ظللنا حيناً من الدهر نتصالح، نتهاوش ونتخاصم علي مسميات دون الإلتفات إلي جوهر الموضوع أو الإهتمام بما يراد تحقيقه من المسودة المعنيين نحن المواطنيين بتصميمها. ما يزيد الأمر لبساً أن هؤلاء المختصين (أو هكذا يسمون انفسهم) عندما يدعوا للتكلم في شأن الدستور لا يكادون يميزون بين الدولة ما قبل الحداثة والدولة ما بعدها.
لعل المسلمون يواجهون أزمة نفسية حادة في التأقلم مع هذا الواقع لأنهم إعتادوا علي التواصل بالمعني الإجرائي ولم يتعرفوا علي التداول بالمعني القيمي، فقد كانت هنالك دوماً سلطة عليا (تبلورت في شكل الأرستقراطية القرشية بشقيها الأموي أو العباسي) تعمل علي إنزال مراسيم فقهية -- سميت من بعد "شريعة إسلامية - - هي أشبه بالقوانين العسكرية التي سنت لتقييد حركة المجتمع وتقنين أفواه المعارضين. هؤلاء المعارضين كان أكثرهم من الأقليات الأثنية (الديلم، الترك، الموالي، إلي آخره) والمجموعات الدينية المضطهدة مثل الرافضة، المعتزلة والخوارج. فلا عجب أن قد إنزوت المفاهيم الليبرالية نتيجة الصدفة التاريخية التي هيئت للتيار السلفي الإنتصار ممتطياً جواد السلطة السياسية القاهرة. فنحن عندما نتكلم اليوم عن "الشريعة الإسلامية " ننسي أنها خياراً ايدولوجياً لفئة معينة من الناس تسني لها الإنتصار العسكري علي حساب التيارات الأخري علي حين غفلة من الدهر بل علي حساب العدل كقيمة سماوية عليا. فهل يستمر الترويج لهذه الأيدولوجية علي اساس إنها الإسلام أم أن من واجبنا تفكيك هذا الإرث وإعادة تركيبه بحيث يستوعب التجربة الإنسانية الثرة التي توفرت للبشرية في ظل القرون السبعة الماضية؟ لقد تعطلنا عن اللحاق بالركب الإنساني بسبب تمسكنا بالعقل الكانتي (Kantian)، ذاك الذي له مقدرة علي التعرف علي الحقيقة المطلقة، ويلزمنا الإنتقال إلي مرحلة العقل الهابرماسي (Habermassian) الذي هو عبارة عن منتوج ثقافي وإجتماعي. يمكننا وقتها تفعيل منظومتنا القيمية (التي تشمل الإسلام ولا تختصر عليه) من خلال التدافع وليست التعسف الذي فصل هذه المنظومة عن الحياة اليومية.
إن أكثر الناس تزمتاً ورفضاً للعلمانية إنما يعيشون واقعاً حياتياً منفصلاً عن قيمهم الروحية ليست لأنهم منافقين يرفضون قيم الحق، إنما لأنهم بتحجرهم قد ضيقوا وعاءاً كاد أن يتسع حتي يشمل كل مناحي الحياة. فمن العلماني يا تري في هذه الحالة، ذاك الذي ينافح لتفعيل المنظومة القيمية متسلحاً بما توفر للإنسانية من أدوات مفاهيمية، أم ذاك المتبلد الذي قنع بما بلغه من مفاهيم تبلورت في القرون الوسطي فظل يروج لنظم البيع علي انها إقتصاد، وأساليب الحوار القبلي علي أنها شوري، والغلبة علي أنها سياسة؟ بل، لقد بلغ الصلف ببعضهم أن إستعذبوا شعار "تطبيق الشريعة" مبرراً للقمع، الظلم وهضم الأقليات حقها. إن الشيعة مثلاً، الذين يعيشون في إيران تتوفر لهم حقوقاً لا تتوفر لذويهم في السعودية، كما أن السنة الذين يعيشون في السعودية تتوفر لهم حقوقاً لا تتوفر لآقرانهم في إيران. فليست العبرة بالمسميات، إنما بالممارسات التي تختلف عبر الزمان والمكان بإختلاف منتسبيها.
