فلسطين الجريحة.. بين الصهيونية المسيحية وتواطؤ العرب
تاريخ النشر: 14th, April 2025 GMT
لماذا فلسطين بالذات دون غيرها؟
ما معنى الصهيونية، وكيف ولماذا نشأت؟
ما الفرق بين الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية؟
كيف تم اختراق الدين المسيحي لخدمة الفكرة الصهيونية؟
هل مساندة الغرب لإسرائيل لأسباب أيديولوجية فقط؟
أسئلة كثيرة تكشف اللثام عما يحدث، أردتُ بالإجابة عليها توضيح مع تلخيص هذه القضية الشائكة، فالوعي العميق والفهم الدقيق هو مقدمة العمل الجاد أو الحافز عليه.
أولا، كلمة الصهيونية مشتقة من اسم "جبل صهيون" في القدس، وأول من ابتكر هذا المصطلح وأطلقه عام 1890 هو الصحفي السويسري ناتان بيرنبون (1864-1936) وهو زميل تيودور هرتزل، ولكن هرتزل هو الذي قام على نشأة الحركة الصهيونية والدعوة لها.
فمن هو تيودور هرتزل؟
هو صحفي يهودي مجري نمساوي، مجري حيث ولد في بودابست عاصمة المجر سنة 1860، ونمساوي لأنه عاش في النمسا ومات فيها سنة 1904م، وأصدر كتابه "دولة اليهود" سنة 1896والذي أحدث ضجة كبيرة في أوروبا.
ولم يكن هرتزل يهوديا متدينا، بل قيل إنه كان ملحدا وفي الحد الأدنى كان علمانيا، وقد عبر عن منطلقات فكرته الرئيسة في كتابه هذا بأنه ما دام اليهود تجارا وأوروبا رأسمالية فسيتعرضون للاضطهاد بسبب المنافسة، وعليه، طالب بإنشاء دولة لليهود يعيشون فيها بشكل آمن. وعقد مؤتمره الشهير سنة 1897م في مدينة بازل في سويسرا، وقد قام بعض أصدقائه بتحفيظه بعض النصوص التوراتية لاستخدامها في المؤتمر، استدرارا لعواطف اليهود وطلبا لدعمهم. وقد استعمل هرتزل مصطلح "الصهيونية المسيحية"، وهنا تجدر الإشارة لوصف المفكر الفرنسي روجيه جارودي؛ الحركة الصهيونية بأنها حركة ملحدة تأسست على تفسير متطرف للتوراة وتبرير لحركة سياسية ليس لها أي علاقة بالدين.
وإن كان هرتزل استعمل مصطلح "الصهيونية المسيحية"، إلا أن الذي بدأ التأسيس الحقيقى لها هو الراهب المسيحي الألماني مارتن لوثر (1483-1546م). وقد أصدر كتابه الأول "المسيح ولد يهوديا" سنة 1523، حيث كان يريد إعادة الاعتبار لليهود وتمسيحهم وفقا لما يسمى العقيدة الاسترجاعية، وهي رجوع المسيح وحكمه ألف سنة سعيدة بشرط تجمع اليهود في فلسطين ودخولهم في الدين المسيحي حين عودة المسيح. وجدير بالذكر أن مارتن لوثر وبعد عشرين عاما لعن اليهود وأصدر كتابه "أكاذيب اليهود" سنة 1543م.
ولفهم فكرة مارتن لوثر وعقيدته الاسترجاعية نعود بالتاريخ للوراء قليلا، حيث كان الصراع المسيحي اليهودي في أوروبا على أشده، فقد أصدر ملك إنجلترا إدوارد الأول سنة 1290م مرسوما يقضى بدخول اليهود الدين المسيحي أو الرحيل عن الأراضي البريطانية، وكذلك فعل ملك فرنسا فيليب الأول سنة 1306م. وهنا نشأت ما يمكن تسميتها بالحركة اليهودية الباطنية ممن أعلنوا مسيحيتهم في الظاهر مع البقاء على يهوديتهم في الباطن، وظهرت باعتبارها حركة دينية مسيحية تطالب بإصلاح الكنيسة والحد من سيطرتها على المجتمع وتحتج على الأوضاع القائمة، وعُرفت هذه الحركة التي قادها الراهب الألماني مارتن لوثر بحركة "البروتستانت"، وتعني المحتجين باللاتينية.
وقد قرر الإنجليز البروتستانت هجرة أوروبا إلى الأرض المكتشفة حديثا أمريكا -والتي تم اكتشافها سنة 1492م- وخرجوا في أفواج أسموهم الحجاج بقيادة القس جون وينثروب سنة 1629م، وشبه خروجهم هربا من ظلم ملك إنجلترا بهروب بني اسرائيل من ظلم فرعون مصر، وأن بني اسرائيل أصبحوا رمزا لأي مجموعة تقاوم الطغيان. جدير بالذكر أن أكثر من 150 مليون أمريكي يعتنقون هذا المذهب ويمثلهم سياسيا الحزب الجمهوري.
وهكذا اخترقت الصهيونية الدين المسيحي بالمذهب الجديد (البروتستانت) فيما يمكن تسميته بالمسيحية المتهودة، وهي مزيج من المسيحية المزورة واليهودية المزورة يجمعهما دين واحد وكتاب واحد فيه العهد القديم والعهد الجديد معا، ويعفي اليهود من دم المسيح. وهذا ما قد يفسر وجود مسيحيين أكثر صهيونية من الإسرائيليين، حتى أن بعض من يؤمنون بما يسمى العقيدة الاسترجاعية أو العقيدة الألفية يرون أن سويسرا نجاها الرب من الحربين العالميتين بسبب احتضانها للمؤتمر الصهيوني الأول الذي أقامه هرتزل سنة 1897م، ولا تأخذك الدهشة إذن من اعتقادهم بأن أمريكا إذا تخلت عن إسرائيل فسيلغي الله مكانتها العالمية، بل صرح بعضهم بأن سبب إعصار كاترينا هو انسحاب إسرائيل من غزة سنة 2005م، وربما هذا الهَوَس الأيديولوجي هو ما يفسر هذا الدعم الغربي المطلق لإسرائيل.
