الجزيرة:
2025-05-25@15:26:44 GMT

حريق الخرطوم | صراط نحو العافية (2-2)

تاريخ النشر: 19th, July 2023 GMT

حريق الخرطوم | صراط نحو العافية (2-2)

ظل البرهان منذ أن تولى رئاسة المجلس السيادي والقوات المسلحة في أبريل/نيسان 2019 وحتى اليوم يكابد وضعا شديد الإرباك، فهو قد نُصِّب في الرئاسة لرعاية مطلوبات تغيير النظام السياسي للإسلاميين، ولكنه يقود جيشا متعاطفا معهم ولا يزال فيه بعض من نفوذهم.

والبرهان متهم -بشواهد عديدة- بأنه يرغب في الحكم، فيما القوى السياسية التي ساهمت في تغيير نظام الإنقاذ ظلت تلح عليه -وبسند غربي- أن يسلمها السلطة، كذلك فإن الضغط الخارجي عليه لم يحمل أهدافا متحدة، مما أعجزه عن أن يرضي الكل.

بدا واضحا أن البرهان قرر أن يثق بدهائه وقدرته على أن يخادع الجميع، فسمح بضرب الإسلاميين إرضاء للثوريين والخارج، ولكنه لم يسمح بالقضاء عليهم إرضاء للجيش ولإفزاع قوى الحرية والتغيير وكل من حاولوا الضغط عليه لتسليم الحكم.

أمنية البرهان ربما تكون أن يضمن موقعا دستوريا وحصانة مقابل تسليم الجيش للإشراف الدولي بعد وقف الحرب

عندما حان ميقات التسليم حسب الوثيقة الدستورية انقلب هو وحلفاؤه العسكريون (حميدتي والحركات المسلحة) على حكومة حمدوك وأزالوا المدنيين من الحكم.

كان البرهان منذ أن تولى الحكم وحتى قامت الحرب يعمل على تقوية الدعم السريع استجابة لإغراءات حميدتي وضغط بعض الدول الإقليمية، ولكن بالأساس لاتقاء انقلاب في الجيش يقوده الإسلاميون، وذلك برفع تكلفة المواجهة المتوقعة بين الجيش والدعم السريع في حال قام ذلك الانقلاب.

حميدتي بدوره كان في وضع مشابه ومارس التلاعب ذاته لفترة طويلة وهو في صف البرهان، وبعد إزاحة المدنيين عن الحكم واحتدام التنافس نحو كرسي الرئاسة بين الرجلين قرر حميدتي أن يغير الاصطفاف طمعا في حلف يقربه من الأميركيين.

وهذا زاد موقف البرهان تعقيدا، إذ إنه تمادى في تقوية حميدتي وقواته للدرجة التي جعلت الجيش يغلي غضبا حتى قامت حركة داخله بانقلاب لم يكتمل، والأمر الفارق أن هذه الحركة وذلك الغضب كان أساسهما مهنيا محضا ولا يحمل شيئا من نفوذ الإسلاميين (اللواء بكراوي قائد المحاولة ليس إسلاميا).

البرهان سمح بتضخم المليشيا لأنه كان يخشى غضب الإسلاميين داخل الجيش، وانتهى به الأمر مُغضبا المؤسسة بكاملها بسبب تراكم الغبن والإهانات التي توالت عليها، أما بعد أن بلغ الأمر مبلغ الحرب وحلّت ويلاتها على عموم السودانيين صار البرهان محلا لسخطهم أجمعين لا يزاحمه في ذلك إلا آل دقلو.

ماذا يصنع البرهان لينجو؟

إن تمكن الجيش من هزيمة المليشيا فقد درعه الوحيد وربما أزاحه الجيش ضربة لازب إن لم يحاكمه بالخيانة، وسيهلل كل الناس لمحاسبته بصرامة كونه شريك حميدتي في المسؤولية عن هذا الخراب، وإن انتصرت المليشيا فهو هالك لا محالة.

