المنافسة الصينية-الأمريكية الأوسع في الشرق الأوسط
تاريخ النشر: 4th, February 2024 GMT
لقد كان الشرق الأوسط، وهو منطقة ذات أهمية استراتيجية بسبب موارد الطاقة الهائلة وموقعها الجيوسياسي، لفترة طويلة ساحة معركة على النفوذ بين القوى العالمية الكبرى. وفي الآونة الأخيرة، اشتدت هذه المنافسة بسبب دخول الصين كلاعب فاعل في المنطقة، يتحدى الهيمنة التقليدية للولايات المتحدة. ويرمز هذا التحول إلى صراع أوسع بين الولايات المتحدة والصين، ويمس المجالات التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية.
إن النهج الذي تتبناه الصين في التعامل مع الشرق الأوسط يختلف جوهريا عن النهج الذي تتبناه الولايات المتحدة. ورغم أن الولايات المتحدة حافظت تاريخيا على وجود عسكري كبير في المنطقة، بأكثر من ثلاثين قاعدة عسكرية، وكثيرا ما كانت منخرطة بشكل مباشر في السياسات والصراعات الإقليمية، فإن مشاركة الصين كانت اقتصادية وتكنولوجية في المقام الأول. واستثمرت الصين أكثر من 273 مليار دولار في المنطقة بين عامي 2005 و2022، لتصبح أكبر مستثمر في الشرق الأوسط. ويتم تعزيز هذا التأثير الاقتصادي بشكل أكبر من خلال مبادرة الحزام والطريق، التي تهدف إلى ربط آسيا وأوروبا وأفريقيا من خلال شبكة من مشاريع البنية التحتية.
النهج الذي تتبناه الصين في التعامل مع الشرق الأوسط يختلف جوهريا عن النهج الذي تتبناه الولايات المتحدة. ورغم أن الولايات المتحدة حافظت تاريخيا على وجود عسكري كبير في المنطقة، بأكثر من ثلاثين قاعدة عسكرية، وكثيرا ما كانت منخرطة بشكل مباشر في السياسات والصراعات الإقليمية، فإن مشاركة الصين كانت اقتصادية وتكنولوجية في المقام الأول
وتتميز استراتيجية الصين في الشرق الأوسط بسياسة عدم التدخل والتركيز على التنمية الاقتصادية. نجحت بكين في الحفاظ على علاقات جيدة مع مجموعة من دول الشرق الأوسط، بما في ذلك إيران والمملكة العربية السعودية والإمارات، بالإضافة إلى إسرائيل والفلسطينيين. ويتناقض هذا بشكل صارخ مع الولايات المتحدة، التي كانت سياستها الخارجية في المنطقة مثيرة للانقسام في كثير من الأحيان. إن حياد الصين وتركيزها على الاستثمارات الاقتصادية جعلها شريكا أقل إثارة للجدل، وربما أكثر جاذبية للعديد من دول الشرق الأوسط.
علاوة على ذلك، فإن الجهود الدبلوماسية التي تبذلها الصين، مثل التوسط في تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية، تسلط الضوء على نفوذها المتنامي وجاذبية نهجها في حل الصراعات في المنطقة. وعلى النقيض من الولايات المتحدة، التي كان يُنظر إليها على أنها تنحاز إلى أحد الجانبين وتنخرط في الصراعات، فإن الصين تقدم نفسها كطرف محايد مهتم بالاستقرار والتنمية الاقتصادية.
ومع ذلك، فإن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في الشرق الأوسط لا تقتصر على النفوذ فحسب، بل تنطوي أيضا على مصالح استراتيجية تتعلق بالهيمنة العالمية. والولايات المتحدة، على الرغم من محاولة تركيزها نحو آسيا والجهود المبذولة للحد من وجودها العسكري في الشرق الأوسط، تظل مستثمرة بعمق في الديناميكيات الأمنية في المنطقة. وتشمل استراتيجية الولايات المتحدة تعزيز التكامل والشراكات الإقليمية، كما أبرزته مبادرات مثل مبادرة "I2U2"، التي تشرك الهند والولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة في معالجة التحديات الإقليمية.
المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في الشرق الأوسط لا تقتصر على النفوذ فحسب، بل تنطوي أيضا على مصالح استراتيجية تتعلق بالهيمنة العالمية. والولايات المتحدة، على الرغم من محاولة تركيزها نحو آسيا والجهود المبذولة للحد من وجودها العسكري في الشرق الأوسط، تظل مستثمرة بعمق في الديناميكيات الأمنية في المنطقة
ويتضمن السياق الأوسع لهذا التنافس الجهود الرامية إلى إعادة تشكيل الاتصال الرقمي الإقليمي، حيث يبرز مشروع "بلو رامان" كتطور محوري وهام في سياق المنافسة الصينية-الأمريكية في الشرق الأوسط. تم تصميم "Blue-Raman"، وهو عبارة عن تعاون بين "Google" وشركاء آخرين، لتعزيز الاتصال الرقمي في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه. وتسعى إلى إنشاء طريق جديد للاتصال بالإنترنت من أوروبا إلى الشرق الأوسط من خلال ربط أوروبا بإسرائيل عبر الكابل الأزرق، ومن ثم الاتصال بكابل رامان في الأردن الذي يمتد إلى المملكة العربية السعودية. وتهدف هذه المبادرة إلى تجاوز الطرق التقليدية عبر مصر، مما يعكس مسعى استراتيجي ليس فقط للتعزيز التكنولوجي ولكن كمناورة جيوسياسية لموازنة نفوذ الصين في المنطقة.
وبناء على ما سبق قررت المملكة العربية السعودية توريد الإنترنت الخاص بها من أوروبا عبر الأردن وإسرائيل من خلال هذا المشروع. ويدل هذا القرار على التوجه الاستراتيجي للمملكة بعيدا عن مصر، الموّرد تاريخيا لأكثر من 90 في المئة من خدمات الإنترنت بين القارتين. ومن المتوقع أن تؤدي هذه الخطوة إلى تغيير جذري في ديناميكيات دور مصر في إمدادات الإنترنت في المنطقة، مما قد يؤدي إلى اختلافات كبيرة بين مصر والمملكة العربية السعودية. وبالتالي فإن مشروع بلو رامان ليس مجرد ترقية تكنولوجية؛ إنه بيان جيوسياسي يسلط الضوء على نية المملكة لتنويع شراكاتها وتعزيز بنيتها التحتية الرقمية بشكل مستقل عن مصر.
ويتكون هذا المشروع من كابلين من الألياف الضوئية، أحدهما يبدأ من مدينة إيلات والآخر يصل إلى ميناء العقبة في الأردن. ومن خلال زيادة سرعة الإنترنت وخفض التكاليف، تهدف بلو رامان إلى كسر احتكار مصر لحركة الإنترنت في المنطقة. كما أنه يرمز إلى خطوة نحو تسريع عملية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وزيادة دمج إسرائيل في البنية التحتية للمنطقة. وبرزت هذه الفكرة عبر تصريحات مسؤول إسرائيلي أكد على أنها المرة الأولى منذ قيام إسرائيل التي ستصبح فيها جزءا لا يتجزأ من شبكة البنية التحتية في الشرق الأوسط.
المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في الشرق الأوسط متعددة الأوجه، وتشمل الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية والاستراتيجية. ويجسد مشروع بلو رامان، إلى جانب الطريق البري المقترح الذي يربط الهند بإسرائيل وأوروبا، استراتيجية الولايات المتحدة لمواجهة نفوذ الصين المتزايد. وتعكس هذه التطورات المنافسة العالمية الأوسع بين اثنتين من القوى العظمى في العالم، الأمر الذي لا يؤثر فقط على المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، بل يؤثر أيضا على توازن القوى العالمي
علاوة على ذلك، فإن مشروع بلو رامان يتماشى استراتيجيا مع الأجندة الجيوسياسية الأوسع للولايات المتحدة، والتي تتضمن تعزيز العلاقات الوثيقة مع اللاعبين الإقليميين من خلال مشاريع البنية التحتية والشراكات التكنولوجية. ويعد هذا جزءا من جهود الولايات المتحدة لتعزيز وجودها في مواجهة طموحات الاتصالات الصينية في المنطقة، والتي تتمثل في مشروع تقوده الصين لتطوير شبكة كابلات إنترنت من الألياف الضوئية تحت البحر تمر حصرا عبر مصر. ويُنظر إلى مشروع الصين، الذي يربط آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، باعتباره تحديا مباشرا لمصالح الولايات المتحدة، ويقترح شبكة بديلة يمكن أن تغير ميزان النفوذ في البنية التحتية للاتصالات.