ولا يفوتنا أيضا أن ننوه إلى أنه بعد مارتن لوثر بحوالي ثلاثة قرون جاء القس الإنجليزي الأيرلندي نيلسون داربي (1800- 1882م) وأكد على العقيدة الاسترجاعية أو عودة المسيح الألفية، بشرط تجمع اليهود في فلسطين، ولكن مع اعتقادهم بأن اليهود لن يدخلوا المسيحية على يد المسيح، وإنما سيكون سببا في خلاصهم وتوبتهم وعودتهم لدينهم الأصلي والذي يؤكد على أحقيتهم التوراتية في أرض فلسطين. ثم جاء وليم بلاكستون بعد داربي وتبنى وجهة نظره ونشر كتابه "المسيح آت" سنة 1887م وأسس منظمة "الإرسالية العبرية من أجل إسرائيل"، والتي أصبحت بعد ذلك الشركة المسيانية. وقد جمع وليم بلاكستون 413 توقيعا على عريضة تطالب بمنح فلسطين لليهود؛ قدمها للرئيس الأمريكي آنذاك بنيامين هاريسون (1889- 1893).
هذا عن التيار الأول في أمريكا البروتستانت أو المحتجين أو اليمين المتطرف أو الصهيونية المسيحية. ولا تنس أن الرئيس الأمريكي (الجمهوري) دونالد ترامب هو الذي اعترف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، تمهيدا لإنشاء هيكل سليمان المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى.
وهنا يثور التساؤل: هل هذه النظرة الأيديولوجية البروتستانتية الصهيونية المسيحية ويمثلها سياسيا الحزب الجمهوري الأمريكي هي فقط دون غيرها التي تحكم المشهد وتدعم إسرائيل دعما مطلقا؟ وللإجابة عن هذا التساؤل ينبغي أن نعلم أن الحزب الديمقراطي كان قد انشق عن الحزب الجمهوري الديمقراطي سنة 1828م، ويعتبر الحزب الديمقراطي أحد تجليات الحركة الماسونية التي بدأت في أوروبا في القرن السابع عشر الميلادي، وهذه الحركة تعتبر نفسها قائدة العالم وتتخذ شعارا لها المنقلة والزاوية، في إشارة إلى إعادة هندسة العالم وتركيعه وتطويعه وفقا لرؤيتها ومصالحها. وكلمة ماسون تعني البنّائين، وهذه الحركة علمانية استعمارية وقد انتقلت مع الحملة البريطانية إلى أمريكا الشمالية وأسست أول محفل ماسوني في أمريكا سنة 1730م في ولاية فيلادلفيا.
وقد كان عدد كبير من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة أبرزهم جورج واشنطن أعضاء كبارا في الحركة الماسونية، والتي تعرف نفسها -على غير الحقيقة- بأنها حركة أخوية عالمية أهدافها المساعدة المتبادلة والصداقة وخير الناس، وهي تؤمن بحتمية إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بل إن الذي تزعم عملية خلع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني سنة 1908م هو المحامي اليهودي الماسوني عمانوئيل قرصوه، وهو الذي أسس أهم محفل ماسوني في الدولة العثمانية.
إذن ففلسطين بين مطرقة البروتستانت أو الصهيونية المسيحية التي يعتنقها الغرب المسيحي ويقودها الحزب الجمهوري الأمريكي، وترى حتمية تجمع اليهود في أرض فلسطين لعودة المسيح وحكمه ألف سنة سواء دخل اليهود في الدين المسيحي أو كان المسيح سببا في خلاصهم وتوبتهم وعودتهم لدينهم الأصلي، وسندان الحركة الماسونية الاستعمارية ويتولى كِبرَ إجرامها الحزب الديمقراطي، وترى في وجود الكيان الصهيوني في أرض فلسطين امتدادا لها وقاعدة عسكرية متقدمة لمشروعها الاستعماري في الشرق؛ لبسط هيمنتها ونفوذها والسيطرة على منابع النفط ومصادر الثروة وطرق التجارة والملاحة.
وثمة تيار ثالث يُحَمِّل اليهود مسؤولية ما يصيب مجتمعاتهم من مصائب ويعمل على إبعادهم، وهو ما تنبه إليه هرتزل في كتابه الدولة اليهودية على إثر حملات المقاطعة للبضائع اليهودية وامتلاء الشوارع بلافتات "لا تشتروا من اليهود"، بل وصل الأمر بمظاهرات في فرنسا تهتف "اقتلوا اليهود" على إثر قضية الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس، والتي استمرت من سنة 1894 حتى سنة 1906م، فهذا الفريق الثالث يدعم أيضا تجمع اليهود في فلسطين (بغرض إبعادهم والاستراحة من مشاكلهم)، فيتفق مع الفريقين الأولين؛ فريق الصهاينة المسيحيين البروتستانت المحتجين البوريتان التطهيريين، وفريق الماسون البنائين العلمانيين الاستعماريين.
ويواجه أهل فلسطين الغرب المسيحي الصهيوني وأمريكا بحزبيها الديمقراطي والجمهوري، وسط خذلان لا مثيل له من العالم الإسلامي وتواطؤ أو تآمر عربي فاق كل التصورات والتوقعات.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء فلسطين الصهيونية اليهودية المسيحية فلسطين يهود مسيحي صهيوني قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الصهیونیة المسیحیة الحزب الجمهوری الدین المسیحی مارتن لوثر فی فلسطین
إقرأ أيضاً:
الحرب كما يرويها الأدباء العرب
حسن عبد الموجود
الحرب كانت ولا تزال ثيمة رئيسية في الأدب العربي؛ فبعض الكتَّاب العرب عاشوا حياتهم كلَّها وسط دويِّ الرصاص والدانات، خائفين إما على أنفسهم، أو ذويهم، متألِّمين بسبب الفظاعات حولهم، لائذين بأقلامهم، يحاولون بها النفاذ إلى عمق المأساة.
صحيح أن مَن يعيش المأساة ليس كمَن يكتب عنها من الأرشيف، إلا أن الحرب تظل هي الحرب، وجروحها قد لا تندمل لمئات السنين. هناك كتَّاب لا يزالون مشدودين إلى معارك الماضي، وآخرون يكتبون بينما يشاهدون القصف من نوافذهم أو في بث مباشر على هواتفهم، فما هي حكاية الأدب العربي مع الحرب، سواء في الماضي أو في اللحظة الراهنة؟
أبدأ بمناقشة كتَّاب عمانيين اهتموا بالكتابة عن الحرب، مثل: الروائي الدكتور محمد اليحيائي، صاحب رواية «حوض الشهوات» وهي عن حرب الجبل الأخضر، وكذلك رواية «الحرب» وهي عن حرب ظفار.