البرهان أمله الوحيد والضعيف هو أن تستمر الحرب وأن يصيب الجميع الرهق الشديد فيتراضون على تسوية توقف الحرب، وإن قبل الطرفان بالجنوح إلى السلم وتسوية النزاع فيستبعد أن يكون ذلك إلا بتحكيم وإشراف دولي يقسم الخرطوم إلى منطقة لنفوذ الجيش وأخرى للمليشيا ومنطقة وسط منزوعة السلاح تتوسع تدريجيا حتى تبدأ الحياة في العودة إلى طبيعتها، ثم يقوم المشرفون بعدها بإجراء الجراحة التي تعيد هيكلة القوات المسلحة ودمج الدعم السريع داخلها.

هذا ظاهرا، أما باطنا فإن القتال إذا توقف قلّ حينها اهتمام الغربيين بالأمر وأوكلوه إلى أصحاب المصلحة في الإقليم، مصر قد تحصل على ضمانات من الخليج ثم تعمل أمواله وأموال حميدتي للتأثير على الإشراف الدولي الذي سيكون أفريقيا على الأرجح، ويجد الجيش السوداني أنه قد فقد الدفع العسكري في المعركة وشرعيته كممثل للدولة والشعب وقدرته على فرض أي مطالب، ثم تُفكك قدراته الصناعية والاقتصادية، وساعتها لا يبقى لآل دقلو أو من يأتي بعدهم إن هلكوا سوى أن يُملأ الفراغ الضخم.

أمنية البرهان ربما تكون أن يضمن موقعا دستوريا وحصانة مقابل تسليم الجيش للإشراف الدولي بعد وقف الحرب، لكن إذا أنشب الوسطاء براثنهم في لحم الجيش وصار تحت رحمتهم فإن البرهان سيصبح بلا قيمة، فيما يظل يحمل تركة الخراب الثقيلة، لذلك سينقضون أي عهد قطعوه معه وسيُترك أمره لمن يتولى الحكم أن يقرر ما يفعل به بعد إحالته إلى المعاش.

معضلة الإسلاميين

البرهان سيكون سعيدا لو صارت هذه الحرب محرقة للإسلاميين داخل الجيش وخارجه من شبابهم المقاتلين، هذا يضاف إلى جملة الأسباب التي تدفعه لإطالة أمد الحرب وتعطيل النصر، لكن الحق أن الجيش لديه مشكلة أخرى تعيق نصره، وهي مشكلة المشاة.

قبل الإنقاذ ظل الجيش في سجال طويل مع المتمردين في الجنوب، وكان في ذلك معتمدا على الأسلحة الفنية في تحقيق انتصارات محدودة، بعد الإنقاذ ودخول الدفاع الشعبي ساحة القتال أصبح المشاة من المجاهدين أكثر فاعلية وتأثيرا في الحرب (فاعلية أفزعت الخارج الذي ضاعف دعمه للتمرد وأعاد حالة السجال).

وبعد انفصال الجنوب وتجدد الحرب في دارفور أصبح الجيش يعتمد على مليشيا الدعم السريع لسد فجوة المشاة عنده، وقد أظهروا كفاءة في ذلك خففت نار الحرب بقدر بائن وإن لم توقفها.

المفارقة الآن هي أن شباب الإسلاميين يقاتلون مع الجيش صفا واحدا ضد المليشيا التي أنشأها نظام البشير الذي جاؤوا به إلى الحكم وكأنها تكفير بالدم عن خطايا لم يقترفها الشباب المقاتلون الآن، ولكنهم احتملوا جريرتها حتى يبقى السودان.

المشكلة هي أن المتطوعين وجنود وضباط الجيش في حربهم هذه يواجهون رصاص المليشيا بصدورهم وتتلقى ظهورهم طعن البرهان الذي يبحث عن مخرج.

أفراد الجيش ملزمون بطاعة القائد، ولكن ما الذي يدفع المتطوعين لأن يقاتلوا في حرب لا يرغب قائدهم في النصر فيها؟ أما الإسلاميون فهو يراهم عدوا كما يرى المليشيا عدوا، فكيف يقاتلون تحت قيادته؟ ولن تكون في الحرب انتقائية.

