سودانايل:
2025-08-02@15:11:12 GMT

الإسلاميون في السودان: لم تعثروا وكيف ينهضون (6 – 6)

تاريخ النشر: 21st, January 2025 GMT

الدكتور الدرديري محمد أحمد

(حزب ما بعد الترابي)

روت السيدة عائشة رضي الله عنها أنه عندما توفي النبي ﷺ أقبل أبو بكر الصّديق رضي الله عنه ودخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل حُجرة عائشة. فتيَمّم رسول الله ﷺ وكان قد سُجّي ببُردٍ حِبَرةٍ. فكَشف عن وجهه ﷺ ثم أكبَّ عليه وقبّله وبكى. وقال: “والذي بعثك بالحقِّ، أما الموتةَ التي كُتبت عليك فقد مِتّها، ولن يجمع اللهُ عليك بين موتتين”.



وقال ابن عباس رضي الله عنه إن الصّديق خرج من حجرة عائشة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يُكلّم الناس في المسجد ويقول: إنَّ الرسول لم يمت. وسوف يفعل ويفعل… فقال الصديق: “اجلس”، فأبى عمر. فقال: “اجلس”، فأبى. فتشهد أبو بكر رضي الله عنه، فمال إليه الناسُ، وتركوا عمر. فقال: “أما بعد، فمَن كان منكم يعبد محمدًا، فإنَّ محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله، فإنَّ الله حيٌّ لا يموت. قال الله تعالى “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ”. فوالله لكأنَّ الناس لم يكونوا يعلمون أنَّ الله أنزل الآيةَ حتى تلاها أبو بكر. فتلقَّاها منه الناس، فما يُسمعُ بشر إلا يتلوها.

وأخبر سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر تلاها فعُقِرتُ حتى ما تقلُّني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض.
“بتصرف من صحيح البخاري (كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته)، والطبري (تاريخ الرسل والملوك)، وتفسير ابن كثير”.

**************************

ان “حزب الترابي” هو التيار الذي ساد المشهد الإسلامي السوداني على مدى الأعوام الستين الممتدة من 1964 وحتى 2024. وبالرغم من أن ذلك التيار قد تفرق لأحزاب وكيانات فان فصائله المختلفة لا تزال تبني على ذات الفكرة التي قال بها الدكتور حسن الترابي في تجديد الدين وضبط الحياة العامة به. وما انفكت تتخذ لذلك من الهياكل التنظيمية قياسا على ما طوره الترابي من أنماط. أخطأ ذلك التيار حيث أخطأ، وأصاب حيث أصاب. فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئٍ ما نوى.

غير أن سنن الله الماضية، هي أنه لا بُدَّ من طي تلك الصفحة، بمرئياتها الفكرية وتراثها التنظيمي، وفتح صفحة جديدة لزمان جديد وجيل جديد وتحديات جديدة. فهذا هو مقتضى النَقل، وهو مقتضى العَقل. هذه الصفحة الجديدة هي ما نسميه هنا – مجازا – “حزب ما بعد الترابي”. ونتقدم فيما يلي بمقاربة متواضعة بشأنه آملين أن تهتدي بتصويبات الآخرين وتتقوى بإضافاتهم. ونبني المقاربة على رصد أوجه الاختلاف بين ما كان عليه “حزب الترابي” وما ينبغي أن يكون عليه “حزب ما بعد الترابي” في المسائل الثلاث الرئيسة التالية: الهدف، البناء التنظيمي، والنهج الفكري.

قلنا في الحلقة الأولى من هذا المقال إن الإسلاميين السودانيين صاروا إسلاميين لهدف. وان ذلك كان هو أن تلتزم الدولة دين الأمة وقيم المجتمع كما كان عليه الحال قبل قدوم المستعمر. بعد قيام الإنقاذ أصاب الإسلاميون نجاحا مقدرا في تحقيق ذلك الهدف، فكسبوا الصراع مع العلمانيين في جانبيه السياسي والاجتماعي، على النحو الذي بسطناه في الحلقة الخامسة. فلما رأى العلمانيون ذلك، كرِهوا أن يشاركوا في الانتخابات طوال حكم الإنقاذ “حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ”؛ وخوفاً من أن يكسَب الإسلاميون الانتخابات فيضطرون – ويضطر الغرب معهم – للتسليم بنتيجتها. فلم يشاركوا إلا في الانتخابات التي سبقت استفتاء جنوب السودان ولأغراض إسباغ المشروعية على ذلك الاستفتاء.

بعد سقوط الإنقاذ طمِع العلمانيون في استعادة العلمانية كاملة، كهيئتها عند فجر الاستقلال أو أشد. فعمدوا إلى تعلِيَة السقف. فبعد أن كانت ذريعتهم للامتناع عن المشاركة في الانتخابات في عهد الإنقاذ هي عدم ضمان نزاهتها في ظل سيطرة الإسلاميين، ائتمروا مع القوى الغربية ودولة الإمارات واشترطوا لإجراء الانتخابات أن يكتمل -أثناء الفترة الانتقالية – إنجاز الفصل بين الدين والدولة على المستوى السياسي، وتبني المنظومة القيمية الليبرالية على المستوى الاجتماعي. وحيث أن السبيل لذلك هو إقصاء أقوى فصائل الإسلاميين – كمرحلة أولى – فقد صدر في 29 نوفمبر 2019 قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو الذي بموجبه تم حل حزب المؤتمر الوطني ومصادرة أصوله دون حكم قضائي. وبعد تولِّيه منصب رئيس البعثة الأممية (يونيتامس) أقر فولكر بيرتس ذلك الإجراء المخالف للقانون الدولي لحقوق الانسان معلناً في 17 يونيو 2022 أنه “لا نية للبعثة بالتحدث مع الإسلاميين من الأحزاب المحظورة أو إشراكهم في الحوار”. بسبب ذلك صار شائعا الحديث عن “توافق واسع على عدم إشراك المؤتمر الوطني في الفترة الانتقالية”، وصارت عبارة “إلا المؤتمر الوطني” من المألوف في السياسة السودانية. وكان الراجح أن ذلك سيؤدي في النهاية إلى منع المؤتمر الوطني وطائفة من الأحزاب والشخصيات – التي يرونها واجهات له او مرتبطة به – من المشاركة في الانتخابات. كانت تلك هي التعلية الأولى للسقف. بعدها علّوا السقف مرتين. مرةً قبل الحرب. ومرة أخرى بعد اندلاعها. ونُفصِّل أدناه في هاتين التعليتين.