أسأله ما الذي وجدته مختلفًا في كتابة الحرب مقارنة بالموضوعات الأخرى؟
لكنه قبل أن يجيب يمنحنا تصورًا شاملًا عن الحرب في الأدب: «قارب الأدب، الرواية تحديدًا الحرب، ليس بوصفها حدثًا مأساويًّا - والحرب أكثر الأحداث مأساوية في التاريخ- ولكن بوصفها قصة الإنسان على الأرض، حكاية صراعه الممتدة مع الشيطان -إبليس في المبتدأ، وحكاية صراعه مع نفسه في اقتتال الأخوين قابيل وهابيل، ثم قصة صراعه مع الطبيعة والكوارث والوحوش، وكأن الإنسان خلق وبين عينيه الحرب؛ قدرًا حاضرًا أو مؤجلًا، لكن هذه المقاربة للحرب، ليست تصويرًا أو استعادة للمأساة، ولا توثيقًا لها باعتبارها تاريخًا ماضيًا، إنما رسم صور للحياة وللعلاقات، الحب والإحباط والأمل والأحلام والتذكر، وحتى الفكاهة على هامش وفي داخل الحدث المأساوي».
تُحدِث الحروب، بحسب اليحيائي، تشوهاتٍ عميقة في روح الإنسان وعقله، ولكنها تحدث أيضًا تحولات وثورات كبرى في تاريخ الدول والمجتمعات، وكأن الحروب هي المقدمات الضرورية للانتقالات التاريخية الكبرى، منذ غزوات سرجون الأكادي (2300 ق.م)، مرورًا بحرب طروادة (1184 ق.م) والتي تكتنفها الأسطورة أكثر من الواقع، كما صورها هوميروس في (الإلياذة والأوديسة)، ثم حرب داحس والغبراء التي استمرت أربعين عامًا، وحروب الإسلام الكبرى؛ (بدر) و(القادسية) و(نهاوند) ومعركة (فتح القسطنطينية)، وانتهاء بالحروب الكبرى في العصر الحديث، الحربيين العالميتين الأولى والثانية، وما تلاها من حروب وصراعات إقليمية كبرى، حروب العرب مع دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ 1948 حتى اليوم. جميع هذه الحروب نقلت الإنسان من حالة إلى أخرى، وأعادت صياغة الأفكار والفلسفات، وفي القلب منها الأدب والفن عمومًا.
من منظور الأدب، كما يذهب اليحيائي، الحرب ليست مجرد صراع عنيف ودموي بهدف السيطرة والنفوذ وإعادة رسم الخرائط والحدود الجغرافية، ولكنها، غابة متشابكة من العلاقات بين البشر، الذين على هذه الجبهة، والذين على الجبهة المقابلة، والجبهتان تتقاطعان، وتغيِّر الأطراف المتحاربة مواقعها، تلتقي وتفترق. هذا ما وجدناه في رحلة أخيل للظفر بقلب عشيقة أغاممنون؛ بريسييسس في «الإلياذة»، وما قرأناه في «الحرب والسلام» لتولستوي من تشابك للعلاقات والصراع الطبقي أثناء غزو نابليون لروسيا القيصرية، والحال ذاته لدى همنغواي في «لمن تقرع الأجراس» حيث هواجس روبرت جوردان تغلبت على مهامه القتالية، وما قرأناه من تذكر ليلى سليمان وسالم مطر لحرب الجبل الأخضر في رواية «حوض الشهوات» ومن استعادات كريستينا سعيد وسعيد قيصر لحروب المائة عام الماضية، حرب ظفار، تحديدًا في عُمان، في رواية «الحرب».
ومن المنظور ذاته، منظور الأدب، لا تحضر الحروب في الرواية كوثيقة تاريخية وإنما كمحاولة لفهم الحرب وإعادة كتابة تاريخها؛ كصيرورة وكقدر مؤجل.
يتابع: «أنا أنتمي إلى جيل تشكل وعيه، وصيغت حساسيته المعرفية والسياسية على الحرب، ليس الحرب التي في التاريخ والكتاب، وإنما الحرب التي في أخبار اليوم وكل يوم؛ حرب الاتحاد السوفييتي في أفغانستان (1979)، وحرب السنوات الثماني بين العراق وإيران (1980- 1988) وحرب اجتياح إسرائيل للبنان (1982)، وحرب الانفصال بين جنوب وشمال اليمن (1994)، وحرب احتلال العراق للكويت (1990)، ثم حرب تحرير الكويت، وحرب احتلال العراق (2003)، والحرب على غزة منذ أكتوبر 2023، وتشعباتها التي لم تنته بعد. الأحداث الكبرى التي تُعاش لا تُكتب، تأتي الكتابة في مرحلة تالية، مرحلة التذكر والاستعادة، ولكنها أيضا لا تأتي، بالضرورة، كاختيار مسبق أو مخطط له، أقلها بالنسبة لي».
ويضيف: «عندما كتبت رواية «حوض الشهوات» لم تكن حرب الجبل الأخضر هي الموضوع. كان الموضوع هو الحب والحنين، حب بين رجل وامرأة (سالم مطر وليلى سليمان)، وحنين جيل إلى حلم صعب عليه تحقيقه، ثم حضرت الحرب كخلفية في تاريخ الشخصيتين، والحال ذاته في رواية «الحرب» التي لم تكن الحرب موضوعها في البداية، إنما هواجس وهلوسات رجل موشومة ذاكرته بالفقد، قبل أن تتطور الأحداث فتصبح حرب ظفار، وحروب السلطنة والإمامة منذ 1913 إلى 1959، الخيط الناظم للحكاية والعلاقات؛ حيث يبدأ النص من حالة أو صورة أو عبارة ولا يمكن التنبؤ بمساره ومآلاته، فثمة دومًا حرب في النص وأخرى في الأفق».
حدود الخيال
الروائي العماني محمد الشحري لديه تجربة كذلك مع الحرب، فروايته «الأحقافي الأخير» تدور حول حرب ظفار.
