لجريدة عمان:
2025-12-13@09:32:27 GMT

لينيكر .. والـ BBC.. والجرذان!

تاريخ النشر: 24th, May 2025 GMT

في واحد من أهم مشاهد مسرحية «هاملت» لشكسبير، يذهب هاملت إلى غرفة أمه الملكة جيرترود ليواجهها بشأن زواجها من عمه الملك كلوديوس. وخلال الحوار، يسمع حركة خلف الستارة، فيظن هاملت أن الملك يختبئ هناك، فيصرخ «جرذ! جرذ!» ويطعن الستارة بسيفه، فيقتل بولونيوس؛ والد حبيبته أوفيليا، الذي كان الملك قد طلب منه التجسس على هذا الحوار.

وإذا كان بطل أشهر مسرحية في العالم قد قتل جرذًا، فإن بطل حكايتنا في هذا المقال هو الذي قتله الجرذ، وإن بشكل رمزي! فقد أعلنت قناة الـ BBC «العريقة» يوم الاثنين الماضي (19 مايو 2025) استغناءها عن خدمات جاري لينيكر؛ أحد أهم إعلامييها الرياضيين الذين رافقوا شاشتها منذ عام 1995، والسبب.... جرذ!

كان لينيكر قد أعاد نشر مقطع فيديو على صفحته في أنستجرام بعنوان «الصهيونية في دقيقتين» يتضمن تعليقًا صوتيًا للناشطة الفلسطينية ديانا بوتو، تشرح فيه أن الصهيونية حركة عنصرية تهدف إلى إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف لا مانع لديها من ارتكاب شتى أنواع الجرائم والمجازر والإبادات الجماعية لأطفال ونساء فلسطين، وأهلها بشكل عام. من المعروف طبعًا أن هناك تهمة جاهزة دائمًا يجري إخراجها من الثلاجة لمثل هذه الفيديوهات التي تفضح جرائم الصهاينة، ألا وهي «معاداة السامية»، لكن الثغرة التي جعلتْ تُهمةً متهافتة كهذه قابلة -نسبيًّا- للتصديق هي الجرذ الذي ظهر في المقطع أثناء الحديث عن الصهيونية!

منذ 1940؛ العام الذي ظهر فيه فيلم «اليهودي الأبدي»، والجرذ يُنظَرُ إليه كرمزٍ لمعاداة السامية، حيث إن ذلك الفيلم تضمّن مشهدًا شهيرًا يُظهِر جرذانًا تخرج من المجاري، ثم ينتقل مباشرة إلى لقطات لليهود، وكأن ثمة رابطًا بين المشهدين مفاده أنه «كما أن الجرذان تنشر الطاعون أينما حلت وارتحلت، فإن هؤلاء ينشرون الخراب والدمار أينما ذهبوا». ولأن هذا الفيلم من إنتاج ألمانيا في بدايات الحرب العالمية الثانية، فقد عُدَّ جزءًا من حملة هتلر لتبرير اضطهاد اليهود داخل ألمانيا وخارجها، تمهيدًا لما عُرف لاحقًا بـ«الإبادة الجماعية لليهود».

عرف لينيكر بهذه الخلفية الرمزية للجرذ متأخرًا بعد أن وقع الفأس في الرأس؛ إذ ترك صهاينةُ العالم في إسرائيل وبريطانيا وغيرهما، محتوى المقطع الحقيقي وتشبثوا بالجرذ. هنا لم يجد جاري لينيكر، بُدًّا من الاعتذار وحذف المقطع قائلًا: «أتحمل المسؤولية الكاملة عن هذا الخطأ، وأعتذر بلا تحفظ عن الأذى والانزعاج الذي تسببت فيه»، فهل اكتفت الـ BBC بهذا الاعتذار؟ أم أنها أصرّت على إثبات أنها صهيونية أكثر من الصهاينة؟ لقد طردتْ لينيكر، الذي عمل لديها ثلاثين عاما، مُعلِنةً أنه سيغادر المؤسسة بعد بث الحلقة الأخيرة من برنامجه «Match of the Day»، ولن يشارك في تغطية كأس العالم 2026 أو كأس الاتحاد الإنجليزي، كما أنهت اتفاقية استضافة بودكاسته «The Rest is Football» على منصة BBC Sounds، رغم شعبيته الواسعة، وتشدق المدير العام للمحطة تيم ديفي بأن «سمعة الـ BBC يتحملها الجميع، وعندما يرتكب أحدهم خطأً، فإن ذلك يكلفنا».

