يبدو أن آفة حارتنا ليست النسيان فقط كما قال نجيب محفوظ. في الحقيقة آفات حارتنا العربية عديدة لعل من أخطرها الكسل الفكري، والذي يمتد حتى في فهم الحوادث الكبرى شديدة الوطأة التي تجري وقائعها أمامنا على الهواء مباشرة مثل صمت، وتخاذل بل وتواطؤ العرب إزاء مقتلة ومجاعة غزة المهولة. إذ نكتفي بالتوصيفات البلاغية عن وهن الجسد العربي وموت النظام العربي بل ويصل البعض إلى استخدام التفسير الديني «في غير موضعه» عن أن هذا الخذلان سببه ترك الحكام والشعوب الدين وطاعة الله!!

الحقيقة أن الجريمة العربية متكاملة الأركان إزاء ترك مليونين من الفلسطينيين يبادون بالقنابل الأمريكية أو يموتون جوعا بالحصار الصهيوني ما يقرب من سنتين كاملتين ليست إلا جزءا من سياق جريمة أكبر هي تخلي العرب عن فلسطين نفسها قضية وشعبا ومقاومة.

فأداء بعض النظم العربية القائمة على رداءته الشديدة ليس إلا امتدادًا لأداء رديء للنظم السابقة عليها يؤرخ له المفكر الفلسطيني المعروف منير شفيق بعام ١٩٧٤ وأميل أنا إلي تأريخه بعام ١٩٧٠. أما الأخطاء الفلسطينية التي استغلها الحكام العرب كذريعة إضافية للهروب من سكة فلسطين المليئة بالتضحيات فيعود إلي ستينيات القرن الماضي. المصيبة الأكبر أن هذه الأخطاء الفلسطينية التي توفر مزيدا من الذرائع لعرب أمريكا في ترك فلسطين وشعبها العزل ما زالت قائمة حتى الآن.

هذه قراءة في سياق التخلي العربي عن فلسطين الذي قاد أمتنا إلى أكبر عار قومي وأخلاقي وإنساني في تاريخها الحديث إزاء حرب الإبادة والتجويع غير المسبوقين في التاريخ المعاصر.

غياب عبدالناصر: في حالة عبد الناصر وفلسطين على وجه الخصوص يمكن دون مجازفة القول إن وجود هذا القائد على رأس أكبر دولة عربية لعب دورا حاسما في ربط القضية الفلسطينية بالعالم العربي وجعل إعادة حقوق شعبها المشروعة المسؤولية الأولى للنظام الإقليمي العربي وجعل الشعوب التي كانت تصدقه وتتبعه من المحيط إلى الخليج في مسألة الالتزام بالمواجهة مع إسرائيل معيار المحاسبة الصارم لشرعية أو عدم شرعية أي نظام عربي. يعترف باحثون عرب بأن عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات جعل من فلسطين نجمة العرب وربط بين حركة التحرر العربي وحركة التحرر الفلسطيني. وجعل المهمة الأولى لحركة النضال العربية هي بناء القوة للجيوش النظامية العربية لتفكيك المشروع الإحلالي الوظيفي والمهمة الثانية هي دعم حركة التحرر الفلسطينية وبالتحديد مقاومته المسلحة بالسلاح والتدريب والتمويل وبناء المكانة الدولية.

بغياب عبد الناصر عقد السادات معاهدة كامب ديفيد وأخرج مصر من المواجهة العسكرية مع إسرائيل لكن قبلها كان السادات وحلف واشنطن العربي الذي بدأ في التجرؤ على صدارة المشهد العربي بعد وفاة عبدالناصر قد ساهموا في قرار يعتبره المفكر الفلسطيني البارز منير شفيق بداية التخلي المصري والعربي عن فلسطين، هذا القرار هو الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر الرباط ١٩٧٤ ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني وهو قرار ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، إذ إن الدوافع الحقيقية لدى المعسكر المحافظ الذي تنفس الصعداء ورفع رأسه بعد وفاة عبد الناصر كانت إلقاء العبء على الفلسطينيين والتخفف من حمولة المواجهة والكفاح وتركهم بمفردهم. نتائج قرار الرباط لم تنتظر سوى ست سنوات فقط حتى يتضح مغزاها الحقيقي وهو رفع العرب يدهم عن الفلسطينيين وحشرهم في الزاوية بمفردهم أمام آلة الحرب الإسرائيلية في غزو لبنان ١٩٨٢. لم يتحرك أحد لإنقاذ المقاومة الفلسطينية كما أنقذها عبد الناصر وحمى سلاحها في لبنان ٦٩ والأردن ٧٠. في ١٩٨٢ أجبرت منظمة التحرير على التخلي عن سلاحها والانسحاب لتونس وهذا التخلي الذي دفع في اتجاهه هذا المعسكر المحافظ لم يكن له نهاية إلا اتفاق سلام مجحف آخر هو اتفاق أوسلو ٩٣.

