هل وصل الشرق الأوسط الى حافة صراع إقليمي ودولي واسع النطاق؟
تاريخ النشر: 4th, January 2024 GMT
4 يناير، 2024
بغداد/المسلة الحدث:
خالد عليوي العرداوي
اصبح هذا السؤال الشغل الشاغل لجميع مراكز الأبحاث والدراسات ومؤسسات صنع القرار في المنطقة والعالم، وتطرح في الإجابة عليه سيناريوهات متعددة، تتراوح بين تلك الحذرة والمتفائلة بعدم ذهاب الأمور نحو الأسوء، وتلك المتشائمة التي ترى ان ما جرى في السابع من أكتوبر السنة الماضية، عندما قامت حركة حماسها بهجومها الدموي ضد المستوطنات والقواعد العسكرية الإسرائيلية الموجودة في غلاف غزة ما هو الا شرارة ستحرق الشرق الأوسط برمته، وبين هذا وذاك تعيش دول المنطقة حالة من التيه والحيرة واللا يقين مما هو قادم في الأسابيع والشهور القادمة من سنة 2024.
على أي حال، وبدون الدخول في كثير من التفاصيل، لابد من القول إن منطقة الشرق الأوسط لا يوازيها في أهميتها الجيواستراتيجية الدولية أي منطقة أخرى في العالم، فناهيك عن ثرواتها الطبيعية الضخمة المؤثرة على الاقتصاد الدولي، تجدها تمثل منطقة العقدة في سلاسل الامداد العالمية، اذ تلتقي فوقها وتتقاطع مصالح إقليمية ودولية عديدة، فهي: تمثل مركزا حيويا في استراتيجية الصين المعروفة بـ”مبادرة الحزام والطريق”، والمشروع الأمريكي المعروف بـ”الممر الاقتصادي الهند-أوربا”، فضلا عن المشاريع الإقليمية الطموحة، كمشروع ” طريق التنمية” العراقي، ومشروع “جنوب-شمال” الإيراني.
والمعروف تماما ان طرح هذه المشاريع وغيرها، لا يرتبط فقط برغبات أطرافها في تبادل المصالح والسلام فيما بينها، بل يرتبط كذلك في تنافسها وصراعها المحموم على الهيمنة الإقليمية والدولية، ولذا من التبسيط للأمور التصور بأن المنطقة كانت بعيدة عن الصراع الإقليمي والدولي قبل هجوم حماس في السابع من أكتوبر، ثم وقفت على حافته بعد هذا التاريخ، فعلى العكس تماما كانت مؤخرا مركزا لصراع ملحمي منذ أن ادرك الكثير أن الولايات المتحدة لم تعد تسطيع لعب دور شرطي العالم، وان زمان القطبية الأحادية اصبح على وشك الافول مع ظهور تحديات دولية عديدة لا تستطيع واشنطن لوحدها مواجهتها، وظهور قوى طامحة ومقتدرة راغبة في ان يكون لها دور فعال في القيادة العالمية، بل وتغيير معادلاتها بشكل كبير.
وعليه، إذا كان الشرق الأوسط يمر واقعا بصراع إقليمي ودولي شديد، فلماذا تتصاعد المخاوف في الوقت الحاضر من هذا الصراع، لا سيما بعد حرب غزة؟
حقيقة أن ما حصل في السابع من أكتوبر يفتح صفحة جديدة في الصراع القائم، فهو يعجل بالصدام بين الأطراف الرئيسية التي اكتفت فيما مضى بإدارته عبر الوكلاء المحليين او من خلال عمليات نوعية مسيطر عليها عبر الاغتيالات، والهجمات المحدودة، واثارة البلابل هنا وهناك لبعضها البعض.