أنظر تركيا علي ايام اتاتورك وتركيا اليوم، هو ذات الدستور العلماني لكنه فسر تفسيراً مختلفاً يتمشي مع مقتضيات الواقع المتبدل. انظر افغانستان علي ايام طالبان وافغانستان اليوم، هو ذات الدستور الإسلامي لكنه الأن يهيئ لإعطاء المرآة حقها ويقدر لها جهدها كقوة فاعلة تمثل اكثر من 50% من الطاقة العاملة. كيف بهم يحظرون علي المرأة الإنتخاب وهي تفلح أكثر من 60% من الأرض ولا تملك أكثر من 4%؟ هل تنتهج مثل هذه الشريعة تمشياً مع الاهواء ام أنها شرعة رب العالمين؟ أين الغيرة من حال النساء اللائي ما زلن يقمن لمدة تجاوزت ال7 سنوات في صحراء هي شرق تشاد وغرب دارفور؟ هل نسيتم قول النبي (صلي): "المسلمات بناتي"؟ كيف إرتضيتم لبناته هذه المهانة؟ هل الشريعة هي اداة المركز لتطويع الهامش دينياً أم انها الوسيلة لتضمين الهدي القراني؟
ان البشرية قد إنعتقت من الخرافة وأنه ما من بشر سيقبل الترويج لمثل هذا السخف هذا علي أنه دين؟ والسؤال هل هنالك حقاً "شريعة" يمكن اسقاطها علي المجتمعات أم أن هنالك شرعة فُرضت لتحقيق العدل الذي هو نسبي يختلف بإختلاف المجتمعات وحاجتها للكفاية (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) صدق الله العظيم. إن مجتمعاتنا قد عانت بما فيه الكفاية من هذه الإطروحات الخطيرة والشائهة التي لم تعني بأمر التكافل قدر ما عنيت بامر الإستبداد، بل انني اذهب لابعد من ذلك فأقول أن فكرة الإسلام السياسي هي في حد ذاتها فكرة متوهمة، هي عبارة عن أزمة نفسية عاشتها النخبة نتيجة تعاملها غير المنهجي مع الحداثة، ومن قبلها إدراج الإستعمار "للمنظومة الفقهية" الذي إقتضي إعتماد القوننة كوسيلة للحد من حركة المجتمع ووأد ديناميته. (راجع مقالي عن "الصنم والصنمية، هل اصبحت الشريعة هي العجل الذي اتخذه المسلمون الهاً من دون الله في القرن الواحد وعشرين؟").
يكفي من اللغو مذكرة الإسلاميين الأخيرة هذه والتي كانت بمثابة النعي لهذا المشروع لما فيها من ضبابية اخلاقية وفكرية، بل بؤس مفاهيمي ولغوي. يجرؤ احدهم فيتكلم عن انجازات الانقاذ، وأنا أعجب اي إنجاز يمكن ان يصمد في مواجهة المخازي /المآسي التي إرتكبها هؤلاء؟ إذا كانت الإنجازات يمكن أن تثبت لهولاء (بعد ان تسببوا في قتل 2.5 مليون مواطن وتشريد اخرين) فحريُّ بهتلر أن يدخل التاريخ من انصع ابوابه فإنه كاد ان يوجد بديلاً للطاقة يغني البشرية عن هيمنة رأس المال اليهودي.