أسأله: هل التزمت بوقائع التاريخ؟ وما حدود الخيال في الرواية؟
فقال: «لنتفق على أننا حين نتحدث عن روايات الحرب فنحن بالضرورة نتحدث عن الرواية التاريخية، والتي تفرض شروطها الخاصة على الروائي الذي يكتب في حقل الألغام، بين الحقيقة والخيال، بين التوثيق التاريخي والسرد الأدبي، لذلك فمن الطبيعي ألا أخضع لوقائع الأحداث لأدونها؛ لأني لو فعلت ذلك حينها فسألبس جبّة المؤرخ أو المدوِّن اليومي والراصد للأحداث ونتائجها؛ لأن القارئ حين يقرأ عن أعداد القتلى فربما لن يتأثر بالأعداد، لكن سيتأثر حتمًا إذا عرف طريقة مقتلهم سواء بالقصف الصاروخي أو القتل من مسافة الصفر، واللحظة الأخيرة بين القاتل والمقتول. وهنا يأتي دور الخيال السردي في اختلاق الأحداث ومحاولة التأثير على الضمير الإنساني للتوقف عن الهمجية والركون إلى العقلانية، ومدى تأثير الأذى على حياة الإنسان في كل الأطراف المتصارعة. والتركيز على الفئة المحايدة من الطرفين والتي تجد نفسها في أتون الصراع بلا حول منها أو قوة. لذلك الخيال هنا معين على تصور النتائج القاسية للحرب».
ويضيف: «في رواية (الأحقافي الأخير) كتبتُ التاريخ الذي أحاول فهمه، تاريخ القهر والإهانات والقمع وإنهاء حياة الآخرين دون إبداء أي أسباب، والآن أشعر بالطمأنينة؛ لأنني وثقت حياة المقهورين والمهمشين ولا يهمني أن أي عدالة يمكنها إنصافهم».
أسأله: وهل يمكن أن تكون الحروب الحالية ذات تأثير عليك وتدفعك إلى التفكير في كتابة رواية جديدة عن الحرب؟
يقول: «لا أظن أنني سأكتب عن الحرب مرة أخرى أو عن النزاعات المسلحة؛ لأن الكتابة عن القتل ووصفه ومعايشته هو قتل مؤلم وإن كان متخيلًا، فالكاتب الروائي يعيش ضمن أجواء عمله الروائي، وكل كلمة يكتبها تُعبر عن مشاعر الأبطال، تلك المشاعر يتمثلها الكاتب شعوريًا قبل تدوينها، لهذا أقول إنها مؤلمة؛ لأن الإنسان عجز عن منع الأذى عن أخيه الإنسان، ولم يقدم الجناة إلى العدالة».
وينهي كلامه بسرد قصة شخصية: «ذات مرة قرأت رواية (مسيح دارفور) للكاتب السوداني الصديق عبدالعزيز بركة ساكن، أهداني إياها في مدينة برلين، وأثناء ذهابي بالقطار إلى مدينة هايدلبيرغ أتممت الرواية ومباشرة اتصلت به، سائلًا إياه عن تحمُّله للأذى الذي كتب به روايته، وتأثير الألم المتخيل عليه. فرد عليَّ قائلًا: آلام الواقع أكثر إيلامًا من الآلام المتخيلة».
ثلاثية البيرق
الكاتبة العمانية شريفة التوبي لديها ثلاثية بعنوان البيرق. تسرد تاريخ عمان في القرن العشرين بما في ذلك حرب الجبل الأخضر، فما الصورة التي أردتِ إيصالها عن الحرب؟
تقول شريفة: إن كتابة ثلاثية البيرق لم تأتِ كفكرة عابرة أو لحظية، بل كانت مترسخة في داخلها لسنوات، وظلت كذلك حتى آن أوان كتابتها وخروجها إلى النور، وتضيف: «لم أتعمد الكتابة عن الحرب، قدر ما كنت معنية بما عايشه المجتمع أثناء تلك الحرب وآثارها عليه، وقد وجدت أن التاريخ لم يكن منصفًا لهذه الفترة، وغالبًا التاريخ غير منصف لتركيزه على الكفة الراجحة في ميزان النصر والهزيمة، ولا يكتبه سوى الحكام وقادة الجيوش. ولأن ما قرأته في كتب التاريخ القليلة جدًا عن حرب الجبل وحرب ظفار لم يكن كافيًا، ولم تكن الصورة واضحة، كتبت هذه الرواية عن حرب غير مروية لتاريخ مغيب وحكاية منسية، والحكايات المنسية والمغيبة مغرية بالكتابة؛ لأنها تتيح للأديب فرصة التخيُّل وصياغة الأحداث بما يتناسب والصنعة الأدبية. بهذه الرواية دخلت الحارة القديمة التي أسميتها حارة الوادي، جلست تحت ظلال نخيلها، فتحت أبوابها، وأشرعت نوافذها، واغتسلت بماء فلجها البارد العذب، وأسندت كفي على جدران بيوتها المندثرة، وتحدثت مع الحجر والشجر، ونبشت ذاكرة الأحياء، كبار السن منهم، الذين عاشوا تلك الفترة وشارك بعضهم في الحرب، حتى انفتحت أمامي مغاليق حكاية الحرب في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. أردت بهذه الثلاثية أن يرى القارئ الوجه الآخر لتلك الحرب، المتمثلة في البسطاء الذين لم يذكرهم التاريخ رغم أنهم كانوا رصاصة الحرب ووقودها».
***
ماذا إذن عن الكتَّاب الذين عايشوا الحروب في بلدانهم؟
يقول الكاتب العراقي لؤي حمزة عباس: «كتابتي في مجملها ولدت في الحرب، خصوصًا التجارب الأولى منها التي جمعت قصصها القصيرة في مجموعة «على دراجة في الليل» الصادرة عام 1997 ومجموعتي الثانية «العبيد» 2000، وقد انشغلت قصصهما بما تشيعه الحرب من أجواء وما تخلِّفه من حالات، لكنها لم تكن تنتمي لما سُمي وقتها بالأدب التعبوي، أدب الدولة وأيدلوجيتها، في ذلك الوقت أيضًا كتبت «كتاب المراحيض» محاولة في تدوين واحدة من أقسى تجارب الحياة العراقية، أطولها وأشدها مرارة، تجربة السقوط في حرب الثمانينيات المريرة العابثة، هذه الحرب التي وجدت نفسي في أتونها ولم أكن قد تجاوزت العشرين من عمري، وقتها تملكني هوس تدوين ما يقع حولي، وأعظمه الموت وأفاعيله، أرعبتني حقًا المجانية التي يتحول الجسد الإنساني فيها، في لحظة، إلى نتانة مرمية في الأرض الحرام، وشغلتني معادلة جنونية يقابل الإنسان فيها ما يخرج منه، الحرب بوجهها العدمي أرتني ذلك عن قرب، فدونت كل شي تقريبًا من دون أن أحدد هدفًا لمدوناتي، التي كانت أقرب لشذرات يومية، وجَّهتُ جل عنايتها لتسريب ما يعيشه الصبي الجندي من رعب وما يتملكه من جنون، وشيئًا فشيئًا وجدت المدونات تتوافق في كشفها عن الجانب المعتم من الحياة، أتذكر أن أول فصول كتاب «مراحيض الحروب»، كُتب دفعة واحدة لأنني كنت مسكونًا بقسوة الحرب، هنا يمكن أن نشير إلى ما لم يُشر له النقد العراقي، ففي الوقت الذي كانت تتواصل فيه عطايا أدب الحرب، كان ثمة أدب غير نوعي يتنفس على الجبهات، أفكر الآن بمخطوطات المحاربين التي لم يقدر لها أن ترى النور، وأُدرك أن الطريق الذي قطعته مخطوطة كتاب المراحيض ليس سهلًا، أكتب ذلك وقد دخل صبي الحرب عامه الستين وصارت الحرب ذكرى ثقيلة ننوء بحملها».