في 3 سبتمبر 2020 وقّع عبد الله حمدوك وهو في المنصب اتفاقا مع عبد العزيز الحلو في أديس أبابا، نص على فصل الدين عن الدولة. وجاء فيه إنه “في غياب هذا المبدأ يجب احترام حق تقرير المصير”. وفي اليوم التالي للاتفاق أبرم حمدوك والحلو اعلانا مشتركا يشترط لذلك الاتفاق “المصادقة عليه من قبل المؤسسات المعنية”، أي السلطة التشريعية الانتقالية. كان اتفاق أديس أبابا برعاية دولية معلنة. إذ حضر التوقيع ديفيد بيزلي مدير برنامج الغذاء العالمي، السياسي الأمريكي الجمهوري ذو التوجهات المثيرة للجدل. في 28 مارس 2021 عزّز حمدوك والحلو اتفاق أديس أبابا باتفاق آخر أبرماه في جوبا، سمي “إعلان المبادئ” نص على أنه “يجب أن تكون الدولة السودانية دولة مدنية ديمقراطية فدرالية، يتم فيها فصل الدين عن الدولة، لضمان عدم استخدام الدين في السياسة”. تلك كانت – في مجملها – هي التعلية الثانية للسقف.
بعد أكثر من سنة على نشوب الحرب، وتحديدا في 18 مايو 2024، وقّع حمدوك، بصفته رئيس تنسيقية “تقدم”، اتفاقا مع الحلو وعبد الواحد نور – كلٌّ على حدة – ما سُمي “إعلان نيروبي”. كذلك نص هذا الاتفاق على تأسيس دولة علمانية تفصل بين الدين والدولة وعلى “حق الشعوب السودانية في ممارسة حق تقرير المصير، في حالة عدم تضمين المبادئ الواردة في الإعلان في الدستور الدائم”.

أيضا لم يكن الراعي الدولي غائبا، ومثّله هذه المرة الرئيس الكيني وليام روتو. إلا أن الفرق بين إعلان نيروبي وبين اتفاق أديس أبابا كان كبيرا. فبينما كان قُصارى ما اُشترط لاتفاق أديس أبابا هو مصادقة المؤسسات الانتقالية عليه، فإن إعلان نيروبي شدّد على أن يُضمّن فصل الدين عن الدولة في الدستور الدائم للبلاد. وهكذا بعد أن كان للشعب السوداني أن يقول كلمته في نهاية الفترة الانتقالية، فيما إذا كان يركَن للعلمانية أم يصُدُّ عنها، فإنه لم يعد له ذلك بعد الحرب. إذ جُعلت العلمانية مبدأً فوق الدستور super-constitutional ليس للشعب فيه رأي، ولا يجوز نقضه أو الانتقاص منه ولو باستفتاء. تلك أول مرة يسمع فيها السودانيون تعبير “المبادئ فوق الدستورية”. وكان ذلك المصطلح قد أُطلق على عشرة مبادئ، أعلن عنها عبد العزيز الحلو في كتيب صدر عام 2021، أولها العلمانية وثانيها حق تقرير المصير. بل هناك شرط آخر ضمني يفترضه إعلان نيروبي. وهو أن تعود تنسيقية “تقدم” للحياة السياسية، إذ لا علمانية أو ليبرالية بدونها. وأن يعود الدعم السريع للمؤسسة العسكرية، اذ من غيره يحمي “تقدم” وليبراليتها. هذه هي التعلية الثالثة والتي غَيرت جذريا من قواعد اللعبة السياسية في السودان.

قبل الحرب كان موضوع فصل الدين عن الدولة نزاعاً طرفاه الإسلاميون والعلمانيون. وكان الشعب فيه هو الحَكَم الذي يقول كلمته النهائية في الانتخابات. أما بعد الحرب فقد صار الشعب طرفا في الصراع. اذ صار هدف الصراع هو إلزام الشعب أن يمتثل لتضمين العلمانية في الدستور الدائم دون انتخابات أو استفتاء. بل لا بد للشعب السوداني من أن يقبل عودة حراس المعبد للمشهدين السياسي والعسكري. وهكذا استعدى العلمانيون الشعب بكل أطيافه وجعلوه خصما وساقوه سوقا إلى حَلَبة المواجهة الشاملة حول الأطروحة الليبرالية العلمانية. تلك الأطروحة التي لم يعد يتبناها – وفقا للنسخة الأخيرة منها وبحسب آخر تحديث لها في التعلية الثالثة – إلا الدعم السريع، وتنسيقية “تقدم”، وعبد العزيز الحلو، وعبد الواحد نور.

اذن فان الهدف الذي كان من أجله الإسلاميون إسلاميين في زمان “حزب الترابي” لم يعد قائما اليوم. فإذا كان “حزب الترابي” يسعى لتمكين الدين في مجتمعٍ كانت مشكلته هي “الجهل بشمول الدين، والغفلة عن مقتضاه السياسي” فإنه – بعد ثلاثين سنة من حكم الإسلاميين – لم تعد تلك المشكلة قائمة. إذ أن الدين قد “تمكن” في المجتمع وشاع العِلم بشموله وبمضمونه السياسي. هذا هو السبب الذي جعل العلمانيين يستنصرون بالأجنبي. وهو السبب الذي جعلهم – في البداية – يتهربون من إجراء الانتخابات بحجة انها تجرى في ظل الإسلاميين، ثم يقولون – في النهاية – إن شرط إجرائها هو إقرار مبادئ فوق الدستور لا تخضع حتى لاستفتاء الشعب عليها. وهو السبب الذي جعلهم يبتزون السودانيين بفصل أجزاء عزيزة من بلادهم إن هم رفضوا العلمانية.