في الوقت نفسه، اقترحت إدارة بايدن طريقا بريا لربط الهند بإسرائيل وأوروبا عبر الإمارات والأردن والمملكة العربية السعودية، والذي يُنظر إليه على أنه ثقل موازن لمبادرة الحزام والطريق الصينية. وتؤكد هذه المبادرة على الطبيعة التنافسية لمشاركة الولايات المتحدة والصين في الشرق الأوسط، حيث تلعب البنية التحتية والتكنولوجيا أدوارا حاسمة في تشكيل التحالفات الجيوسياسية والشراكات الاقتصادية.
في الختام، فإن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في الشرق الأوسط متعددة الأوجه، وتشمل الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية والاستراتيجية. ويجسد مشروع بلو رامان، إلى جانب الطريق البري المقترح الذي يربط الهند بإسرائيل وأوروبا، استراتيجية الولايات المتحدة لمواجهة نفوذ الصين المتزايد. وتعكس هذه التطورات المنافسة العالمية الأوسع بين اثنتين من القوى العظمى في العالم، الأمر الذي لا يؤثر فقط على المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، بل يؤثر أيضا على توازن القوى العالمي في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد والمواقع العسكرية الاستراتيجية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الشرق الأوسط النفوذ الصين التنافس الشرق الأوسط امريكا الصين تنافس نفوذ مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة والمملکة العربیة السعودیة الصین فی الشرق الأوسط البنیة التحتیة فی المنطقة أیضا على من خلال
إقرأ أيضاً:
نظرة على الشرق الأوسط في عقل ترامب
في الزوايا الباردة من خرائط النفوذ، حيث تتداخل خطوط الجغرافيا مع أنماط الهيمنة، وتتماهى المبادئ مع المصالح، كما تتماهى الظلال في الغروب، لم يكن حضور دونالد ترامب إلى مشهد السياسة الخارجية سوى اقتحامٍ صاخبٍ لنسقٍ ظلّ طويلًا أسير التقاليد البروتوكولية وصياغات المؤسسات.
جاء الرجل لا كصوتٍ إصلاحيٍّ يحاول إعادة إنتاج العالم، بل كحاملِ ميزانِ صفقةٍ يريد أن يقيس به حجم المكاسب لا عمق التحولات، وأن يُخضع منطق التغيير لقواعد السوق لا لمنظورات القيم أو نظريات الانتقال الديمقراطي.
وفي هذا السياق، لم يكن مبدأ ترامب في الشرق الأوسط مبدأ بالمعنى الذي اعتدناه مع ترومان، أو كارتر، أو بوش، بل حالةً فلسفيةً نقيضةً لكل ما سُمِّي سابقًا بالالتزام الأخلاقي للدبلوماسية الأميركية.
فقد أسّس ترامب لمقاربةٍ تقوم لا على تصدير النماذج السياسية، ولا على التدخل التغييري، بل على إعادة تعريف الشرعية من خلال نفعيّتها لا عبر مشروعيتها، وعلى تحييد الديمقراطية بوصفها عاملًا مكلفًا لا استثمارًا إستراتيجيًا مضمون العائد.
ففي عالمٍ تسوده براديغم الصفقة، قرَّر ترامب أن ينأى بسياسة بلاده عن منطق الوصاية التحديثية، وأن يستبدل خطاب (من سيحكم) بخطاب كيف يمكن أن يُحكم دون أن يُزعج المصالح.
إعلانوهنا تتجلّى فلسفته بوصفها رفضًا صريحًا للتورط في مشاريع تحوّلية مفتوحة، واختيارًا واعيًا للاستقرار القابل للتوظيف، مع ما يرافقه من براغماتيةٍ حذرة لا تستغرق في أيديولوجيا التغيير، بقدر ما تنشد قابلية التفاهم الإستراتيجي.
