًا واستهدف تقريبًا كل مدن وولايات فيتنام الجنوبية.

خلال هذا الهجوم عبر إلى فيتنام الجنوبية من "طريق هو شي منه" قرابة 80 ألف مقاتل، قُتل أكثر من نصفهم خلال هذا الهجوم الذي تسبب في مقتل آلاف الجنود من الأميركيين وقوات فيتنام الجنوبية.

إعلان

اعتبر "هجوم التيت" لحظة فارقة في تاريخ فيتنام، إذ سطر بداية النهاية لحرب فيتنام، التي قاد مقاومتها هو شي منه بنفسه قبل أن يلقى حتفه عام 1969، فلم يمنحه القدر الفرصة ليشهد وقائع هزيمة الولايات المتحدة واتحاد فيتنام الجنوبية والشمالية في دولة مستقلة بعد سبعة أعوام من ذلك الهجوم.

بيد أن الزعيم الفيتنامي عاش طوال حياته واثقًا من النصر، ففي عام 1962، قابل هو شي منه زائرا فرنسيا وأثناء مناقشته لمسألة تحرر فيتنام من الاحتلال الأميركي، قال له القائد العجوز: "استغرق الأمر منا ثماني سنوات من القتال المرير حتى نهزمكم أيها الفرنسيون، وأنتم تعرفون بلادنا جيدًا، والأميركيون أقوى بكثير إلا أنهم يعرفوننا بشكلٍ أقل، لذا قد يستغرق الأمر منا عشر سنوات، لكن مواطنينا الأبطال سيتمكنون من هزيمتهم في النهاية".

وبالفعل في أعقاب "هجوم التيت" عام 1968، أدركت الإدارة الأميركية أن الحرب الفيتنامية وصلت إلى نهايتها، حيث أظهرت أحداث أعياد الميلاد حالة الشلل القتالي المذلّ الذي عانى منه الجنود الأميركيون، وأدى ارتفاع أعداد الضحايا من الأميركيين والمدنيين الفيتناميين إلى تقوية التيار المناهض للحرب في واشنطن، فظهرت حركة "مناهضة الحرب في فيتنام" التي اعتبرت من أكبر حركات مناهضة الحرب في التاريخ، وانضم إليها الملايين الذين نظموا التظاهرات الحاشدة في شوارع العاصمة الأميركية، الأمر الذي اضطر الرئيس الأميركي ليندون جونسون إلى الرضوخ وقبول الذهاب إلى طاولة المفاوضات مع ثوار الشمال الشيوعيين.

في النهاية صدق حدس هو شي منه، ففي مارس/آذار من عام 1973، خرج آخر جندي أميركي من فيتنام بموجب اتفاق السلام في 23 يناير/كانون الثاني من نفس العام، لكن انسحاب قرابة نصف مليون جندي أميركي من فيتنام لم يستطع أن ينهي الحرب، إذ حلّت القوات الفيتنامية الجنوبية مكانهم، واستمرت واشنطن في قصف شمال فيتنام ودعمت قوات الجنوب اقتصاديًّا وعسكريًّا.

إعلان

في المقابل واصل "الفيت كونغ" قتالهم من الشمال لتوحيد شطري البلاد حتى بعد وفاة قائدهم هو شي منه، وفي ربيع عام 1975 سقطت مدينة سايغون في أيدي الثوار، لتكتب بذلك نهاية الحرب التي أنفقت الولايات المتحدة عليها قرابة 168 مليار دولار (تعادل أكثر من تريليون دولار بحسابات التضخم الحالية)، وفقدت أكثر 58 ألف جندي فضلا عن إصابة أضعافهم، وهي خسائر هائلة جدا بمقاييس ذلك العصر، لكنها لا تقارن بالخسارة المعنوية والرمزية في سمعة الولايات المتحدة وجيشها الذي مُني بأثقل هزيمة وأكثرها مرارة في تاريخه الحديث.

مقالات مشابهة

  • لماذا تتركز عمليات الاحتلال بخان يونس وكيف ترد المقاومة؟
  • عن العنف الذي لا يبرر
  • جارف الثلوج الذي دَوَّخ فرنسا وأميركا.. من يكون هو شي منه؟
  • عن فقه الأولويات وسؤال اللحظة ولغة العصر: الإسلاميون والقوميون وتحديات الحاضر والمستقبل
  • الانتقال الذي لا ينتقل !!
  • ما هو اضطراب الهستيريا وكيف نتعامل معه؟
  • فتى نمساوي يقتل 10 بمدرسته السابقة فما السبب وكيف علق مغردون؟
  • الإسلاميون المصريون يتبنّون الواقعية السياسية ويعيدون علاقتهم بالغرب.. دراسة
  • صوفان: وجود شخصيات على غرار فادي صقر ضمن هذا المسار له دور في تفكيك العقد وحل المشكلات ومواجهة المخاطر التي تتعرض لها البلاد.. نحن نتفهم الألم والغضب الذي تشعر به عائلات الشهداء، لكننا في مرحلة السلم الأهلي مضطرون لاتخاذ قرارات لتأمين استقرار نسبي للمرحلة
  • بالفيديو .. من الشخص الذي أشعل فتيل الخلاف بين ترامب وماسك؟