إن تراخي البرهان سيجعل الحرب محرقة للإسلاميين ولجنود وضباط الجيش ولعموم المتطوعين للقتال من السودانيين، وهذا ليس تخذيلا عن القتال ولكنه حساب ضروري لمعطيات المعركة.

جواز الصراط أولا: لا بد أن يُبعد البرهان عن إدارة المعركة، يمكن أن يصاغ اتفاق داخل الجيش وبالترتيب مع التيارات السياسية والدول الخارجية التي تدعمه على منح البرهان حصانة قضائية وتنصيبه رأسا للدولة لفترة معلومة بعد نهاية الحرب ثم معاشا كريما عند دولة مضيفة، ويمكن أن يظل رئيسا رمزيا للجيش أثناء الحرب، ولكن يقوم الجيش بترتيب بيته الداخلي ليشكل مجلسا يدير المعارك بعد أن يتخلص من كل البؤر الرخوة داخله، سواء الخائنة أو الضعيفة. ثانيا: بديهي أن من ينتصر في هذه الحرب سيحكم السودان ولو إلى حين، هذا لن يقتصر فقط على العسكريين، لو انتصرت المليشيا فستُشِرك حلفاءها السياسيين في بعض الحكم، وكذلك سيفعل الجيش.لذلك، إن الترتيب الذي سيجري لما بعد الحرب ينبغي أن يصاغ الآن عهدا ملزما قبل أن تنتهي الحرب، لا جدوى من التظاهر استرضاء للغرب بأن الجيش سيسلم السلطة إلى المدنيين بعد الحرب، ولا ينبغي له، فلا هم سيقدرون عليها ولا هو سيقدر.ينبغي أن يصاغ اتفاق سياسي يمنح الجيش منزلة سياسية يقف فيها حارسا لترتيب الانتقال الديمقراطي المتدرج والمدروس ولتعويض وتعضيد الأمن والطمأنينة اللذين فقدناهما في الحرب.ومهمة السياسيين ستكون ألا يصيب السودانيين اليأس من الحرية بعد ويلات الحرب ويُسْلِمون آمالهم في الحرية والعدالة ليجدوا السلام، وتحقيق هذا الاتزان الحرج سيحتاج هذه المرة إلى حكمة عالية وأناة شديدة. ثالثا: سيطرة تنظيم الإسلاميين على الجيش مجرد خرافة لم تتحقق حتى في أغلب سنوات الإنقاذ، بل إن البشير وحرصا منه على ألا يملك التنظيم الإسلامي أمره عمل على خلق جفوة شديدة بين التنظيم والجيش ونجح في ذلك، وللمفارقة جعل من سقوطه في ديسمبر/كانون الأول 2019 ممكنا.لكن رغم ذلك فإن الحلف الآن بين الإسلاميين والجيش يبدو حتميا بسبب العدو المشترك والطبيعة المحافظة لأغلب العسكريين، وإخفاء هذا الحلف عن أعين السودانيين والخارج يبدو مستحيلا وغير مبرر، وإذا انتصر الجيش في هذه الحرب -سواء بسند قتالي من الإسلاميين أو دونه- فهو سيحتاجهم ظهيرا سياسيا لإدارة الدولة.يحسن أن يكون العهد بين الجيش والإسلاميين والسودانيين معلنا، عهد يحفظ للجيش حظا من الاستقلال الإداري والمالي ويعطي الإسلاميين وحلفاءهم فرصة جديدة لتثبيت نظام سياسي ديمقراطي مستدام بعد أن أضاعوها أيام الإنقاذ. رابعا: إدارة العلاقات الخارجية بعد الحرب ستحتاج إلى الحكمة الممزوجة بالقوة والاعتزاز، والحكم في السودان بعدها سيكون شبه عسكري، وعلى الغربيين أن يتعاملوا مع هذا، والإسلاميون سيكونون جزءا من المشهد السياسي بعد الحرب، وعلى الغرب وبعض دول الإقليم التعامل مع هذا، وفي تعدد الأقطاب في العالم اليوم مندوحة عن لبس الأقنعة والتذلل. خامسا: إذا حصلت التسوية بإشراف دولي وانتبه الجيش إلى مزالقها ولم يسلم نفسه للهيكلة فمن الممكن أن ينتهي الأمر بإعادة المليشيا وداعميها ترتيب أمرهم بالتكتل في دارفور ثم العمل على فصلها في دولة مستقلة، وهذا أمر يمكن حينها تداركه ومنعه وقد تكون فيه نهاية بطيئة لأزمة طويلة.