وهكذا بعد أن كان شأن الدين مما تتصدى فيه للعلمانيين الجماعات الطلابية والحركات والأحزاب الإسلامية، فانه اليوم شأن المجتمع كله ينهض له مُجمِعاً ويضرب ضربةَ مُفردِ! وينقلنا هذا للحديث عن التنظيم.

ان من يواجه دعاة العلمانية اليوم هم كل من له مَوجِدة ضد الدعم السريع؛ في زمان ليس فيه من أحد في الشعب السوداني إلا وله هذه المَوجدة. وإن من يواجه دعاة الليبرالية اليوم هو كل من يرفض عودة تنسيقية “تقدم” وظهيرها الدولي وتحكّمهم من جديد في رقاب الناس ومصائر البلاد. والشعب كله يرفض عودة هؤلاء. فهل بعد ذلك، يحتاج الإسلاميون إلى التمايز كإسلاميين! وهل يحتاجون لأن يؤطِّروا أنفسهم في حزب إسلامي يقول بدعوة ينبري لها عامة الناس خارجه! أم إنه ينبغي أن يتركوا أمر هذه الدعوة لهذه “الظاهرة الجماهيرية”، التي هم بعضاً منها. وهل إن الظهير الدولي سيَغتمّ إن هم برزوا له للقتال؛ أم إنه سيتلمظ سروراً بذلكـ، فيعزلهم عن عمقهم الشعبي، ويستفرد بهم، ويستهدفهم بما لا قِبَل لهم به، ويستأصل شأفتهم!

إذا كان الترابي يخشى “ألا يتواكب تطور أوعية التنظيم مع توسع مدى التيار الإسلامي، فيتحول أمر الصحوة إلى ظاهرة جماهيرية سائبة”، فإنما ذلك لأنه كان في مقدور الأوعية الحزبية والحركية ان تساير المد الإسلامي إن هي اتسعت. أما في هذا الزمان فإنه لم يعد بوسع أي تشكيلات تنظيمية أن تواكب الظاهرة الجماهيرية التي تكونت بعد الحرب. وإذا ما كان الناس في زمان الترابي يخشون من أن تتناسخ الصحوة الإسلامية أو تتبدد إن لم يُحاط بها، فإن هذه الحرب التي كان شعارُها محاربة “الفلول والكيزان” قد أنضجت الفكرة الإسلامية في المجتمع وجعلت منها ظاهرة جماهيرية وطنية لا يُخشى بعد اليوم أن تضل أو تتبدد. وإذا كان الترابي – في أواسط القرن العشرين – يرنو إلى أن “نكون نحن حركة المجتمع ذاته، ندخل في سياقه، ونقاوم ما فيه من شر، ونبني على ما فيه من خير”، فإنه آن الأوان – ونحن في الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين – أن نكون بعضاً من ذلك المثال. فنعمد إلى الراية التي يرفعها المجتمع فننصبها هي ونلوح بها هي. فالإسلام اليوم ليس بحاجة إلى راية متمايزة عن راية المجتمع. ورايته هي الراية التي يعليها الكافة إلا من أبى. بهذا يضحي الإسلاميون الحزب الذي يدخل في سياق المجتمع، بدلا من أن يجانبه. الحزب الذي يبني على ما في المجتمع من خير كثير ويقاوم ما بقي فيه من شر قليل. فان “حزب ما بعد الترابي” لا ينبغي إلا أن يكون كيانا جامعا لكل السودانيين. فتدخل فيه أغلب ألوان التيار الإسلامي دون تفاضل. وتؤمُه أكثر الأطياف الوطنية الأخرى دون تردد. ويقصده من ينهض اليوم ضد اتفاقات حمدوك والحلو وعبد الواحد نور، حتى لو كان بالأمس القريب من ربابنة الليبرالية وأساطين العلمانية. ويفتح أبوابه لمن يعمل لهزيمة الدعم السريع ويسعى لمنع عودة “تقدم”. ويأتيه المسيحيون ممن عانوا من تدنيس المليشيا كنائسهم ومقدساتهم ومِن انتهاكها حرماتهم واعتدائها على شخوصهم ودورهم وممتلكاتهم؛ شأن السودانيين كلهم. فهو حزب الكافة الذي لا يغلق بابه دون أحد بسبب دينه، وليست له لافتة تصنفه ضمن تيار عقائدي او سياسي. وان كان مرجواً من السعة في فكرة “حزب ما بعد الترابي” ومن انفتاحه على مكونات المجتمع كلها ان تجعل منه الحزب الغالب، الا أنه ليس مقصوداً منه ان يكون الحزب الواحد. فلندع مئة زهرة تتفتح، ولندع مئة مدرسة تتنافس، ولندع مئة حزب يزدهر. هذا ما يقال عن التنظيم.

أما عن النهج الفكري، وحتى لا نطيل، دعونا نتفق مع ما ذهب اليه الشنقيطي من “ان سر الطرافة والجدة في تجربة الحركة الإسلامية في السودان هو ارتباط الفكر بالعمل، وهو أمر صبغ نتاج الحركة كله. وقد جمع قادة الحركة ومفكروها بين العمق الفكري والروح العملية، وأدركوا قيمة الارتباط بينهما: حيث يهدي الفكر العمل، ويهدي العمل الفكر”. هذا ما كان عليه الترابي في “القديم”. ونشير هنا بالقديم إلى فقه الترابي ومدرسته قبل الإنقاذ. و”بالجديد” إلى فقهه بعدها.