ان الخطأ الذي يقع فيه الكثير من المهتمين يكمن في اعتقادهم بعودة عقارب الساعة الى ما قبل هجوم حماس المميت، واستمرار اللعب وفقا لقواعد اللعبة السائدة آنذاك، في الوقت الذي أصبحت فيه هذه القواعد بالية ومجرد شيء من الماضي، اذ لا يمكن مقارنة الحرب الحالية في غزة بأي صراع عربي-إسرائيلي جرى منذ اتفاق أوسلو الى الوقت الحاضر، بل ان هذه الحرب تشبه من حيث التأثيرات الإقليمية والدولية حربي سنة 1948 وسنة 1967، كونها ستنهي مرحلة زمنية معينة من حيث التوازنات والمواقف والتحالفات والقوى المتزعمة للمشهد السياسي في المنطقة، وتفتح صفحة جديدة مختلفة تماما، ولذا وصف نتنياهو هذه الحرب بـ “حرب الاستقلال الثانية”، وهذا ما تدركه تماما القيادات السياسية بعيدة النظر في المنطقة والعالم، ولذا هي تترقب وتتخذ مواقف حذرة مما سيأتي به اليوم التالي.
ومع إدراك هذه الحقيقة، ربما لا يكون السؤال الأنسب هو هل وصل الشرق الأوسط الى حافة صراع إقليمي ودولي واسع، بل هل سيتصاعد هذا الصراع مستقبلا، وما تداعياته؟
والاجابة على ذلك، هي نعم سيتصاعد الصراع وهذا أمر مفروغ منه، ومن المؤشرات على تصاعده أمرين مهمين:
الامر الأول-ظهور ملامح تبدل واضحة في استراتيجية الامن القومي الإسرائيلي مدعومة بمزاج شعبي داخلي داعم للقتال بنسبة 99%. لقد بنت إسرائيل استراتيجيتها لردع خصومها في المنطقة على مرتكزين أساسيين هما: تفوق عسكري تقليدي وغير تقليدي غير قابل للهزيمة، وتفوق استخباراتي غير قابل للشك، وقد أمنت تفوقها هذا بالجدران الآمنة، والقبة الحديدية وغيرها، مما جعلها تقبل بوجود خصم قريب او بعيد منها تخوض معه صراعا وفقا لقواعد اشتباك مسيطر عليها، معتقدة بعدم قدرته في النهاية على الحاق الأذى بها…ولكن كل ذلك الردع انهار مرة واحدة والى الابد في ساعات محدودة فجر السابع من أكتوبر، وهذا الامر جعل القيادة والشعب في إسرائيل يستيقظ فجأة على حقيقة ان كل مرتكزات الردع لديه لم تمنع خصما عنيدا مستعدا للمخاطرة كحماس من مهاجمة إسرائيل وتكبيدها خسائر فادحة لم تكن متوقعة، بل جعل وجود إسرائيل نفسها محل شك، وهذا الادراك يمكن تلمسه في وصف القيادات الإسرائيلية السياسية والعسكرية للحرب الدائرة اليوم انها حرب وجودية.
لقد غيرت هذه الحقيقة المزعجة نظرة الإسرائيليين لأنفسهم ولخصومهم، ولذا هم بدأوا تحولا شاملا من استراتيجية القبول بوجود خصوم يهددونهم ويتعاملون معهم وفقا لقواعد اشتباك متفق عليها الى استراتيجية جديدة ستتضح معالمها بشكل واضح قريبا تقوم على تدمير الخصوم وعدم انتظار قيامهم بأفعال مميتة مماثلة لفعل حماس، وما هذا التشدد الإسرائيلي في المواقف، والسقف العالي للحرب الذي لا يقبل الا بتدمير حماس عسكريا وسياسيا الا مظاهر جلية للاستراتيجية الجديدة، والتي سوف لن تتوقف ابعادها عند حدود حماس، بل سيتسع مداها بالتتابع فيما بعد لتشمل حزب الله في لبنان، ومن تعتقدهم تل ابيب وكلاء ايران في سوريا والعراق واليمن، وربما يتطور الصراع لاحقا ليشمل ايران نفسها عندما تتوفر الظروف والدوافع المناسبة لذلك، وقد ظهرت ملامح هذا التصعيد في نوعية عمليات تل ابيب في المنطقة مثل اغتيال رضى موسوي القائد البارز في الحرس الثوري الإيراني في سوريا، واغتيال صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الضاحية الجنوبية للبنان.