ختاما، يسير علينا كسودانيين أن نرى بارقة الأمل في الخروج من هذا البلاء حين نرى تمايز الحق والباطل هذه المرة شديد الجلاء، ودخان الحريق الذي يشتعل في الخرطوم الآن أزال غبش الرؤية عمن يريد الخير للسودان ومن يريد السوء.

سيتجاوز السودان هذا الصراط نحو العافية، والنار التي يخوضها الآن ستجلو الصدأ وتنفث خبث المعدن وتبعثه عنقاء تنهض من الرماد وتحلق عاليا، وما ذلك على الله بعزيز.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: بعد الحرب بعد أن فی ذلک

إقرأ أيضاً:

اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني

 

اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني

عمر سيد أحمد

[email protected]

مايو 2025

من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد النهب

في السودان، لم يُولد اقتصاد الظل من فراغ، ولم ينشأ على هامش الدولة، بل تكوَّن داخل قلب السلطة، وتحوَّل إلى أداة محورية في يد منظومة مسلحة — تضم الجيش، وجهاز الأمن والمخابرات، والمليشيات — تحالفت لعقود مع منظومات الإسلام السياسي لتثبيت السيطرة على الدولة والمجتمع. ومع تفجّر الثورة، ثم اندلاع الحرب، تكشّف الوجه الحقيقي لهذا الاقتصاد: ليس فقط مصدرًا للثراء غير المشروع، بل وقودًا للحرب، ومنصة لتشويه الوعي، ودرعًا يحمي شبكات السلطة من الانهيار.

اقتصاد بلا دولة… بل ضد الدولة

اقتصاد الظل في السودان لم يعد مجرد أنشطة غير رسمية كما في التعريف التقليدي، بل أصبح منظومة مهيكلة تعمل خارج إطار الدولة، تموّل وتُهرّب وتُصدر وتُجيّش بلا أي رقابة أو مساءلة. يتجلّى هذا الاقتصاد في تهريب الذهب من مناطق النزاع عبر مسارات محمية بالسلاح وعبر الحدود في كلزالاتجاهات وعبر المنفذ المحمي بالنافذين ، وتجارة العملة التي تغذي السوق الموازي بعيدًا عن النظام المصرفي، إلى جانب شبكة من الأنشطة التجارية الخارجية التي تدار لصالح قلة مرتبطة بأجهزة أمنية وشركات استيراد الوقود لطفيلي النظام السابق محمية من السلطة ، وتحويلات مالية غير رسمية تُستخدم في تمويل اقتصاد الحرب.

تشير التقديرات إلى أن ما بين 50% إلى 80% من إنتاج الذهب في السودان يُهرّب خارج القنوات الرسمية. وتُقدّر خسائر السودان من تهريب الذهب خلال العقد الماضي بما لا يقل عن 23 مليار دولار في حدها الأدنى، وقد تصل إلى 36.8 مليار دولار . هذه الأرقام تُظهر حجم الكارثة الاقتصادية التي يمثّلها اقتصاد الظل، ومدى تحوّل الذهب من مورد وطني إلى مصدر تمويل خفي للحرب والنهب.

