نوبل للكيمياء 2023.. كيف يمكن أن نضع العالم كله على رأس دبوس؟
تاريخ النشر: 5th, October 2023 GMT
في عام 1959، ألقى الفيزيائي الأميركي ريتشارد فاينمان محاضرة مؤثرة في اجتماع الجمعية الفيزيائية الأميركية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا تحت عنوان "هناك مساحة كبيرة في القاع"، قدم فاينمان أفكارا حول معالجة التركيب الذري للمواد بوصفه وسيلة لخلق مجال جديد للكيمياء الاصطناعية، يمكن فيه إنشاء آلات صغيرة جدا بحيث يمكن أن نضع كميات كبيرة منها على رأس دبوس.
في تلك الفترة، ظن البعض أن فاينمان يُلقي بتخمينات بعيدة جدا عن أرض الواقع، لكن صدِّق أو لا تُصدِّق فهذه التخمينات أصبحت حقيقة في عالم النانو، وهي الآن السبب في حصول ثلاثة من العلماء المقيمين في الولايات المتحدة، منجي الباوندي وأليكسي إكيموف ولويس بروس، على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2023، عن ابتكارهم وتطويرهم لتقنية فريدة سُميت بالنقاط الكمومية.
كرة هايزنبرغ العجيبة
ولفهم مدى العجب في هذا الكشف، دعنا نسافر بالزمن نحو مئة سنة حينما صاغ فيرنر هايزنبرغ مبدأ عدم اليقين الذي ينص على أنه لا يمكن تحديد خاصيتين مُقاستين من خصائص نظام كمومي -نسبة إلى الكم- معا، إلا ضمن حدود معينة من الدقة. وأشهر الأمثلة هنا هو استحالة حساب موضع وسرعة الإلكترون معا في الوقت نفسه، بل يمكن تحديد أحدهما بدرجة تقترب من اليقين، والآخر بدرجة تبتعد عنه.
هذا بالطبع كلام معقد، لكن لتقريب الأمر دعنا نتأمل حياتنا اليومية، في أي لحظة تقود سيارتك يمكنك أن تخبرنا بسرعتك وموضعك، فتقول: "أنا الآن في هذه النقطة بين قرية كذا وقرية كذا، وأسير بسرعة 80 كم بالساعة"، غوغل نفسه يفعل ذلك في تطبيق الخرائط، فيخبر الواحد منا بموضعه وسرعته الآن.
لكن رغم ما يبدو من بديهة في هذا فإن الكون يأبى على الجسيمات دون الذرية أن تمتلك موضعا وسرعة محددين بدقة مثلما فعلت أنت بسيارتك قبل قليل، ولو افترضنا أننا كبّرنا حجم الإلكترون ليصبح بحجم كرة بلياردو (وما زالت القوانين الكمومية نفسها تجري عليه) ثم وضعناه في صندوق مغلق، فإنه سيتحرك داخل الصندوق بشكل محموم متخبطا في جدرانه الأربعة، وربما كسرها، لأنك بوضعه في الصندوق تحاول تحديد موضعه ولو بشكل تقريبي.
يشبه الإلكترون هنا شخصا مصابا برهاب الغرف المغلقة، حينما تغلق الغرفة يتوتر ولا يقف على حال أبدا. وبالنسبة للإلكترون، فإنه لا يوجد شيء يدفعه لذلك، إنها فقط قوانين الكون التي تنص عليه -أو قُل تجبره- ألا يمتلك موضعا محددا وسرعة محددة في آنٍ واحد، ولا يسمح فقط إلا بدرجات احتمالية تتقيد بـ"مبدأ عدم اليقين"، وكلما كانت الغرفة أضيق كان الإلكترون مرتابا ومتوترا أكثر، وبالتبعية ارتفعت ضرباته لجدران الحجرة.
عالم النانو الصغير جداكانت هذه هي الفكرة التي انطلق منها الحاصلون على نوبل للكيمياء هذا العام، ببساطة لأنك حينما تقوم بحصر الإلكترون في حجرات مختلفة المساحة، فإنه يتصرف بأشكال مختلفة، بمعنى أكثر قربا للفيزياء: فإنه كلما وضعت الإلكترون في مساحة أضيق فإن الدالة الموجية الخاصة به تنضغط لتصبح طاقتها أكبر، وبالتبعية فإن ما يصدر عنها من ضوء يتغير، فيميل أكثر ناحية الضوء الأزرق في حالة الغرف ذات المساحات الأصغر، والعكس تماما في حالة المساحات الأوسع، حيث يميل الضوء الخارج ناحية اللون الأحمر، يحدث ذلك لأن التغير في أطوال أمواج وتردد الضوء يغير من لونه، ونحن نعرف أن الضوء الأبيض ما هو إلا مزيج من عدة ألوان.