ومصطلحا “القديم” و”الجديد” استعارة من فقه الإمام الشافعي. ولا بأس هنا من استطراد قصير. ففي فقه الشافعي يُطلق المصطلحان على مرحلتين مختلفتين من آرائه نتجتا عن انتقاله من العراق إلى مصر. فالقديم يشير إلى الآراء الفقهية التي أصدرها الإمام الشافعي أثناء وجوده في العراق متأثرا ببيئة العراق، والتي كانت غنية بمدارس الرأي مثل مدرسة الإمام أبي حنيفة. وقد جمع الشافعي آراءه في القديم في كتابه “الحجة”. أما الجديد فيشير إلى الآراء الفقهية التي قال بها الإمام الشافعي في مصر متأثرا بالبيئة الجديدة التي شكلتها مدرسة الحديث وفقه الإمام مالك. وقد جمع الشافعي هذه الآراء في كتابه “الأم”. ومن أمثلة هذا الاختلاف: في القديم لا يقرأ المأموم، وفي الجديد يقرأ الفاتحة في الصلاة الجهرية. وفي القديم: يكون اخراج الزكاة بالقيمة، وفي الجديد يكون إخراجها من قوت غالب أهل البلد. عند اتْباع الشافعي يُعتبر الجديد في مجمله ناسخًا للقديم، لكنهم أحيانا يتمسكون بالقديم إذا رأوا قوة دليله. قياسا على هذا، أرى أن فقه الترابي وفكره السياسي يتمايز بين قديم سابق للإنقاذ وجديد تالٍ لها. ورفعا للجدال أرشح موضوع القديم والجديد في فقه الترابي وفكرِه لطلاب الدكتوراة في الفكر السياسي. ونعود لموضوعنا.

ان النهج الذي اختطه الترابي في “القديم” كان خاليا من الأيدولوجية ذات الانساق الراتبة التي تبدت لاحقا في “الجديد”. ويتسم “القديم” بربط الفكر بالعمل، بدلا من أن يربط العمل برؤية طوباوية طويلة المدى. وقد تعرضنا لأطرافٍ من ذلك في الحلقة الثانية. هذا هو ميراث “القديم” الذي نرى انه على “حزب ما بعد الترابي” أن يعضِ عليه بالنواجذ. فلا خير في فكر أيديولوجي جامد، أو استراتيجيات عشرية وعشرينية وثلاثينية تنشر في ورق مصقول ثم تهمل ويعلوها الغبار، كونه لا علاقة لها بالواقع ومتغيراته. وربما ليس ذلك من الدين في شيء، ولا أظنه مما يصلح دنيا الناس في شيء.

ثم أن ميراث الترابي في “القديم” لا ينبغي أن يكون وحده الذي يهدي المسير. فالتحديات الجديدة التي يواجهها “حزب ما بعد الترابي” تحتاج أفكارا جديدة وقادة جددا للتصدي لها. بل ذلك بعض ما أراده الترابي من التجديد، وبعض ما قصد اليه في “القديم”. فإن “حزب ما بعد الترابي” لا ينهض على فكر الترابي وحده؛ ولو كان ذلك جماع فكره في “القديم”. وكما قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “أعقَل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله”.

إذا جعلت هذه التعليات الإسلاميين يُقبِلون على الوطنيين، فما الذي يدفع الوطنيين للإقبال على “حزب ما بعد الترابي”. السبب الأول هو الذي أوضحناه أعلاه من أن المواجهة مع العلمانيين لم تعد قاصرة على الإسلاميين. فالوطنيون – شاءوا أم أبوا – في الصف الأول من هذه الملحمة يواجهون أطروحة الدعم السريع، وتنسيقية “تقدم”، والحلو، وعبد الواحد نور. إضافة إلى هذا العامل المحلي، هناك عامل خارجي لا بُدَّ من أن يضعه الوطنيون والإسلاميون معاً في اعتبارهم؛ ألا وهو العامل الإسرائيلي! ونفصل فيه أدناه.

في عام 1995 كتب نتانياهو كتاباً سمّاه “محاربة الإرهاب: كيف تَهزم الديمقراطيات الإرهابيين المحليين والدوليين”. هذا الكتاب لنتنياهو بمثابة كتاب “كفاحي” لهتلر. وتتلخص فكرته في أن إسرائيل لن تتخلى عن الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967 – رغم أنف القانون الدولي – وذلك لسببين: الأول نبوءة توراتية، والثاني لأن أمن إسرائيل يتطلب ذلك. وحيث ان عدم التخلي عن هذه الأراضي يستعدي حماس “والمنظمات الإرهابية الأخرى”، فإنه لابد من التصدي لها وهزيمتها. وحتى يتأتى ذلك فانه لا تكفي مواجهة “الإرهابيين” وإنما أيضا لابد من مناوأة الدول السبع المناهضة لإسرائيل والتي هي – بحسب نتنياهو – إيران والعراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال. ويكون ذلك بإشعال الحروب ونشر الفوضى واضعاف سلطة الدولة، ثم يوكل أمر الحكم في هذه الدول لمن يوالون الغرب ويُوادّون إسرائيل. وكشف جيفري ساكس – البروفيسور المشهور في الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة كولومبيا، مستشار الأمين العام للأمم المتحدة – انه منذ العام 1997 تبنى البنتاغون استراتيجية اذكاء الحروب في هذه الدول السبع. وهكذا نعلم لماذا يكون الراعي الدولي حاضرا كل مرة تتم فيها تعلية السقف؛ فهو إنما يكون حاضرا لضمان دور لربائب الغرب في المرحلة التي تلي الحرب.