وأضاف: «ما بين أيدينا الآن جبال من مخلفات الأدب الرسمي مدفوع الثمن الذي مجَّد بطولات متوهمة لمقاتلين أشاوس لا يعرفون الخوف ولا الجوع ولا يقلقهم الموت العابث في كل حين، لا يعجزون ولا يتهاوون ولا يخطئون أهدافهم، تقابل جبال الأدب الرسمي شظايا من مدونات أدب الهامش الذي رأى أهوال الحرب بعد أن خاضها وجهًا لوجه حتى آخر قطرة من الألم، سيهيم الفتى الجندي في دوامة الحرب، من موقع إلى آخر، سنوات بين ملاجئ التراب، في كل ملجأ له حكاية، وسيسمع في هدأة ليل الجبهة، مع التوقف الجزئي للقتال، أصوات الجنود على الجانب الآخر، هتافات بعيدة وأصداء غير مفهومة ومقاطع من أغنيات حزينة شاردة، أصوات إنسانية مبهمة تحرك مشاعر الصداقة بين جنود الجبهتين التي لا مكان لها في ليل الحروب، كانت الحياة تتغير، تتحرك في أعماقها كائنات الحرب وتلتهم زهرة روحها، فتتحول طبيعتها وتنمسخ طبائعها، حتى كأن العراق نفسه يتبدد على سواتر القتال، على كل ساتر يتهاوى بعض من روحه وفتوة أبنائه. لا تغيِّر الحرب يوميات الإنسان ولا تبدِّل سلوكه فحسب، بل تحفر عميقًا في نفسه، تلتهم لبَّه وتهشِّم روحه، ترفع الحدود وتلغي المسافات وتجعل المجتمع امتدادًا معتمًا لها، في «كتاب المراحيض» كتبتُ عن حربي الخاصة، حرب الجندي المغلوب على أمره، وقد رأيتها كومًا من النتانة التي لوثت أعمارنا على جبهتي النار، ولم أكن أُدرك وقتها أن بلاغة الموت تكتب سرديتها وتعيد كتابتها مرة بعد مرة، وأنني سأحيا لأستعيد ذلك بعد أكثر من أربعين عامًا. كتابتي لك تساعدني اليوم على استعادة ما حدث بالطريقة التي تخيلته فيها».
مفتتح اللعنة
«أظن أنني دفعت فاتورة الحرب كاملة، ولا رغبة لديَّ بأن أخوض في هذا المستنقع مجددًا»، بهذه الكلمات الغاضبة يبدأ الروائي السوري خليل صويلح كلامه مضيفًا: «فعدا السنوات التي عشتها في البلاد وسط الدمار والخراب والخوف، أنجزت خمس روايات عن الحرب وبجوارها. كانت «جنة البرابرة» (2014) مفتتح هذه اللعنة، مرورًا بروايات «اختبار الندم»، و«عزلة الحلزون»، و«احتضار الفرس»، وصولًا إلى روايتي الأخيرة «ماء العروس» مطلع هذا العام. الآن وقد انتهى زمن الديكتاتورية، أرغب أن ألتفت إلى ثيمات أخرى بعيدة عن الحطام الروحي الذي أثقل عمرنا. أقول أرغب، ولكن الشكوك قائمة بأن تقتحم الحرب شاشة كمبيوتري فجأة، إذ ليس سهلًا أن تخلع عن جلدك الحراشف السميكة للحرب في بلاد القبور الجماعية، ومشهديات الفزع، وسرديات الضحايا. هكذا قلبت المشهد من الداخل ومن الخارج، أفقيًا وعموديًا إلى حد الإنهاك، حتى أنني في روايتي الأخيرة «ماء العروس» أنشأت قصة حب عبثية تشتعل بين الراوي ورسامة خلال حضورهما جنازة، وليس في مكانٍ آخر، فالجنائز هي حدائق عمرنا أكثر من أشجار السرو أو الياسمين، كما سيتعرض أحدهم إلى صفعة من دركي سوف تطارده طوال نصف قرن بطرقٍ مختلفة، وستلتهم الحرائق أرشيف مركز الوثائق التاريخية، وإذا بالبلاد بلا أرشيف. لا أرغب أيضًا بمنح الديكتاتور الأجوف صفات لا يستحقها لفرط هزلية المرحلة. ربما أشعر بالعار حيال ربع قرن من الصمت والإهانات، بصرف النظر عن محاولة هتك ما جرى. هذه خريطة ضبابية يصعب اكتشاف مراياها بسهولة، لذلك علينا تأمل المشهد طويلًا قبل الانخراط بحيثياته سرديًا.
ويقول: «أريد أن أتنفس هواء حرية مشتهاة، لكنها أمنية عسيرة، سواء على مستوى العيش أم لجهة الكتابة عنها، ففي جغرافيا منكوبة تاريخيًا يصعب رسم خرائط واضحة للغد، سنكتفي بفحص التضاريس الناتئة هنا وهناك، من دون أن نطمئن لنص مختلف. الآن، أنا في نقاهة، ربما ستستمر طويلًا»!
تفاصيل هامشية
وبدوره ارتبطت تجربة الكتابة لدى الروائي السوري سومر شحادة بالحرب. يعلق: «يعني أنا لم أعرف شكل الحياة خارج تصوراتها، إلا في زمن الطفولة البعيدة، ومراحل المراهقة وجزء من المرحلة الجامعية. حتى إني عشت الحرب وظروفها، بصورة لم أطلق عليها حربًا. كنا نقول إنها أحداث -مع إدراكي للسياق الأبعد الذي جعل الثورة تتحول إلى شكل من أشكال الاقتتال الأهلي- إلا أني وطوال 14 سنة، عشتها بصفتها أحداثًا، لا حربًا».