ولعلّ هذا المنطق قد بلغ ذروته خلال زيارته الأخيرة إلى الشرق الأوسط في مايو/ أيار 2025، حيث بدت جولاته بين الرياض وأبو ظبي والدوحة لحظةً مفصليةً في إعادة إنتاج اللغة السياسية الأميركية، لا بوصفها استئنافًا لمشروع فروضٍ إصلاحيةٍ تبشيرية، بل كتحوّلٍ نحو الواقعية الهيكلية التي تقيس العلاقات بمعيار الاستقرار والتوافق.
في الرياض، صرّح بوضوح بأن ما سُمِّي بالمشروع الديمقراطي في كلٍّ من بغداد وكابل لم يكن إلا مغامرةً خاسرةً استنفدت الجهد والموارد دون أن تُنتج نماذج قابلةً للحياة أو التكرار.
وقدّم في المقابل رؤيةً بديلةً قوامها التفاهم مع الأنظمة القائمة وفق صيغةٍ متوازنةٍ تحفظ المصالح المتبادلة وتعفي الطرفين من كلفة الإملاء أو الصدام القِيَمي.
وبذات المنطق، أبدى تقديرًا واضحًا لما أسماه (فاعلية أنماط الحُكم المستقرة) التي تمكّنت من توفير بيئةٍ تنموية، وشراكاتٍ إستراتيجية، وسياقاتٍ أمنيةٍ متماسكة، دون أن تنخرط في جدل التجريب السياسي، أو مغامرة النماذج المستوردة.
وهكذا، اتّسم حضوره الإقليمي بميلٍ متزايدٍ إلى تحويل العلاقات إلى بُنى تعاقدية، قوامها الصفقات الكبرى، من اتفاقيات التسليح إلى الشراكات الرقمية، في صورةٍ تعكس فلسفةً ترى في الدولة الشريكة طرفًا عقلانيًّا لا موضوعًا لسياسات إعادة التشكيل، أو الفرض الخارجي.
فلسفة ترامب في الشرق الأوسط ليست مجرد توجّهاتٍ ظرفية، بل رؤية متكاملة تُعلي من شأن الاستقرار التوافقي، وتؤجّل أسئلة التحوّل السياسي إلى أجلٍ غير مسمّى. إنها مقاربةٌ لا تستند إلى القيم الليبرالية التقليدية، بل إلى ضرورات التوازن الإقليمي، وإدارة النفوذ ضمن هندسةِ مصالحَ مرنة.
إعلانوإذْ تتبدّى هذه المقاربة في صورتها الكُلّية، يتّضح أن مبدأ ترامب لم يكن وثيقةً مكتوبة، بل خطابًا مضمَرًا صاغته الوقائع أكثر ممّا صاغته الأدبيات، وبلورته النتائج أكثر ممّا بلورته النوايا.
فهو ليس دعوةً إلى الجمود، بل تأجيلًا ممنهجًا للتحوّل يُبقي على منظومة المصالح في حالة سيولةٍ منظّمة، دون القفز إلى مغامرات التأدلج أو إعادة هندسة المجتمعات.
وبينما يترسّخ هذا المنطق في خلفية العلاقات الدولية الراهنة، يغدو الحضور الأميركي مشروطًا، لا بالتبشير بل بالتفاهم، ولا بالهيمنة بل بالقدرة على التكيّف مع معطيات الواقع كما هو، لا كما يُراد له أن يكون.
مبدأ ترامب في الشرق الأوسط، في نهاية المطاف، لا يُمثّل انقلابًا على السياسة الأميركية بقدر ما يُجسّد ذروتها البراغماتية، حين تُختزل القيم في معادلات العائد، وحين تُدار ملفات الإقليم كما تُدار صفقات السوق، بمزيجٍ من الحساب والحدس، وبنزعةٍ ترى في الاستقرار المُربح خيرًا من التغيير المُكلِف.
وهو بذلك لا يُؤسّس لمرحلةٍ انتقالية، بل يُؤطّر لزمنٍ سياسيٍّ جديد، تغدو فيه القواعد القديمة مُعلّقة، واليقينيّات السابقة محلّ مراجعة، في انتظار مشهدٍ دوليٍّ لا تحكمه المبادئ وحدها، بل موازين القدرة على البقاء عند تقاطع المصالح.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline