«بنك الدماغ» كيف يمكن للجهد العقلي بناء احتياطي معرفي ضد شيخوخة الدماغ؟
تاريخ النشر: 20th, November 2023 GMT
الترجمة: مريم بنت سعيد الغافرية -
لم أفكر مطلقا في مرض الزهايمر، ولكنه أصبح الآن محور تفكيري خاصة بعد ظهور أعراضه عند والدتي. ولم أدرك أبدا أنها تعاني منه إلا بعد أن نظرَت إليّ فجأة وسألتني «متى التقينا أول مرة!»
وتسببّ الإنكار جزئيا في تدهورها المعرفي؛ ولكن كانت بلا شك تعوض عن الضرر السريع الذي يصيب دماغها باتباع حيل التفافية تتغلب فيها على الأثر الذي يسببه المرض.
فماذا سيحدث إذا كانت قدرتها على التكيّف، التي ساعدتها بعد إصابتها بالسكتة الدماغية، ستقف كحائط صد أمام مرض الزهايمر؟ مما جعلني أفكر في مرونتي تجاه تدهورها المعرفي وكيف سيكون تصرفي، إن حدث شيء غير متوقع.
لقد عرفنا منذ ما يقرب من ثلاثة عقود أن أدمغة بعض الأفراد يمكن أن تعمل بشكل طبيعي حتى عندما تكون مليئة بالأضرار الأخرى المرتبطة بالزهايمر، وذلك بسبب قدرة غامضة وكامنة يطلق عليها الاحتياطي المعرفي. ومع ذلك، وعلى الرغم برهنتها لأهميتها البالغة في الدماغ، كان من الصعب تحديد طريقة عمل هذه الخاصية في الدماغ. الآن، بدأنا أخيرا في فهم الآليات التي تكمن وراء الاحتياطي المعرفي، مما يفتح الباب أمام علاجات جديدة محتملة للخرف وأفكار جديدة حول سُبل حماية قدراتنا على التفكير في سن الشيخوخة. وقد تبين أن الحماية قد تنشأ بتعلم لغة أخرى أو حل الكلمات المتقاطعة يوميا.
نشأ مفهوم الاحتياطي المعرفي منذ ما يقارب ٣٠ عاما عندما وجد ياكوف ستيرن، طبيب الأمراض العصبية والنفسية بجامعة كولومبيا في نيويورك، وزملاؤه أن الأشخاص الحاصلين على تعليم عالٍ أو مهنة بها تحديات فكريّة كانوا أقل عرضة للإصابة بمرض الزهايمر. وافترض الباحثون أن السنوات الإضافية من الجهد الفكري تضفي «احتياطيا يؤخر ظهور الأعراض السريرية».
في البداية، لم يؤخذ هذا المفهوم على محمل الجد. ويقول ستيرن: «لقد سخر الزملاء من الفكرة». فقد بدا لهم أن من المستحيل أن يقاوم التعليم ما يتركه مرض الزهايمر في الدماغ».
الاحتياطي المعرفي
أطلق ستيرن على هذه القدرة اسم «الاحتياطي المعرفي» حيث ميزها عن المفهوم الآخر «احتياطي الدماغ» الذي عُرّف قبل بضع سنوات من قبل روبرت كاتزمان، الذي كان آنذاك في جامعة كاليفورنيا، سان دييجو. وقام بدراسة أدمغة كبار السن المقيمين في دار الرعاية بعد وفاتهم، ووجد أن بعضها يحتوي على كم كبير من اللويحات المرتبطة بمرض الزهايمر، على الرغم من أن القدرات المعرفية لهؤلاء تم تقييمها ضمن أفضل ٢٠% من المقيمين في دار رعاية المسنين وبنفس جودة أو أفضل من أولئك الذين لا يعانون من أي أمراض دماغية. وكان السر وراء ذلك هو امتلاكهم لأدمغة أكبر وأثقل، وبالتالي عدد أكبر من الخلايا العصبية وبالتالي المزيد من «احتياطي الدماغ» لتحمل الضرر الناجم عن الزهايمر.
ويشكل احتياطي الدماغ خاصية هيكلية تقاس بحجم الدماغ، مما يعطي مؤشرا على عدد الخلايا العصبية والمشابك العصبية - الروابط بين الخلايا العصبية التي تتدفق من خلالها المعلومات.
ويشبه ستيرن الاحتياطي المعرفي ببرامج الكمبيوتر -وهي القدرة التي يمكن ترقيتها طوال حياتنا- في حين أن احتياطي الدماغ هو الأجهزة.