ويستدرك: «هذه المقدمة، كي أقول، ما يشغل في الحرب، ليست العناوين الكبيرة، ليست الشعارات، والأهداف التي تظهر لدى السياسيين، وفي نشرات الأخبار. إنما تفاصيل أكثر هامشية، ترتبط بحياة البشر أنفسهم تحت ظرف الحرب، وكيف خربت يومياتهم، كيف انهارت علاقاتهم وقيمهم القديمة. وكيف ترسم الحرب تصوراتهم الجديدة عن الصداقة والحب وفكرة «الوطن» أصلًا. أجد أن واقع الحرب يعزز في الأدب، حضور هذه التفاصيل الصغيرة الهامشية التي لا يكترث لها الطيار، ولا تؤثر في القناص، إلا كي ينفيها، كي يقتص منها، كي يلغيها ويقتلها».
سؤال مزمن!
أما الشاعر السوري حسين بن حمزة فيرى أن السؤال عن الأدب والحرب، هو في الحقيقة جزء من سؤال مزمن حول الكتابة عن القضايا الكبرى والمشكلات الضاغطة والساخنة للواقع. وداخل هذا السؤال تنطوي أطروحة أساسية وهي: هل يمكن الكتابة عن الحرب والقضايا الكبرى من دون أن تخسر الكتابة نفسها شيئًا من جودتها؟
يخلص بن حمزة إلى أن الجودة إذن هي غاية هذا السؤال، باعتبار أنها أول ما يمكن أن يُضحَّى به إذا جرَّب الكاتب أو الشاعر أن يستجيب بشكل عاجل لما يجري. الكثير من الكتَّاب قالوا ويقولون إنهم يفضلون التأني ريثما يخف ضغط الحدث أو حتى تبرد الصور الفظيعة والمباشرة التي تنبعث من أهوال الحروب. الاستجابة السريعة هنا يتم ربطها فورًا بالرداءة رغم أن مواضيع أخرى، الحب أو الغزل مثلًا، تُكتب فيها مئات القصائد الرديئة، ولكن خطر الوقوع في الرداءة ظل مرتبطًا بالقضايا الكبرى!
ويقول: «أتذكر هنا مقالة شهيرة كتبها الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان في زمن انتفاضة الحجارة، حملت عنوانًا استفزازيًا: «أيها الشعراء.. اكتبوا شعرًا رديئًا»، دعا فيها الشعراء إلى الانضمام للمواجهة وإلى الكتابة كيفما اتفق. الغريب أن هذا السؤال يُطرح غالبًا على الشعراء على أساس أن كتابة قصيدة عن الحرب لا تتطلب زمنًا طويلًا، كما أن الشعر يمكنه أن يشعل حماس الجماهير وأن يواكب الحدث ويصبح جزءًا منه، بينما يُعفى الروائيون مثلًا من هذا الإلحاح الفوري. والحقيقة أن تأريخ أثر الحروب والقضايا الكبرى يمكن أن يحدث بشكل أفضل وبجودة معقولة أكثر في الرواية أو في الأعمال السردية، أو حتى في المقالات. الشاعر نفسه لا يحظى بـ«رفاهية» أن يواكب ما يجري بمقالة أو رأي. إنه أول من يُسأل لماذا لا يكتب عن الحرب أو عن قضايا وأزمات كبرى. الشعراء متهمون دومًا بالفردية والابتعاد عن هموم الجماهير والشعوب، وهذا صحيح طبعًا، إذْ أن كتابة الشعر في العقود الأخيرة -وخاصة قصيدة النثر- باتت مسألة شخصية تقريبًا».
بالنسبة لحسين بن حمزة، ظهرت مفردة «الحرب» في قصيدتين قصيرتين، ويظن أن ذلك حدث بدون قصد، خصوصًا أن القصيدتين مكتوبتان عن الحب أو في مديح امرأة ما أو عن تفاصيل تخص ما يمكن أن نسميه شعرية الحب. يعلق: «مفردة الحرب جاءت هنا لتخدم سياقًا لا يتعلق بها، وظهرت بشكل عَرَضي، ولم يكن مقصودًا منها أن تحتل النص كله أو أن يكون النص مواكبًا لها كحدث كبير. في النهاية لستُ ضد الكتابة عن الحرب أو أي قضية أخرى، المهم بالنسبة لي هو: كيف كُتبت هذه القصيدة وليس عن الأسباب الداعية لكتابتها».
جاءت لتبقى!
الكاتبة اللبنانية بسمة الخطيب ولدتْ في الحرب اللبنانية التي استمرت 15 عامًا، وحين بدأت النشر كانت الحرب قد انتهت قبل عقد ونصف ولكن أشباحها بقيت تهوم في حياتها وكتابتها.
تقول: «لم أعرف مدى سيطرتها عليَّ آنذاك، ولكن، حين زرت الجامعة الكاثوليكية في ميلانو وفي جلسة نقاش مع طلبة الأدب العربي أشار أستاذهم البروفيسور وائل فاروق إلى تأثير الحرب على ثيمتي الموت والخراب المتكررتين في قصصي وروايتي، ويبدو أنه وطلبته حللوا هذا في دراستهم في وقت سابق. أدهشني هذا بالفعل! بالتأكيد دراسة أثر الحرب على الأدب يحتاج إلى أدوات الباحثين والأكاديميين، نحن ككتاب لا نحلل، بل يحدث أن نُفاجأ بالتحليلات التي تنير أعمالنا وطريقنا. كان كثيرون يسألونني: لمَ ثيمة الموت في كل نص لي؟ لم تكن لديَّ إجابة ولا كنت أتعمد أن أضع الموت في كتاباتي. المختلف في حالتي ككاتبة لبنانية أن الحرب ما انفكت تعود، عشت هدنات متقطعة، ولكن الشعور بالسلام والسكينة لم أعرفه يومًا. أشار إلى هذا من درسوا مجموعتي القصصية الأخيرة «نحر الغزال»، تحديدًا في قصة «الزهرية» حيث المرأة التقليدية التي تستمع إلى فيروز كل صباح وتزرع الحبق عند نافذتها وترمي زهريتها بين يوم وآخر وتلتقط أجزاءها المكسورة وتلصقها كل مرة، وفي قصة «القبو» حين يدخل الأب ذات يوم ويقول لأولاده: إن الحرب عادت، فيدخل على قبو البيت ليجلب مصباح الجاز الذي استعمله في الحرب السابقة ولكنه لا يخرج أبدًا من القبو بل يصير جزءًا من ظلمته وعمقه الدفين. إذن حتى حين تنتهي الحرب نبقى نحن أبناءها أسرى هاجس عودتها. الأمر بالنسبة لي ككاتبة لبنانية أن الحرب أتت مرة لتبقى أبدًا».