وهم أن المقاومة الفلسطينية بديل عن الحاضنة العربية وبديل عن انخراط العرب في المواجهة العسكرية مع إسرائيل، هذا هو السبب الثاني الذي استغله عرب أمريكا لتعزيز مخطط الفرار من عبء فلسطين، فبعد هزيمة ٦٧ نشأت أوهام وهي أن الكيانية الفلسطينية يمكن أن تحل محل مسؤولية العرب ككل عن فلسطين وبدأت أقلام في التنظير لـ «كيانية فلسطينية» مستقلة عن الهوية العربية للصراع مع إسرائيل، بل إن البعض وصل إلى حد القول إنهم سيصبحون البديل لعبد الناصر في قيادة الأمة وشن حرب شعبية تحل محل الجيوش النظامية. هذه الفكرة سرعان ما تلقفها النظام العربي بعد عام ١٩٧٠والذي كان انتقل من معاداة الإمبريالية إلى الخضوع لها لكي يعزز تنصله من مسؤوليات مالية وعسكرية كانت حركة التحرر العربي تفرضها عليهم. ووضعوا هذه الذريعة تحت شعار مراوغ آخر هو «نقبل ما يقبل به الفلسطينيون». يقول باحثون: إنه شعار لم يتم صكه إلا بعد أن تأكد هؤلاء من أن قيادة م.ت.ف. بدأت السير في طريق التنازلات.

الانقسام الفلسطيني سبب ثالث: بغض النظر عن رواية الانقلاب على الديمقراطية التي فسرت به حماس ورواية الانقلاب على الشرعية التي فسرت بها فتح انقسام ٢٠٠٧ وانفصال غزة فإن النتيجة كانت إضافة سهم مسموم آخر في جعبة جماعات كوبنهاجن وأوسلو ووادي عربة واتفاقات ابراهام للخروج من معطف فلسطين الذي سبق وأن دثرت به حركة التحرر العربي في الخمسينيات والستينيات روح وجسد الأمة حربا ودبلوماسية وفنا وأدبا وشعرا ونثرا، غناء وسينما ومسرح حتى استحوذت على القلوب والعقول العربية. زعم هنا بعض العرب ولماذا ندعم شعب بات هدف قادته الصراع على السلطة.

لابد من الاعتراف بأن الدول الكبيرة في الإقليم مصر والعراق وسوريا التي كانت تشكل مع الأردن ولبنان الطوق أو النطاق المحاصر للكيان الإسرائيلي والمرتبطين مباشرة بالجغرافيا والتاريخ والأمن الوطني بفلسطين تراجعت أدوارهم في التفاعلات الإقليمية، هذا التراجع تم لصالح بعض دول الخليج الغنية الراغبة في أدوار إقليمية طموحة. هذه الدول لا تعتبر نفسها جغرافيا أو وجدانيا مرتبطة الصراع، وتم تصميم هندسة نظام البتر ودولار وفكرة الحماية الأمريكية للمنطقة بصورة لا تجعل هذه الدول عندما تتصدر المشهد السياسي العربي راغبة في الحروب مع إسرائيل لأن في ذلك إغضاب ومواجهة مع الولايات المتحدة ولهذا كان سهلا على بعضها التوقيع على مسار التطبيع الإبراهيمي.