يظن البعض ان الموقف الإسرائيلي المعادي للسودان انما كان بسبب الإنقاذ، وتحديدا بسبب المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي في 1991. ومن ثم فإن إسرائيل – وبحسب هؤلاء – ستعدِل عن معاداة السودان ما دامت الإنقاذ قد ذهبت، خاصة إذا غاب الإسلاميون عن المشهد، ووقع السودان الاتفاقات الإبراهيمية. غير ان هذا الاعتقاد أبعد ما يكون عن الحقيقة. فالموقف الإسرائيلي من السودان سابق لحكم الإسلاميين، وسابق للمؤتمر الشعبي العربي والإسلامي؛ الذي لا يعدو أن يكون هامشا صغيرا footnote في هذا الصدد. فسبب الموقف الإسرائيلي هو الارتباط العضوي التاريخي بين القوات المسلحة السودانية والجيش المصري. وسببه هو مساندة الرأي العام السوداني العنيدة للقضية الفلسطينية؛ مما تتشاركه تقليديا جماهير وقيادات كل الأحزاب السودانية الكبرى.
فقد شاركت القوات المسلحة السودانية في الحروب العربية الأربعة ضد إسرائيل. كانت المشاركة الأولى قبل استقلال السودان حين قاتلت قوات دفاع السودان تحت قيادة الجيش المصري في حرب عام 1948 (النكبة). والثانية في 1967 (النكسة)، والثالثة في 1968– 1970 (حرب الاستنزاف)، والرابعة في 1973 (حرب أكتوبر). فليس هناك جيش عربي قاتل إسرائيل لهذا العدد من المرات إلا الجيش المصري. وليس هناك جيش عربي شارك في القتال المباشر ضد إسرائيل إلا ودُمِّر (سوريا) او أُبرمت معه اتفاقية سلام (مصر والأردن). اللهم إلا الجيش السوداني.

أما شواهد وقوف الرأي العام السوداني – حكاما ومحكومين – باعتداد لجانب القضية الفلسطينية فأولها وأشهرها استضافة الخرطوم في 29 أغسطس 1967 أهم قمة في التاريخ العربي الحديث، قمة اللاءات الثلاث، التي جاءت لتوحيد الصف العربي بعد النكسة. ورغم الانكسار العربي الراهن لا يزال السودانيون يعتبرون تلك القمة تاج فخارهم ومصدر اعتزازهم. وثانيها، وهو أقل شهرة، ما حدث قبيل تلك القمة؛ حين أصدرت الجمعية التأسيسية – بالإجماع – إعلان الحرب على إسرائيل. لا يزال إعلان السودان الحرب على إسرائيل ساريا حتى اليوم. وإذا ما وقّع السودان الاتفاقات الإبراهيمية فإن إسرائيل ستطالب – امعانا في الإذلال – بإلغاء ذلك الإعلان بواسطة أول برلمان سوداني ينتخب. وستضع على المحك إباء الشعب السوداني، وكبرياء برلمانه المنتخب.

على مدى العقود الستة الماضية، كان هذا العامل الإسرائيلي هو أهم محددات السياسة الخارجية السودانية على الإطلاق. فهو الذي بسببه دارت رحى حرب الجنوب ثم انفصل. وهو الذي أدى لحصار السودان لثلاثين عاما في عهد الإنقاذ. وهو الذي أجّج مشكلة دارفور. وهو الذي تسبّب في تطاول أمد الفترة الانتقالية الأخيرة ثم انهيارها. وهو الذي أشعل هذه الحرب الضروس. وهو الذي دفع الإمارات لتتدخل على نحوِ ما نرى اليوم. وهو الذي بسببه تُوقِّع العقوبات على قيادة الجيش، وتُضبط بالملي وفق مقتضياته. بل هو الذي من أجله يُمهَّد الآن لتمزيق السودان تحت شعار “حق الشعوب السودانية في ممارسة حق تقرير المصير”.

ومن ثم فانه ينبغي على الوطنيين السودانيين عامة، و”حزب ما بعد الترابي” خاصة، أن يجعلوا هذا العامل نُصب أعينهم؛ فيُجمِعوا الرأي ويُعِدوا العُدّة. فكما قال نزار قباني “لم يدخل اليهود من حدودِنا * وإنما تسربوا كالنمل من عيوبِنا”.

ولن تنساق إسرائيل وراء محاولات التنصل أو الاستكانة. فلن تنطلي عليها الأقنعة التي يُزمِع البعض ارتدائها بتوقيع الاتفاقات الابراهيمية. وانما ستعمل ليل نهار لإضعاف هذا الجيش على مدى طويل ولتغيير عقيدته القتالية، ثم تدميره في المرة القادمة؛ ما دامت قد فشلت هذه المرة. ولن تنخدع بالمساحيق التي يحاول ان يضعها نفر من قادة الأحزاب والحركات المسلحة، فهي لن ترضى عنهم حتى ينقادوا وراء تنسيقية “تقدم” صاغرين.

وختاما …
انخرط هذا المقال، بحلقاته الست، في هذا الموضوع المُعضِل، الذي يتحاماه الناس، باحثا في أسباب تعثر الإسلاميين السودانيين ودواعي نهضتهم القادمة. ولئن افترع في فقه المراجعات نهجا، فإنه ليس له او لأي مقال آخر أن يحيط بالتجربة الإسلامية السودانية على اتساع مداها أو يدلف لعمقها الزاخر ليتقدم فيها بمراجعات شاملة. فإنما ذلك ما تقوم به العصبة من الناس وما نرجو أن يُحفِّز هذا المقال القائمين بالأمر لإنجازه. وإذا لم يتطرق المقال لتجربة الإسلاميين في الحكم أثناء الإنقاذ – إلا عَرَضاً – أو لبلائهم في المعارضة، فإنما لأن ذلك ليس من موضوعه ولا يدخل في غرضه. وإذا ما صَوب المقال على الهدف، والفكرة، والتنظيم، مبينا ما كان من أمرها بدءاً، وما صارت اليه حالاً، وما يُرجى أن تغدو عليه مآلاً؛ فما ذلك إلا لأن أسباب التعثر انما جاءت من بعض هذه الجوانب، وفيها – إن هي قُوّمت – تكمن جذوة النهضة الجديدة.
وهو جهد المقل الذي يكفيه أنه القى حجرا في هذه اللُجّة المتلاطمة. وغايته أن يستحث آخرين أطول باعاً وأقدر حيلةً للغوص فيها. “وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ”.

انتهى في 18 يناير 2025
نقلا عن السوداني  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الفترة الانتقالیة حق تقریر المصیر المؤتمر الوطنی فی الانتخابات الدعم السریع إعلان نیروبی رضی الله عنه الترابی فی أدیس أبابا وهو الذی هو الذی أن یکون إذا کان فیه من ما کان التی ی الذی ب لم یعد

إقرأ أيضاً:

كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟

أمام الهزائم العسكرية والسياسية للأنظمة العربية، كانت الشعوب العربية تفرز أدواتها في المواجهة. فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين تحولت القضية الفلسطينية من رخاوة الأنظمة إلى صلابة التنظيمات.

ففي المواجهة لم تسقط الزعامات والأيديولوجيات فقط، بل سقطت أيضا الجيوش النظامية ومعها سقط دورها في التحرير. وخلف عجز الأنظمة كانت تتراءى حماسة الشعوب. وخلف ضعف الجيوش كانت تبرز جسارة القوى الضاربة.

فكأن التنظيمات السياسية والأيديولوجية قد جاءت لملء الفراغ. فقد أحيت نكبة 1948 في الأمة مفهوم الجهاد. وحررت هزيمة 1967 المبادرة الشعبية وأيقظت مفهوم التحرير. وفجرت معاهدة كامب ديفيد 1978 حركات المقاومة مع بداية الثمانينيات. وعلى طول تاريخ القضية الفلسطينية، كانت تتعايش أطروحتان: واحدة للمقاومة، وأخرى للسلام.

النكبة

لقد وجدت الجامعة العربية نفسها بعد بضع سنوات من تأسيسها أمام أصعب اختبار لها: القضية الفلسطينية. لم يكن تأسيسها من أجل تحرير فلسطين، بل كان محاولة بريطانية لتجاوز ضغائن الخديعة البريطانية للشريف حسين.

فكان ميلاد الجامعة تعويضا عن دولة الوحدة بوجهيها القومي والإسلامي. ومن ثم لم تكن فلسطين على جدول أعمال تلك المنظمة الإقليمية الناشئة. ولا شك في أن عجز المنظمة وأنظمتها على معالجة المسألة منذ بواكيرها قد دفع نحو تدويل القضية. فكان قرار التقسيم نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 حجر الأساس للكيان الغاصب. لتندلع بعده إحدى أعتى المواجهات.

قررت الحكومات العربية في اجتماع "العالية" 1947 أن تكوّن فصيلا شبابيا حسن التدريب والأداء. وتولت جامعة الدول العربية تأسيس "جيش الإنقاذ" بقيادة فوزي القاوقجي. ولكن الضغط البريطاني كان كفيلا بإسقاط ذلك المشروع. وهو المصير نفسه الذي لقيته لجنتهم العسكرية بقيادة "طه الهاشمي" واللواء إسماعيل صفوت باشا.

إعلان

وحتى النجاحات التي حققتها تلك الجيوش في الجولات الأولى للصراع ذهبت أدراج الرياح بفعل المناورات الغربية (الهدنة الأولى والثانية). فكانت نكبة 1948 فاتحة الهزائم العربية. إذ لم تكن الحكومات العربية في حجم القضية.

فما بين العجز الذاتي والارتهان للقرار البريطاني والخيانة الصريحة، كانت الحكومات العربية تُسقط من حسابها أي مواجهة جدية للأطماع الصهيونية في فلسطين، وتتنصل من مسؤولياتها القومية والإسلامية.

فقد خضعت أغلب الحكومات العربية لإرادة الغزاة. وظلت "تستجدي الحلول من القوى الإمبريالية التي كانت ولا تزال تشكل رأس حربة في أزمة القضية الفلسطينية".

ففلسطين لم تكن "المحرك الرئيسي لسياسات الدول العربية، بل كان الدافع وما يزال هو تأمين الأنظمة الحاكمة في الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار". وتلك الحسابات كانت السبب المباشر في تأخير الاستجابة لداعي الجهاد في فلسطين.

التنظيمات الشعبية ونقد الدولة

أمام عجز الأنظمة العربية كانت التنظيمات قبل النكبة وبعدها تدخل على خط الصراع. فكتب ميشال عفلق سنة 1946 يقول: "لا ينتظر العرب ظهور المعجزة: فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي". وساد اعتقاد لدى حسن البنا أن الأنظمة العربية ليست جادة في مقاومة الاحتلال.

وأكد كامل الشريف "أنه لا خير يرجى في هذه الحكومات". فالعوائق أو "المصائب" أو "العبث" الذي يجد ترجمته في فساد أنظمة الحكم القائمة، وهيمنة الاستبداد السياسي، واختلاف الدول العربية فيما بينها… كل تلك العوامل في تضافرها كانت "كافية لإيقاع الهزيمة".

وقد كان نقد الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية مقدمة لسحب القضية من الأنظمة ووضعها بين أيادي الفعاليات الشعبية المدنية والعسكرية. ففي فلسطين بادرت "الهيئة العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني بتشكيل قوات "الجهاد المقدس" بقيادة عبدالقادر الحسيني.

وخلال الأشهر الخمسة الأولى للحرب تمكنت تلك القوات من تكبيد العصابات الصهيونية خسائر فادحة. ولكن مع دخول جيوش الدول العربية فلسطين 15 مايو/ أيار 1948 "ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة ومنع الأموال والأسلحة عنهم".

