لا يبدو أن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران هو نهاية للحرب وبداية لسلام طويل في منطقة الشرق الأوسط؛ فالتصريحات الإسرائيلية تثير الريبة أكثر بكثير مما تشعر بالاطمئنان لعودة الهدوء. وما يغذي الريبة أن منطقة الشرق الأوسط كانت على الدوام مشبعة بالشكوك ومثقلة بميراث من الانفجارات المؤجلة؛ الأمر الذي يصبح معه وقف إطلاق النار مجرد فاصلة مؤقتة على خط زمني من صراع لا ينتهي.

ومعلوم لدى الجميع الآن أن هدف إسرائيل لا يتلخص في مجرد تعطيل المشروع النووي الإيراني، ولكن في إحداث تغيير استراتيجي عميق في المنطقة تتغير معه كل موازين القوى التي بقيت سائدة لعقود طويلة. وهذا التغيير هو أساسي لاكتمال مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي يتحدث عنه نتنياهو وزمرته اليمينية الحاكمة. وهذا «الشرق الأوسط الجديد» الذي يحلم به نتنياهو ليل نهار لا علاقة له بمشروع شيمون بيريز ـ رغم سوء وخطر المشروعين ـ المبني على أسس براجماتية علمانية اقتصادية في مرحلة ما بعد «سلام» أوسلو؛ فهو -أي مشروع نتنياهو- مبني على أساطير تنسب زورا إلى التوراة؛ حيث تسيطر «إسرائيل التوراتية» على المنطقة بأكملها. رغم ذلك فإن نتنياهو يحاول استخدام واجهة مشروع بيريز سواء من حيث الاسم أو من حيث الطرح الاقتصادي؛ ليمرر مشروعه التوسعي الذي يتغذى على ضعف العرب لا على بناء شراكة حقيقية معهم وفق ما كان يطرح بيريز. بل إن الأمر يتجاوز المشروع النووي إلى محاولة كسر إيران، وإعادة إدماجها في النظام الإقليمي وفق الشروط الغربية بعد إضعافها.

وأمام هذا الطرح أو المشروع الذي كسبت فيه إسرائيل بعض الجولات عربيا وخسرت إيرانيا؛ لا بد من مشروع مضاد لا يُبقي المنطقة في مربعاتها الراكدة والمتخمة بالصراعات، بل يواجه جوهر الرؤية الإسرائيلية التي تختزل الشرق الأوسط في معادلة أمنية تكنولوجية، ويضع العرب بين خيارين: إمّا التطبيع، وإما العزلة الدولية والإقليمية!

ويبدأ تفكيك التصور الإسرائيلي من كشف بنيته بالاعتراف أنه تجاوز الرؤية اليمينية الدينية إلى ما يمكن أن نسميه خليطا هجينا من الأسطورة التوراتية، والواقعية الأمنية، والمراوغة الاقتصادية. ما تطرحه إسرائيل -خصوصا في مرحلة ما بعد «اتفاقات إبراهام»- ليس سلاما بالمعنى الأخلاقي أو القانوني، بل اندماج اقتصادي مشروط بتشريع تفوقها الإقليمي، ونزع الطابع السيادي عن الجوار العربي.

وهذا المشروع يفترض تجويف المنطقة من أي بديل معرفي أو اقتصادي أو حضاري، وجرّها إلى أن تصبح سوقا واسعة بلا صوت أو سيادة، و«جوارا» بلا مركز. إنه بعبارة أخرى أكثر وضوحا مشروع «تطبيع التفوق» لا «تطبيع السلام»، وهو ما يجب كشفه فكريا وسياسيا وإعلاميا.

ولكن ما المطلوب من الدول العربية في هذه اللحظة المفصلية في تاريخها؟

لم يعد ممكنا الركون إلى خطاب قومي تقليدي، أو شعارات الممانعة المجردة في وقت تخوض فيه إسرائيل معركتها بأدوات مركبة واستراتيجية؛ ولذلك فإن المنطقة بحاجة إلى صياغة مشروع عربي إقليمي جديد يقوم على إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية بصفتها بوابة العدالة والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وأن أي مشروع لا يعترف بالحقوق الفلسطينية التاريخية، ولا يعالج جوهر المأساة، سيبقى هشا وعرضة للانفجار في أي لحظة، وأمام أي عقبة.

كما يقوم المشروع على تحرير فكرة التعاون الإقليمي من الهيمنة الإسرائيلية عبر تكامل إقليمي يكون ندا لإسرائيل، ويشمل مشاريع مشتركة في الطاقة، والأمن الغذائي، والمياه، وتديره أطراف متعددة.

لكن قبل ذلك وخلاله وبعده؛ لا بد أن يتضمن المشروع الإقليمي مسارا معرفيا وإعلاميا يتحدى السردية الإسرائيلية، ويبني سردية حقيقية للتاريخ واليوم والمستقبل؛ فلا يمكن مواجهة مشروع يقوم على «إعادة تعريف الشرق الأوسط» من دون مساحات فكرية مستقلة تعيد تعريف الذات، والموقع، والدور. وهذا يتطلب جهدا مؤسسيا ضخما ينطلق من وعي جديد وحر في المنطقة.