في السابق، كان يعتقد أن احتياطي الدماغ يتمتع بقدرة ثابتة وهو الأمر الذي تغير تماما الآن. فالأمر لا يقتصر على وجود دليل على أن أدمغتنا قد تكون قادرة على صنع خلايا عصبية جديدة خلال مرحلة البلوغ، ولكننا نعلم الآن أن عوامل كثيرة يمكن أن تؤثر على عمل أجهزة الدماغ. وقد أدى ذلك إلى التعرف على ركيزة ثالثة تكمن وراء المرونة المعرفية: صيانة الدماغ، وهو نمط الحياة أو العوامل البيئية التي تحافظ على الدماغ في حالة جيدة.
إن هذا الاتحاد بين الاحتياطي المعرفي واحتياطي الدماغ وصيانة الدماغ هو الذي يمكّن بعض الأفراد من الحفاظ على قدراتهم على التفكير حتى سن الشيخوخة بنجاح أكبر من غيرهم. تقول دورينا كادار من كلية الطب في برايتون وساسكس بالمملكة المتحدة: «إن هذه الجوانب الثلاثة مترابطة إلى حد كبير».
ومنذ ذلك الحين، أجريت دراسات متعددة للتأكيد على التأثيرات الوقائية لهذه المرونة. على سبيل المثال، تابعت دراسة أجريت عام ٢٠٢٠ حول حالات الإصابة بالزهايمر على أكثر من ١٢٠٠٠ شخص تبلغ أعمارهم ٥٠ عاما أو أكثر كجزء من الدراسة الطولية الإنجليزية للشيخوخة. ويقول كاداز: «أسهمت العديد من الجوانب، مثل التعليم ونوع المهنة وخيارات نمط الحياة، بما في ذلك أوقات الفراغ والالتزامات الاجتماعية في ارتفاع مستوى الاحتياطي المعرفي وبالتالي تقليل خطر الإصابة بالزهايمر».
ولكن الأمر الغريب بخصوص الاحتياطي المعرفي هو أننا لا نستطيع رؤيته في الدماغ أو قياسه بشكل مباشر، على الرغم من أن ستيرن قد أحرز بعض التقدم في تحديد ما يبدو أنه شبكات مرتبطة به. يُقاس الاحتياطي المعرفي عادة باستخدام عوامل بديلة مثل التحصيل في الاختبارات المعرفية. وقد اكتشفنا قدرا كبيرا من العوامل التي يمكن أن تؤثر عليه ولعل أبرز هذه العوامل هو «الحظ». على سبيل المثال، تؤدي جيناتنا دورا قويا في تحديد ذكائنا، ويكون معدل الذكاء الأعلى مرتبط بارتفاع معدل الاحتياطي معرفي. لكن هناك عوامل أخرى أكثر مرونة، فعلى سبيل المثال، ترتبط المستويات الأعلى من التفاعل والمشاركة الاجتماعية في منتصف العمر أو في وقت لاحق بقوة الأداء المعرفي عند تقدم السن والذي يسهم في انخفاض خطر الإصابة بالخرف بنسبة ٣٠ إلى ٥٠%.
كما، ويمثل التواصل الاجتماعي تحديا عقليا: عليك أن تتذكر الوجوه والأسماء وأنماط وطباع الأشخاص الآخرين، وتتنقل في المحادثة، وتطرح الأسئلة، وتستخدم الفكاهة وتلاحظ الإشارات الاجتماعية، وهو الأمر الذي تحدث عنه الباحث أندرو سومرلاد من جامعة كوليدج لندن في دراسته: «هناك أشياء كثيرة تحدث في وقت واحد». وتسهم هذه التفاعلات الاجتماعية في تمدد الدماغ، وتخفض نسبة التوتر. في الواقع، قد يكون الافتقار إلى هذا النوع من التفاعلات سببا في إصابة والدتي بالزهايمر. تم تشخيص إصابتها بالاكتئاب عندما كانت في الثامنة والثلاثين من عمرها، وقد انسحب من الحياة الاجتماعية لعدة أشهر متتالية.
يمكن أن يكون للإجهاد والسمنة وسوء التغذية تأثير ضار على الاحتياطي المعرفي لدينا بسبب الالتهاب المستمر الذي تسببه، والذي يمكن أن يعطل العديد من وظائف الدماغ. يقول كريج ريتشي، الرئيس التنفيذي ومؤسس شركة الدراسات الإسكتلندية لعلوم الدماغ: «مع الوقت، لا يستطيع الدماغ استخدام الجلوكوز بشكل فعال، مما يؤدي إلى اضطراب نشاط الأعصاب». وهذا يؤدي أيضا إلى تفاقم آثار «الالتهاب»، وهو الالتهاب المزمن منخفض المستوى الذي يتطور حتما مع تقدمنا في العمر.