من العقوبات الاقتصادية إلى السيطرة: نشأة التحالف الخفي

خلال سنوات العقوبات الأميركية، نشأت شبكات بديلة لحركة المال والتجارة، قادها رجال أعمال ومؤسسات أمنية مرتبطة بالنظام. وبدل أن تواجه الدولة الأزمة ببناء بدائل وطنية، فُتحت السوق أمام فئة طفيلية نمت في الظل، وتحوّلت إلى ذراع اقتصادية للسلطة. وحتى بعد رفع العقوبات عام 2020، لم يُفكك هذا الهيكل، بل تعمّق. ومع انقلاب 25 أكتوبر، استعادت هذه الشبكات سيطرتها الكاملة على الأسواق والموارد، لتبدأ مرحلة جديدة: تحويل اقتصاد الظل إلى مصدر تمويل مباشر للحرب.

اقتصاد الريع: الأساس البنيوي لاقتصاد الظل

من أبرز الأسباب البنيوية التي مهدت لتضخم اقتصاد الظل في السودان هي هيمنة اقتصاد الريع، الذي مثّل النمط الغالب منذ الاستقلال. فقد اعتمد السودان تاريخيًا على تصدير المواد الخام دون أي قيمة تصنيعية مضافة، بدءًا من القطن والحبوب الزيتية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مرورًا بالبترول في العقد الأول من الألفية، وانتهاءً بعصر الذهب بعد انفصال الجنوب عام 2011. هذا النمط الريعي جعل الاقتصاد السوداني مرتهنًا للأسواق الخارجية، ومفتقرًا لقاعدة إنتاجية وطنية مستقلة.

في ظل أنظمة شمولية وفساد مؤسسي، لم تُستثمر عائدات هذه الموارد في تنمية مستدامة، بل أعيد توزيعها عبر شبكات محسوبية وزبونية لصالح نخب الحكم والأجهزة الأمنية. وبدل أن يكون اقتصاد الريع رافعة للتنمية، تحوّل إلى بيئة حاضنة لاقتصاد الظل. والمفارقة أن هذا الاقتصاد لم ينشأ في الهوامش كما قد يُظن، بل نشأ وترعرع في المركز، داخل مؤسسات الدولة نفسها، وبتواطؤ من النخبة الحاكمة، التي استخدمته أداة للتمويل غير الرسمي، ولتثبيت سلطتها السياسية والعسكرية.وهكذا، اندمج الريع مع الفساد والعسكرة، وخلق منظومة اقتصادية موازية، لا تقوم على الإنتاج بل على النهب، ولا تخضع للقانون بل تتحصن خلفه..

تجارة السلاح والمخدرات: الوجه المحرّم لاقتصاد الظل

من أخطر أوجه اقتصاد الظل، تورّط المنظومة المسيطرة في تجارة السلاح والمخدرات. فقد انتشرت تقارير موثقة عبر وسائط الإعلام ومنصات التواصل خلال عهد الإنقاذ، حول “كونتينرات المخدرات” التي وصلت البلاد أو عبرت نحو دول الجوار، تحت حماية أو تواطؤ من جهات أمنية. هذه التجارة، وإن ظلت في الظل، شكّلت مصدر تمويل خفي مكمل للحرب، ومنصة لتجنيد المليشيات، ومجالًا لتبييض الأموال وتوسيع سيطرة مراكز النفوذ.

معركة الوعي المُموّلة: الإعلام كسلاح في الحرب ضد المدنية

لا يقتصر دور اقتصاد الظل على تمويل السلاح فقط، بل يُغذي معركة أخرى لا تقل خطورة: معركة السيطرة على الوعي. تُدار هذه الحملة الإعلامية من غرف خارج السودان، في عواصم مثل القاهرة، إسطنبول، دبي، والدوحة، بإشراف إعلاميين من بقايا نظام الإنقاذ وشبكات أمنية وإيديولوجية. وتنتج هذه الغرف محتوى ممولًا على وسائل التواصل الاجتماعي يبرر الحرب، ويشوّه قوى الثورة، ويُجيّش الرأي العام ضد التحول المدني، ويروّج لاستمرار الحرب التي شرّدت الملايين، وقتلت الآلاف، ودمّرت البلاد.