كما أن تأسيس مشروع عربي جديد يتطلب أكثر من موقف سياسي، بل يحتاج إلى حقل معرفي قادر على إنتاج الأفكار، وتأسيس مراكز أبحاث، ومنصات إعلامية مستقلة تعيد رسم سردية المنطقة بلغتها الخاصة، وتستعيد تعريف القيم مثل السيادة، والعدالة، والتحرر بعيدا عن قوالب الاستيراد.

وإذا كانت إسرائيل تحاول تثبيت مشروعها بقوة السلاح والدعاية؛ فإن المنطقة مطالبة ببناء مشروعها وتثبيته بقوة المعرفة، والسيادة، والعدل. فثمة فرصة نادرة الآن في ظل السقوط الأخلاقي للسردية الإسرائيلية، والمأزق الغربي المتواطئ. السؤال الآن: ليس هل يمكن، بل: هل نريد أن نبدأ من جديد؟ وهل نملك شجاعة أن نكتب بدل أن نظل نقرأ من دفاتر الآخرين؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الشرق الأوسط

إقرأ أيضاً:

عامان على هجوم 7 أكتوبر.. اليوم الذي غيّر وجه المنطقة

على وقع مفاوضاتٍ توصف بـ"الحاسمة" في شرم الشيخ بمصر، يسترجع الفلسطينيون والإسرائيليون على حدٍّ سواء ذكرى السابع من أكتوبر، كيومٍ غيّر مجرى حياتهم، فيما لا يزال الغموض يكتنف ما إذا كانت الأيام القليلة المقبلة ستكتب نهاية لحربٍ ضروسٍ لا تزال تزداد اشتعالًا منذ عامين. اعلان

تنظّم عائلات الضحايا والأسرى في إسرائيل، اليوم الثلاثاء، حفلًا تذكاريًا تكريمًا لأرواح من قضَوا في مثل هذا اليوم، وللمطالبة بإعادة بقية الأسرى لدى حماس، في وقتٍ تتعمّق فيه الخلافات مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يُحمّله كثيرون مسؤولية الفشل في التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار يُعيد أبناءهم و"يوقف شلال الدم"، كما يقولون.

هجوم حماس

قبل عامين، اقتحم آلاف المسلحين الفلسطينيين، على نحوٍ مباغت، قواعد عسكرية وبلدات إسرائيلية وفعالياتٍ ترفيهية، في هجومٍ أسفر عن مقتل نحو 1200 شخص، وأسر 251 آخرين، أُفرج عن معظمهم لاحقًا في هدنٍ مؤقتة، فيما لا يزال 48 رهينة داخل غزة، يُعتقد أن نحو 20 منهم على قيد الحياة.

غضب شعبي على نتنياهو وعزلة دولية

تبعات هذا اليوم كانت عميقة بالنسبة للإسرائيليين، إذ هزّت المؤسسة العسكرية التي فتحت أكثر من تحقيقٍ في فشلها الاستخباراتي بتوقّع الهجوم، ما أدّى إلى سلسلة من الإقالات والاستقالات في صفوف كبار القادة، من بينهم وزير الدفاع الأسبق يوآف غالانت، ورئيس الأركان هيرتسي هاليفي، ورئيس الشاباك رونين بار، وغيرهم بعد إقرارهم بالمسؤولية.

ومع تمسّك حماس برفض تسليم الأسرى إلا وفق شروطها، ورفع نتنياهو سقف مطالبه بالتوازي، تصاعدت النقمة الشعبية والمعارضة السياسية ضد حكومته، التي اتُّهمت بإطالة أمد الحرب لدوافع سياسية.

كما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في نوفمبر 2024 مذكرة اعتقال بحق نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فيما تراجع التأييد الدولي لتل أبيب على خلفية ما وُصف بانتهاكاتٍ إنسانية في غزة، واستخدام المجاعة كسلاح ضد المدنيين، ما أدخل إسرائيل في عزلةٍ دولية، وأدّى إلى تدهور علاقاتها مع دولٍ عدة، بينها كندا، وفرنسا، وبريطانيا، وأستراليا وغيرها.

المجتمع الإسرائيلي

يوم الإثنين، كشفت وزارة الجيش الإسرائيلية أن عدد قتلى الجيش والأجهزة الأمنية منذ السابع من أكتوبر بلغ 1150، من بينهم 1035 جنديًا، وتشمل هذه الأرقام قتلى الهجوم الأول والحروب في غزة ولبنان والضفة الغربية.

كما نقلت القناة 12 العبرية عن مؤسسة التأمين أن نحو 80 ألف إسرائيلي صُنِّفوا كمصابين في "أعمال عدائية" منذ ذلك اليوم، فيما يعاني نحو 30 ألفًا منهم من اضطراباتٍ نفسية.