ومن ناحية أخرى، يمكن أن يساعد النوم الجيد ليلا في دعم الاحتياطي المعرفي. أثبتت إحدى الدراسات التي أجريت في وقت سابق من هذا العام أن مرحلة معينة من دورة نومنا، وهي حركة العين غير السريعة (NREM)، تبدو ذات أهمية خاصة. قد يكون ذلك لأن هذه المرحلة من النوم العميق ضرورية لتقوية الذاكرة، وكذلك للتخلص من السموم التي تتداخل مع الأداء الصحي للدماغ.
الاحتياطي المعرفي هو الخلاصة لتمارين مستمرة لعقلك على مر السنوات.
هناك عامل آخر قد يكون مرتبط بشكل كبير بالاحتياط المعرفي، ألا وهو النشاط البدني. فعلى سبيل المثال، اكتشفت دراسة أجريت عام ٢٠٢٠ على ما يقرب من ١٣٠ ألف بالغ أمريكي أن التدهور المعرفي كان شائعا بمقدار الضعف تقريبا بين أولئك الذين كانوا غير نشطين بدنيا مقارنة بالأشخاص النشطين. وذلك لأن دور التمارين الرياضية في صحة الدماغ، مثل المشاركة الاجتماعية، يملك أبعادا مختلفة. إذ يدعم النشاط البدني صحة القلب والأوعية الدموية وتدفق الدم الدماغي -وكلاهما مهم لصحة الدماغ- ويساعد في تقليل الالتهابات ويرفع مستويات عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ، وهي مادة ثبت أنها تزيد من حجم مركز الذاكرة المهم للغاية: الحصين. كما تعمل التمارين الرياضية على تحسين الذاكرة من خلال تعزيز النوم العميق.
ومن غير المستغرب أن العديد من الأنشطة الدماغية الواضحة تؤثر أيضا على احتياطاتنا المعرفية. فقد أظهرت العديد من الدراسات أن التحدث بأكثر من لغة يعمل بمثابة منبه معرفي قوي. على سبيل المثال، أوضح جون جراندي من جامعة ولاية أيوا أنه على الرغم من أن الأشخاص ثنائيي اللغة وأحاديي اللغة لديهم في النهاية نفس العدد من حالات مرض الزهايمر، إلا أن «ثنائيي اللغة» يميلون إلى تجنب هذه الأعراض لفترة أطول».
لكن لا تتعجل في تعلم لغة جديدة الآن. ما يبدو مهما حقا هو المشاركة الذهنية القوية والتركيز على الأنشطة الصعبة، وليس أي نشاط محدد في حد ذاته. على سبيل المثال، استخدمت دراسة أجريت عام 2015 باستخدام المسح الوظيفي بالرنين المغناطيسي لمقارنة النشاط الدماغي لدى عدد من المشاركين الأمريكيين تتراوح أعمارهم بين 60- 90عاما، قبل وبعد الانخراط في جهد مركّز على مدار 14 أسبوعا في خياطة اللحف أو التصوير الرقمي. ووجدت أن الشبكات العصبية في أدمغتهم تعمل بكفاءة أكبر، وتعتمد أنماطا أكثر حيوية مقارنة بالمجموعة الضابطة التي لم تشارك في هذه الأنشطة. وقد استمر التأثير لمدة عام على الأقل.
كما، وأظهرت دراسات أخرى أن التعلم والمشاركة يساهمان في الحفاظ على حجم الدماغ ومنع تقلص مراكز الذاكرة. على سبيل المثال، كشفت دراسة سويسرية حديثة أجريت في مطلع عام ٢٠٢٣ على أشخاص تتراوح أعمارهم بين أوائل الستينيات وأواخر السبعينيات من العمر، أن التدخل الموسيقي لمدة ستة أشهر -سواء تشغيلها أو الاستماع إليها- أدى إلى تحسين الذاكرة وزيادة المرونة العصبية وحجم المادة الرمادية، وهي أنسجة المخ المتداخلة مع المشابك العصبية وأجسام الخلايا العصبية (وهي جزء من الخلية الذي يحتوي على نواتها).
تشتق المرونة العصبية من قدرة الدماغ الفطرية على إعادة تنظيم نفسه من أجل إنجاز المهام بأكثر الطرق انسيابية. تقول باميلا ألميدا ميزا من جامعة كوليدج لندن: إنه كلما خصصت وقتا أكثر لممارسة مهارة معينة، أصبحت أكثر كفاءة وعززت قوة التنظيم العصبي داخل دماغك. وتعمل المهام التي تتطلب جهدا معرفيا على تقوية المسارات العصبية الأساسية وإنشاء مسارات بديلة تخفف من فقدان الوظيفة بسبب تنكس الدماغ التدريجي. وتقول: «كنا نعتقد أن المرونة العصبية هي امتياز لمرحلة للشباب، لكن أظهرت الأدلة على مدى السنوات القليلة الماضية أن ثمة تكوينا عصبيا أثناء مرحلة البلوغ والشيخوخة، ولكن ليس بنفس المعدل».
