قبل سنة ونيف؛ عندما كنتُ أقرأ كتاب «كلنا مريم»، وكان محمد المرجبي قد وصل فـي سرده إلى بشارة وصلتْه من مستشفى الجامعة أن ابنته ستخرج من العناية المركزة إلى جناح الأطفال، شرع المرجبي يصف فرحته العارمة بهذا الخبر وفرحة المحيطين به. استوقفني فـي سرده عبارة: «بكى زميلي وصديقي محمود عبيد بشدة من الفرح وأبكاني معه.
بعد فترة قصيرة من قراءتي لكتاب المرجبي، كنتُ وإياه عائدَيْن من عزاء فـي الشرقية فـي رمضان، وبينما نحن فـي أحد مقاهي الجرداء (بولاية المضيبي) أتى ذكر محمود فسألتُه عن تلك العبارة، فكان جوابه: «ليس فقط البكاء فرحًا لسلامتها، بل إن محمود فـي مناسبة أخرى ذبح ذبيحة»! لكن المرجبي أبى أن نغادر ذلك المقهى فـي رحلة العودة إلى مسقط دون أن يصدمني بنبأٍ محزن، طالبًا مني ألا أخبر به أحدًا لأن صاحب الشأن نفسه لا يريده أن ينتشر: «محمود مصاب بالسرطان»!
كان ذلك مساء الأربعاء 20 مارس 2024، وأول ما تبادر إلى ذهني وأنا أستمع إلى محمد أن أسأله: «فـي أي درجة بالضبط؟»، أجاب: «لا أعرف. لكنها ليست الأولى على أية حال». شخصتُ ببصري إلى السماء فـي محاولة على ما يبدو لتهوين وقع الخبر عليّ، وأنا أستعيد شريطًا طويلًا من الذكريات مع محمود الذي يضع فـي «بروفايله» على الواتساب صورتَه وهو يقبل قدم أمه. تذكرتُ قفشاته فـي مكان كنّا نستريح فـيه فـي الإذاعة نسميه «المطراح»، وأنه منذ صار مديرًا لإحدى دوائر الإذاعة وهو لا يملّ من ابتكار المناسبات لتكريم زملائه الإذاعيين فـي احتفالات بسيطة لكنها تبعث السرور فـي نفوسهم، وتُشْعرهم بالاهتمام، لكنّه حين آن أوان تقاعده فـي الأول من يونيو 2020 - فـي خضمّ جائحة كورونا - لم يجد للأسف من يودعه ويحتفل به فـي ذلك الظرف الصعب. بيد أنّ ما يمكن عَدُّه تمرينًا على هذا الوداع حدث قبل هذا التقاعد بنحو خمس سنوات، وتحديدًا حين غادر الإذاعة فـي أحد أيام ديسمبر من عام 2015 تاركا منصب مدير دائرة التسجيل والتنفـيذ إلى خبير فـي قطاع الإنتاج الدرامي خارج مبنى الإذاعة، أذكر أن الحزن يومئذ خيم علينا كثيرًا. ذلك أن الحسني كان صديقا للجميع تقريبا، وبالإضافة إلى خفة ظله كان لطيف المعشر وكريمًا، إذْ ظل مكتبه المقابل لمكتبي، مفتوحًا دومًا حتى وهو غير موجود، وعامرًا يوميا بالشاي والقهوة والحلوى وأطايب الطعام، يدخله الجميع؛ من أكبر مسؤول إلى أصغر موظف.
بعد نحو أسبوعين من معرفتي بمرضه رأيتُ محمود فـي الإذاعة فـي إحدى زياراته لها التي لم تنقطع. كان عليّ ألا أُظهِر له أنني عرفتُ شيئًا. ما لفتَني أنه لم يكن مختلفًا البتة عن محمود السابق الذي أعرفه؛ شعلة نشاط، متوقد الذهن، حاضر البديهة، ولم يفقد روحه المرحة. لم يبدُ عليه أبدًا أنه مريض. إنها قوة الإيمان بالله والتفاؤل وحس المسؤولية التي ظلت مصاحبة للحسني منذ أن كان عريفًا للصف فـي المدرسة الابتدائية، إلى درجة أنه إذا أراد أحد زملائه الصغار إحضار طبشور من الصف المجاور فإن عليه أن يستأذن أولًا من محمود، كما يروي زميل دراسته الصحفـي حمود الطوقي. هذا الحس بالمسؤولية سيكبر معه، وسيتجسد فـي أمور كثيرة، لكن يمكننا اختزاله فـيما كتبه زاهر المحروقي فـي مقاله «مياه جارية تحت أقدامنا تذهب هدرًا»، الذي تحدث فـيه عن عودة فلج «بيت الفلج»، المتوقف لسنوات، للجريان من جديد بعد إعصار جونو عام 2007، ليصبّ فـي البحر هذه المرة على مدى خمسة عشر عامًا، دون الاستفادة منه. يقول المحروقي: «وقد تنبّه باكرًا الزميل الإعلامي محمود بن عبيد الحسني إلى مسألة هدر المياه الجوفـية، فأعدّ أكثر من عشرين تقريرًا مصورًا عن المياه التي تُهدَر فـي أكثر من مكان، من القرم إلى العامرات وروي وبعض المناطق الداخلية وغيرها، ومع ذلك مرّت تلك التقارير مرورًا باردًا دون أن تحرّك ساكنًا، وكانت كفـيلة بأن تقضّ مضاجع النُوَّم وتوقظهم من أحلامهم الوردية».
يرقد محمود عبيد اليوم فـي مركز السلطان قابوس المتكامل لعلاج وبحوث السرطان، محفوفًا بدعوات أصدقائه وزملائه ومحبيه أن ينعم الله عليه بالشفاء العاجل. يقاوم المرض فـيما تتصدّر صورتُه منذ عدة أيام قصص الفـيسبوك وحالات الواتساب، وهذا لَعَمْري دليل على أن «من يفعل الخير لا يعدم جوازيه» كما يقول الشاعر، وأن التعامل الإنساني هو ما يبقى للمرء، وأن محبة الناس لا يمكن أن يضاهيها أي شيء آخر.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
بعد زلزال روسيا المدمر.. هيئة الإذاعة اليابانية: تسونامي يصل إلى شمال جزيرة هوكايدو
أكدت هيئة الإذاعة اليابانية، أن تسونامي وصل إلى شمال جزيرة هوكايدو بعد زلزال قبالة شبه جزيرة كامتشاتكا الروسية، وفقا لسكاي نيوز.
وقالت وكالة تاس الروسية، إن هناك تحذير من احتمال حدوث موجات تسونامي في جميع جزر الكوريل.
وحذّرت السلطات اليابانية من أن أمواج مدّ عال يصل ارتفاعها إلى متر واحد ستضرب ساحل الأرخبيل بعد الزلزال قبالة الساحل الروسي لشبه جزيرة كامتشاتكا.
وقالت هيئة الأرصاد الجوية اليابانية، إن أمواج تسونامي ستضرب المنطقة بصورة متكررة. يُرجى عدم الخروج إلى البحر أو الاقتراب من الساحل إلى أن يتم رفع التحذير، وفقا لسكاي نيوز.
وتوقعت الحكومة اليابانية وصول التسونامي لارتفاع 3 أمتار في مناطق ساحلية على طول المحيط الهادئ.
ووقع الزلزال على بعد حوالي 250 كيلومترا من جزيرة هوكايدو ولم يشعر به الكثير من الناس، وفقا لتلفزيون "إن إتش كيه" الياباني.