لكن تلك الغرف التي نقصدها في حديثنا ليست بحجم غرفنا المعتادة ولا حتى بحجم أقفاص العصافير في الشرفة، نتحدث هنا عن حجز الإلكترونات في غرف بحجم النانو، ويساوي النانومتر الواحد 1 على مليار من المتر!
ولإعطاء فكرة عن المقياس النانوي، أمسك الآن بورقة واحدة، مجرد ورقة بيضاء كنت تجهزها لتستذكر دروسك أو ربما لكتابة ميزانية الشهر، يبلغ سُمك هذه الورقة نحو 75 ألف نانومتر، هل تتخيل ذلك؟ إذا افترضنا أن هناك شخصا ما بطول نانومتر واحد فإن الورقة البيضاء تلك ستكون -بالمقارنة- مبنى كبيرا كفاية ليتخطى ارتفاعه غلافنا الجوي، لأنه سيحتوي على قرابة عشرين إلى ثلاثين ألف دور! ولو كانت كل الكرة الأرضية التي نعيش عليها بعرض متر واحد فقط، لكان النانومتر الواحد بحجم "بلية" زجاجية صغيرة.
إكيموف وبروس والكرات الصغيرة السحرية
في تلك النقطة يظهر أليكسي إكيموف، أول الحاصلين على نوبل هذا العام، الذي اعتقد أن مادة واحدة يمكن أن تنتج زجاجا بألوان مختلفة، وكان افتراضا غريبا جدا وقتها، فمن المعروف أن لكل مادة لونا، ولإنتاج اللون الأحمر سنحضر المادة التي تنتج اللون الأحمر، وإذا أردنا إنتاج اللون الأصفر فسنحتاج إلى صبغة اللون الأصفر، لكن الحديث عن مادة واحدة تعطي ألوانا مختلفة أشبه ما يكون بالحديث عن السحر الأسود مثلا!
خلال السبعينيات من القرن الفائت، قرر إكيموف إنتاج الزجاج الملون بكلوريد النحاس، عبر تسخين الزجاج إلى نطاق 500-700 درجة مئوية، وبمجرد أن يبرد الزجاج ويتصلب تتكون داخله بلورات صغيرة من كلوريد النحاس تشكلت بحجم نحو 2 نانومتر فقط، وفي عينات أخرى وصل حجم البلورات إلى 30 نانومترا، قام إكيموف بتمرير الأشعة السينية عبر الزجاج ولاحظ أن الضوء الصادر من تلك البلورات الصغيرة جدا كان متنوعا بناء على تنوع أحجامها، كانت هذه هي أولى النقاط الكمومية، وهي عبارة عن بلورات تتكون غالبا من بضعة آلاف من الذرات فقط.
في تجارب إكيموف كلما كانت بلورات كلوريد النحاس أصغر، كان الضوء الذي امتصته أكثر زُرقة، وكلما كانت أكبر، كان الضوء أكثر حُمرة. كانت هذه هي المرة الأولى التي ينجح فيها شخص ما في إنتاج النقاط الكمومية عمدا، وفي عام 1981 نشر إكيموف اكتشافه في مجلة علمية سوفيتية.
أما لويس بروس، العالم الثاني الذي حصل على نوبل هذا العام، فقد توصل إلى الكشف نفسه بشكل منفصل تماما عام 1983، حينما كان يعمل في مختبرات بيل في الولايات المتحدة الأميركية على مادة كبريتيد الكادميوم، التي أنتج منها بلورات يبلغ قطرها نحو 4.5 نانومترات فقط، واختلفت خصائصها البصرية كذلك عن البلورات الأكبر بقطر 12.5 نانومترا.
الباوندي يفتح الباب لعالم جديد
بعد ذلك، تبين للعالمين أن الأمر يتخطى حاجز الألوان تماما، فكلٌّ من تلك البلورات كانت له خصائص ضوئية وفيزيائية وكيميائية فريدة، وكان ذلك غريبا! تصور أن مادتين تتكونان من المركب نفسه ومن الذرات نفسها ولكنهما تختلفان في صفات مثل التوصيلية الكهربية ودرجة الغليان والخواص المغناطيسية والخواص الضوئية، بل وقدرة كلٍّ منهما على تحفيز التفاعل الكيميائي. وكأن مستوى النانو قد أضاف إلى المادة بُعدا جديدا تماما، بحيث يصبح الحجم -إلى جانب التركيب الكيميائي- مهما جدا.