يقول سومرلاد: «علينا أن نفكر في الاحتياطي المعرفي بما يتجاوز مجرد التعليم والنجاح المهني. إنها في النهاية، الطريقة المُثلى لتمرين عقلك طوال حياتك، بشكل مستمر من خلال التعليم (العامل الأكثر دراسة)، ولكن من خلال أشياء أخرى أيضا: نمط حياة صحي، ونشاط بدني، وأنشطة اجتماعية وأنشطة مرهقة عقليا. يقول جراندي: «ليس هناك حل سحري لبناء الاحتياطي المعرفي».
ومع ذلك، لا شيء من هذا يفسر الأسس العصبية لقدرة دماغنا على مقاومة الخرف. في نهاية المطاف، كل هذا يعود إلى شيء واحد: التشابك العصبي.
في العقود الأخيرة، أصبح من الواضح أن مرض الزهايمر مرتبط بفقدان المشابك العصبية، ويعود الأمر إلى تدهور الأشواك التغصنية التي تبرز من الخلايا العصبية لإجراء اتصالات مع الخلايا العصبية الأخرى. تعد كثافة الأشواك التغصنية أمرا بالغ الأهمية لمعالجة المعلومات والذاكرة والتعلم. إحدى الأفكار الحاسمة هي أن كثافة الأشواك التغصنية يتم الحفاظ عليها لدى الأشخاص الذين تتأثر أدمغتهم بمرض الزهايمر، ولكنهم يتمتعون بطبيعية معرفية. يقول الباحث باتريسيو أوبازو من جامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة: «إن الحفاظ على المشابك العصبية يرتبط ارتباطا وثيقا بالمرونة المعرفية تجاه مرض الزهايمر، ويبقى السؤال حول كيفية الحفاظ على المشابك العصبية لدى الأفراد ممن يملكون مرونة إدراكية عالية».
من الممكن أن أولئك الذين لديهم عدد أكبر من المشابك العصبية في البداية يكونون أقل عرض للإصابة بالخرف أو الزهايمر من غيرهم. ومع ذلك، يعتقد جيريمي هيرسكويتز من جامعة ألاباما في برمنجهام أن آلية المرونة المعرفية التي نملكها هي عملية أشبه بكونها ديناميكية. ويقول: «تتجدد مرونتنا المعرفية بشكل نشط، فلو أصاب الدماغ، مثل الزهايمر، فإنه يعيد تشكيل نفسه لاستمرارية العمل بشكل طبيعي. ولا يرتبط الأمر حول وصول الأفراد إلي مستويات عالية من الاحتياط المعرفي فحسب، بل يتمحور الأمو حول أن الدماغ لديه آلية التكيف الخاصة به».
وقد أظهرت بعض الدراسات الجديدة حول آلية عملية التجديد التي يمر بها الدماغ أثناء إصابته بالزهايمر أن الأشواك التغصنية (Dendritic spines) تأتي في أشكال مختلفة، بما في ذلك الأشكال الرفيعة التي يُفترض أنها أكثر الأنواع مرونة، والضرورية لتعلم أشياء جديدة، والأشواك على شكل فطر، وهو شكل أكثر استقرارا والذي يُعتقد أنه يسهم في الاحتفاظ بالذكريات طويلة المدى. ومن المثير للاهتمام أن عدد الأشواك الرقيقة ينخفض لدى الأشخاص الذين يعانون من ضعف إدراكي بسبب مرض الزهايمر، لكنه يظل موجودا لدى أولئك الذين يتمتعون بإدراك طبيعي، على الرغم من طبيعة المرض.
والأكثر إثارة للدهشة هو أن العمود الفقري يكون أطول لدى الأشخاص ذوي القدرات المعرفية الطبيعية، وهي نتيجة أدهشت الكثير من العلماء بما فيهم الباحث هيرسكويتز، والذي قال: «ربما يكون واحدا من أعمق اللحظات في حياتي المهنية». ويقول: إن هناك الآن الكثير من البيانات التي تشير إلى أن زيادة الطول في العمود الفقري الرقيق يحسن قدرة الدماغ على مقاومة مرض الزهايمر. علاوة على ذلك، فقد حدد هذا البحث بعض العوامل التي تنظم كثافة العمود الفقري وطوله لدى البشر، مما يجعلهم مرشحين محتملين للتدخل العلاجي.