ولكن ما هو الخطأ وما هو الصواب في عقيدة الـ BBC؟

الصواب في نظرها هو منح مساحة أكبر للمسؤولين الإسرائيليين مقارنةً بالممثلين الفلسطينيين، ليتاح لهم تقديم الرواية الإسرائيلية بشكل أكثر تفصيلًا وتأثيرًا، رغم أنها كاذبة. والصواب أيضا هو استخدام BBC مصطلحات قوية مثل «مجزرة» و«قتل وحشي» عند الإشارة إلى أي ضحايا إسرائيليين لعمليات مقاومة فلسطينية، مهما كان عددهم ضئيلا، أما سقوط عشرات الأطفال الفلسطينيين في مدرسة، أو عشرات المرضى في مستشفى، فلا يسمى «مجزرة» ولا «إبادة»، وإنما «غارة إسرائيلية» بهدف القضاء على مسلحي حماس الذين «يعملون من مركز قيادتهم داخل المدرسة أو المستشفى»! ويكفي هنا أن أشير إلى أن أكثر من مائة إعلامي في BBC، ومعهم نحو مائة وثلاثين آخرين من مؤسسات إعلامية أخرى، وقعوا في نوفمبر 2023 على رسالة مفتوحة تنتقد تغطية القناة المنحازة لصالح إسرائيل خلال الحرب على غزة، وتجاهل معاناة المدنيين الفلسطينيين، وتتهمها بالفشل في الالتزام بمعاييرها التحريرية المعلنة.

وإذن، فإن BBC تسوّق الآن أنها استغنت عن لينيكر لأنه ارتكب خطأ يُكلفها موضوعيتها، مستغِلَّةً اعتراف الإعلامي الإنجليزي واعتذاره، لكن المتتبّع لسياق الأحداث في السنوات الماضية لن يصعب عليه الاستنتاج أن القناة البريطانية كانت تنتظر فرصة صغيرة لتعاقب لينيكر على مواقفه السابقة، فقد كان يستخدم منصاته على وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن دعمه للفلسطينيين وانتقاده للسياسات الإسرائيلية. على سبيل المثال، شارك في نوفمبر 2023، مقابلةً مع راز سيجال؛ المؤرخ الإسرائيلي والأستاذ المتخصص في دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية، والذي وصف الحرب على غزة بأنها «حالة نموذجية للإبادة الجماعية». ولعلها لم تنس أيضًا أن لينيكر كان أحد الموقعين على رسالة مفتوحة تطالب BBC بإعادة عرض الفيلم الوثائقي «غزة: كيف تنجو في منطقة حرب؟»، بعد أن سحبتْه من إحدى منصاتها عقب وقت قصير من عرضه، رضوخًا لاحتجاجات إسرائيل.

الطريف أن جاري ونستون لينيكر؛ هداف كأس العالم في المكسيك عام 1986، والذي لعب في عدة أندية في إنجلترا وإسبانيا واليابان، بينها نادي برشلونة، لم يتلقَ طوال مسيرته الكروية أية بطاقة صفراء أو حمراء، وكأن حكام المباريات التي خاضها كانوا يدخرون هذه البطاقة لـ BBC. كما أن «ونستون»؛ اسم أبيه، يذكِّر للوهلة الأولى ببطل الرواية الشهيرة لمواطنه جورج أورويل «1984»، ذلك الـ«ونستون» الذي قال ذات مرة لحبيبته جوليا بعد أن استيقظ من أحد الكوابيس: «لا شيء. فأنا لا أحب الجرذان. هذا كل ما في الأمر».

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

حسين فخري باشا.. القائد الذي دمج التعليم والبنية تحتية بروح مصرية

حسين فخري باشا شخصية لا يمكن تجاهلها عند الحديث عن تاريخ مصر الحديث، فهو مثال حي على الإنسان المصري الذي جمع بين العلم، الخبرة، والوطنية الحقيقية. 

ولد في القاهرة عام 1843 في عائلة شركسية مرموقة، والده الفريق جعفر صادق باشا كان حكمدار السودان، ما منح حسين منذ صغره فرصة التعلم في بيئة تتسم بالمسؤولية والانضباط. 

منذ أيامه الأولى، كانت حياة حسين فخري باشا شهادة على الطموح والالتزام، إذ بدأ مسيرته الإدارية كمساعد للمحافظة عام 1863، قبل أن ينتقل إلى نظارة الخارجية، ثم ترسل إليه الحكومة المصرية لتأدية مهمة في باريس، حيث درس العلوم القانونية وعاد إلى مصر عام 1874 محملا بالعلم والخبرة، مستعدا لخدمة وطنه في عهد الخديوي إسماعيل.