خلال الثمانينيات من القرن الفائت كان هناك مشكلة واحدة فقط، وهي أن الأساليب التي استخدمها إكيموف وبروس تعطي بلورات ضعيفة الجودة وبأحجام مختلفة، لم يكن من الممكن التحكم في حجمها بحيث يكون الإنتاج حسب الطلب، وهنا تحديدا يظهر مُنجي الباوندي.
وُلد الباوندي في باريس، وهو ابن عالم الرياضيات محمد صلاح الباوندي، الذي تنقل بين فرنسا وتونس بينما كان مُنجي طفلا، ثم انتقل للعيش في الولايات المتحدة الأميركية، وهناك عمل أستاذا للرياضيات في جامعة كاليفورنيا، ويبدو أن مُنجي الصغير عشق العلوم مثل أبيه ليكبر اليوم ويصبح أستاذا بمعهد ماساتشوستس للتقنية، ويُعد واحدا من بين الكيميائيين الأكثر اقتباسا في العقد الماضي، وقد حصل على جائزة "كلاريفيت" الخاصة باقتباسات أبحاث العلماء في عام 2020.
عندما بدأ الباوندي العمل في مختبر يحمل اسمه بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تمكَّن في عام 1993 من حقن سيلينيد الكادميوم، الذي يُشكِّل البلورات النانوية، في مذيب ساخن اختير بعناية، مما أدى إلى ظهور بلورات صغيرة بعد البرودة، ولكن مع تسخين المحلول نجح الباوندي وفريقه البحثي في رفع حجم البلورات بالتدريج، إلى أي حجم نريده، تسمى تلك الطريقة بـ"الحقن السريع"، وهي الآن الطريقة الأكثر استخداما في كيمياء النقاط الكمومية، بلورات الباوندي النانوية كانت مثالية تقريبا، وكانت هذه الجودة العالية ضرورية لاستخدامها في التطبيقات العملية.
تطبيقات متنوعة
ولا بد أنك على معرفة ببعض تطبيقات النقاط الكمية، هل سمعت من قبل عن تقنية "كيو ليد" (QLED) في شاشات العرض التلفزيوني أو الحاسوب؟ حرف "Q" في هذه التقنية نسبة إلى "النقاط الكمومية" (Quantum Dot Light Emitting Diode)، التقنية التي استُخدمت لتعزيز دقة الألوان والسطوع وكفاءة استخدام الشاشات حول العالم للطاقة مقارنة بالشاشات المعتادة من نوعية "إل سي دي" (LCD).
تُستخدم النقاط الكمومية كذلك مجسات فلورية ملونة في عمليات التصوير البيولوجي والتشخيص، حيث تسمح خصائصها البصرية الفريدة بالتصوير عالي الدقة للخلايا والأنسجة وحتى الجزيئات الفردية، ويمكن استخدامها لتتبع العمليات الخلوية ودراسة تفاعلات وحركة والتفاف البروتين، والكشف عن الأمراض مثل السرطان.
وتُستخدم النقاط الكمومية كذلك في الخلايا الشمسية لتعزيز كفاءتها من خلال التقاط نطاق أوسع من الأطوال الموجية الضوئية، وبالطبع تُستخدم في الإضاءة لإنتاج ألوان أكثر طبيعية وحيوية مقارنة بالمصابيح التقليدية.
وإلى جانب ذلك يمكن استخدام النقاط الكمومية بوصفها أجهزة استشعار حساسة للكشف عن المواد المختلفة في الهواء، مثل المعادن الثقيلة والغازات والتغيرات في درجات الحرارة والجزيئات البيولوجية، وتُعد النقاط الكمومية مرشحا واعدا لبناء الكيوبتات (وهي البتات الكمومية) في أنظمة الحوسبة الكمومية نظرا لقدرتها على حصر الإلكترونات على المستوى النانوي. كل هذا ولم نتحدث عن إمكانات النقاط الكمومية الواعدة في عمليات تخزين الطاقة، تحديدا تقنيات مثل البطاريات والمكثفات الفائقة.