أحد هذه العناصر هو النيوريتين (NRN1)، وهو بروتين تفرزه الخلايا العصبية ويوجد في جميع أنحاء الدماغ. وتظهر الدراسة التي أجرتها Religious Orders Study على الراهبين الكاثوليك من كبار السن والراهبات من جميع أنحاء الولايات المتحدة الذين وافقوا على الخضوع للاختبارات المعرفية السنوية والتبرع بالدماغ بعد الموت أن النيوريتين يعمل كعامل وسيط للمرونة المعرفية تجاه مرض الزهايمر. فقد قام هيرسكويتز وزملاؤه بتحليل 250 شخصا من هذه الدراسة، ووجدوا أن المستويات الأعلى من النيوريتين في سنوات العُمر المتقدمة أظهرت قدرات إدراكية أفضل وزيادة في كثافة العمود الفقري. ويقول: «يبدو أن هذا البروتين يدعم نمو الخلايا العصبية بشكل كبير، وهو أشبه فيتامين للخلايا العصبية». وفي وقت سابق من هذا العام، حدد الباحثون بروتينا آخر، وهو Twinfilin-2، الذي يؤثر على طول العمود الفقري.
المكملات العصبية
هنا، يتم طرح سؤال مهم ألا وهو: كيف تسهم هذه العوامل في تعزيز بناء الاحتياطي المعرفي؟ والإجابة أن ممارسة هذه الأنشطة تحفز من العمليات المعرفية في الدماغ وتسهم في زيادة مستويات البروتينات مثل NRN1، والتي بدورها تساعد على إنشاء نقاط اشتباك عصبي جديدة أو الحفاظ على تلك الموجودة. يقول هيرسكويتز: «أعتقد أن آلية بناء الاحتياط المعرفي تعمل بشكل مشابه لعضلاتك وتمارينك الرياضية. لهذا، إذا واصلت القراءة وبقيت منخرطا فكريا واجتماعيا طوال حياتك، فإنك تحفز عقلك مثلما تحفز جسمك أثناء ممارسة التمارين الرياضية». ويضيف هيرسكويتز أن اللدونة المتأصلة في الخلايا العصبية للإنسان تعمل بشكل أفضل عند تعريضها لهذه الأنواع من الضغوط العقلية. ويضيف: «إذا لم تقم بتحفيز عقلك وتحفيز خلاياك العصبية على التفكير، فسوف تفقد تلك المشابك العصبية بشكل طبيعي، حتى بدون تأثيرات مرض الزهايمر».
لا يزال الوقت مبكرا جدا على هذه الخلاصة، لكن هيرسكوفيتش يتصور أنه في يوم من الأيام يمكن تقديم بروتين النيوريتين كمكمل لدعم وظائف المخ، وكطريقة بديلة لمنع التأثيرات المرضية لمرض الزهايمر والخرف على الأساليب الحالية، والتي تركز بشكل أساسي على القضاء على وتشابك البروتين في الخلايا العصبية.
ويتفق الكثير من الباحثين والعلماء مع هذا الرأي. ويقول أوبازو: «بدلا من التركيز في القضاء على الأمراض أو الأسباب التي أدت إليها والتي كانت غير ناجحة تماما، أعتقد أننا يجب علينا أن نصب تركيزنا على تعزيز الحماية التي ينفذها الدماغ للتعامل مع الأمراض في المقام الأول: التعويض التشابكي، وترميم وتجديد الخلايا».
ويقول ستيرن: إن إدراكنا لكيفية تكيف الدماغ وتعزيز الاحتياط المعرفي يبدو أمرا واعدا للمستقبل، إلا إنه من المهم إدراك حقيقة أن الوصول إلى قمة الاحتياطي المعرفي يرتبط كبداية متأخرة للضعف الإدراكي، حيث يتزامن مع ازدياد الحالة المرضية على طبيعة الفرد. وعلى ما يبدو أن هذا ما حدث يبدو مع والدتي والتي كانت تتسم بالذكاء العالي والصحة البدنية الممتازة، وكانت قبل ذلك تتحدث باللغتين الإنجليزية والفرنسية وتحل الكلمات المتقاطعة المبهمة بانتظام قبل إصابتها بسكتة دماغية.
وفي الختام، آمل أن أعزز من احتياطاتي بشكل يومي، وذلك من خلال ممارسة الرياضة، أو عبر العلاقات الاجتماعية، أو كتابة المقالات مثل هذه التي تقرؤنها الآن. وأد أن أوكد أن فهمنا الجديد حول الرابط الذي يجمع بين الجهد العقلي والخلايا العصبية سيسهم حتما في إيجاد طرق جديدة ومبتكرة لتعزيز احتياطاتنا المعرفية مع الوقت للحفاظ على صحة أدمغتنا لمدة أطول.
خدمة تربيون عن مجلة «New Scientist»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الخلایا العصبیة على سبیل المثال العمود الفقری مرض الزهایمر على الرغم من أولئک الذین الحفاظ على العدید من فی الدماغ من جامعة من خلال یمکن أن فی وقت
إقرأ أيضاً:
كيف يمكن الاستدلال على صحة الجسم عن طريق مُخاط الأنف؟
كان الإغريق يعتقدون أن المُخاط الأنفيّ هو أحد أربعة إفرازات سائلة مسؤولة عن صحة الجسم واعتدال المزاج.
ووضع أبقراط، أبو الطب، نظرية الأخلاط الأربعة: وهي الدم، والبلغم، والمِرّة الصفراء والمِرّة السوداء.
وكان الاعتقاد أن التوازُن بين هذه الأخلاط الأربعة هو الذي يقرّر صحة الجسم واعتدال المزاج؛ فيما يهاجم المرض الجسم ويعتلّ المزاج جرّاء زيادة أحد هذه الأخلاط أو نُقصانه.
ونحن اليوم، نعرف أن المخاط الأنفيّ ليس له تأثير على أمزجة الناس أو طبائعها ولا هو يسبب الأمراض، وإنما يساعد المخاط في الحماية من الأمراض.
ولا نَخالُ أحداً يحب منظَر سيلان الأنف أو رَذاذ المُخاط في أركان الغُرَف بسبب العُطاس، على أن هذا المُخاط الموجود في ممراتنا الأنفية يُعتبر بحقّ أحد عجائب الجسم البشري!
ويكفي أن نعرف أن هذا المخاط يحمينا من الأخطار الدخيلة، وإن له تركيبة فريدة يمكن عبر تحليلها الكشف عمّا يجري داخل أجسامنا.
والآن، يحاول العلماء تسخير هذه القوى التي يتمتع بها المُخاط، من أجل الوصول إلى تشخيص أصحّ ومن ثم علاج أفضل لكل الأمراض -بداية من كوفيد19 ووصولاً إلى الأمراض الرئوية المزمنة.
إن هذه المادة اللزجة تبطّن المَمرّات في أنوفنا، وترطّبها، وتنصب أشراكاً للبكتيريا والفيروسات واللقاحات والغُبار وغيرها من الأجسام الخارجية الدخيلة.
وتقوم مئات الشعيرات بمساعدة هذه المادة اللزجة (المخاط) لتعمل جميعاً كحائط صدّ بين العالم الخارجي وجسم الإنسان.
يفرز جسم الإنسان البالغ أكثر من 100 مليلتر من المخاط على مدار اليوم، بينما يميل الأطفال إلى إفراز كمية أكبر من المخاط، وفق ما تقول دانييلا فيريرا، أستاذة أمراض الجهاز التنفسي واللقاحات بجامعة أكسفورد في المملكة المتحدة.
وبنظرة بسيطة، يمكن من لون المخاط وتركيبته الاستدلال على شيء مما يجري في داخل أجسامنا؛ ذلك أن المخاط أشبه بمقياس حراريّ مرئيّ.
ومن ذلك، أن سيلان الأنف ذا المخاط الشفاف يدلّ على أن الجسم يحاول طرد شيء يهيّج الجيوب الأنفية- لقاحٍ أو غبار على سبيل المثال.
بينما يدلّ المخاط الأبيض على أن أحد الفيروسات ربما دخل الجسم؛ فاللون الأبيض ناتج عن احتشاد خلايا الدم البيضاء لمواجهة هذا الدخيل- الفيروس على سبيل المثال.
وعندما يكون لون المخاط أخضر مُصفرّاً فإنما يكون ذلك تراكُماً لخلايا دم بيضاء ميّتة بعد أن احتشدت بأعداد ضخمة واندفعت للخارج.
أمّا إذا اصطبغ المخاط باللون الأحمر أو الوردي، فقد يكون ذلك دليلاً على أنك نزفت من أنفك بينما تحاول تنظيفه بشدّة.
ومن هنا فإن إلقاء نظرة على المخاط يعدّ أول خطوة.
من الناحية الفنية، لم يكن أبقراط مُخطئًا تماماً عندما افترض أن المخاط يُسبب المرض. يُمثل المخاط حاجزاً واقيًا للأنف، ولكنه يُساعد البكتيريا والفيروسات على الانتشار عند سيلان الأنف، كما تقول الباحثة فيريرا. نمسح وجوهنا، نلمس الأشياء، نعطس، ونلقي المخاط دون قصد إلى الجانب الآخر من الغرفة.
عندما نُصاب بمُسببات أمراض الجهاز التنفسي، يُستغل المخاط كوسيلة لتكاثر البكتيريا والفيروسات وانتقالها، فننشرها إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص. لذا، فهو في الواقع يُساعد على إصابة الآخرين بالمرض.