لقد إستهدف نظام الإنقاذ العروبة يوم ان رفد 3000 ضابطاً جلهم من السودان الشمالي النيل وسطي، صحيح أنه إستبدلهم باخرين، لكنهم مؤدلجين غير قوميين (ولم يستدع منهم غير فاشلاً واحداً من أبناء الألهة دخل الي الكلية بغير أهلية وبغير شهادة ثانوية). كما استهدف نظام الإنقاذ العرب يوم ان رفد 12000 صف ضابطا ًجلهم من البقارة (مسيرية، رزيقات، حوازمة، زيادية، الي آخره). عن اي العرب إذن يتكلم هؤلاء؟ هل هنالك عرب غير العدنانيين الذين قطنوا الوادي، او القحطانيين الذين قطنوا الصحراء؟ أما مقولتهم (لأمراء الخليج) أعينونا لأن نهايتنا هي نهاية التواجد العربي الإسلامي في البلاد، فمردودة بل هو ممحوقة لأنهم يتبعون فيها منطقاً معكوساً. إذ ان بقائهم كل يوم فيه إنتقاصاً لقدر الرسالة، إشانة في حق المرسل، ومذمة في حق المرسل إليه. إذا كانت الرسالة رحمة، والمرسِل رحمان، والمرسَل رحيم، فإن أي من هاتيك الصفات اصاب السودانيين من بين العالمين؟
مقالة كُتبت عام 2012 عندما أثير اللغط حول موضوع الدستور الإسلامي، ولا زالت ذات صلة لواقع اليوم!
auwaab@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
حسابات سعودية تشن هجوما لاذعا على الأكاديمي القطري نايف بن نهار.. لماذا؟
شنّت حسابات سعودية معروفة، هجوما عنيفا على الأكاديمي والمفكر القطري نايف بن نهار، بسبب أطروحاته التي يقدمها خلال محاضراته ولقاءاته الإعلامية.
وعلى نحو متزامن، بدأت حسابات سعودية يتابعها مئات الآلاف مثل "كولومبوس" و"زهرانكو"، إضافة إلى مغردين كتبوا بأسمائهم الحقيقية مثل الأكاديمي عبدالله الجديع ضد طرح ابن نهار، موجهين سلسلة من الاتهامات له.
ابن نهار الذي أظهر خلال السنوات الماضية مواقف سياسية واضحة، ضد التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وأثنى على المقاومة في قطاع غزة، تحدث مؤخرا في لقاءات إعلامية عن تربية النفس من خلال القرآن الكريم، وعن تفكيك السردية الصهيونية.
وحظي نايف بن نهار الشمري بإعجاب كبير، وبدأت قاعدته الجماهيرية تتسع، حيث وصلت عدد مشاهدات آخر ثلاثة لقاءات (بودكاست) عبر يوتيوب فقط إلى أكثر من 12 مليونا.
وحذّرت حسابات سعودية من خطر التعاطي مع نايف بن نهار، محذرين من تأثيره على فئة الشباب في المملكة.
هذا المتعالم تلميذ المدرسة القطبية القرضاوية
يسعى لدعوة الشعوب لمنهج الخوارج منهج قطب الثوري وفصل العلاقة بين الحاكم والمحكوم وانهيار أمن الأوطان
وانا اقول لا تجعلوا عقولكم كمقبض الباب يديرها خوارج العصر ومنهم #نايف_بن_نهار يوجههكم ببوصلة جديدة إلى الثورات فهو يقنعكم بأن… https://t.co/bTiaOZjFn6 pic.twitter.com/4UDlQTMpzJ — أمّ عبدالعزيز م 1351هـ / 1932م (@nhl_nhl7) May 28, 2025 نايف بن نهار الشمري… حكاية “نجم ورقي” أخرجته كاميرات الجزيرة وصاغته أيدي الإخوان
بعض الأسماء تلمع فجأة. لا لأن خلفها علمًا راسخًا أو فكرًا متينًا، بل لأن وراءها ماكينة إعلامية لا تهدأ، وأجندة سياسية لا ترتاح. نايف بن نهار الشمري نموذج مثالي لهذا النوع من “النجومية المصنعة”،… pic.twitter.com/WgGOtx3ST6 — د. عبدالله الجديع (@abdulaah_d) May 30, 2025 بعد أن ضرب السعوديين سمعة صنم الاخونجية (الجزيرة) وضربوا بعدها سمعة جميع محلليهم ومنظريهم عشاق المحور كالنفيسي والمعشني وحلل يادويري و عزمي بشاره وفضحوا تناقضاتهم وكذبهم امام الشعوب، اليوم يواصل السعوديين فضح احد فراخهم الصغنون التلميذ التنويري الناشئ أحد فروخ عزمي بشاره الجدد،… pic.twitter.com/mhTDjEDjTG — كولومبوس ???? (@Columbuos) May 30, 2025
"سيد قطب جديد"
الحسابات السعودية التي هاجمت نايف بن نهار، عبرت بعضها صراحة عن خشيتها من صعود نجمه، مشبهينه بالمفكر المصري الراحل سيد قطب.
وقالت حسابات سعودية إن نايف بن نهار يقدم أطروحات "خطيرة"، ويشرعن لمتابعيه "التجرؤ على الحكام".
وأعاد مغردون سعوديون نشر مواقف نايف بن نهار إبان حصار قطر من قبل المملكة والإمارات في 2017، حيث اصطف إلى جانب بلده، ووجه انتقادات لاذعة للرياض حينها.
شاهدت ترويجًا وتلميعًا للمدعو #نايف_بن_نهار في مواقع التواصل الاجتماعي!
وفي الحقيقة هذا الإخونجي القطبي يشبه أسلوب أحمد السيد
ويريد إعادة فكرة #سيد_قطب التكفيرية!
يقول سيد قطب : ( إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه… pic.twitter.com/Yy9dV8djt2 — عبداللطيف بن عبدالرحمن الحربي ???????? (@a_alshamani) May 29, 2025
شخصية فريدة
على الطرف الآخر، دافعت شخصيات عن أطروحات نايف بن نهار، وقالوا إنه يقدم نهجا فكريا يجمع بين الترا الإسلامي، والنقد السياسي الحديث.
وأشاروا إلى أن ابن نهار الذي كان حتى أشهر قليل يرأس مركز ابن خلدون للدراسات التابع لجامعة قطر، يقدم رؤى عميقة بأسلوب سهل للمتلقي، وهو ما جعل نجمه يسطع بشكل سريع.
وقال الأكاديمي محمد الشيب الذي درّس نايف بن نهار في الجامعة، إن الأخير "طالب علم استثنائي"، مضيفا أنه كان قد سافر إلى الخارج لتلقي العلم الشرعي وهو مرحلة الشباب.
لم استغرب خروج " طفيليات " تهاجم د. #نايف_بن_نهار .. بل هو متوقع .. بل يفترض أن تتم مهاجمته .. فطرحه أزعجهم كثيرا ..
غير مقبول خروج مثل هذه الشخصيات ..
غير مقبول بروز شباب يحملون هذا الفكر وهذه الرؤية ..
الطرح الذي يُقدمه د. نايف ، والفكر الذي يُبشّر به ، والرؤية التي يعرضها ،… pic.twitter.com/BAJuXgN2qx
شهادة سيسألني الله عنها يوم القيامة:
بصفتي أحد الذين درّسوا الدكتور نايف بن نهار
خلال سنوات دراسته الأولى بجامعة قطر
في مطلع طلبه العلم الشرعي
أقول وبلا مبالغة:
د. نايف بن نهار (طالب علم اسثنائي)
تمكن من دفن بعض أساتذته ومشايخه
وهم لا زالوا أحياء يُرزقون !!
لا أقول هذا ذمًّا ..… pic.twitter.com/45k9sGX8LL
الدكتور نايف بن نهار يوجه رسالة لمن مل أو سئم من أخبار غزة وفلسطين بحجة : لا يستطيع فعل شيء pic.twitter.com/p3A63vm21E
— #سعوديون_مع_الاقصى (@Saudis2018) May 29, 2025