وقد جاء تقرير عبدالقادر الحسيني للجامعة العربية في أبريل/ نيسان 1948 يقطر مرارة وأسى بسبب خذلان لجنتها العسكرية التي ماطلت في إمداده بالمال والسلاح. وفي ذلك التقرير حمّل الجامعة مسؤولية ضياع فلسطين. ليستشهد بعدها بيومين في معركة القسطل.

أما عربيا فقد زحف المتطوعون العرب نحو فلسطين. وبرزت في الأثناء كتائب الإخوان المسلمين كقوة وازنة في الصراع. فرغم تضييق السلطات، نجحت طلائع الإخوان في التسلل إلى داخل فلسطين، حيث تمكنت قوة من المتطوعين بقيادة أحمد عبدالعزيز من الوصول إلى خان يونس. والتحقت بهم قوة أخرى من شرق الأردن بقيادة عبداللطيف أبوقورة. ثم حلت قوة أخرى من سوريا بقيادة زعيم الإخوان مصطفى السباعي.

وفي غزة استقرّت قوة البكباشي عبدالجواد طبالة. وعلى أرض فلسطين أدارت تلك الطلائع معارك ضارية ضد العصابات الصهيونية. وقد علق هيكل على تلك الاشتباكات بالقول: "لقد أثبت بعضهم نفسه تحت نيران القتال". وهكذا فقد كانت الجماهير العربية خلال النكبة متقدمة على حكامها.

إعلان النكسة

لقد أجهزت قوات الاحتلال في صباح الخامس من يونيو/ حزيران على القوات الجوية المصرية بضربة خاطفة. فدمرت مئات الطائرات المصرية في قواعدها. وضربت المطارات وعطلت قواعد الصواريخ أرض-جو.

مشهد أجمله أنور عبدالملك في قوله: "كانت القوات المصرية المسلحة قد ضُربت بشكل خطير، واحتلت سيناء، وشلت قناة السويس، ومُحي سلاح الطيران عمليا كوحدة مقاتلة، وتفجرت أعمال الخيانة والإجرام والتآمر، وانتشرت في كل مكان". كل ذلك في سويعات معدودات. وبإخراج القوات الجوية المصرية من الخدمة، فقد تركت بقية القوات في العراء من دون أي غطاء جوي.

وجاء قرار الانسحاب غير المدروس من سيناء ليزيد من الكلفة البشرية للهزيمة. ومع انهيار الدرع الواقي الذي كان يحمي عمق الأمة، فقد أصبح عمق الجغرافيا العربية – فضلا عن أطرافه- مهددا. فزحفت قوات العدو نحو سيناء بعد أن دمرت بقية القوات المسلحة المصرية.

واندفعت نحو الضفة الغربية فاحتلتها واستولت على القدس الشرقية بعد أن انهارت الدفاعات الأردنية في اليوم التالي. وكذلك فعلت في قطاع غزة. أما القوات التي اتجهت نحو سوريا فقد "تمكنت من احتلال مرتفعات الجولان دون مواجهة أي مقاومة تتناسب مع القوات العسكرية الضاربة المحتشدة هناك".

ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن أحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على مساحات جديدة. وحسبنا من القراءات لتلك الكارثة المدمرة وصف هشام شرابي للهزيمة بـ "أيام حزيران السوداء". فكيف انعكست الهزيمة على الاختيارات النضالية للفلسطينيين؟

مثلت هزيمة 1967 منعطفا إستراتيجيا في الوعي السياسي الفلسطيني. وكان من نتائج الهزيمة "ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة وتعاظمها، وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قررت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي". فقد قضت الهزيمة على إيمان الفلسطينيين بالحكومات "التقدمية" التي كانت معقد الآمال. "وأثبتت فشل الأنظمة العربية وعجزها عن تحرير فلسطين".

وينقل يزيد صايغ عن خليل الوزير أنه كان يرفض "الاعتماد على الدول العربية وجيوشها". وهكذا فقد ساعدت تلك البيئة على الاعتراف بالحركة الوطنية الفلسطينية كلاعب أساسي في الشرق الأوسط.

ويحسب للحركة أنها نجحت في "فرض نفسها كمعبرة عن الطموحات الوطنية للشعب العربي الفلسطيني". وهو ما أسهم في تشكيل الرؤى السياسية والميدانية للمنظمة. ففي المستوى الأيديولوجي قلبت حركة فتح ذلك الشعار الذي لطالما تغنى به القوميون العرب "الوحدة طريق فلسطين" إلى شعار "فلسطين طريق الوحدة". شعار ستتأسس عليه الكثير من التحولات التكتيكية والإستراتيجية. ومنذ أن استعادت منظمة التحرير المبادرة، اختارت الاستقلال السياسي والتنظيمي عن الجامعة العربية وأنظمتها.

وأما ميدانيا فقد بدأ مفهوم العمل الفدائي يتبلور كبديل من الحروب النظامية. وعلى تلك القاعدة كانت انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع 1965. وساد إجماع لدى أغلب الفصائل الفلسطينية مفاده أن تحرير الأرض لا يكون إلا عبر الكفاح المسلح. وهو المضمون المركزي الذي تبناه "الميثاق الوطني الفلسطيني".

وتفجرت سجالات سياسية حول نظرية التحرر الوطني من خلال دراسة النظريات الثورية وتجارب الشعوب المستعمرة. وهو ما أنتج مجموعة من الأدبيات دارت أغلبها حول حرب الشعب، وحرب التحرير الشعبية وغيرها.

وفي ضوء تلك الأدبيات جرى تأسيس عدة قواعد للعمل الفدائي في أغلب دول الطوق. وكانت ملحمة الكرامة 1968 ترجمة عملية لتلك التوجهات الجديدة. وهو ما زاد في ترسيخ النهج المقاوم حتى أصبح "الكفاح المسلح مصدر الشرعية السياسية ورمز الهوية الوطنية، والمادة الجديدة للمجتمع الفلسطيني المتخيل".