ولكلّ مُخاط تركيبته الفريدة من البكتيريا. ويعتقد العلماء أن هذه التركيبة مرتبطة بقوة بصحة الإنسان وبالأداء الوظيفي الجيد للجهاز المناعي.
وتتأثر التركيبة المخاطية لكل شخص بعدد من العناصر، كالجنس، والعمر، والموقع، ونظام الأكل- بل وحتى بما إذا كان الشخصيُدخّن السجائر الإلكترونية.
وتساعد هذه التركيبة الفريدة في التصدّي للأجسام الدخيلة. وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أُجريت عام 2024 أن بقاء بكتيريا المكورات العنقودية الضارة المحتملة في الأنف وإصابة الشخص، مسببةً الحمى والخراجات المليئة بالقيح، يعتمد على كيفية احتفاظ بكتيريا (ميكروبيوم) المخاط بالحديد.
وتعكف الباحثة دانييلا فيريرا، وهي أستاذة أمراض الجهاز التنفسي واللقاحات بجامعة أكسفورد، على معرفة “التركيبة الصحية المثالية للمخاط”.
وعبر الوقوف على هذه التركيبة المثالية، تطمح دانييلا إلى تطوير ما يشبه البخّاخ الأنفي الذي يمكن استخدامه يومياً لتحسين تركيبة المخاط الأنفي للأشخاص المصابين.
تقول دانييلا: “لنتخيّل أننا استبدلنا بما في داخل أنوفنا مخُاطاً يحتوي على تركيبة مثالية قادرة على التصدّي بقوة للأجسام الدخيلة التي تتسبب في المرض!”.
وانتقى فريق من الباحثين تقوده دانييلا، باقة من بكتيريا المخاط، يعتقدون أنها تركيبة مثالية.
ويقوم الفريق الآن باختبار تلك التركيبات المخاطية التي يعتقدون أنها مثالية للوقوف على مدى قدرتها على البقاء في أنوف بديلة (غير أنوف أصحابها الأصليين) لفترات طويلة بما يكفي لتحسين صحة أصحاب هذه الأنوف.
وترتبط هذه التركيبة المخاطية الفريدة بجهاز مناعة الجسم، ولذلك يسعى فريق الباحثين إلى الوقوف على طريقة لتعزيز الجهاز المناعي وجعْله أكثر تقبُّلاً للقاحات.
تشير الأبحاث إلى أن كيفية تفاعل الجسم مع اللقاح تتغير بنوع الميكروبيوم الذي يمتلكه الشخص. على سبيل المثال، تشير الدراسات التي أُجريت على لقاح كوفيد19 إلى أنه أثر على ميكروبيوم المخاط، وبالتالي، أثر الميكروبيوم على مدى فعالية اللقاح.
وتقول فيريرا: “كانت لقاحات كوفيد19 فعّالة في منع إصابتنا بالمرض، لكننا استمرينا في نقل الفيروس”. وتضيف: “يمكننا في الواقع تطوير لقاحات أفضل بكثير بحيث لا يُصاب الجيل القادم بالمرض، سواءً كان كوفيد19 أو الإنفلونزا أو أي فيروسات تنفسية أخرى- وكل ذلك يكمن في مناعة المخاط”.
ويعتقد الباحثون أن الطريقة التي يتعاطى بها الجسم مع اللقاح تتغير بتغيُّر نوع التركيبة الميكروبية الفريدة التي ينطوي عليها هذا الجسم.
وتقدّر دانييلا أن عملية التوصّل إلى التركيبة الدقيقة لذلك المخاط المثالي المرتقَب قد تستغرق بضعة سنوات.
لكن في السويد، قام باحثون بالفعل بزرع مخاط خاص بشخص موفور الصحة في أنف شخص آخر يعاني التهاب الجيوب الأنفية المزمن.
وطلب الباحثون من 22 شخصا بالغاً بأن يفرّغ كل منهم في أنفه حُقنةً مليئة بمُخاط شخص يتمتع بصحة جيدة، لمدة خمسة أيام.
ولاحظ الباحثون أن أعراضاً كالسُعال وآلام الوجه، لدى 16 من هؤلاء المرضى الـ 22، قد خفّت بنسبة تتعدى 40 في المئة لما يزيد على ثلاثة أشهر.
وفي ذلك، يقول قائد الفريق، أنْدِرس مارتنسون، استشاري طب الأنف والأذن والحنجرة في مستشفى ساهلغرينسكا الجامعي في السويد: “كانت تلك أخبار عظيمة بالنسبة إلينا، ولم نكتشف أي أعراض جانبية”.