الهدف لا يقتصر على قمع الثورة المسلحة، بل يمتد إلى اغتيال فكرة الدولة المدنية ذاتها. تُصوَّر الديمقراطية كتهديد للاستقرار، وتُقدَّم السلطة العسكرية كخيار وحيد لضمان وحدة البلاد، في تجسيد صريح لعسكرة الدولة والمجتمع.

تفكيك المنظومة: ليس إصلاحًا إداريًا بل صراع طويل

لا يمكن الحديث عن تفكيك اقتصاد الظل في السودان بوصفه مجرّد قرار إداري أو إجراء قانوني، خاصة في ظل حرب مفتوحة، وانهيار مؤسسات الدولة، وسيطرة المنظومة المسلحة على مفاصل الاقتصاد. فهذه المنظومة لا تُفكَّك من خلال الانتصار الحاسم، بل من لحظة تآكل السيطرة المطلقة، حين تبدأ الشروخ في البنية الأمنية والاقتصادية للنظام القائم.

ورغم عسكرة الحياة اليومية، لا ينبغي أن يؤدي ذلك إلى شلل في الفعل المدني أو استسلام لقوى الأمر الواقع. المطلوب هو العمل من داخل الحرب، لا على هامشها، لصياغة مشروع تحوّل واقعي وجذري. ويبدأ ذلك بخلق وعي جماهيري جديد، يفضح الترابط البنيوي بين السلاح والثروة، ويضع اقتصاد الظل في موضع المساءلة الشعبية والدولية.

يتطلب هذا المسار مراقبة دقيقة للسوق الموازي وتحليل آلياته، تمهيدًا لبلورة سياسات اقتصادية وتشريعات عادلة تعيد تنظيم السوق وتكسر احتكار شبكات التهريب. كما أن توثيق جرائم التهريب، وتجارة المخدرات، ونهب الذهب، لا بد أن يتحول إلى ملفات قانونية وإعلامية قابلة للمساءلة، لا مجرد روايات متداولة.

إلى جانب ذلك، يبرز دور الإعلام البديل والمجتمعي كجبهة مقاومة مستقلة، تتصدى لخطاب التضليل الذي يُنتج خارج البلاد، وتواجه الرواية الرسمية التي تبرر الحرب وتشيطن التحول المدني. هذه المواجهة الإعلامية ليست ترفًا، بل ضرورة لبناء رأي عام مقاوم ومتماسك.

وأخيرًا، فإن أي محاولة للتغيير لا تكتمل دون بناء شبكات وتحالفات مدنية، تطرح مشروعًا وطنيًا بديلًا يعيد تعريف الدولة، ويفكك الارتباط بين السلطة والثروة، وينقل الاقتصاد من يد المليشيات إلى يد المجتمع. هذا الطريق ليس خطة جاهزة، بل جبهة مفتوحة، تتطلب العمل اليومي، والمبادرة من داخل الشروخ التي فتحتها الحرب، لا انتظار نهايتها.

العمل وسط الحرب: لا وقت للانتظار

ورغم عسكرة الحياة واشتداد المعارك، لا ينبغي أن يكون الواقع ذريعة للتوقف عن الفعل أو الاستسلام للأمر الواقع. بل العكس هو الصحيح؛ المطلوب اليوم هو العمل من داخل الحرب، ومن بين شقوقها، لبناء بدايات جديدة تُمهّد لمسار تحوّل مدني حقيقي. فالتغيير في سياق مثل السودان لا يُنتظر حتى لحظة النصر، بل يُصنع من داخل المعركة، بخطوات واقعية ومدروسة، تستند إلى الفعل الجماهيري والإرادة الجمعية.