والحقيقة أن الأداء الفصائلي بعد الهزيمة لم يقطع الصلة تماما مع الأنظمة الراديكالية. فغالبا ما كانت التصورات الثورية تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تمر بها الأنظمة. ولكن رياح يونيو/ حزيران بقدر ما أذكت نار الاستنزاف، فقد هيأت للعبور.

إعلان حرب العبور

لقد عرفت مصر بعد وفاة عبدالناصر تحولات سياسية مهمة. فالمناخات الراديكالية في مصر والعالم العربي بدأت في الضمور لصالح اتجاه عربي ميّال إلى "الاعتدال" في مقاربة الصراع. وكانت القناعة الحاصلة لدى السادات أن "تدمير الدولة اليهودية هدف غير قابل للتحقيق". وفي تلك السياقات لم تكن حرب العبور إلا عملية جراحية القصد منها الإعداد لمسرح التسوية.

مثلت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 أول انتصار مصري على قوات الاحتلال بعد ثلاثة حروب متتالية. فقد بدأ الهجوم المصري ظهيرة السادس من أكتوبر/ تشرين الأول على مواقع العدو في سيناء قصد تحييدها وحرمانها من أي قدرة على الرد أو الحركة قبل تحقيق العبور إلى شرق القناة. فكان "وقع المفاجأة بنوعيها الإستراتيجية والتكتيكية قد تحقق إلى نهايته".

ومنذ ليلة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عبرت من الجيش المصري نحو شرق القناة خمس فرق مشاة ومئات من الدبابات وعدد من كتائب الصواريخ وأسلحة إسناد أخرى.

استبشر الفلسطينيون بتلك التطورات الميدانية. واعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أن إعلان الحرب على دولة الكيان كان "فرصة عظيمة أمام الفدائيين الفلسطينيين لتصعيد فاعليتهم القتالية".

ولكن العبور لم يعقبه تطوير للهجوم المصري مثلما خُطّط له. فقد جرى الالتفاف على الانتصار المذهل للمصريين بداية الحرب. ومن خلال "الثغرة" التي أحدثها جيش الاحتلال في جدار المواجهة، بدأ في إحراز تفوق ملموس غرب القناة.

وكشفت تلك الأيام الصعبة عن انعدام التناغم بين المؤسسات. فقد أربك تدخل السادات في إدارة المعركة حسابات العسكر. وحكم على حرب العبور ألا تتجاوز خط العبور.

لقد آل النصر إلى لهاث لا ينقطع وراء سراب "السلام". وانتهى تحطيم جدار بارليف 1973 إلى هدم "جدار الكراهية الحديدي" 1977، مثلما كان يتوهّم السادات. فعوض البناء على "العبور" اندفع العرب نحو التسوية.

وقد أدرك كيسنجر مبكرا أن الإجراءات العسكرية التي اتخذها المصريون سوف "تؤدي آجلا أو عاجلا إلى مفاوضات سياسية". والحق أن مآلات العبور لم تكن مثل مآلات النكبتين. فهي لم تدفع إلى السطح بقوى جديدة تتناقض رأسا مع تصورات الأنظمة العربية للقضية.

بل إن كامب ديفيد قد فتحت الباب على مصراعيه نحو التسوية. فهي لم تكن إلا بداية الهرولة العربية نحو الصلح والاعتراف والتفاوض مع دولة الاحتلال.

وهنا تقول حقائق التاريخ إن منظمة التحرير الفلسطينية قد أضحت متماهية مع الرسمية العربية. وإن عرفات لم يكن مختلفا عن السادات. فكلاهما كان ينشد "التسوية". وإن اختلفت التكتيكات والإستراتيجيات.

لقد ظلت الهوة تتسع بين الأنظمة العربية وشعوبها في التعامل مع القضية الفلسطينية. فكلما وهنت الأنظمة قامت الشعوب تنشد التحرير من خلال المقاومة. فمن نكبة 1948 ولدت القوى الشعبية القومية والإسلامية. ومن نكسة 1967 صلب عود منظمة التحرير الفلسطينية.

ولكن حرب العبور كانت فاتحة للتسوية المعممة. تسوية ستستمر مفاعيلها من كامب ديفيد 1977 حتى أوسلو 1993، مرورا بقصر الصنوبر بالجزائر 1989. وردا على مشاريع التسوية كان أسلوب آخر من المقاومة ينضج على مهل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • التحالف الذي لم تطأ اقدامه أرض السودان لا يحق له التقرير بشان أهله
  • جيش الإحتلال: اعترضنا الصاروخ الذي أطلق من اليمن
  • “رونالدو… نجم النصر الذي لا يبتسم للإعلام النصراوي”
  • ما قصة الأرجنتيني الذي عوضته غوغل بسبب صورة؟ وكيف تفاعل مغردون؟
  • ما علاقة وجه أوزيمبيك بأدوية خسارة الوزن وكيف أثر على عمليات التجميل؟
  • “إلى أين؟”.. عرض ليبي يُجسّد القلق الوجودي ضمن مهرجان المونودراما العربي في جرش 39 اللجنة الإعلامية لمهرجان جرش بحضور ممثل عن السفارة الليبية في عمان، وجمع غفير من عشاق المسرح، وضمن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان المونودراما المسرحي، قدّمت ا
  • ما الفرق بين الخطأ والخطيئة وكيف نتجاوزهما؟.. علي جمعة يجيب
  • قشرة الشعر مشكلة شائعة ومحرجة .. فما أسبابها؟ وكيف يمكن علاجها؟
  • كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: القمة التي جمعت السيدين الرئيسين أحمد الشرع وإلهام علييف في العاصمة باكو في الـ 12 من تموز الجاري خلال الزيارة الرسمية للرئيس الشرع إلى أذربيجان، أثمرت عن هذا الحدث التاريخي الذي سيسهم في تعزيز التعاون ا