***
ماذا إذن عن الرأي الأكاديمي؟ حرصت على استطلاع رأي النقاد، وبعضهم لديه أعمال مهمة عن الأدب والحرب.
الناقدة المصرية الدكتورة أماني فؤاد لديها مثلًا كتاب مهم بعنوان «سرديات الحروب والنزاعات»، فكرت في إنجازه بعد أن وجدت النصوص السردية - التي تعالج تجربة الثورات والحرب، وما تسفر عنه من نزاعات ومآسٍ إنسانية - هي الكتابة الأكثر حضورًا وتأثيرًا على لحظة السرد الراهنة، في الإقليم العربي وشمال إفريقيا، خاصة بعد الثورات التي سُميت بالربيع العربي، الثورات التي لم تُخلف ربيعًا في كثير من تجلياتها، بحسب تعبيرها، بل أوجدت أنواعًا متعددة من جحيم الانقسامات، والفوضى، والطائفية، والدمار، والفقر، والشتات بلا أوطان، الانتفاضات التي كان ظاهرها حُلمًا للرومانسيين، وباطنها تخطيطًا، واستهداف تغييرٍ شاملٍ لشكل وأنظمة حُكم المنطقة.
باتت الحروب والنزاعات إذن، بالنسبة للدكتورة أماني، عنصرًا مهيمنًا على النسق العام لمعظم النصوص الروائية، سواء كانت هي محور دراما النص، أو أحد المَحاوِر الفرعية، أو المضمَرة في الظلال، وعلى أثرها وفاعليتها تتشكل أحداث النصوص، ومصائر الشخوص في السرديات.
لماذا انشغل الأدباء العرب بفكرة الحروب؟ أسأل وتجيب: «لأن في الحرب يعاد تقييم الوجود على مَحاوِر متعددة، من خلالها يتحرى المعنيون بنَسَقها الثقافي والأدبي السردي تأمل مأزق الحياة في تلك البقعة الجغرافية المتوترة دائمًا، في ظِل صراعات اشتعلت بعد الثورات والنزاعات والحروب الأخيرة، ثنائية الحرب والفَناء، في مواجهة الرغبة في الحياة، والحفاظ عليها، مع ضمان الأمن والحريات والحاجة للتنمية بصوَرها المختلفة، فنحن بحاجة ماسة إلى ثورة حقيقية، لكنها في المقام الأكثر عمقًا( ثورة ثقافية)، توقظ الوعي العام للشعوب، وتدفعه لمراجعة كثير من الأفكار والعادات الاجتماعية الثقافية التي تتحكم في تقييمنا لمواضع الحياة من حولنا، إعادة النظر في مقولات رسخت في الوعي الجمعي واختبارها».
وما القواسم المشتركة لهذه الأعمال؟ تقول: «حملت الثورات والحروب - التي اجتاحت المنطقة - في عمقها الإنساني مستويات متعددة من الرفض الشامل لكثير من منظومة مقومات الحياة وقِيَمها الاجتماعية ــ الثقافية، والاستنكار للظلم الواقع على الإنسان في مناحٍ مختلفة: الرجُل والمرأة، تكشَف هذا بعمق في السرديات الروائية عما بدا عليه ظاهر أهداف هذه الثورات وشعاراتها، التي ترددت على الألسن، تجلى الرفض على ما استقر على أنه من مسلمات الحياة، التي يعيشها الإنسان العربي، لم تكن ثورة الجموع - في الحقيقة - على الأنظمة السياسية فقط؛ بل كانت في عمقها ثورة على أفكار ومظاهر كثيرة، انتقادات لمعطيات ومعتقدات تتحكم في حياة الإنسان، أدركتها النخَب وعبرت عنها».
تضيف: «تجسد هدف بحثي في رصْد التحولات الجديدة في اثنتين وخمسين رواية، وأحسب أن ريادة الكتاب، في رصد هذه التحولات، وعلى مر سبْع سنوات استطعت معايشة هذه التغيرات، حتى إنني أتذكر أن قراءتي لروايتَين بصورة خاصة قبل نشر الكتاب؛ جعلتني أعيد تشكيل البحث وفصوله. تحريت الشمول في هذه الدراسة، أو المشهد العام، بمعنى تقصى سرديات الحروب تحليلًا ونقدًا للمنتَج الروائي العربي في تنوعه الجغرافي والثقافي والاجتماعي في الأقطار العربية المختلفة (مصر، سوريا، العراق، فلسطين، الأردن، لبنان، تونس، الجزائر، المغرب... إلخ) تلك البلدان التي عانت -ولا تزال- من الحروب والنزاعات وآثارهما، سواء مع المحتَل الدخيل، أو بين الفِرَق والطوائف والمذهبيات المختلفة بين أبناء الوطن الواحد».
المعارك الجديدة
الناقد المصري الدكتور حسين حمودة يقول بدوره: إن الأدب قارب الوقائع الكبرى، ومنها الحروب والثورات والكوارث، بطرائق شتى.. سواء بالكتابة عن الوقائع الحالية، أم تأثيراتها الممتدة والبعيدة على الحياة الإنسانية.
وفيما يتصل بالحروب الجديدة، فمن المؤكد أن تأثيرها على الأدباء العرب سيكون واضحًا، خلال أزمنة قريبة أو بعيدة. والحقيقة أن هذه الحروب الجديدة اتسمت بسمات ميَّزتها عن بعض الحروب «القديمة»، منها أنها اقترنت بتغطيات إعلامية واضحة ومباشرة، ووصلت مشاهدها تقريبًا إلى كل بيت، واتصلت أيضًا بإثارة مشاعر واضحة إزاء أطرافها المتحاربة، ووجهات نظر وربما «استقطابات» حولها، وحول «سردياتها» المتعددة.. وكل هذه السمات تجعل «المادة» المتاحة حول هذه الحروب، والتي يمكن للأدب أن ينطلق منها ويتفاعل معها، أكثر سهولة على مستوى إمكانات الحصول عليها (بالقياس للحروب السابقة)، كما يمكن أن تتيح هذه المادة للأدباء فرصًا أوفر على مستوى كيفيات تمثلها في الأدب الذي لا يقف، بالطبع، عند حدود رصد الوقائع المشهودة للجميع، وإنما يضيف إلى هذه الوقائع أبعادًا أخرى، تخييلية، فضلًا عن تقصي تأثير هذه الوقائع على أوجه الحياة الإنسانية بوجه عام.