في النهاية، فإن هذا الابتكار قد فتح الباب لرؤية مختلفة للعالم، حيث دائما ما افترضنا أن المادة ليست إلا ما يكوّنها من ذرات، وأن خصائصها لا تتغير إلا في نطاق محدود مهما عبثت بتركيبها، لكننا الآن أمام جوقة ضخمة من الخصائص للمادة نفسها التي تختلف باختلاف شيء واحد فقط، وهو حجم هذه المادة وليس تركيبها، هذا غريب حقا ويفتح الباب لتأمل حجمنا نحن البشر في هذا الكون، فنحن نقف في عالم متوسط بين عالمين، الأول يحتوي على المجرات هائلة الضخامة بحيث يبدو نظامنا الشمسي كاملا بالنسبة لها أقل في الحجم من حبة رمل، والثاني صغير جدا جدا بحجم النانو، لا يمكن أن نراه أو ندرك وجوده أصلا إلا عبر ميكروسكوبات فائقة القوة.
————————————————————–
مصدر1- The Nobel Prize in Chemistry 2023
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: النقاط الکمومیة کانت هذه یمکن أن فی عام
إقرأ أيضاً:
يهودي تونسي يضع النقاط على الأحرف: الصهيونية تساوي معاداة السامية
اسمه "جيرار حداد" ومهنته طبيب، وعنوان كتابه الذي صدر مؤخرا باللغة الفرنسية "الصهيونية عنصرية واستعمارية". وجاء الكتاب ردا على ما يحدث في غزة، ووصف المرحلة الحالية بالحالكة، يصعب خلالها التفكير بحرية، متهما وسائل الاعلام الفرنسية بالانحياز، فإن شعرت بكونك صاحب رأي نقدي للسياسة الإسرائيلية ولست مدعوما من تل أبيب لا يمنحوك الفرصة للتعبير عن قناعاتك، ويتهمونك آليا بمعاداة السامية، ويقصونك من الفضاء العام بكل فاشية. لهذا طرح سؤالا وقرر الإجابة عنه بكل مسؤولية: كيف وصل الشعب اليهودي الذي عانى طيلة تاريخه الطويل من الاضطهاد إلى أن يتحول إلى شعب يضطهد شعبا آخر تربط بينهما علاقات أخوّة، حسب تعبيره؟
اعتبر الكاتب في حوار له أن الطغمة الحاكمة في إسرائيل فقدت الشعور بالإنسانية، وأقر بأنه كان في يوم من الأيام صهيونيا، وقضى ثلاث سنوات من عمره في إسرائيل، تألم خلالها كثيرا، وعايش الانتفاضة الأولى، مؤكدا على أنه يملك معرفة جيدة بالمجتمع الإسرائيلي، الذي يعيش تحت وقع التوترات الشديدة والمستمرة، وأنه مشحون بالكراهية المتبادلة بين مكوناته. واكتشف هناك أن القول بأن الصهيونية هي العدالة والمحبة؛ كذبة كبيرة. وأشار في هذا السياق إلى يهود روسيا وأوكرانيا الذين تم اتهامهم بالوقوف وراء اغتيال القيصر، وبناء عليه تعرضوا لحملة شرسة، وتم خلال هذه المحنة التفكير في نقلهم إلى الأرجنتين.
الطغمة الحاكمة في إسرائيل فقدت الشعور بالإنسانية، وأقر بأنه كان في يوم من الأيام صهيونيا، وقضى ثلاث سنوات من عمره في إسرائيل، تألم خلالها كثيرا، وعايش الانتفاضة الأولى، مؤكدا على أنه يملك معرفة جيدة بالمجتمع الإسرائيلي، الذي يعيش تحت وقع التوترات الشديدة والمستمرة، وأنه مشحون بالكراهية المتبادلة بين مكوناته
يعتقد السيد جيرار بأن الفلسطينيين قبلوا بكل تلقائية استقبال عشرات الآلاف من اليهود بنيّة بناء مجتمع واحد يستفيد من الإمكانيات الهامة لدى الطرفين، لكن الحركة الصهيونية رفضت ذلك بوسائل متعددة ذكرها الكاتب في كتابه، وتم إجهاض المحاولات التي قام بها بعض اليهود لإقامة جسور مع الفلسطينيين الذين يعمرون البلاد ويديرون شؤونها منذ قرون. وهكذا تحولت الصهيونية إلى أيديولوجية عنصرية معادية للسامية، واعتبرها الوليد الشرعي للغرب الذي يعتقد بأنه المالك الوحيد للحضارة، ويحتقر الشرق وشعوبه ويعتبرهم "برابرة". وكان جميع المثقفين الغربيين متفقون على هذا الرأي بمن فيهم كارل ماركس نفسه، كما أن هؤلاء اليهود الروس والبولونيين بالذات كانوا بدورهم يحتقرون يهود الشرق، ويتعاملون معهم باحتقار.