ويشير مارتنسون إلى أن هذه التجارب استفادت من تجارب معملية سابقة خاصة بالميكروبيم الخاص بالأمعاء.
على أن هذه التجارب الرائدة، لم تمدّنا بالمعلومات الكافية عن “كيف تغيّرت التركيبات المُخاطية لدى هؤلاء المرضى بعد زرع مخاط أشخاص آخرين في أنوفهم؟”، ومن ثم تجري الآن تجارب أخرى أكثر دقة.
في الواقع، فإن المخاط يمكن أن يمثل حائط صدّ كبير أمام الأمراض المزمنة التي تصيب الأنف والرئة.
وتعكف الباحثة جنيفر موليغان، أخصائية الأنف والأذن والحنجرة بجامعة فلوريدا، على استخدام المُخاط لتشخيص أولئك الذين يعانون من التهابات الجيوب الأنفية المزمنة والأورام الأنفية الحميدة- وهي أمراض تعاني منها نسبة تتراوح بين 5 إلى 12 في المئة من سكان العالم.
وتوصّلت جنيفر إلى أنه يمكن الاستعانة بالمخاط للوقوف بدقّة على يحدث داخل جسم المصاب بالتهاب الجيوب الأنفية.
“نستخدم المخاط للتوصّل إلى المذنب الحقيقي، الذي يقف وراء هذه الأعراض”، بحسب جنيفر التي تضيف أن لكل مريض مَلَفاً تعريفياً يختلف اختلافاً طفيفاً عن غيره، يقف وراء التهاب جيوبه الأنفية.
وتعتقد جنيفر أن تحليل المخاط كفيلٌ بتسريع مهمة الوصول إلى العلاج الصحيح أو الجراحة الصحيحة المطلوبة.
تُجرى حالياً العديد من التجارب السريرية لطريقة جنيفر حول العالم. وتعمل شركات ناشئة في مجال الصحة، مثل شركة (Diag-Nose)، التي أطلقها مهندسون في جامعة ستانفورد، على تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي لتحليل المخاط، وأجهزة حاصلة على براءات اختراع لأخذ عينات دقيقة من الأنف: في عام 2025، أطلقت أول جهاز معتمد من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية لأخذ عينات دقيقة من الأنف- وهو جهاز أخذ عينات يجمع كميات دقيقة من سوائل الأنف- لتقليل تباين الأبحاث من خلال توحيد أساليب أخذ العينات.
وتستخدم جنيفر هذه الطريقة في دراسة أسباب فقْد حاسة الشمّ لدى البعض. وبالفعل، وجد فريق الباحثين الذي تقوده جنيفر أن استخدام بخّاخ فيتامين دي يمكن أن يساعد في استعادة حاسة الشمّ، لا سيما لدى أولئك الذين فقدوها بسبب التهاب ناجم عن التدخين.
وتقول جنيفر أيضاً إن ما يحدث في الرئتين يحدث في الأنف، والعكس صحيح. لذا، يمكن استخدام هذه الأدوات التشخيصية والعلاجية لأمراض الرئة أيضاً. وتشير أبحاث جديدة إلى أنه من خلال تحليل كمية بروتين IL-26 الموجودة في مخاط المريض، يمكن للأطباء تحديد ما إذا كان الشخص أكثر أو أقل عرضة للإصابة بمرض الانسداد الرئوي المزمن- وهو مرض شائع بين المدخنين، ورابع أكثر أسباب الوفاة انتشاراً في العالم. ومن خلال تحليل المخاط، يمكن تشخيص المرضى مبكراً وعلاجهم بسرعة.
وبالمثل، تعمل فرق بحثية حول العالم على تطوير أدوات وأساليب مماثلة لاستخدام المخاط للكشف عن الربو وسرطان الرئة ومرض الزهايمر ومرض باركنسون. ويمكن أيضاً استخدام المخاط لقياس التعرض للإشعاع، وتشير العديد من الدراسات الحديثة إلى أن السائل الأنفي اللزج يمكنه تحديد مدى تعرض الشخص للتلوث، مثل المعادن الثقيلة والجسيمات الدقيقة في الهواء.
لذلك تعتقد الباحثة جنيفر أن ما ينطبق على الأنف ينطبق كذلك على الرئة؛ ومن ثم فإن هذه الطريقة في التشخيص والعلاج يمكن تطبيقها كذلك مع الأمراض التي تصيب الرئتين.
وتأمل جنيفر أن تثمر هذه التجارب عن تغيير طريقة تشخيص المرضى في المستقبل وكذلك طريقة معالجتهم، قائلة إن “المُخاط هو مستقبل الطب الدقيق. أؤمن بذلك تماماً”.
صوفيا كواليا- بي بي سي عربي
إنضم لقناة النيلين على واتساب