ومع فتح أكثر من جبهة، تحمّل الاقتصاد الإسرائيلي أعباءً ثقيلة، إذ تراجع قطاع السياحة وارتفع معدّل الهجرة بنسبة 14%.

Related الناجون يجتمعون في تل أبيب لتكريم ضحايا هجوم حماس على مهرجان نوفاقبل أشهر من هجوم حماس في السابع من أكتوبر.. الشاباك حذر نتنياهو من "حرب وشيكة"الجيش الإسرائيلي ينشر نتائج تحقيقه حول أحداث 7 أكتوبر في موشاف ياخيني: قواتنا تأخرت بعد هجوم حماس ماذا عن غزة؟

أما بالنسبة للفلسطينيين، فكان السابع من أكتوبر نقطة انطلاقٍ لحملةٍ عسكرية غير مسبوقة، لا من حيث الوتيرة ولا من حيث المدى الزمني، إذ سُوّيت مدنٌ وبلداتٌ بأكملها بالأرض، ودخل السكان في دوامةٍ مرعبة من النزوح، وسط انهيار شبه كامل للنظام الصحي مع خروج 21 مستشفى عن الخدمة، وإغلاقٍ للمعابر، ومنعٍ لإدخال المساعدات الإنسانية.

وقد وصلت أعداد القتلى الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر إلى 67,160 قتيلًا و 169,679، بحسب وزارة الصحة في القطاع.

وأعلنت الأمم المتحدة، للمرة الأولى في الشرق الأوسط، رصد مجاعة في القطاع في أغسطس/ آب الماضي، في وقتٍ بدأت تبرز فيه مخططاتٌ يعتبرها الفلسطينيون تهديدًا وجوديًا، مثل التهجير الكامل لسكان غزة وتحويلها إلى منطقةٍ سياحية، كما كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد اقترح، أو حتى ضمّ القطاع إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل، ما يقوّض أي إمكانية لبناء دولةٍ فلسطينية مستقبلًا.

نساء فلسطينيات يخبزن في فرن فخاري باستخدام البلاستيك كوقود في مدرسة أممية ملجأ للنازحين في خان يونس. Jehad Alshrafi/ AP مرحلة ما بعد "الطوفان"

رغم أن المنطقة دخلت في مثل هذا اليوم قبل عامين مرحلة "الطوفان" — كما أطلقت حماس على عمليتها — فإن مراقبين يرون أن المرحلة لم تتبلور بعد، لما حملته العملية من تداعياتٍ جذرية على دول الجوار والتوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط، إذ أدّى الهجوم إلى انخراط جماعاتٍ عدّة في المواجهة، منها حزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن، والجمهورية الإسلامية الإيرانية لاحقًا.

وقد تمكنت إسرائيل، بدعمٍ أمريكي، من تحييد أبرز قيادات "محور المقاومة" الذين اعتبرتهم تهديدًا مباشرًا، من بينهم قادة في حماس مثل محمد الضيف، وإسماعيل هنية، ويحيى السنوار — الذي قُتل في عمليةٍ بخان يونس — إضافةً إلى الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصر الله، وخليفته هاشم صفي الدين، فضلًا عن قادةٍ في الحرس الثوري الإيراني، وعددٍ من العلماء النوويين، خلال مواجهةٍ مع طهران استمرت 12 يومًا في يونيو الماضي.

أما ميدانيًا، فقد أدّت الحرب المباشرة مع لبنان في أيلول/ سبتمبر الماضي إلى تراجع القدرات العسكرية لحزب الله، بينما شنّ معارضون هجومًا مباغتًا على سوريا أسفر عن سقوط نظام بشار الأسد، الحليف الاستراتيجي والمورد الأساسي للسلاح، كما سيطرت إسرائيل على خمس نقاطٍ على الأقل في جنوب لبنان، وبدأت عمليةً عسكرية في الضفة الغربية المحتلة، وفرضت سيطرتها على أكثر من 75% من قطاع غزة، واستهدفت، بالتعاون مع واشنطن، المنشآت النووية الإيرانية.

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة

مقالات مشابهة

  • مجلس السلام
  • نتنياهو: غيرنا وجه الشرق الأوسط لنضمن استمرار إسرائيل
  • أرقام قياسية حول تمويل حروب إسرائيل بأموال دافعي الضرائب بأميركا
  • دوري الملوك يشعل موسم الرياض بانطلاق نسخته الأولى في الشرق الأوسط
  • عامان على هجوم 7 أكتوبر.. اليوم الذي غيّر وجه المنطقة
  • الشرق الأوسط.. ضيف دائم على شريط الأخبار الساخنة
  • حـــوار افـتراضـي
  • «تريندز» يناقش تحولات الشرق الأوسط خلال مؤتمر دولي
  • “تريندز” يشارك في مؤتمر دولي يناقش التحولات في الشرق الأوسط
  • سفلتة سوق مودية تتواصل ضمن مشروع تأهيل خط أبين الدولي