أدوات التغيير: من الوعي إلى التنظيم

هذا المسار يتطلب بناء أدوات جديدة، وخلق وعي جماهيري ناقد، يدرك أن المعركة ليست فقط عسكرية أو سياسية، بل أيضًا اقتصادية وثقافية. ويبدأ ذلك بكشف البنية الاقتصادية للمنظومة المسلحة، وفضح العلاقة البنيوية بين السلاح والثروة، بما يتيح خلق ضغط داخلي وخارجي على مراكز النفوذ. كما ينبغي رصد نشاط السوق الموازي وتحليل آلياته، لتجهيزه للمواجهة لاحقًا بسياسات اقتصادية وتشريعات عادلة تفكك احتكارات الظل وتستعيد الاقتصاد لحضن المجتمع.

في الوقت ذاته، يُعد توثيق جرائم التهريب، وتجارة المخدرات، ونهب الذهب، ضرورة لبناء ملفات قانونية وإعلامية يُمكن الرجوع إليها في لحظة المساءلة. وعلى الجانب الإعلامي، لا بد من دعم إعلام بديل، مستقل ومجتمعي، يواجه سرديات التضليل التي تُدار من غرف إعلامية في الخارج، ويقدم خطابًا مقاومًا ينبني على سردية الثورة، لا على خطاب الحرب.

وبالتوازي مع ذلك، يجب العمل على بناء تحالفات مدنية مرنة وواقعية، تطرح مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا بديلاً، يعيد تعريف علاقة الدولة بالمجتمع والموارد، ويفكك ارتباط السلطة بالنهب والاحتكار.

جبهة مفتوحة: بداية لا نهاية

إن ما نواجهه اليوم ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل لحظة تاريخية تتطلب إعادة صياغة المشروع الوطني من جذوره. وهذه ليست خطة جاهزة بقدر ما هي جبهة مفتوحة للتغيير التدريجي، تُصاغ من داخل لحظة الانهيار، لا من خارجها. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في انتظار نهاية الحرب، بل في استثمار التصدعات التي خلقتها، وتحويلها إلى مسارات للمقاومة المدنية، وبدايات جديدة تُبنى فيها دولة ديمقراطية مدنية، عادلة ومنقذة، تعبّر عن طموحات الناس لا عن مصالح النخب المتغولة.

المصادر

1. Global Witness (2019). ‘The Ones Left Behind: Sudan’s Secret Gold Empire.’

2. International Crisis Group (2022). ‘The Militarization of Sudan’s Economy.’

3. Human Rights Watch (2020). ‘Entrenched Impunity: Gold Mining and the Darfur Conflict.’

4. United Nations Panel of Experts on the Sudan (2020–2023). Reports to the Security Council.

5. BBC Arabic & Al Jazeera Investigations (2021–2023). Coverage of Sudan’s illicit trade and media operations.

6. Radio Dabanga (2015–2023). Reports on drug trafficking and corruption during Al-Ingaz regime.

7. Sudan Tribune (2020). ‘Forex crisis and informal currency trading in Sudan.’

 

 

 

 

 

 

 

 

الوسوماقتصاد الظل السودان تحالفات الخفاء تمويل الحرب عمر سيد أحمد

مقالات مشابهة

  • نريد الخرطوم مثل طوكيو .. لو حتى نبدأ من الصفر
  • الطاهر ساتي يكتب: رؤية كمبالا ..!!
  • مستودعات الموت … من علي الكيماوي إلي البرهان الكيماوي !!
  • أهداف واشنطن من اتهام الجيش باستخدام الكيماوي
  • اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني
  • الجيش السوداني في قفص الاتهام.. واشنطن تعاقب الخرطوم بعد تقارير عن استخدام أسلحة كيميائية
  • نزع السلاح وتفكيكها مقابل الحكم .. مقترح فرنسي سعودي لإنهاء الحرب في غزة
  • أولمرت: يجب سحب الجيش الإسرائيلي من غزة وإنهاء الحرب
  • عاصفة في السودان عقب قرار البرهان
  • هل تُمهّد استعادة الخرطوم الطريق لنهاية الحرب في السودان؟