لم يكن حسين فخري باشا مجرد سياسي عادي، بل كان عقلا منظما وفكرا مصلحيا، فقد شغل مناصب عدة، من ناظر للحقانية إلى وزير للمعارف والأشغال العمومية، وصولا إلى رئاسة مجلس الوزراء لفترة قصيرة، لكنه رغم قصر مدتها، ترك بصمة قوية في المشهد السياسي. 

في وزارة رياض باشا الأولى عام 1879، ترأس لجنة لوضع قوانين جديدة للحقانية وفق المعايير الأوروبية، محاولة منه لتحديث النظام القضائي وتنظيم المحاكم الأهلية والشرعية، رغم أن الثورة العرابية أوقفت هذا المشروع لفترة. 

ولم يكتف بذلك، فقد استمر في مسيرته الإدارية والسياسية، مطورا البنية القانونية لمصر، وأثبت في كل موقف قوته الفكرية وقدرته على الدفاع عن مصالح وطنه ضد الضغوط الخارجية، كما حدث عندما صدم المشروع البريطاني لإصلاح القضاء المعروف بمشروع سكوت.

إنجازات حسين فخري باشا في وزارة المعارف والأشغال العمومية كانت حجر الزاوية لتطوير مصر في شتى المجالات، فهو أول من أدخل تعليم الدين والسلوك في المدارس الابتدائية عام 1897، واهتم بالكتاتيب الأهلية وعمل على تشجيع تعليم البنات، مما يعكس رؤيته المستقبلية لمجتمع واع ومثقف. 

كما أصر على بناء مدارس قوية ومؤسسات تعليمية متينة، أنشأ قسما للمعلمات، وأولى اهتماما خاصا بتعليم المعلمين الأوليين، كل هذا ليضمن للأجيال القادمة تعليما متينا يواكب العصر. 

وفي جانب الأشغال العمومية، كان له دور بارز في مشاريع الري والبنية التحتية، من بناء القناطر والسدود، إلى التخزين السنوي للنيل وضبط مياهه، ما ساهم في تطوير الزراعة وتحسين حياة المصريين في الوجه القبلي، وأدخل مصر عصر التخطيط الحضري الحديث.

حياة حسين فخري باشا لم تكن مجرد منصب وسلطة، بل كانت رسالة وطنية صادقة، فقد جمع بين العلم والخبرة والإدارة، وكان مثالا للمسؤولية والأمانة الوطنية، يظهر حب مصر في كل قراراته وأفعاله. 

ليس أدل على ذلك من اهتمامه بالحفاظ على التراث المصري والانخراط في الجمعيات العلمية والجغرافية ولجنة العاديات، ليترك إرثا حضاريا للمستقبل. 

كذلك حياته العائلية تربط بين السياسة والدبلوماسية، إذ كان والد محمود فخري باشا، سفير مصر في فرنسا، وزوج الأميرة فوقية كريمة الملك فؤاد، ما يعكس أيضا ارتباط عائلته بخدمة الوطن على أعلى المستويات.

حين نتأمل مسيرة حسين فخري باشا، ندرك أن مصر لم تبنى بالصدفة، بل بجهود رجال مثل هذا الرجل الذي جمع بين الوطنية، الكفاءة، والرؤية البعيدة. 

إنه نموذج للقيادي الذي يضع مصلحة بلده قبل كل اعتبار، الذي يفكر في أجيال المستقبل، ويترك بصمته في كل جانب من جوانب الحياة العامة. 

حسين فخري باشا ليس مجرد اسم في كتب التاريخ، بل هو مثال حي على روح مصر الحقيقية، على قدرة المصريين على مواجهة التحديات والعمل بجد وإخلاص لبناء وطن قوي ومزدهر، وهو درس لكل من يسعى لفهم معنى الوطنية الحقيقية وحب مصر العميق.

مقالات مشابهة

  • ما أهمية إقليم دونباس الأوكراني الذي تسيطر روسيا على معظمه؟
  • "الناجي الوحيد".. لقب "بتول" الذي جردها الفقد معانيه
  • أحمد زيور باشا.. الحاكم الذي جمع القوة والعقل والإنسانية
  • حسين فخري باشا.. القائد الذي دمج التعليم والبنية تحتية بروح مصرية
  • جلال كشك.. الذي مات في مناظرة على الهواء مباشرة وهو ينافح عن رسول الله
  • ما الذي يحسم مصير خطة نزع سلاح العمال الكردستاني؟
  • الفرق بين الورم والسرطان.. ما الذي يجب معرفته؟
  • من الذي فتح باب حمام الطائرة الرئاسية رغمًا عن ترامب «فيديو»
  • العثور على جثمان الطفل الذي جرفته السيول في كلار
  • يونيسيف تحذر من سوء التغذية الذي تعاني منه الحوامل والمرضعات في غزة