هذه الاحداث وغيرها تمثل خروجا عن الخطوط الحمراء في اللعب بين إسرائيل وخصومها، وتعكس رغبة مؤكدة لدى قيادتها السياسية في توسيع الصراع وتوريط مزيد من الخصوم فيه تمهيدا لسحقهم والخلاص من تهديدهم، وقطعا لن يبقى هؤلاء الخصوم بلا رد، بل ستأتي لحظة ما مخطط لها بعناية لتجعلهم يخرجون عن صبرهم الاستراتيجي، لتأخذ حلقة النار بالخروج من غزة والتمدد إقليميا، فإسرائيل وخصومها اليوم ينطلقون من عقليات مختلفة في التفكير بالمصالح والمواقف والتصورات لمستقبل وجودهم في المنطقة، ومثل هذا الاختلاف والتقاطع لن يعطيهم فرصة للتفاوض وبناء السلام المستدام، بل كل ما جرى في الماضي او ما سيجري في المستقبل مبني على ترحيل الصدام لمرحلة لاحقة، ولكن يبدو ان تل ابيب لم تعد تقبل بهذه اللعبة، فهي تعلمت من درس حماس ان كل ترحيل يقود الى اكتساب خصومها المزيد من القوة على حسابها، مما يعني ان ما تدفعه من الثمن في المستقبل سيبلغ اضعاف ما يمكن ان تدفعه في الوقت الحاضر.
الامر الثاني-تهديد الممر الملاحي الدولي في مضيق باب المندب وخليج عدن من قبل جماعة أنصار الله الحوثيين. بداية ليس عجبا ان تذهب بعض التحليلات الى ان من بين الدوافع التي دفعت الرئيس الأمريكي بايدن في اجتماع مجموعة العشرين المنعقد في الهند في شهر أيلول-سبتمبر السنة الماضية الى الإعلان عن مشروع ” الممر الاقتصادي الهند-أوروبا” هو إيجاد ممر بديل لممر الامدادات التقليدي في البحر الأحمر وقناة السويس في حال حصول تهديدات تعرقل الملاحة الدولية عبر الممر الأخير، وهذا يعني ان عواصم صنع القرار الدولي تدرك تماما ان استقرار الملاحة في البحر الأحمر لن يستمر طويلا، وان هذه المنطقة مقبلة على مرحلة حساسة من الصراع تحتم عليها إيجاد ممرات بديلة حتى لو كانت عالية الكلفة. ولكن مع عدم اكتمال مشاريع الممرات الأخرى، يبقى ممر البحر الأحمر ممرا أساسيا لاستقرار الاقتصاد الدولي، ويشكل أي تهديد له تهديدا مباشرا وغير مقبول لهذا الاقتصاد.
وعليه، فان هجمات الحوثيين على سفن الشحن الدولية بذريعة دعم حماس والضغط على إسرائيل جاء في وقت غير مناسب بالنسبة لحسابات واشنطن وحلفائها الغربيين والشرق اوسطيين، ومهما تذرع الحوثيون بالالتزام العقائدي والأخلاقي للوقوف الى جانب الفلسطينيين، فان تهديدهم للاقتصاد العالمي لن يتم مغفرته لهم، وهذا سيجعلهم في مرمى النيران، بل وفي قلب المشاريع الدولية المتصارعة، ولذا سارعت واشنطن ومعها اكثر من عشرين دولة الى تشكيل تحالف “حارس الازدهار” لحماية الملاحة في البحر الأحمر، وقد بدأ هذا التحالف بالفعل اعمالا قتالية صغيرة ضد الحوثيين عندما قامت واشنطن يوم الاحد الموافق 31 سبتمبر الماضي بضرب ثلاثة زوارق قتالية صغيرة للحوثيين اسفرت عن مقتل عشرة منهم، وتأهب لندن وواشنطن لتوجيه انذار أخير لهم لمنعهم من القيام بأفعال معادية اخرى …وفي حال عدم انصياعهم للتحذير، مع توجيه اتهامات غربية مباشرة لطهران بتشجيعهم للقيام بهذه الأفعال، فهذا يعني ان الصراع سيتصاعد لا محالة.
