لجريدة عمان:
2025-05-25@00:29:48 GMT

لينيكر .. والـ BBC.. والجرذان!

تاريخ النشر: 24th, May 2025 GMT

في واحد من أهم مشاهد مسرحية «هاملت» لشكسبير، يذهب هاملت إلى غرفة أمه الملكة جيرترود ليواجهها بشأن زواجها من عمه الملك كلوديوس. وخلال الحوار، يسمع حركة خلف الستارة، فيظن هاملت أن الملك يختبئ هناك، فيصرخ «جرذ! جرذ!» ويطعن الستارة بسيفه، فيقتل بولونيوس؛ والد حبيبته أوفيليا، الذي كان الملك قد طلب منه التجسس على هذا الحوار.

وإذا كان بطل أشهر مسرحية في العالم قد قتل جرذًا، فإن بطل حكايتنا في هذا المقال هو الذي قتله الجرذ، وإن بشكل رمزي! فقد أعلنت قناة الـ BBC «العريقة» يوم الاثنين الماضي (19 مايو 2025) استغناءها عن خدمات جاري لينيكر؛ أحد أهم إعلامييها الرياضيين الذين رافقوا شاشتها منذ عام 1995، والسبب.... جرذ!

كان لينيكر قد أعاد نشر مقطع فيديو على صفحته في أنستجرام بعنوان «الصهيونية في دقيقتين» يتضمن تعليقًا صوتيًا للناشطة الفلسطينية ديانا بوتو، تشرح فيه أن الصهيونية حركة عنصرية تهدف إلى إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف لا مانع لديها من ارتكاب شتى أنواع الجرائم والمجازر والإبادات الجماعية لأطفال ونساء فلسطين، وأهلها بشكل عام. من المعروف طبعًا أن هناك تهمة جاهزة دائمًا يجري إخراجها من الثلاجة لمثل هذه الفيديوهات التي تفضح جرائم الصهاينة، ألا وهي «معاداة السامية»، لكن الثغرة التي جعلتْ تُهمةً متهافتة كهذه قابلة -نسبيًّا- للتصديق هي الجرذ الذي ظهر في المقطع أثناء الحديث عن الصهيونية!

منذ 1940؛ العام الذي ظهر فيه فيلم «اليهودي الأبدي»، والجرذ يُنظَرُ إليه كرمزٍ لمعاداة السامية، حيث إن ذلك الفيلم تضمّن مشهدًا شهيرًا يُظهِر جرذانًا تخرج من المجاري، ثم ينتقل مباشرة إلى لقطات لليهود، وكأن ثمة رابطًا بين المشهدين مفاده أنه «كما أن الجرذان تنشر الطاعون أينما حلت وارتحلت، فإن هؤلاء ينشرون الخراب والدمار أينما ذهبوا». ولأن هذا الفيلم من إنتاج ألمانيا في بدايات الحرب العالمية الثانية، فقد عُدَّ جزءًا من حملة هتلر لتبرير اضطهاد اليهود داخل ألمانيا وخارجها، تمهيدًا لما عُرف لاحقًا بـ«الإبادة الجماعية لليهود».

عرف لينيكر بهذه الخلفية الرمزية للجرذ متأخرًا بعد أن وقع الفأس في الرأس؛ إذ ترك صهاينةُ العالم في إسرائيل وبريطانيا وغيرهما، محتوى المقطع الحقيقي وتشبثوا بالجرذ. هنا لم يجد جاري لينيكر، بُدًّا من الاعتذار وحذف المقطع قائلًا: «أتحمل المسؤولية الكاملة عن هذا الخطأ، وأعتذر بلا تحفظ عن الأذى والانزعاج الذي تسببت فيه»، فهل اكتفت الـ BBC بهذا الاعتذار؟ أم أنها أصرّت على إثبات أنها صهيونية أكثر من الصهاينة؟ لقد طردتْ لينيكر، الذي عمل لديها ثلاثين عاما، مُعلِنةً أنه سيغادر المؤسسة بعد بث الحلقة الأخيرة من برنامجه «Match of the Day»، ولن يشارك في تغطية كأس العالم 2026 أو كأس الاتحاد الإنجليزي، كما أنهت اتفاقية استضافة بودكاسته «The Rest is Football» على منصة BBC Sounds، رغم شعبيته الواسعة، وتشدق المدير العام للمحطة تيم ديفي بأن «سمعة الـ BBC يتحملها الجميع، وعندما يرتكب أحدهم خطأً، فإن ذلك يكلفنا».

ولكن ما هو الخطأ وما هو الصواب في عقيدة الـ BBC؟

الصواب في نظرها هو منح مساحة أكبر للمسؤولين الإسرائيليين مقارنةً بالممثلين الفلسطينيين، ليتاح لهم تقديم الرواية الإسرائيلية بشكل أكثر تفصيلًا وتأثيرًا، رغم أنها كاذبة. والصواب أيضا هو استخدام BBC مصطلحات قوية مثل «مجزرة» و«قتل وحشي» عند الإشارة إلى أي ضحايا إسرائيليين لعمليات مقاومة فلسطينية، مهما كان عددهم ضئيلا، أما سقوط عشرات الأطفال الفلسطينيين في مدرسة، أو عشرات المرضى في مستشفى، فلا يسمى «مجزرة» ولا «إبادة»، وإنما «غارة إسرائيلية» بهدف القضاء على مسلحي حماس الذين «يعملون من مركز قيادتهم داخل المدرسة أو المستشفى»! ويكفي هنا أن أشير إلى أن أكثر من مائة إعلامي في BBC، ومعهم نحو مائة وثلاثين آخرين من مؤسسات إعلامية أخرى، وقعوا في نوفمبر 2023 على رسالة مفتوحة تنتقد تغطية القناة المنحازة لصالح إسرائيل خلال الحرب على غزة، وتجاهل معاناة المدنيين الفلسطينيين، وتتهمها بالفشل في الالتزام بمعاييرها التحريرية المعلنة.

وإذن، فإن BBC تسوّق الآن أنها استغنت عن لينيكر لأنه ارتكب خطأ يُكلفها موضوعيتها، مستغِلَّةً اعتراف الإعلامي الإنجليزي واعتذاره، لكن المتتبّع لسياق الأحداث في السنوات الماضية لن يصعب عليه الاستنتاج أن القناة البريطانية كانت تنتظر فرصة صغيرة لتعاقب لينيكر على مواقفه السابقة، فقد كان يستخدم منصاته على وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن دعمه للفلسطينيين وانتقاده للسياسات الإسرائيلية. على سبيل المثال، شارك في نوفمبر 2023، مقابلةً مع راز سيجال؛ المؤرخ الإسرائيلي والأستاذ المتخصص في دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية، والذي وصف الحرب على غزة بأنها «حالة نموذجية للإبادة الجماعية». ولعلها لم تنس أيضًا أن لينيكر كان أحد الموقعين على رسالة مفتوحة تطالب BBC بإعادة عرض الفيلم الوثائقي «غزة: كيف تنجو في منطقة حرب؟»، بعد أن سحبتْه من إحدى منصاتها عقب وقت قصير من عرضه، رضوخًا لاحتجاجات إسرائيل.

الطريف أن جاري ونستون لينيكر؛ هداف كأس العالم في المكسيك عام 1986، والذي لعب في عدة أندية في إنجلترا وإسبانيا واليابان، بينها نادي برشلونة، لم يتلقَ طوال مسيرته الكروية أية بطاقة صفراء أو حمراء، وكأن حكام المباريات التي خاضها كانوا يدخرون هذه البطاقة لـ BBC. كما أن «ونستون»؛ اسم أبيه، يذكِّر للوهلة الأولى ببطل الرواية الشهيرة لمواطنه جورج أورويل «1984»، ذلك الـ«ونستون» الذي قال ذات مرة لحبيبته جوليا بعد أن استيقظ من أحد الكوابيس: «لا شيء. فأنا لا أحب الجرذان. هذا كل ما في الأمر».

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الذي يحكم الخرطوم يحكم السودان، فهي قلب السودان ومركز ثقله السياسي

الميليشيا تسعى لتثبيت وجودها في أمدرمان باعتبارها جزء من العاصمة، من أجل خلق شرعية بحكم الأمر الواقع تضمن لها وجود في أي معادلة مفاوضات قادمة.وجود الجنجويد في أمدرمان ليس من أجل تموضع عسكري لتنفيذ عمليات هجومية يحققون بها اختراقات تعيد سيطرتهم على الخرطوم، بل من أجل المحافظة على أرض داخل العاصمة برمزيتها التاريخية، تضمن لهم هامش تمثيل سياسي في أي تسوية قادمة..

يعلم الجنجويد أن هزيمتهم في العاصمة تعني خروجهم من المعادلة السياسية، وتحولهم من طرف يفاوض على سلطة وثروة إلى طرف يبحث عن مخرج آمن لجنوده وقادته.

فالذي يحكم الخرطوم يحكم السودان، فهي قلب السودان ومركز ثقله السياسي وعمقه التاريخي..

سيواصل الجنجويد في هجماتهم للمحافظة على موضع نفوذ في العاصمة، وسيواصل الجيش عملياته لتحرير العاصمة من دنس الجنجويد الملاعين، فالخرطوم وأمدرمان وبحري لن تطأها أقدام الجنجويد مجددا بإذن الله وبصبر الرجال وتضحياتهم.

حسبو البيلي

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • ما الذي يعنيه رفع العقوبات على الاقتصاد السوري؟
  • المشروب الذي رافق الأتراك منذ ألف عام.. ما سره؟
  • الليل الذي لا ينام في غزة.. رعب وخوف وندوب نفسية لا تنمحي
  • عدد ركعات صلاة الضحى.. اعرف سر رقم 360 الذي يعادلها
  • الدبلوماسي العاري.. من هو المبعوث الأممي توم فليتشر الذي يقف في وجه إسرائيل؟
  • غلاكسي إس 25 إدج.. ما الذي ضحت به سامسونغ من أجل التصميم الأنيق؟
  • ما الذي تصبو إليه رواندا والكونغو وحركة إم23 من مساعي السلام؟
  • الذي يحكم الخرطوم يحكم السودان، فهي قلب السودان ومركز ثقله السياسي
  • حلم الثري اليهودي فريدمان الذي يسعى سموتريتش لتحقيقه