لم يكتف جيرار بذلك، بل ضرب مثالا بأحد اليهود الألمان الذي اعتبر السابع من أكتوبر عملا ثائرا ضد سياسة الهيمنة التي تمارسها إسرائيل، فانقلب عليه الصهاينة الفرنسيون، وعملوا على عزله. لهذا اعتبر المؤلف أن الموقف الألماني مقدوح فيه، وبالنسبة للموقف الفرنسي حدّث ولا حرج. كما اعتبر الكتاب الذي ألفه هرتزل عن "الدولة اليهودية" كتابا سخيفا ومقلقا وبيروقراطيا، مؤكدا بالخصوص على أن جميع اقتراحاته لم يقع العمل بها. أمام بالنسبة للحركة الصهيونية العالمية، فاتهمها بالسلطوية المفرطة، حيث لم تعط للمنتسب حرية التفكير، وأجبرته على الخضوع والتنفيذ فقط.
يعتقد المؤلف بأن الصهيونية هي أحد أبرز تيارات الحركة الصهيونية، وما تمزت به أنها الوحيدة التي مسكت السلطة وسحقت البقية لتنفرد بالقيادة. ويرى أن قوتها تكمن في قدرتها على الدعاية وفق هيكلية فريدة من نوعها في العالم، حيث جمعت بين التلمود والتاريخ الروماني والمحرقة وأشياء أخرى. واعتبر أن منظومة الكيبوتس تحمل في طياتها بعدا عنصريا، فهي رغم طابعها الاشتراكي والتعاوني تُقصي العرب بمن في ذلك اليهود من أصل عربي، اعتقد المؤلف بأن الصهيونية نجحت في خلق إنسان يهودي جديد، وذلك من خلال تغيير القيم اليهودية، فتحول حب الدراسة إلى حب المؤسسة العسكرية، وهو ما أوصلنا إلى هذه الحالة الجنونية في غزة ولبنان. وبما أني طبيب نفساني، أعتقد بأن هذه الحالة لها أسبابها، وهي ناتجة عن انفصال الصهيونية عن واقع اليهودية وهو ما جعل مسؤولا إسرائيليا يتساءل ذات مرة "ما الذي يجمعني بهؤلاء العرب"، ويقصد كل العرب بمن فيهم اليهود، ناسيا مكانة شخصية ابن ميمون الذي لعب دورا هاما في العهد الأندلسي.
صحيح أن اليهود حسب قوله لم يكونوا على أفضل حال في العالم الإسلامي، لكن الأكيد أنهم لم يتعرضوا للإبادة التي عُرفت في العهد البيزنطي، ثم انتقلت إلى المسيحية الكاثوليكية. أما في العالم الإسلامي فكان اليهود يخضعون لنظام الذمة الذي هو أقل درجة من المسلمين، لكن كانت لهم حقوقهم ومؤسساتهم، وتقع حمايتهم من قبل الدولة، ويمارسون عقائدهم، وهو ما لم يكن متوفرا في المجتمعات المسيحية، وذكر أن مؤرخا إسرائيليا اعتبر بأن الإسلام هو الذي أنقذ اليهودية من الانقراض. وقال جيرار إن الأتراك فعلوا خيرا عندما احتلوا القسطنطينية وقضوا على البيزنطيين الذين يؤمنون بضرورة استئصال اصحاب الديانات الأديان الأخرى وفي مقدمتهم اليهود.
اعتقد المؤلف بأن الصهيونية نجحت في خلق إنسان يهودي جديد، وذلك من خلال تغيير القيم اليهودية، فتحول حب الدراسة إلى حب المؤسسة العسكرية، وهو ما أوصلنا إلى هذه الحالة الجنونية في غزة ولبنان. وبما أني طبيب نفساني، أعتقد بأن هذه الحالة لها أسبابها، وهي ناتجة عن انفصال الصهيونية عن واقع اليهودية وعن الواقع المحلي والإقليمي. والغريب أنه في العالم الغربي لا أحد يسعى بجدية نحو وضع حد لهذا الجنون وإيقافه.
هذه قراءة أحد اليهود التونسيين المعادين للصهيونية، وهو ليس الوحيد.