إضافة الى هذين الامرين الحاسمين في تصاعد حدة الصراع الإقليمي والدولي، فان استمرار عمليات الفصائل المسلحة في المنطقة ضد القواعد والمصالح الغربية، والأمريكية على وجه الخصوص، لن ينظر له بارتياح وستكون عواقبه وخيمة اذا ما ترتب عليه سقوط ضحايا غربيين، فما قد تقع فيه الفصائل من خطأ في الحسابات هو الاعتقاد بانها ستفرض أمرا واقعا على واشنطن وحلفائها يدفعها الى الانسحاب من المنطقة، وهذا أمر من غير المتوقع حصوله، فواشنطن اليوم تخوض صراعا متعدد الجبهات على المستوى العالمي، وهي تدرك أن انسحابها من أي بقعة في العالم يعني خلق منطقة فراغ ستملئ من قبل خصومها الإقليميين والدوليين، لذا هي لا تريد منح خصومها هذه الهبات المجانية، وعلى قدر تعلق الامر بالشرق الأوسط، لا يبدو انها راغبة بتكرار تجربة انسحابها من العراق سنة 2011، فتمنح المزيد من مناطق الفراغ لتملئ من قبل طهران وحلفائها، واذا ما وجدت نفسها مضطرة لذلك في بعض الأحيان فلن يكون ذلك بدون ثمن يدفعه خصومها.
من خلال ما تقدم، فان الشرق الأوسط في سنة 2024 لن يكون اقل سخونة من سنة 2023، بل على العكس قد تكون سخونة الشهور الأخيرة من سنة 2023 مجرد احماء لما هو قادم في السنة الجديدة، فكل الأطراف تشحذ سيوفها، وطبول الصراع تقرع بأعلى اصواتها، ولن ينجوا مما هو قادم الا الدول القوية التي تتصف بقيادات حكيمة فعالة تمتلك الثقة والاحترام من قبل شعوبها، ولديها القدرة على التكيف الإيجابي مع تطورات الاحداث، اما الضعفاء والحمقى فمصيرهم السحق والاذلال.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
المصدر: المسلة
كلمات دلالية: السابع من أکتوبر الشرق الأوسط فی المنطقة من قبل
إقرأ أيضاً:
من هو سيد الشرق الأوسط القادم؟
يمرّ الشرق الأوسط اليوم بمنعطف تاريخي بالغ الأهمية، إذ تتشابك فيه تحولات جيوسياسية عميقة مع صراعات هيمنة إقليمية ودولية متصاعدة، ما يحوّل هذه المنطقة إلى بؤرة اختبار لقوى متعددة تتنافس على النفوذ والسيطرة.
لم يعد السؤال عن "سيد الشرق الأوسط" مجرد استفسار جغرافي أو عسكري، بل هو تساؤل مركّب يتقاطع فيه مفهوم الشرعية والوعي الجمعي والتحالفات المتغيرة، ومصير الشعوب التي تحمل على عاتقها مستقبل هذه الأمة.
تمثّل الحرب على غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 نقطة تحوّل نوعي في تشكيل الرأي العام العالمي، ليس فقط من حيث حجم الإبادة الجماعية المرتكبة، بل من حيث انعكاساتها على بنية النظام الدولي ومفاهيمه الأخلاقية.
فقد كشفت هذه المحرقة هشاشة السردية الصهيونية في مواجهة أدوات التوثيق الرقمي الفوري، وعرّت ازدواجية المعايير الغربية، حيث فشلت القوى الكبرى في الحفاظ على الحد الأدنى من التوازن القيمي الذي تدّعي تمثيله.
في المقابل، برزت القضية الفلسطينية كمؤشر أخلاقي يعيد فرز مواقف النخب والشعوب على أسس تتجاوز الاصطفاف السياسي التقليدي.
لقد فرضت غزة نفسها كعامل محفّز لإعادة تموضع الإنسانية دوليًا وإقليميًا، ولتشكيل شبكة تضامن مدني وشعبي عابرة للقارات، ما قد يفتح الباب أمام تحولات إستراتيجية تشمل اهتزاز مسارات التطبيع، وتنامي الضغوط الشعبية على الأنظمة العربية، وتوسّع الجبهة القانونية لمحاكمة الاحتلال.