شعر الحرب
الناقد الدكتور عيسى بن محمد السليماني لديه كتاب بعنوان «شعر الحرب» يدور حول القصيدة العمانية أيام دولة اليعاربة.
أسأله: ما خصاص الشعر المكتوب عن الحرب بشكل عام؟ وما التأثير الذي يمكن أن تتركه الحروب الحديثة على الشعر الآن؟
فيقول: «الشعر العربي كانت من ضمن مثيراته الحروب، والشجاعة والاعتداد بالذات ساعة المعركة، ولو رجعت إلى مفردات الشعر الجاهلي؛ خاصة عند عنترة وأقرانه الشجعان، تلمس لغة أخرى تعيش داخل النص. فعنترة عندما كان يخاطب محبوبته عبلة: «هلا سألت الخيل يا ابنة منذر، إن كنت جاهلة بما لم تعلم» تشعر بأن اللغة الذاتية تجلت بكل قوتها، وأبرزت جلجلة إيقاعية أخرى، فإيقاعية الخطاب هنا بهذه اللغة يختلف عن بقية الشعراء الغزليين الآخرين الذين لم تصاحب نبرتهم لغة عسكرية: «أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل» وهذا اللطف المشعب بالمفردات هنا لم يكن بعيدًا عن مفردات عنترة، إلا أن النبرة القوية هي ما ميَّزت بين النبرتين في سياق واحد».
ويضيف: «الحرب مثير قوي عند الشعراء العرب؛ خاصة مَن ينتمون للقضية التي يعيشونها، ويتفاعلون معها، وما نراه من مشاهد موجعة، ووقائع مؤلمة، لجديرة في إثارة المبدع الشاعر أو الكاتب. فالقصيدة العربية اليوم خرجت بأبعاد جديدة؛ نتيجة الواقعة الأليمة التي يشاهدونها؛ بل بعضهم يعيشها؛ والخصائص الشعرية تختلف من شاعر يعيش الحدث وشاعر يشاهد الحدث وشاعر سمع عن الحدث، فالأول لغته جاءت مدوية؛ كونها عاشت الحدث وتفاعلت معه، بينما الثاني كتب من خلال المشهد وكانت مفرداته أقوى من الثالث الذي سمع بالحدث. الحروب الحديثة جعلت الشعراء يبدعون في مفرداتهم، وصورهم الشعرية التي اختلفت عن الصور القديمة، لاختلاف الآلية الحربية، وقد برزت موازين جديدة في الشعر الحديث في وصف الحروب، فلم تأتِ مفرداتها ذات بُعدٍ وصفي عام، أو مشهد عابر، مثلما عاشت القصيدة القديمة في أغلبها؛ لأن النص اليوم سلك أبعادًا جديدة في وصف المشهد، حيث يفضح المعتدي، ويحفز على الاستمرار في صده، ويلهب مشاعر المجاهدين، ويرثي شهداءهم، وليس معنى حديثي هذا بأن النص اليعربي العماني؛ خلا من هذه الصفات، وخلاصة القول فإن الشعر له دور بارز في إبراز الحدث متى ما كان الشاعر ينتمي إلى جانب، وإلا أصبح النص نظمًا».
الشعر والمأساة
وبمناسبة الشعر، فإن الشاعر اليمني محمد سلطان اليوسفي لديه ديوان بعنوان «قبضة من أثر الحرب» قصائده تنتصر للإنسان اليمني الذي أرهقته الحرب.. فكيف استطاع أن يخلق من المأساة نصوصًا شعرية؟ وهل الشعر يستطيع التعبير أكثر من الفنون الأخرى عن الحرب؟
يقول: «عندما تطال الحرب كل شيء جميل وتسرق أروح الأبرياء والعزل، وتغتال أحلام الوطن وآماله وتطلعاته، تأتي الكلمة مكتوبة بمداد الألم، وبشكل عام كلما كان الفنان قريبًا من همِّ مجتمعه وقضاياه كلما كان أصدق في تجسيد تلك القضايا، ولا أزعم هنا أن ديوان «قبضة من أثر الحرب» قد قال كل شيء عن مأساة الإنسان اليمني جراء ما شهدته وتشهده اليمن من حرب وصراعات أثقلت كاهل المواطن. فالوضع في اليمن على كافة الأصعدة مُزرٍ. وكان لهذا الصراع أثره البالغ وانعكاساته في خلق المعاناة وتأزم الحياة، وجل قصائد الديوان كُتِبت تفاعلًا وتجاوبًا مع ما يعيشه المواطن اليمني من مأساة. ويبقى الشعر من أهم الفنون التي تجسد المعاناة وأكثرها نفوذًا وتأثيرًا في نفس المتلقي، بجمالياته ولغته التي تكتنز صورًا بديعة وأساليب وتراكيب تجعل منه فنًا معبرًا ومؤثرًا.
وينهي كلامه قائلًا: «حجم معاناة الإنسان اليمني خلال تسع سنوات من عمر الحرب يفوق كل وصف وتعبير. فالكثير من الأسر تشردت ونزحت والكثير من الأمهات فقدن أبناءهن وأزواجهن والكثير من المدن عانت جراء محاصرتها وانقطاع الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والغذاء. كل هذا خلق وضعًا قاسيًا وأليمًا، واستمرار التوترات والصراعات في اليمن وتفاقم الأوضاع وتزايد المعاناة يحتِّم على المبدع اليمني أن يكون حاضرًا بقلمه، والشعر في هذه الحالة ينبغي أن يكون مجسِّدًا بصدق لتلك المأساة».
***
كلمات الكتَّاب والنقاد المشاركين في هذا التحقيق فيها الكثير من الألم والصدق، فمعظمهم اكتوى ولا يزال بنيران الحرب، ويبدو أن العلاقة بينهم وبينها ستمتد لسنوات أخرى، فلا شيء يشير في الأفق إلى أن الحرب قد تضع أوزارها قريبًا.
حسن عبدالموجود صحفي وقاص مصري