سبب رابع ساهم في التخلي العربي عن فلسطين ألا وهو التغيير الذي طرأ على هيكل الطبقات الاجتماعية في العالم العربي بعد إشارة البدء للعهد الرأسمالي للمنطقة الذي أطلقه - كما أطلق مشوار الصلح مع إسرائيل - انتهاج مصر الدولة الكبرى لسياسة الانفتاح الاقتصادي. هذا التغيير والذي ازداد شراسة مع انفلات الرأسمالية المالية من عقالها وسيطرتها على النظام الرأسمالي العالمي وظهور النيو ليبرالية أدي لنشأة طبقة رأسمالية عربية غير منتجة مرتبطة بالرأسمال العالمي بدأت في احتكار الثروة وزاوجت في عدد من البلدان بين الثروة والسلطة، هذه الطبقات تعرف أن حماية الرأسمالية العالمية لمصالحها ورضا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها من المؤسسات المالية الدولية مرتبط برفضها لفكرة المقاومة وبتخليها الفعلي عن فلسطين وعن فكرة الصراع مع إسرائيل.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: حرکة التحرر مع إسرائیل عبد الناصر عن فلسطین

إقرأ أيضاً:

مصطفى بكري لـ «العربية»: من يدعون إلى التظاهر أما السفارات المصرية يقفون في خندق واحد مع إسرائيل ضد مصر

أكد الكاتب الصحفي مصطفى بكري، عضو مجلس النواب، أن مصر بعد عملية طوفان الأقصى في عام 2023 كانت داعمة للموقف الفلسطيني، مؤكدا أننا كمصريين نعتبر أن هذا واجب علينا وليس منة أو منحة من مصر للفلسطينيين، وأننا نؤمن بأننا كلنا شعب عربي واحد، ونقدر الوحدة العربية.

وقال مصطفى بكري خلال لقائه ببرنامج خارج الصندوق، المذاع على قناة العربية، مساء ليل الاثنين، 28 يوليو 2025 إن «دعوة البعض إلى التظاهر أما السفارات المصرية يقفون في خندق إسرائيل ضد مصر»

ونوه بكري إلى أنه «في عام 2024 وبعد احتلال الجانب الإسرائيلي محور صلاح الدين تم إغلاق إسرائيل لمعبر رفح».

وحول كلام الدكتور خليل الحية، رئيس حركة حماس، أعرب مصطفى بكري عن أسفه قائلا: «يؤسفني أن يقول الدكتور خليل الحية هذا الكلام، انا التقيته لمدة ساعتين في القاهرة، وأكد على تقدير حماس لمواقف الرئيس السيسي ولموقف مصر».

وأشار «بكري» إلى أن خليل الحية اتهم مصر بالتقصير بشكل غير مباشر، مع أنه يعلم أن مصر قدمت الدعم والمساعدات ورفضت التهجير.

وأكد حينما يدعو البعض إلى التظاهر أما السفارات المصرية، فهذا تجني على الموقف المصري.

اقرأ أيضاًمصطفى بكري لـ خليل الحية: مصر لم تقصر في دعم غزة.. وعلى حماس أن تصدر بيانا تقول فيه الحقيقة

مصطفى بكري في هجوم ناري ضد المحرضين: حاصروا سفارات الاحتلال أيها الخونة.. ومصر ستظل تدافع عن فلسطين

مصطفى بكري يرد على ساويرس: «كفاية همبكة».. ثورة يوليو رمز لـ «العدالة» وحقوق الفقراء لا تهمك في شيء

مقالات مشابهة

  • حركة الأحرار الفلسطينية تدين الصمت العربي والعجز الدولي عن وقف جرائم الإبادة في غزة
  • الرئاسة الفلسطينية: بريطانيا ستعترف بـ فلسطين سبتمبر المقبل إذا لم تنهي إسرائيل كارثة غزة
  • العربي الناصري: السفارات ليست ساحة للصراعات.. ومصر تدفع ثمن التزامها تجاه فلسطين
  • حين يُسجَن العربي لأنه ناصر فلسطين.. فهل الغرب حقّا أكثر وفاء؟
  • بروتوكول تعاون بين المحكمة العربية للتحكيم والجهاز العربي للتسويق
  • مصطفى بكري لـ «العربية»: من يدعون إلى التظاهر أما السفارات المصرية يقفون في خندق واحد مع إسرائيل ضد مصر
  • “مجموعة لاهاي” تفضح المشاركة العربية في إبادة غزة
  • عاجل. خليل الحية ينتقد انسحاب إسرائيل من مفاوضات الدوحة رغم التقدم الذي تحقق ويدعو العرب للزحف نحو فلسطين
  • العدو الذي يتحدث لغتك.. خطة إسرائيل الجديدة لاختراق المجتمعات