وعليه، فإن ما يجري في غزة لم يعد شأنًا محليًا أو فلسطينيًا فقط، بل أصبح قضية كونية تُشكّل اختبارًا أخلاقيًا للنظام الدولي بكامله.
شهدت المنطقة في الآونة الأخيرة مرحلة مواجهة مباشرة استمرت اثني عشر يومًا بين إيران والمحور الصهيو-أميركي، كشفت هشاشة الدفاعات الجوية الإيرانية، لكنها في الوقت نفسه أظهرت قدرة إيران على استهداف العمق الصهيوني حتى في قواعده المتقدمة.
إعلانهذه الجولة لم تكن مجرد صدام عابر، بل نقطة تحول تُبرز هشاشة توازن الردع القائم على الاستنزاف المتبادل، وتُشير إلى احتمال تصاعد المواجهات نحو جولات أكثر خطورة، قد تؤدي إلى اتساع رقعة الصراع إذا ما وقع خطأ في التقدير أو قرار متهور.
في ظاهر المشهد، تهدئةٌ قائمة، لكن خلف الكواليس كل طرف يشحذ أسلحته: إيران تعيد التموضع بهدوء إستراتيجي بدعم صيني واقتصادي غير مسبوق، وأذرعها تتحرك بدقة في لبنان واليمن والعراق، بينما واشنطن تراقب بصمتٍ ذكيّ وتتهيأ للانخراط عند لحظة الضغط.
في المقابل، تل أبيب تعيش صمتًا عسكريًا مشحونًا، تتخلله انفجارات داخلية سياسية وقضائية تهدد حكومة نتنياهو من العمق أكثر مما تهددها الصواريخ.
الجميع في حالة استعداد دقيق لانفجار، حيث ستكون المعركة المقبلة أكثر من مجرد تبادل نيران: إنها مواجهة إستراتيجية، إعلامية، وقانونية.. والأرض تشتعل دون صوت.
وقد شهد وقف إطلاق النار بين إيران والمحور الصهيو-أميركي ترحيبًا دوليًا حذرًا، وسط هشاشة الوضع وتصريحات متباينة بين القادة. ففيما عبّر ترامب عن إحباطه، أعلن نتنياهو عن "تدمير البرنامج النووي الإيراني"، رغم تقارير استخباراتية تنفي ذلك.
تناولت وسائل الإعلام الغربية- مثل نيويورك تايمز والإيكونوميست- وقف النار كفرصة محتملة لتهدئة الصراع في غزة، لكن تحليلات أخرى حذّرت من أن تجنّب إسرائيل حلّ القضية الفلسطينية سيُبقي على دورة العنف قائمة.
أكدت "فايننشال تايمز" أن الهدنة الراهنة ليست سوى مرحلة انتقالية هشّة، والقرار الحقيقي يكمن في استعداد إسرائيل للانخراط في تسوية عادلة تفضي إلى دولة فلسطينية كاملة السيادة، لا الاكتفاء بإدارة الصراع كأمر واقع.
في قلب هذا المشهد، يظلّ مشروع "إسرائيل الكبرى" حاضرًا كأحد أبرز التهديدات، إذ تسعى تل أبيب لإقامة هيمنة شاملة من النيل إلى الفرات، لا تقتصر على الأرض الفلسطينية فقط، بل تشمل تفكيك السيادة الوطنية للدول العربية وتحويلها إلى كيانات تابعة.
المشروع لا يقوم فقط على السيطرة العسكرية، بل يمتد إلى الاقتصاد، والأمن، والتطبيع الثقافي، وشبكات النفوذ الخفي داخل مؤسسات الحكم العربية.
ورغم النجاحات الاستخباراتية والعسكرية التي يحققها المحور الصهيو-أميركي، فإن مشروعه لقيادة "الشرق الأوسط الجديد" يصطدم بجملة من المعوّقات البنيوية: فرفض الشعوب العربية، وتماسك قوى المقاومة، والأزمات الداخلية، وغياب مشروع إقليمي جامع، كلها عوامل تُضعف من قدرته على فرض واقع مستدام.
كما أن اعتماد المشروع الإسرائيلي بشكل كلي على الدعم الأميركي يضعه في مأزق إستراتيجي، خاصة مع تراجع نفوذ واشنطن، نتيجة أزماتها الداخلية وضغوط ملفَّي أوكرانيا والصين، ما يقلّص من قدرتها على التحكم الأحادي بمسار المنطقة.
وقد بدأ هذا الفراغ الجيوسياسي يُملأ تدريجيًا من قبل الصين وروسيا، عبر أدوات اقتصادية وعسكرية جديدة، تمهّد لنظام دولي متعدد الأقطاب، يُنهي عهد الهيمنة الأميركية المطلقة.
مصر، كقلب العالم العربي، تُعد هدفًا مركزيًا في هذه الإستراتيجية، حيث تُهدّد محاولات التحكم بنهر النيل، واستهداف قناة السويس دورها الإقليمي والاقتصادي.
إعلانأما دول الخليج، فتواجه محاولات فرض شراكات أمنية تُضعف استقلال قراراتها. وفي العراق وسوريا ولبنان والأردن، يحاول المحور الصهيو-أميركي تثبيت هيمنة نفسية وجوية تمنع هذه الدول من استعادة دورها السيادي الكامل.
في المقابل، تبرز إيران كمحور مقاومة يمتلك عمقًا إستراتيجيًا ممتدًا من غزة إلى صنعاء، ويُعيد إنتاج خطاب تحرّري راسخ يربط بقاء الأمة بتحرير فلسطين.
فصائل المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، لم تعد مجرد أدوات ضغط، بل صارت قوى فاعلة تؤثّر عسكريًا وإعلاميًا وسياسيًا في معادلات المنطقة.
غزة، رغم الحصار والدمار، تحوّلت إلى مركز ثقل أخلاقي، تُعيد تشكيل مشروعية المقاومة، وتُفقد المحور الصهيو-أميركي ما تبقّى من غطاء أخلاقي أمام الرأي العام العالمي.
في موازاة ذلك، لم تعد أدوات الصراع التقليدية هي الفيصل في حسم الهيمنة على الشرق الأوسط، بل باتت جبهات الوعي تحتل الصدارة.
فالإعلام المقاوم ووسائل التواصل الاجتماعي والتعليم والدين والثقافة والاقتصاد والذكاء الاصطناعي أصبحت ساحات مركزية في معركة التحرر، تعيد تشكيل وعي الشعوب، وتكسر هيمنة السردية التي يفرضها الاحتلال، وتعزز خطاب المقاومة والعدالة.
هذا الحضور المتصاعد لتلك الأدوات يمنح المشروع التحرري امتدادًا نفسيًا وثقافيًا واقتصاديًا، ويحوّله من فعل مقاومة عسكرية محدودة إلى مشروع حضاري شامل، يهدد منظومة السيطرة من جذورها، ويعيد تعريف موازين القوة ليس فقط من منظور عسكري، بل من زاوية معرفية وقيمية وأخلاقية.
في النهاية، لا يمكن التنبؤ بسيّد واحد للشرق الأوسط القادم، بل إن المنطقة تتجه نحو شبكة معقدة من اللاعبين المتنافسين والمتعاونين، وفق المصالح والظروف المتغيرة.
"إسرائيل" رغم أزماتها، تواصل السعي نحو الهيمنة، وإيران تعزز نفوذها المقاوم، بينما تعيد تركيا والسعودية ومصر تموضعها الإستراتيجي. الولايات المتحدة تتراجع، فيما تتقدم موسكو وبكين بخطى مدروسة.
لكن المعركة الحقيقية التي ستحسم الوجهة النهائية للمنطقة ليست فقط في ساحات السياسة أو الجغرافيا، بل في ميدان الوعي والشرعية.
سيد الشرق الأوسط القادم، سيكون من يملك الرؤية الحضارية الأعمق، والقدرة على بناء توازنات تحررية تعيد للأمة سيادتها، وتمنح شعوبها الحرية والكرامة في نظام عالمي جديد.
"فالشرق الأوسط لا ينتظر مستعمرًا جديدًا، بل قائدًا تحرريًا يعيد صياغة المعنى ويوحد الصفوف".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline